سجالات

هشام جعفر

الربيع العربي والصراع على روح الإسلام

2021.03.01

مصدر الصورة : AFP

الربيع العربي والصراع على روح الإسلام

هناك اختلاف بين الباحثين حول تحديد اللحظة التاريخية التي يبدأ بها القرن العشرون الميلادي، إلا أنه يكاد يكون هناك اتفاق على الفترة التاريخية التي مثلت إرهاصات ومقدمات له

وهي الربع الأخير من القرن التاسع عشر؛ فقد جاءت هذه الفترة في ظروف إجهاض الاستعمار لعدد من الثورات: بداية من ثورات المقاومة الجزائرية، ثم ثورة عرابي 1882 في مصر، والثورة المهدية في السودان التي تمكن بعدها من احتلال مصر والسودان، وحدوث انتكاسة لمشروع جمال الدين الأفغاني (توفي 1897) الإصلاحي خاصة ما تعلق منه بركني تحرير الأمة من الاستبداد الداخلي والخارجي، وتوحيد الأمة في الجامعة الإسلامية. كما شهدت هذه الفترة (1875 ـ بداية القرن العشرين) ولادة الاتجاه الإصلاحي التدريجي الذي تبناه محمد عبده؛ الذي كان شريكًا من قبل لجمال الدين الأفغاني في دعوته الثورية، ففي مجال العمل الإسلامي قدم محمد عبده النظرية "الإصلاحية" في مقابل النظرية "الثورية" التي كان يروج لها من قبل مع جمال الدين الأفغاني؛ وأصبح محمد عبده يرى أن التدرج في الإصلاح هو الطريق الأقوم والأضمن في تحقيق الغاية المقصودة منه، وهي نهضة الشرق وتحرره.

هذا الملمح العام شهد محطات مهمة كان لها تأثير في طبيعة العمل الإسلامي بشكل عام أبرزها: 

1- إلغاء دولة الخلافة عام 1924، واحتلال أغلب البلاد العربية وتجزئتها، وقد شهدت هذه الفترة بداية التأسيس للرد على انهيار الوجود السياسي للجماعة المسلمة (دولة الخلافة)، والانطلاق نحو إعادة صياغة جديدة للمسلمين. في هذه الفترة شهدنا زيادة في إنشاء الجمعيات الإسلامية المختلفة (جماعة التبليغ في شبه القارة الهندية 1927، والشبان المسلمين في مصر 1927، الإخوان المسلمين 1928، جمعية العلماء المسلمين في الجزائر 1931، وجمعية نهضة العلماء في إندونيسيا ١٩٢٦). وهي جمعيات كانت تسعى في مجملها للتعبير العملي عن التمسك بالهوية الإسلامية والحفاظ عليها: في العقيدة وطريقة التفكير، ونمط الحياة اليومية بصفة عامة، وذلك في مواجهة درجات الدعاية لتقليد الغرب واقتفاء أثره في كل شيء؛ بحجة العمل على اللحاق به وإحراز التقدم. ومن منطلق الحفاظ على الهوية الحضارية؛ احتل التعليم المكانة الأولى على قائمة أعمال الجمعيات الإسلامية بشكل عام، سواء التي نشأت في هذه الفترة أو قبلها، فقد حظي التعليم باهتمام واسع - على سبيل المثال - في دول المغرب العربي مقارنة بباقي الأقطار الإسلامية لخصوصية الاستعمار الفرنسي الذي حاول طمس الهوية الإسلامية العربية عبر سياسات الفرنسة.

2- محطة ثانية في تاريخ العمل الإسلامي هي مرحلة دول ما بعد الاستقلال في العالم الإسلامي بعد الحرب العالمية الثانية، وقد شهدنا في هذه الفترة ظاهرتين على جانب كبير من الأهمية، وكان لهما تأثير بالغ على مجمل العمل الإسلامي: 

الظاهرة الأولى: اصطدام العمل الإسلامي بدول الاستقلال بعد رحيل الاستعمار المباشر على المستوى العملي (الإخوان وعبد الناصر في مصر 1954)، والفكري (شيوع أفكار كل من المودودي وسيد قطب)، فلقد كانت هذه الفترة مرحلة التوسع في تحديث الدولة على النمط الغربي الليبرالي، أو الغربي الاشتراكي، حيث وقع الصدام الداخلي بين الدولة المستقلة والمشروع الإسلامي الذي يحمل مشروعًا بديلاً.

الظاهرة الثانية: وهي طبيعة دول ما بعد الاستقلال وخاصة في العالم العربي؛ وهنا يمكن الاشارة إلى عدد من النقاط التي يجب الوقوف أمامها:

الدولة المركزية الحديثة نشأت في واقعنا على أساس "قطري"، والدولة كما هو معروف ذات عناصر مكونة، تتعلق بالأقاليم والجماعة السياسية والسلطة، وهذه الدول العربية الإسلامية، ودول آسيا وأفريقيا عامة تحددت حدودها الجغرافية لا وفقًا لتحدد الجماعة السياسية التي تقطن الأرض بجامع رابطة القومية، أو رابطة الدين، أو رابطة العرق، ولكنها تحددت بالحدود الجغرافية التي فرضتها السيطرة الأجنبية السابقة، وهذه الحدود دخل في تحديدها علاقة موازين القوى بين الدول الأجنبية المسيطرة، واحتياجات الدولة المسيطرة، وكذلك علاقة موازين القوى بين حركات التحرر الوطني والسيطرة الأجنبية التي كانت قائمة، بمعنى أن ظرفًا سياسيًا هو الذي تحدد به أمر يتعلق بالجماعة السياسية، وهو ما تحكّم في بيان حدود "القطر" الذي قامت الدولة على أساسه، فلم تعد الدولة تعكس جامعة سياسية تستند على أساس فكري فلسفي: من رابطة دين، أو ربطه قومية، أو رابطة عرق. ومن هنا كان الصدام بين دولة ما بعد الاستقلال وبين الإسلاموية، أو نشوء التناقض والصراع مع الدولة الوطنية والحركات السياسية الإسلامية.

3- المحطة الثالثة: من محطات القرن العشرين هي العقد الأخير من القرن العشرين الذي شهد أحداثًا جسامًا في العالم كله وفي العالم الإسلامي بصفة خاصة، ففي العالم شهدنا انهيار الاتحاد السوفيتي، ونهاية الحرب الباردة وما ارتبط بها من ظواهر سياسية وفكرية ومعرفية، أما على مستوى الأمة فقد كانت حرب الخليج الثانية 1990/1991 حدثًا جللاً أعاد طرح كثير من المسلمات والبدهيات التي استقرت في الأذهان والعقول.

في هذه المحطة هناك مستويان مهمان سيحكمان -فيما أتصور- مستقبل العمل الإسلامي هما: 

أ- المستوى المعرفي: 

كان هناك عدد من التطورات العالمية التي أسهمت في بروز نموذج معرفي جديد، وتضافر معها عدد من التغيرات التي حدثت في نطاق الأمة فدفعت إلى إعادة التفكير في النموذج المعرفي السائد في واقعنا، صحيح أن إعادة التفكير هذه - فيما أتصور - لم تكن من القوة والفاعلية لتخرج النموذج المعرفي السائد -نموذج الأيدلوجيا- وتدفع ببروز النموذج المعرفي الجديد -نموذج التعددية- ولكننا نظن أن كثيرًا من التطورات الجارية يمكن أن تساهم في بلورة هذا النموذج وتطويره. فقد أدى انهيار الاتحاد السوفيتي "الآخر الشرس الكريه" إلى اضطراب الرؤية "الاستقطابية الحادة" التي سادت العالم من قبل، ولقد كان هذا الانهيار محصلة عوامل عديدة بعضها داخلي والآخر خارجي، لكن الخلاصة هي أن الانهيار قد حدث، وأن من الضروري التعامل مع العالم برؤية معرفية جديدة، وقد برزت رؤى (نهاية التاريخ لفوكوياما- وصراع الحضارات لهنتجتون، تأنيث المستقبل..) حاولت أن تملأ الفراغ المعرفي الناتج عن سقوط الاتحاد السوفيتي، ولكننا نتصور أن جزءًا كبيرًا منها كان أقرب للدعاية منها للرؤية المستقرة، أو النموذج التفسيري الجديد. أما "الدولة القومية" التي كانت أحد مطلقات مشروع الحداثة.

وقد برز تعاظم حركة هذه المنظمات عند استرداد المواطن الفرد لدوره حين ظهرت المنظمات غير الحكومية عابرة القوميات ذات المعنى الإنساني، وأصبح لهذه المنظمات دور في صنع وصياغة السياسات والمواقف بل والقواعد التي تحكم عمل الدول. وهكذا شهدنا زيادة وعي الفرد بذاته وبدوره، وكذلك تفرده عن سواه، واعتماده على آليات جديدة للعمل، تحرّره من ربقة الخضوع للسلطات المركزية السابقة، وأصبح كل فرد يملك قدرة اتصالية تتجاوز مسألة الاتصال الشخصي إلى الاتصال بقطاع عريض من الناس عبر شبكة الإنترنت. بل إن انفراد الدولة بمواطنيها قد صار إلى زوال، في ظل انتفاء الحواجز بين الداخلي والخارجي أمام الاقتصاد، والأفكار والثقافات، وأمام السياسة، فالسياسات والبرامج يتم صياغتها وصنعها في الخارج حيث يصير دور الحكومات هو التفاعل معها لتطبيقها في الداخل.

كما تم في ظل هذه التطورات إعادة هيكلة مكامن القوة والفاعلية، فبرزت إلى الوجود آليات وأدوات أخرى مثل: 

- التشبيك بما يمثله من حجم اتصالات خارجية وداخلية واسعة المدى لتنسيق العمل المشترك، أو تكوين التحالفات المتخصصة والمؤقتة، أو لتبادل المعلومات واكتسابها.

- المعلوماتية حيث تحتشد كميات هائلة من المعلومات بصورة منظمة وغير منظمة متاحة للجميع، وهو ما يجعل من المستحيل على أية سلطة مركزية استيعاب هذا الكم الهائل وتحليله، كما أنه يتيح لكل فرد أن يحصل على ما يريد منه، بل ويساهم في إنتاجه.

وإذا كان سقوط الاتحاد السوفيتي 1989 هو الحدث الذي اكتسب به النموذج المعرفي الجديد قوة دافعة أساسية، فإن حرب الخليج الثانية 1990- 1991 هي بداية إعادة التفكير في النموذج المعرفي السائد في الخطاب العربي؛ حيث يلاحظ أن هذا الخطاب - وفي القلب منه الخطاب الإسلامي- لم يستطع أن يكون استجابةً مناسبةً ومكافئةً لمقتضيات المرحلة الجديدة التي شهدتها المنطقة: ما يجري فيها من أحداث، وما طرح فيها من أفكار.

ما يجب أن أقرّره أن الأحداث في هذه الفترة، أو بالأحرى القفزات النوعية الكبرى التي جرت في الواقع كانت أكبر من الجميع: الدول والتيارات الفكرية والسياسية؛ لقد عجز الجميع عن الفهم أو مجرد التفسير لما يجري، ناهيك عن اتخاذ مواقف أو فعل أو بالأحرى رد فعل إزاءها.

العمل الإسلامي في زمن متحول

شواهد كثيرة كما قدمت برزت في العقد الأخير من القرن العشرين وعلى مستويات متعددة تقول: إن الواقع الذي نعرفه مرتحل، وهناك واقع جديد تتشكل ملامحه، أو برزت بالفعل بعض تضاريسه. فمنذ فترة ليست بالقصيرة يشهد العالم تحولات في المجالين: السياسي والاقتصادي، كما في المجال الاجتماعي والثقافي.. إلخ، وعلى المستويين: الإقليمي والدولي، كما على المستوى المحلي، وفى جانب الحركات والقوى السياسية والاجتماعية، كما في جانب الأطروحات الفكرية والخطابات المعرفية والبرامج السياسية.

وإذا كان سقوط الاتحاد السوفيتي 1989م وانهيار المنظومة الاشتراكية في دولها، وبروز "ما بعد الحداثة" كأسلوب جديد في التفكير يراجع كل مسلمات مشروع "الحداثة" الغربي، بالإضافة إلى العولمة أو الكوكبة وما صاحبها من ظواهر جديدة.. إذا كانت هذه التطورات على المستوى العالمي قد بدأت تُبرز نموذجًا معرفيًا جديدًا، ومنهجًا في التفكير مختلفًا عن سابقه على مستوى العالم، فإن حرب الخليج الثانية

1991م - كما قدمت- طرحت إعادة التفكير في النموذج المعرفي السائد في الخطاب العربي ككل، ومنه بالطبع الخطاب الإسلامي، حيث لوحظ وقتها أن تيارات الخطاب العربي الأربعة (الإسلامي واليساري والناصري والليبرالي) قد احتار كل واحد منها في تحديد الموقف الذي يجب أن يتخذه؛ ناهيك عن الفعل الذي عجز الجميع -بما فيهم الدول والحكومات العربية- أن يأتيه ويكون مؤثرًا، بل لم تستطع هذه التيارات أن تحافظ على وحدتها الفكرية والعملية إزاء الزلزال الذي حدث، بل إن ما تلا هذه الأزمة من أحداث -أو بالأحرى القفزات النوعية الكبرى التي جرت في الواقع- كانت أكبر من جميع الدول والتيارات الفكرية والسياسية، لقد عجز الجميع عن الفهم أو التفسير لما يجرى، ناهيك باتخاذ مواقف أو فعل -أو بالأحرى رد فعل- إزاءها. وأخيرًا فقد حدث تخلٍّ من الجميع عن "الثوابت" أو ما كان يتوهم أنه من الثوابت التي لا يجوز التخلي عنها، أو على أقل تقدير إعادة التفكير في مضمون ومحددات هذه الثوابت، فالمشاركة في الانتخابات البرلمانية من قِبَل الإسلاميين لم تعد عملاً منافيًا للتوحيد -كما كانت عند بعض فصائلهم- بل تخضع للفتوى والجدوى، والأحزاب من قبلهم ليست إما حزب الله أو حزب الشيطان؛ بل أحزاب متعددة لها برامج مختلفة. بل امتد الجدل لمفهوم السياسة ذاته وموقعه من المشروع التغييري الذي تحمله الحركات الإسلامية، الذي كان سمته المميز هو الشمولية، أي شموليته لكل جوانب الحياة. ومنظمة التحرير الفلسطينية ومعها كثير من الأنظمة والقوى والتيارات والرموز الفكرية تخلت عن ثوابتها وانزلقت إلى واقعية وبراجماتية في التعامل مع مستجدات توازنات القوى وتغيرات الواقع. واليساريون مختلفون حول تحديد مضمون "الاشتراكية الجديدة" التي يريدون تقديمها للواقع الجديد. والليبراليون يحاولون تحديد علاقة ما بالدين، بعد أن كانت العلمانية جوهر الفكر الليبرالي. وهكذا بات الجميع يراجع مسلّماته وثوابته التي كانت من "المقدسات" أو "المطلقات" التي لا يجوز الاقتراب منها، وهذه الملامح العامة هي ما دخلت به التيارات السياسية والفكرية العربية إلى حقبة الربيع العربي.

سردية الربيع العربي وروح الإسلام

أنتج الربيع العربي - في موجتيه - ظاهرتين بالغتا الأهمية؛ أحدهما تخص الحركات السياسية الإسلامية، والثانية هي وضعية الإسلام في صراع المحاور الإقليمية الثلاثة (الإيراني، والتركي القطري، والإماراتي السعودي التي باتت مصر جزءًا منه) والتي زاده الربيع العربي بروزا. أطراف هذه المحاور من دول وجماعات منخرطون في صراع ديني عميق على القوة الناعمة من أجل التأثير والهيمنة الجيوسياسية.

أولاً: الإسلاميون وسردية الربيع العربي

الانطباع الرئيس الذي تخرج به بعد الانتهاء من متابعة أداء الإسلاميين في الموجة الثانية من الربيع العربي وقد باتوا في الحكم أو مساندين له هو تطبيع هذه الحركات مع الواقع العربي بكل ما تحمله هذه الكلمة من دلالات سلبية وإيجابية، بما يمكن معه القول بانتهاء "الاستثنائية الإسلامية" التي حاول أن يصمها بها تابعوها ومعارضوها على حد سواء؛ وإن اختلفت الدوافع بينهما: فالأتباع يريدون أن يضفوا عليها نوعًا من القداسة؛ في خلط واضح بين النص المنزل والتعبير عنه؛ خطابًا وممارسة، أما المعارضون فقد أرادوا التشكيك في قدرتها على الاندماج في النظام السياسي سبيلاً لحرمانها من الوجود، أما المحللون والباحثون فقد رأوا في علاقتها بالديموقراطية؛ ضرورة توفر عدد من الاشتراطات لضمان نجاح اندماجها في النظام السياسي القائم، وكأن هذا مما لا تتطلبه القوي السياسية الأخرى.

الإسلاميون في السلطة-كما في المعارضة-يتصرفون مثل الفواعل السياسية الأخرى حين تحركهم إدراكاتهم لمصالحهم الذاتية التي يبغون تحقيقها، ويبنون تحالفاتهم ليس وفق أسس ايدلوجية بل كان التنافس فيما بينهم أشد من تنافسهم مع الآخرين، والأهم أن الربيع العربي بموجتيه أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنهم لا يملكون مشروعًا فارقًا للسلطة بل يتصرفون كأي حاكم عربي: الانتهازية السياسية التي طبعت تجربة وممارسة كثير منهم؛ في الحكم وخارجه، وتقلبات مواقفهم وتحالفاتهم، وتعدد انتقالاتهم من خندق إلى آخر، وتفشي مظاهر الفساد في بعض أوساطهم، أسقط عنها لبوس "التقوى"، وأزاح من فوق رؤوس قادتها "هالة القداسة".. إذ أثبتت السنوات الأخيرة، أن المشروع في بنيته السياسية متهافت لدرجة لا تؤهله ليكون مشروعًا للحكم يقدم البديل للدولة العربية المأزومة، على العكس أظهرت تجربة الإسلاميين أن المشروع الذي حملته حركات الإسلام السياسي، يزيد الواقع مأساة، إذ هو منفصل بقدر كبير عن متطلبات الواقع وما يمليه، ويميل في معظمه للشعاراتية الذي لا تدعمه برامج ومشاريع واضحة للحكم. 

القراءة التاريخية لانتفاضات الربيع العربي؛ هي أننا أمام إعادة تشكل للتاريخ كله في المنطقة، نحن أمام محطة تاريخية فاصلة: فالقديم قاد إلى الانفجار، ولم يعد قادرًا على تقديم استجابات لتحديات المجتمع والدولة. ولكن الجديد لم يتبلور بعد وهذه هي مهمتنا التاريخية كما أعتقد، واللحظة ليست خواء كما يظن الكاتب، بل تمتلئ بالكثير والكثير مما يصب في المستقبل، وبمقدار قدرة الإسلاميين أو غيرهم على التقاط مقومات هذه اللحظة بمقدار ما سيستردون حضورهم وزخمهم الذي تراجع إلى حد كبير. وسردية الانتفاضات العربية بحث عن عقد اجتماعي جديد يتم به إعادة بناء الدولة الوطنية بنخب جديدة، ويستند هذا العقد إلى مقومات ثلاثة: الحرية/الديموقراطية، والعدالة الاجتماعية/التوزيع العادل للموارد، وتحرير الإرادة الوطنية من الهيمنة الإقليمية والدولية. هذا الحلم يكاد يكون عليه توافق من الطبقة الوسطي والطبقات الدنيا وبعض شرائح من الطبقة الوسطي العليا، لكن قوته المحركة أجيال جديدة من الشباب مع حضور نسائي طاغ. بل أزعم أن هذا التفاعل مع سردية الانتفاضات العربية يمكن أن يحل كثير من الثنائيات المتعارضة التي حكمت مسارها على مدار القرن العشرين من قبيل: التربوي/السياسي، الوطني/الأممي، المعاش(المطلبي)/الهوياتي، الحرية/تطبيق الشريعة، الأمة/الدولة، التعددية/التشظي والاختلاف.. إلخ

تحديات أربعة تواجه الإسلاميين في هذه الحقبة وتفرض نفسها عليهم: الحرية كمنظور شامل يعيد صياغة علاقتهم بالدين، وخطاب المعاش الذي يعطي الأولوية لحياة الناس اليومية لا خطابات الهوية، وتمكين المجتمع في مقابل سيطرة التنظيم، ويأتي رابعًا أهمية الانتقال من الطأفنة إلى أن تكون جزءًا من التيار الوطني العام. وأخيرًا؛ فإن امتلاك نظرية للدولة وتحديد لموقع السلطة في هيكل المشروع الإسلامي شرط أساسي - من وجهة نظري-للحد من إعادة إنتاج القمع والعنف والهيمنة على المجتمع الذي حكم مسار دولة ما بعد الاستقلال.

ثانيًا: صراع المحاور الاقليمية حول من يمثل الإسلام المعتدل: 

الملمح العام في هذا الصراع أنه يدور على إسلام منزوع الديموقراطية، مندمج في السوق أي ذو طبعة نيوليبرالية، وممتزج بالعنف لأنه يقرن القوة الناعمة بالصلبة برغم أنه يقدم نفسه للعالم باعتباره منفتحًا متسامحًا، ويلعب دورًا في مناهضة التطرف العنيف، لكنه في نفس الوقت لا ينظر لحال شعوبه.

ملامح خمسة مشتركة لهذا الإسلام الذي تقدمه القوي الإقليمية وإن ساد الصراع بينها: 

١-عنيف لأنه يقرن القوة الناعمة بالصلبة سواء مورست هذه القوة بشكل مباشر كما تركيا شمالي سوريا والعراق، أو عن طريق استخدام الوكلاء كما تفعل إيران في اليمن وسوريا والعراق ولبنان، أو الامارات في اليمن وليبيا، وقطر في سوريا من قبل وفي ليبيا الآن، أو السعودية في اليمن الآن وسوريا من قبل.

٢-إسلام منزوع الديموقراطية مع نزوع متصاعد لمصادرة الحريات في نظمها الداخلية مقترن بحديث عنها مع الخارج، حتى تجربة تركيا الوحيدة التي اتسمت بنزوع ديموقراطي شهدت تراجعًا مستمرًا عن هذا المنزع منذ عام ٢٠١٢ وزاد مع المحاولة الانقلابية ٢٠١٦. ويشهد النموذج السعودي والاماراتي دعما لنموذج يحض على الطاعة المطلقة لولاة الأمر بغض النظر عن ممارساتهم.

٣-طبعة نيوليبرالية خالية من أي بعد اجتماعي؛ فالنموذج الاقتصادي الذي تتبناه هذه الدول جميعًا يقوم على الاندماج في السوق العالمي مع اتباع سياسات نيوليبرالية لا تعالج التفاوتات في الثروة والدخل والفرص بين المواطنين.

٤-ينطوي التنافس ضمنيًا على نقاش أوسع عبر العالم الإسلامي يتطرق إلى قلب العلاقة بين الدولة والدين، ويركز هذا النقاش على الدور الذي يجب أن تلعبه الدولة، إن وجد، في تطبيق الأخلاق الدينية ومكانة الدين في التعليم والأنظمة القضائية والسياسة. 

مع اشتداد معركة القوة الناعمة الدينية بين الدول المتنافسة، أصبحت الخطوط الفاصلة بين الدولة والدين أكثر ضبابية من أي وقت مضى، لا سيما في البلدان الأكثر استبدادًا.

٥-عينهم على العالم ولا يلقي اعتبارًا لشعوبهم؛ فالأهم أن تكون صورتهم متسامحة ومسالمة وفيها القبول للآخر الديني بل والعدو منه (التطبيع مع الكيان الصهيوني) حتى ولم يقبل المختلف معه في الإطار الوطني والإقليمي. ويعمق من ذلك اشتراكهم جميعًا في الحرب على الارهاب-الذي يختلف تعريفه من دولة لأخري- لكنه بمثابة باب الشرعية الدولية.

هذه الخصائص الخمس إذا اضيف إليها المكون القومي كما في تجربتي إيران وتركيا، والمكون المعادي للثورة /التغيير كما في النموذج الإماراتي والسعودي والمصري؛ نكون إزاء خضوع الديني لسلطة الدولة مع انتفاء لمجال ديني تعددي حر على المستوي الوطني، ومستقل عن التحالفات الاقليمية، ويخضع لشبكات المحسوبية الاستبدادية والزبائنية، والأهم أنه سيظل يتسم بالعنف لعجز هذه المحاور جميعًا عن بناء نظام للأمن الجماعي يحكم المنطقة وقادر على إدارة الصراعات فيما بينهم بشكل سلمي.

الخاتمة

من بداية الألفية الثالثة شهدنا نضالات واحتجاجات متنوعة، أخذت طابع الموجات التي تتصاعد تارة وتخبو أحيانا أخري، يعرب المتظاهرون فيها عن غضبهم من: وحشية الشرطة، والفساد، ورأسمالية المحاسيب، وغطرسة من هم في السلطة، والتلاعب بالسياسة، وضعف المؤسسات السياسية عن تمثيل الناس، وتهميشهم الجماعي، وتفاقم التفاوتات في الثروة والدخل والفرص.. تطول القائمة ولكن ما يجمعها طلب إنساني عالمي على الكرامة والعدالة والحرية، فالحركات الاحتجاجية على مدار العقدين الماضيين في جوهرها مطالبات بأن يحكمنا سلطة معيارية أفضل وأكثر وعدًا بالكرامة والتحرر الإنسانيين. هناك رفض معياري للعبودية والعنصرية، واللامساواة والتفاوتات بين البشر، والتمييز أيًّا كان نوعه، وللحرب.. إلخ، فهل يمكن لروح الإسلام أن تكون جزءًا من هذه الحركة العالمية خاصة أن شعوب المنطقة استطاعت أن تسهم بخبرتها في إثرائها بانتفاضاتها المباركة، أم كتب عليه الاختطاف من قبل قوي رسمية وغير رسمية، دولية وإقليمية ومحلية تسعي لتحقيق الهيمنة دون اعتبار للبشر والمواطنين العاديين؟

ــــــــــــــــــــــــــــــ

أهم المراجع: 

١-المؤلف، الملامح العامة للعمل الأهلي الإسلامي في القرن العشرين، مركز الدراسات الحضارية بالقاهرة: الأمة في قرن، ٢٠٠٢.

٢-المؤلف، الإسلاميون والموجة الثانية من الربيع العربي.. نهاية الاستثنائية

https://research.sharqforum.org/ar/2020/08/13/ الإسلاميون-والموجة-الثانية-من-الربيع/

3-The Battle for the Soul of Islam,

James Dorsey

https://besacenter.org/wp-content/uploads/2020/12/186WEB.pdf