هوامش
مروة صبحي منتصرجعل أمريكا ضعيفة مجددًا
2025.10.05
مصدر الصورة : آخرون
جعل أمريكا ضعيفة مجددًا
على غرار عنوان حملة ترامب الانتخابية «لنستعِد عظمة أمريكا مجددًا»، يكتب لاري دايموند، مقالة بعنوان: «جعل أمريكا ضعيفة مجددًّا»، ينتقد فيه سياسات إدارة ترامب والواقع الأمريكي. وفيما يلي نص المقال :
في مقالتي الأخيرة، أشرتُ إلى أن الإرث الأكثر ديمومة وكارثية لرئاسة ترامب قد لا يكون زوال الديمقراطية الأمريكية، بل فقدان قوة أمريكا ومكانتها في العالم، ومعها النظام الدولي الليبرالي الذي حافظ على السلام والأمن العالميين، ومكّن من انتشار الحرية والديمقراطية على مدى الثمانية عقود الماضية.
ولد معظم الأمريكيين في عالم شكلته قوة أمريكا وابتكاراتها وقيادتها. منذ الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتحدة تمتلك أكبر اقتصاد في العالم، وأكثر قاعدة إنتاجية للبحث العلمي والاختراع التكنولوجي، وأقوى جيش، وأكبر سلك دبلوماسي وأكثره تأثيرًا، وأكبر تدفقات للمساعدات الخارجية والاستثمارات الأجنبية، وأكثر تدفقات الأخبار والمعلومات موثوقية، وأمتن شبكة من التحالفات والشراكات، وأكبر تأثير في المعايير والأفكار والثقافة العالمية.
ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، قادت الولايات المتحدة عملية إنشاء المؤسسات العالمية -الأمم المتحدة، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، والمعاهدات التي تحكم انتشار الأسلحة النووية وغيرها من المخاطر- التي احتوت أنواع الحروب التجارية والحروب المسلحة والعدوان السافر، التي أوصلت العالم إلى حافة كارثة شاملة.
ينبع تحرك دونالد ترامب الانعزالي لوضع «أمريكا أولًا»، من ازدراء عميق للمؤسسات والتحالفات المتعددة الأطراف، بل ولأي قاعدة أو منظمة تمنع الولايات المتحدة من فعل ما تشاء في العالم. لكن ما يقيد الولايات المتحدة من خلال قواعد شفافة يقيد أعداءنا أكثر بكثير، من خلال إنشاء تحالفات دولية ضد طموحاتهم العدوانية.
لا يسعى ترامب فقط إلى توبيخ شركائنا، بل إلى تفكيك أدواتنا الأكثر فعالية من حيث التكلفة للحفاظ على الأمن والنفوذ الأمريكيين العالميين. إن مبلغ 50-70 مليار دولار الذي تنفقه الولايات المتحدة سنويًّا على المساعدات الخارجية، لا يمثل سوى 1% من الميزانية الفيدرالية، لكنه ينقذ الأرواح ويطيلها، ويمنع المجاعة، ويخفف من حدة النزاعات العنيفة، ويعزز الحوكمة، ويخلق أسواقًا جديدة للسلع والخدمات الأمريكية، ويولد رأس مال سياسي وأخلاقي يمكن للولايات المتحدة الاستفادة منه للمساعدة في إبعاد العالم عن الفقر والفوضى والأوبئة والديكتاتورية والحرب.
في السنة المالية السابقة، أنفقت الولايات المتحدة 882 مليون دولار على الوكالة الأمريكية للإعلام العالمي، وهي الهيئة التي تشرف على جميع شبكاتنا الإعلامية العالمية (صوت أمريكا، وراديو أوروبا الحرة/راديو الحرية، وراديو آسيا الحرة، ومكتب البث الكوبي، وشبكات البث في الشرق الأوسط، وصندوق التكنولوجيا المفتوحة). وهذا يمثل 0.013٪ من الميزانية الفيدرالية، أو عُشر في المئة من الميزانية العسكرية، أو تكلفة خمس أو ست طائرات مقاتلة متطورة، لتوفير أخبار ومعلومات مستقلة للأشخاص المحرومين من حرية الصحافة، ولمواجهة الدعاية المعادية للديمقراطية والمعادية لأمريكا، التي تبثها الصين وروسيا وإيران ودكتاتوريات أخرى.
لا داعي إلى أن تكون مثاليًّا لتدرك لماذا هذه الاستثمارات المتواضعة تخدم المصالح الأمريكية بشكل عميق. ستكون الاقتصادات والسكان الأسرع نموًّا في العقود القادمة في البلدان ذات الأسواق الناشئة، ولا سيما في إفريقيا. عندما نحقق المساواة في مجال المعلومات، ونعزز القيم الديمقراطية، ونتعاون معهم لتطوير أسواق مفتوحة ودول تحكمها سيادة القانون، فإننا نبني العالم الذي تزدهر فيه أمريكا.
إن حرب ترامب على المساعدات الإنمائية الأمريكية -جهوده لإغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وقطع التمويل عن المؤسسة الوطنية للديمقراطية (التي تساعد البلدان على بناء أشكال حكومة مسؤولة وتمثيلية)- ونواياه المعلنة لتقليص الوجود الدبلوماسي الأمريكي في العالم، ولا سيما في إفريقيا، لا تحدث في فراغ.
يأتي هذا الانسحاب من المشاركة العالمية في وقت تسعى فيه القوى العظمى المنافسة -وبشكل أساسي الصين، ولكن في بعض المناطق روسيا وإيران- إلى إعادة تشكيل العالم على صورتها الاستبدادية وإزاحة الولايات المتحدة من أدوارها وتحالفاتها المُستقرة في آسيا وأوروبا والشرق الأوسط، مع تقويض نفوذ الولايات المتحدة ووصولها إلى إفريقيا وأمريكا اللاتينية ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ بأكملها.
تسعى الصين إلى الهيمنة الإقليمية في آسيا والمحيط الهادئ، وفي نهاية المطاف إلى القيادة العالمية أيضًا. وقد أوضحت الصين على مدى عقود، ولكن بشكل متزايد وصريح وعدواني في عهد شي جين بينج، أنها لا يمكن أن تكون «عظيمة مرة أخرى» ما لم «تستعِد» تايوان، بالقوة إذا لزم الأمر. كما تسعى روسيا إلى محو أوكرانيا من الخريطة وإحياء الإمبراطورية الروسية، وليس الاتحاد السوفييتي، مع جعل جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة دولًا تابعة لها.
هذا التسارع في المنافسة بين القوى العظمى يبدو بشكل متزايد وكأنه حرب باردة جديدة، تنافس عالمي بين طريقتين مختلفتين جذريًّا لتنظيم المجتمع -من خلال الهيمنة من أعلى إلى أسفل لحاكم ودولة استبداديين أو الانفتاح والمنافسة من أسفل إلى أعلى في السوق الاقتصادية والسياسية في ظل سيادة القانون. في حين أن الطريقة الأولى تتطلب سلطة مطلقة، فإن الطريقة الثانية تؤكد على الحرية والدستورية. وعلى عكس الحرب الباردة الأولى، لا توجد أيديولوجية متماسكة تربط أو تضفي الشرعية على المحور الجديد للأنظمة الاستبدادية- الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية وكوبا وفنزويلا وبعض القوى الأقل أهمية. ما يهم ليس أن الصين شيوعية، بل إنها لينينية. ما يوحد القوى الانتقامية ليس آراؤها الاقتصادية، بل عداؤها للحرية والديمقراطية.
إن المشاركة الأمريكية القوية والمستمرة والواثقة بنفسها والواسعة النطاق في العالم، والتي نشأت عن مصلحة ذاتية مستنيرة، هي التي انتصرت في الحرب الباردة الأخيرة. ولم يكن ذلك بأي حال من الأحوال مجرد قوة عسكرية وتحالفات. فقد ساعدت المساعدات الخارجية، كما كتب أندرو ناتسيوس، المدير السابق للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، بشكل مقنع، في الانتصار في الحرب الباردة. بدءًا من وزراء الخارجية المؤسسين بعد الحرب -جورج مارشال ودين أتشيسون- أثبتت الدبلوماسية الأمريكية أنها حاسمة في تشكيل المؤسسات والقواعد والتحالفات العالمية التي عززت الحرية والأمن. وقد شهد وزراء الخارجية اللاحقون من كلا الحزبين، بمن فيهم جورج شولتز وجيمس بيكر ومادلين أولبرايت وكوندوليزا رايس، في مذكراتهم على قوة الدبلوماسية الأمريكية في تعزيز الحرية وتأمين السلام. وشهد عدد لا يحصى من الدبلوماسيين، بمن فيهم مايكل ماكفول، الذي شغل منصب سفير الولايات المتحدة لدى روسيا لفترة أسطورية، على الدور الذي يلعبه سفراء الولايات المتحدة وموظفو السفارات في تعزيز الأمن والمصالح الاقتصادية للولايات المتحدة، ومساعدتنا على فهم البلدان الأجنبية وقياداتها، وبناء «القوة الناعمة» الأمريكية من خلال المشاركة العامة والخاصة مع مختلف قطاعات المجتمع.
إن الخطوات الدراماتيكية التي اتخذها ترامب وخططه المعلنة لتقليص حجم خدمتنا الدبلوماسية وتسييسها، وإغلاق ما يقرب من 30 سفارة وقنصلية، وخفض التمويل المخصص للمنظمات الدولية والمتعددة الأطراف، هي خطوات مذهلة من حيث التوفير في النفقات والهدر في الموارد. وتأتي هذه الخطوات في وقت تقوم فيه الصين بالعكس. وفقًا لمعهد لوي الأسترالي، تجاوزت الصين الآن الولايات المتحدة في امتلاك «أكبر شبكة دبلوماسية في العالم»، مع «بصمة دبلوماسية أكبر من الولايات المتحدة في إفريقيا (60:56 منصبًا)، وشرق آسيا (44:27)، ودول جزر المحيط الهادئ (9:8)، وآسيا الوسطى (7:6)». على كل الجبهات، وفي كل مكان تقريبًا، تحتل الصين المساحات المادية والسياسية والأيديولوجية التي تخلو منها الولايات المتحدة. يا لها من صيغة لـ «إعادة أمريكا إلى عظمتها!!».
«انتحار قوة عظمى»
قد يبدو الأمر غير معقول، لكن هذه الجروح الهائلة التي تسببنا فيها لأنفسنا لا تمثل أبعد الأضرار التي لحقت بمصالحنا الوطنية. على مدار العقد الذي يلي الدمار الذي خلفه ترامب، قد يكون من الممكن إعادة بناء الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) وبنيتنا التحتية الإعلامية العالمية وسلكنا الدبلوماسي وأدوات قوتنا الناعمة العالمية الأخرى إذا تمكنا من توليد تقدير عام متجدد لأهميتها والتزام متجدد من كلا الحزبين بتمويلها. سيكون ذلك وحده معركة شاقة جدًّا. لكننا قد لا نتعافى أبدًا من البعد الآخر لحملة ترامب الرامية إلى إضعاف أمريكا مرة أخرى، ألا وهو حربه على العلم. إن نطاق وعمق الدمار الذي يسببه ترامب للريادة الأمريكية في العلوم والتكنولوجيا هائل وشامل إلى درجة أنه من الصعب فهمه دون اللجوء إلى نظرية سخيفة، مثل أن ترامب ليس عميلًا لروسيا الإمبراطورية بل للصين الشيوعية، أو أنه ببساطة مجنون حرفيًّا. في الحقيقة، ترامب هو شعبوي غاضب، كراهيته وامتعاضه للمؤسسات والنخب الراسخة عميقان إلى درجة أنه مستعد لقطع أنف أمريكا (وأذنيها وعينيها) لإثبات عناده تجاه ما يعتبره وجهها المتعجرف «المستيقظ».
وهكذا لدينا بعض التحولات المروعة الأخرى في أول 150 يومًا من ولاية ترامب: معاقبته للجامعات الليبرالية النخبوية تحت ستار محاربة معاداة السامية؛ تخفيضاته العقابية الهائلة في أموال الأبحاث المخصصة للجامعات الكبرى وميزانيات المؤسسة الوطنية للعلوم والمعاهد الوطنية للصحة؛ وتعهده برفض منح تأشيرات دراسية ليس فقط لجميع الطلاب الدوليين في جامعة هارفارد، بل ربما لمعظم أو جميع الطلاب من البلدان التي لا يحبها أو يعتبرها تهديدًا، وعلى رأسها الصين.
مع فقدان الولايات المتحدة لريادتها في عديد من مجالات التصنيع، استمرت حيويتها الاقتصادية ونفوذها العالمي بفضل ريادتها المستمرة في مجال الخدمات، بما في ذلك البحث والتصميم والتعليم العالي. يظهر الترتيب العالمي السنوي الذي تصدره مجلة تايمز للتعليم العالي أن سبع جامعات أمريكية من بين العشر الأوائل (الثلاث الأخرى بريطانية) وثلاث عشرة من بين العشرين الأوائل. لماذا قد يهاجم أي جهد لـ «إعادة أمريكا إلى عظمتها»، أحد أبعاد العظمة الأمريكية الفعلية القائمة؟ ومع ذلك، فإن ترامب يفعل ذلك بشغف. في مقالة نشرت الشهر الماضي، حذر فريد زكريا من أن حرب ترامب على هارفارد «تدمر القدرة التنافسية الأمريكية». من بين ما يقرب من 2.6 مليار دولار من المنح البحثية الفيدرالية التي حصلت عليها هارفارد والتي ألغتها إدارة ترامب، أكثر من 90٪، كما يكتب زكريا، مخصصة للبحوث في علوم الحياة، ودراسة الأمراض المميتة والعلاجات المبتكرة المحتملة. وكتبت مجلة نيتشر أن الباقي مخصص لمجالات مثل الفيزياء الفلكية والحوسبة الكمومية. ويشير زكريا إلى أن هذه المشاريع، التي تساعد في الحفاظ على ريادة أمريكا العالمية في مجالي الصحة والعلوم، «لا علاقة لها تقريبًا بـ«أيديولوجية اليقظة» التي يعترض عليها ترامب». وإن إنهاء هذه المشاريع لن يساهم في مكافحة معاداة السامية أو غيرها من أشكال التمييز في هارفارد. لكنه «سيؤدي بالتأكيد إلى إخراج هارفارد»، من مؤشر Nature للمؤسسات الأكاديمية العشر الأوائل في العالم من حيث إنتاج البحوث. في تلك القائمة، كانت هارفارد في المرتبة الأولى في العام المنتهي في فبراير الماضي. أما الجامعات التسع الأخرى فكانت جميعها جامعات صينية.
وبالطبع الأمر لا يقتصر على جامعة هارفارد. فقد فرض ترامب أيضًا تخفيضات في تمويل الأبحاث بمئات الملايين من الدولارات على جامعة جونز هوبكنز وكولومبيا وجامعة بنسلفانيا. ومن المحتمل أن تكون هناك مزيد من العقوبات الفردية في المستقبل، إلى جانب اقتراح خفض عام بأكثر من 25 مليار دولار في التمويل الحكومي للعلوم (بما في ذلك خفض بنسبة تزيد على 50٪ في إجمالي التمويل المخصص للمؤسسة الوطنية للعلوم) في مشروع قانون الميزانية «الكبير»، الذي قدمه ترامب، وزيادات ضريبية عقابية حادة على هبات الجامعات. ويلاحظ زكريا بحدة: «في مجال الأعمال، تقوم بسقي الورد وتقليم الأعشاب الضارة. يبدو أن هذه إستراتيجية معاكسة».
كما أشار كاتب هارفارد كريمسون جوليان بيرمان، فإن البحث الأساسي أمر أساسي للاختراقات التكنولوجية التي رسخت ريادة الشركات الأمريكية في مجالات مثل الطب الحيوي والحوسبة والهواتف الذكية، بل و«الإنترنت نفسه». تقوم الجامعات بالجزء الأكبر من «العلوم الاستكشافية الأساسية التي تعتبر مخاطرة كبيرة بالنسبة إلى القطاع الخاص»، لأن العائدات بعيدة جدًّا في المستقبل. وقد وجدت أبحاثه أن استثماراتها في مجال الأبحاث تنتج براءات اختراع تزيد بخمس مرات على نفس المبلغ المستثمر من قبل القطاع الخاص. وتتضاعف مكاسب النمو الاقتصادي عندما تكون الجامعات والصناعات المبتكرة قريبة بعضها من بعض وتتفاعل معًا، كما هو الحال في هارفارد وستانفورد. وكما لاحظ رافائيل ريف، الرئيس السابق لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، في مقالة مهمة في مجلة «Foreign Affairs»، فإن الأبحاث العلمية الأساسية والابتكارات التكنولوجية التطبيقية تسير في دورة إيجابية تنتج «آثارًا جانبية هائلة على الاقتصاد الأمريكي». إن التخلي عن هذه الاستثمارات يعني إهدار بذور الريادة الاقتصادية الأمريكية العالمية، في وقت تلاحقنا فيه الصين في كل مجال تقريبًا، لم تتفوق فيه علينا بالفعل (مثل البطاريات والسيارات الكهربائية والتكنولوجيا الفائقة السرعة).
لن نفوز في المنافسة التكنولوجية مع الصين من خلال ضوابط التصدير؛ فهي مجرد حل جزئي ومؤقت في الغالب. مفتاح النجاح هو الابتكار بشكل أسرع وأفضل. كما يرى رافائيل ريف وكما خلصنا أنا وزملائي في كتابنا الصادر عام 2023 عن التجارة العالمية في أشباه الموصلات، Silicon Triangle، فإن هذا سيتطلب زيادة الإنفاق الأمريكي على البحث والتطوير، بما في ذلك استثمارات الحكومة الفيدرالية في الأبحاث العلمية والهندسية الجامعية، وبذل جهود مستمرة لجذب أفضل المواهب الدولية والاحتفاظ بها. ولكن حتى الآن، فإن سياسات إدارة ترامب الثانية تدفعنا في الاتجاه المعاكس تمامًا.
أظهرت دراسة أجرها المعهد الأسترالي للسياسة الإستراتيجية قبل عامين أن الصين كانت متقدمة في 37 من أصل 44 مجالًا من مجالات التكنولوجيا المتقدمة. وكان أحد المجالات التي تفوقت فيها على الولايات المتحدة الأمريكية هو اللقاحات، على الأقل حتى أيام قليلة مضت، عندما انتهك وزير الصحة والخدمات الإنسانية في عهد ترامب، روبرت ف. كينيدي الابن، التعهد الذي قطعه على نفسه أثناء عملية تثبيته في مجلس الشيوخ وأقال لجنة الخبراء بأكملها التي تقدم المشورة لمراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC) بشأن اللقاحات. هذا أسوأ من البخل؛ إنه علم صحة شعوذي، وهو ما يلحق تطهيرًا أوسع نطاقًا وأكثر تدميرًا بوزارة الصحة والخدمات الإنسانية (HHS) ومراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC) وإدارة الغذاء والدواء (FDA).
قد تكون دولة الحزب الشيوعي الصيني ساخرة وقاسية ومفترسة، لكنها تأخذ العلم على محمل الجد، وهي تلعب من أجل الفوز. في المقابل، إذا كانت السياسة الأمريكية مدفوعة بالخرافات والأساطير والغضب، فمن المحتم أن نصبح قوة من الدرجة الثانية. وما يزيد الطين بلة —بل ويزيده سوءًا— أن إدارة ترامب تضيف إلى حربها على البحث العلمي حربًا على تأشيرات الطلاب الدوليين. ويشير تحليل حديث لمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية (CSIS) إلى أن «اليوم، ما يقرب من نصف خريجي برامج الدكتوراه والماجستير في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات في الولايات المتحدة هم من الطلاب الدوليين، وهو رقم آخذ في الازدياد على مدى العقد الماضي». وفي عديد من أقسام الجامعات الأمريكية الرائدة في علوم الكمبيوتر والهندسة والفيزياء والكيمياء والطب الحيوي وما إلى ذلك، تكون النسب المئوية أعلى من ذلك بكثير. فقد وجدت دراسة أجريت عام 2021 أنه في الجامعات الأمريكية، يمثل الطلاب الدوليون 74٪ من طلاب الدراسات العليا في الهندسة الكهربائية، و72٪ في علوم الكمبيوتر والمعلومات، و71٪ في الهندسة الصناعية والتصنيعية، و70٪ في الإحصاء، و67٪ في الاقتصاد، و56٪ في الرياضيات. وعديد من هذه الأقسام ببساطة لن تكون قادرة على العمل بدون الطلاب الدوليين. نحن لا نحتاج إلى الطلاب الدوليين بشكل عام فحسب. فإذا أردنا أن نظل عامل الجذب للمواهب الدولية الذي جعل أمريكا عظيمة، فإننا بحاجة إلى الطلاب الصينيين. يلاحظ ماكس بوت: أن ما يزيد على الثلث (حوالي 110.000) من الطلاب الصينيين في الجامعات الأمريكية اليوم البالغ عددهم حوالي 277.000 يتابعون دراساتهم للحصول على درجات علمية في الرياضيات والعلوم والهندسة، وهي ينابيع الابتكار الاقتصادي والريادة التكنولوجية. وما لا شك فيه أن بعض هؤلاء الطلاب يتجسسون لصالح الجيش الصيني ودولة الحزب، وهو جزء من حملة استمرت لعقود من النقل غير المشروع للتكنولوجيا (أي سرقة الملكية الفكرية الأمريكية، بما في ذلك الأسرار العسكرية) «لجعل الصين عظيمة مرة أخرى». ولكننا بحاجة إلى مواجهة هذا التحدي بأساليب هادفة، وليس بمطرقة عمياء.
وكما أشرت أخيرًا مع اثنين من قدامى المحاربين في إدارة ترامب الأولى، فإن النهج الصحيح هو «الجمع بين موقف اليقظة بشأن أمن البحث وإعادة الاستثمار في المؤسسات والأشخاص الذين يعتمد عليهم الابتكار والازدهار الأمريكي». هناك أيضًا مصلحة اقتصادية مباشرة على المحك. فعديد من الجامعات الأمريكية ستجد نفسها في ضائقة مالية شديدة بدون الرسوم الدراسية التي يدفعها الطلاب الدوليون. في الواقع، لا تحافظ المبالغ التي يدفعها الطلاب الدوليون هنا على الصحة المالية للكليات والجامعات الأمريكية فحسب، بل إنها تقلل أيضًا بشكل كبير من العجز التجاري للولايات المتحدة، لأنها «صادرات من الخدمات التعليمية». يكتب داني بحر من مركز التنمية العالمية أن التعليم العالي هو أحد أنجح صناعات «التصدير» لدينا، حيث حقق «أكثر من 50 مليار دولار في عام 2023 وحده». وحتى من خلال المنظور الضيق لهوس ترامب بالعجز التجاري، لماذا قد نرغب في الإضرار بواحدة من أعظم صناعات التصدير لدينا؟ لكن الفوائد التي تعود على أمريكا من المواهب الأجنبية تمتد إلى ما هو أبعد من التعليم، فهي تؤتي ثمارها على مدى العمر، إذا سمحنا لها بذلك.
وكما لاحظ فريد زكريا، تعتمد الصين بشكل أساسي على أفضل المواهب من بين سكانها البالغ عددهم 1.4 مليار نسمة، بينما تستطيع الولايات المتحدة، بدرجة فريدة، جذب أفضل وألمع العقول من بين سكان العالم البالغ عددهم 8 مليارات نسمة. يكتب زكريا: «النتائج تتحدث عن نفسها». «فمن بين أكبر 10 شركات في أمريكا، يدير خمسًا منها مهاجرون». ويستشهد ماكس بوت بتحليل أُجري عام 2022 وجد أن «ربع الشركات الناشئة الأمريكية التي تبلغ قيمتها مليار دولار لديها مؤسس التحق بجامعة أمريكية كطالب دولي». وبهذه الطريقة، فإننا نهدر بذور الابتكار الأمريكي، حيث تدفع كراهية الأجانب لدى ترامب أفضل المواهب الشابة في جميع أنحاء العالم إلى البحث عن فرص للدراسات العليا وأبحاث ما بعد الدكتوراه والتدريس في أماكن أخرى، في أوروبا وكندا وأستراليا واليابان وسنغافورة، وليس أقلها الصين نفسها.
بينما نشعر بالقلق (ولا يزال لدينا سبب وجيه) بشأن سرقة الصين لأسرارنا التكنولوجية، من اختراقات الأسلحة إلى تصميمات أشباه الموصلات المتقدمة، فإن القصة الأكبر الآن هي أن الصين تستثمر بجرأة للسيطرة على تقنيات المستقبل، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمومية، والطب الحيوي المتقدم، وأشكال مختلفة من الطاقة المتجددة. وبينما نتراجع عن الاستثمارات العلمية لحماية صحة سكاننا، تضاعف الصين جهودها، حيث زادت دعم الميزانية الحكومية المركزية للعلوم والتكنولوجيا بنسبة 10٪ هذا العام. وفي الأول من إبريل (وهذه ليست مزحة)، أقال وزير الصحة والخدمات الإنسانية كينيدي جميع كبار الأطباء البيطريين في إدارة الغذاء والدواء الذين يشرفون على الاستجابة للموجة المدمرة من إنفلونزا الطيور التي تنتشر في جميع أنحاء العالم، في لحظة يشعر فيها عديد من العلماء بالقلق من احتمال تحورها لتمكين انتقالها من إنسان إلى آخر. لا ينبغي لنا أن نفترض أن الصين تدفن رأسها في الرمال بالمثل. لقد تساءلت أخيرًا كيف سيتحول ميزان القوى العالمي —عمليًّا ورمزيًّا— إذا واجه العالم فيروسًا وبائيًّا جديدًا طورت له الصين لقاحًا فعالًا وأصبحت الولايات المتحدة، بعد أن استسلمت لنظريات الشعوذة حول خطر اللقاحات، متوسلًا عاجزًا، تتوسل رحمة الصين الخيرة.
يمكن أن يحدث ذلك أيضًا إذا وجدت الولايات المتحدة نفسها في أي شيء يقترب من صراع عسكري وقامت الصين —التي تسعى الآن «لترسيخ نفسها كمطور ومصنع وموزع بارز للأدوية في جميع أنحاء العالم»— ببساطة بوقف صادراتها إلى الولايات المتحدة من الأدوية التي تسيطر عليها إلى حد كبير في التجارة العالمية، مثل المضادات الحيوية وبعض أدوية السرطان ومسكنات الألم التي لا تستلزم وصفة طبية. سيكون لدى الصين نفوذ قوي إذا كانت مستعدة لإلحاق ألم ملموس وخوف واضح بالأمريكيين، وليس فقط الألم الذي يلحق بالمصنعين من خلال تقليص المعروض من المعادن الأرضية النادرة في نزاع تجاري. كل هذا يشير إلى اتجاه متسارع ومثير للقلق.
نحن على وشك تحول هائل في ميزان القوى العالمي من شأنه أن يلحق بالولايات المتحدة هزيمة وجودية أكثر بكثير من أي شيء عانت منه في فيتنام أو العراق أو أفغانستان. إن تجاوز الصين للولايات المتحدة كقوة مهيمنة في العالم —أو حتى هزيمتها عسكريًّا في صراع حول تايوان— لن يكون نكسة أخرى في صراع إقليمي. لن تكون لحظة سبوتنيك التي يمكننا التعافي منها من خلال تجهيز أنفسنا لسباق وطني جديد. ستكون نهاية عظمة أمريكا، وليس استعادتها —وهو ما يسميه خبير الشؤون الصينية راش دوشي «انتحار قوة عظمى»— مع عواقب وخيمة على حرية ورخاء وصحة الأمريكيين (وحلفائنا). وبينما يتراجع دونالد ترامب عن المشاركة الأمريكية في الخارج والسياسة العقلانية في الداخل، فهذا هو المسار الذي نسير فيه. وقد يكون الوقت ينفد منا.
ترشيحاتنا
