عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

ثقافات

كمال مغيث

اللحم في الثقافة المصرية - الجزء أول

2025.10.05

مصدر الصورة : آخرون

اللحم في الثقافة المصرية - الجزء أول

 

لِلَّحم قيمة ومكانة كبيرة في الثقافة المصرية، فهو أغلى وأثمن الأطباق ومحورها، ولذلك يلقبه بعض الظرفاء بـ«سيد الطعام» بلا منازع، وهو أهم أطباق الطبلية، أو المائدة، ومهما تنوعت الأطباق التي توضع عليها: محشي، أرز، خضار، مكرونة، كسكسي، بطاطس، مخلل، سلطة، تظل عيوننا وقلوبنا معلقة بطبق أو صينية اللحم، الذي تضعه الأم آخر الأطباق، وكان مقصودًا وضعه آخر الأطباق حتى يشبع الأطفال من أطباق الطعام المتنوعة، ثم يأتي اللحم في الآخر، كأنه قبلة النهاية السعيدة في نهاية الأفلام العربية.

وسوف أعود إلى اللحم كطعام بعد أن آتي على أنواع ومعانٍ أخرى لمفهوم اللحم، الذي يبدو أن الغابة ومرحلة التوحش البدائية في تاريخ البشر قد ألقت بظلها عليه. فأول ما تلتهمه الضواري من فرائسها «اللحم»، قبل أن تنتقل إلى الأحشاء والعظام، ولذلك نطلقه في الأمثال والتعبيرات الشعبية على أغلى ما يحصل عليه الآخرون منا «الرجال تحديدًا»، كقولنا: «لحم كتافه من خيري»، أو «هؤلاء لا يلوفوا ولا أكلتهم لحم الكتوف»، والمفترض أن كمية اللحم تكون صغيرة بالمقارنة بحجم ما يتناوله الفرد من الأطباق الأخرى أرز وخضار، وغيره باعتباره مجرد حلية للطعام، لذلك يأتي تعبير «بياكل لحمة حاف»، كناية عن الرغد والبلهنية وسعة العيش، وقد يطلق على صعوبة ما تراه سهلًا «دا لحمه مُر»، وقد يطلق على شدة الخصام والاختلاف: «دا لحمهم مايستويش في حلة واحدة»، أو على شدة الجحود والنكران: «خدوه لحم ورموه عضم»، أو شدة الاتصال «الضفر ما يطلعش من اللحم»، ويعبر غيابه عن سوء الحال: «جلد على عضم»، وقد يقال للتعبير عن شدة الانصياع والرضا: «إحنا اللحمة وانتو السكاكين».

أما في حالة المرأة بالذات، فاللحم معناه أقرب إلى «العرض والشرف»، فزوج بنتنا: «إستأمناه على لحمنا»، أو «واخد مننا أربعة وعشرين ضلع»، ولو استهترت فتاة يصبح لحمها «متبعتر»، ويقال لأسرتها: «لموا لحمكوا»، ومن هذا كان فيلم «لحم رخيص» لإيناس الدغيدى، وقصة «بيت من لحم» ليوسف إدريس.

أما القرآن الكريم فحرم على المسلمين أكل لحم الميتة، واستبشع الغيبة والنميمة بتشبيههما بذلك، فإذا كان أكل لحم الميتة من الدواب محرم بالآيات البينات، فما بالنا لو كان ذلك الميت من البشر «أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه» (سورة الحجرات 12).

ويقول أساتذة العصر الحجري إن اكتشاف النار وطهو لحوم الفرائس عليها لعب أهم الدوار في انسلاخ البشر من الحالة الحيوانية والدخول في الحالة الإنسانية، إذ كان له الفضل في تصغير الأنياب وتقليل بروز الفكين وتكبير حجم المخ وتطوير الجهاز الهضمي.

ويذكر أستاذنا الراحل سيد عويس (1913-1988)، وهو رائد الدراسات الشعبية، في سيرته الذاتية مأثورًا شعبيًّا طريفًا وموحيًا عن قيمة اللحم في جميع حالاته، قائلًا: «أجمل حاجة أكل اللحم، والأجمل منه اللحم على اللحم، والأجمل من الكل دخول اللحم في اللحم»، وعن قلة الحظ، يُقال: «قليل البخت يلاقى العضم في الكرشة»، فكرش الذبيحة أو معدتها من اللحم الخالص، وفى رائعة أمل دنقل (1940-1983) البكاء بين يدي زرقاء اليمامة، التي كتبها عقب هزيمة 1967، واصفًا حال الضحايا من الشباب الفقراء:

تكلمي أيتها النبيلة المقدسة

فها أنا على التراب سائل دمي

أنا الذي ما ذقت لحم الضأن

أنا الذي لا حول لي أو شأن

أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان

أدعى إلى الموت

ولم أدعَ يومًا إلى المجالسة

اللحم والمجتمع

تعتبر اللحمة رمانة الميزان في اقتصاديات الأسر المصرية، فهي ترمومتر دقيق لحال الأسر المصرية بين البلهنية وشظف العيش، ويوضح موقف الحكام منها موقفهم من الشعب -كما سنوضح فيما بعد-، يقول الراحل الكبير جلال أمين (1935-2018)، في كتابه «ماذا حدث للمصريين»: «لأنى كنت أصغر أبناء الأسرة، فكنت الموكل من أمي بشراء اللحم الذي لم يتغير سعره ولم يزِد قرشًا حين اشتريته وأنا في المدرسة الابتدائية، عن سعره وأنا أشتريه في نهاية سنواتي الجامعية، وراحت أسعار اللحوم تتزايد في الخمسينيات والستينيات، ولكنها زيادات منطقية ولا تتجاوز القرش والقرشين. ولكن منذ منتصف السبعينيات ومع التغيرات الاقتصادية التي قررها السادات في البلاد، راح سعر اللحم يتزايد بشكل كبير، وبينما كنت أشتري اللحم بأربعين وسبعة وأربعين قرشًا في نهاية الستينيات، ويختلف السعر بضعة قروش بين أسعار لحمة البتلو أو العجالى أو الكندوز (الكبيرة)، ولكنه راح يرتفع ارتفاعًا كبيرًا، وفى مظاهرات انتفاضة الخبز يناير 1977، هتفنا: "أنور أنور أنور بيه/ كيلو اللحمه بقى بجنيه"»، بينما كان سعره الفعلى نحو ثمانين قرشًا، وعندما واصل السعر ارتفاعه ليصل إلى جنيه فعلًا سنة 1980، اتخذ السادات قرارًا عجيبًا وكأنه يعاقب الجزارين وتجار اللحوم على جشعهم، بمنع ذبح اللحوم لمدة شهر، ولم يشغل باله بأن من عنده ثلاجة يستطيع أن يفرزن فيها ما يريد من اللحم، أو بأن اللحوم كانت تذبح في البيوت وتباع بالمعرفة الشخصية عادي جدًّا، مع إضافة قيمة المخاطرة للسعر، أو ما يقال من أن القرار مجرد حيلة لتصريف صفقات الدجاج التي امتلأت بها مخازن حبايبه من المستوردين.

ومع ارتفاع أسعار اللحوم والدواجن بدأنا نعرف الدجاج المجمد المستورد، وفى ظل انفلات الرأسمالية العائلية في ظل «انفتاح السداح مداح»، على حد تعبير أحمد بهاء الدين (1927-1996)، راح بعض النقاد يتساءلون عن مدى جودة تلك الدواجن المستوردة بل ومدى صلاحيتها للاستهلاك الآدمي، ثم راحت تكثر صفقات أوراك الدواجن فقط على اعتبار أن لحوم الصدور أثمن وأكثر جودة، ولذلك تستهلك في بلدانها، وراح بعض المعارضين للنظام يروجون لاحتمال أن تكون تلك الطيور المذبوحة منتهية الصلاحية، أو لحوم نسور وعقبان، مع أن ثمن النسور والعقبان أغلى بآلاف المرات من أسعار الدجاج والرومي.

المهم راح بعض خبراء النظام المستعدين دائمًا لتقديم خدماتهم لكل نظام فاسد، وتبرير كل قرار عجيب، يطالبون الناس بأكل الفول بدلًا من اللحمة، لأن اللحمة فيها سم قاتل، ولذلك كتب أحمد فؤاد نجم (1929-2013)، ولحن وغنى الشيخ إمام (1918-1995): «عن موضوع الفول واللحمة صرح مصدر قال مسؤول/ إن الطب اتقدم جدًّا والدكتور محسن بيقول/ إن الشعب المصري خصوصًا من مصلحته يقرقش فول/ يديك طاقة وقوة عجيبة تسمن جدًّا تبقى مهول/ ثم أضاف الدكتور محسن إن اللحمة دي سم أكيد/ بتزود أوجاع المعدة وتعود على طول الإيد/ واللى بياكلوا اللحمة عمومًا حيخشوا جهنم تأبيد».

اللحم في التاريخ

عرف الفراعنة أكل اللحوم منذ عهد ما قبل الأسرات، وتنقل لنا كثير من الجداريات مشاهد ذبح ثيران الأبقار والجاموس وسلخها وتجهيز لحومها، وهناك منظر لإخناتون وهو ينهش ضلع ثور مشوى، ويقال إن تعبير «حتتك بتتك» تعبير فرعوني يعنى اللحم والعظم، وهو يضرب تعبيرًا عن أن الآكلين أتوا على كل شيء ولم يبقوا لا لحمًا أو عظمًا، وهناك عديد من المناظر التي توضح تربية وتزغيط الإوز والبط وذبحه وتنظيفه (في مقبرة كاجمنى بسقارة أسرة 6)، ولصديقى محمود عمارة بحث يؤكد أن المصريين القدماء عرفوا «الفواجرا» (كبد الإوز الذي تم تزغيطه)، وأن شامبليون الإيجبتولوجى العظيم هو الذي نقلها إلى فرنسا، وهناك كثير من تلك الدواجن المحنطة والمدفونة بجوار الموتى، وعرف القدماء أكل تلك اللحوم بطريقة الشي والسلق والتحمير والتخزين بالدفن في الدهن والسمن بعد تسييحه وتجمده.

ولم يعرف المصريون ذبح الحيوانات وتقديمها كقرابين للآلهة كالإغريق مثلًا، وإنما كانت القرابين التي يقدمها الملوك والناس للمعابد هي الحيوانات والدواجن الحية، التي يتعيش منها الكهنة ويربونها في حظائر خلفية ملحقة بالمعابد لذبحها في المواسم وإطعام الفقراء منها أيضًا. ويعتبر كتف الذبيحة واحد من أهم الأطعمة التي تقدم على مائدة القرابين للمتوفى في مصر القديمة، إلى جانب الكعك والقرص والزهور والجعة.

ومنذ نحو ستين عامًا لم تكن القرى والمدن الصغيرة تعرف دكان الجزار الثابت، إذ لم يكن غالبية سكانها الفقراء يشترون اللحم بصفة منتظمة، وإنما غالبًا في يوم سوق القرية فقط، أو في المناسبات والمواسم، أو على مسافات زمنية غير منتظمة، وما زالت أفلام الأبيض والأسود تنقل ملامح ذلك الوقت، حين يجر شاب ثورًا كبيرًا يتزين قرناه بعقود وأقمشة حمراء مزخرفة، تتدلى على جانبيه، ومن خلفه زفة من الأطفال وهو ينادى: من ده بكرة.. فيرد الأطفال: بقرشين.. من ده بكرة بقرشين، ويغريهم الشاب ويزيد أعدادهم وهو يلقى عليهم من آن إلى آخر ببعض التمر أو الملبس، وربما أكون قد شاركت في تلك الزفات وأنا طفل صغير في مطلع ستينيات القرن الماضى، وطبعًا لم يكن رطل اللحم ولا كيلو اللحم بقرشين في ذلك الوقت، وإنما تجاوز ذلك بكثير، فلا بد أن سعر اللحم في ذلك الهتاف يعود إلى أوائل القرن العشرين، وظل «القرشين» للحفاظ على الجرس الموسيقى، ولمجرد الإعلان عن الذبيحة.

وقد يأكل الفقراء اللحم «فجأة» إذا دهت أحد الفلاحين مصيبة أو حادثة في بقرته أو جاموسته واضطر إلى ذبحها قبل أن تنفق، هنا يضطر الفقراء الآخرون إلى مساعدة صاحب الذبيحة في محنته بشراء رطل أو رطلين منها، ولو إلى حين ميسرة، وطبعًا ساهم في قلة شراء اللحم في تلك الأوقات عدم دخول الكهرباء القرى والمدن الصغيرة، فلا ثلاجات هناك لحفظ اللحم، وبالتالي فالناس لا تشترى إلا وجبة ليوم واحد، وربما اليوم الذي يليه على الأكثر، أما أغنياء القرى كالدكتور وصاحب الصيدلية والموظفين الكبار، فكانوا يحصلون على اللحم من القاهرة أو من مدن وعواصم الأقاليم.

وقد كان أكل اللحم مسلوقًا الشائع عند أغلب الأسر المصرية، فعملية السلق تنتج الشوربة أو المرق، الذي يمكن من خلاله طهو ما نشاء من الأرز والخضار، وهو الطعام الذي يسد جوع الأطفال والشباب، ولذلك قيل في المثل: «مرّق تفرق»، أو أكثر من المرقة ليأكل أكبر عدد من الناس، ومن هنا كان أكل اللحم مشويًّا، أو كفتة وطرب، أو بفتيك، أو كباب حلة، ترفًا لم تعرفه أو تقدر عليه أغلب الأسر في ذلك الوقت، وكان أكل لحم الضأن والنيفة، لحم الخروف والماعز نادرًا لارتفاع أسعاره، ولم ينتشر إلا في المطاعم الغالية.

وبمناسبة لحم الخراف، فهو الأضحية الواجبة على من يستطيع من المسلمين صبيحة يوم عيد الأضحى، تأسيًا بسيدنا إبراهيم حين هَمَّ بذبح ابنه إسماعيل «فلما بلغ معه السعى قال يا بنى إنى أرى في المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى، قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدنى إن شاء الله من الصابرين، فلما أسلم وتلَّه للجبين، وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزى المحسنين، إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم». (سورة الصافات، آيات من 102 - 107»، وهكذا يكون سيدنا إبراهيم قد نجح في ذلك الاختبار الإلهي الصعب، فافتدى ربنا (سبحانه وتعالى) ابنه إسماعيل، وأرسل إلى الذبح بدلًا منه كبشًا سمينًا.

وكان ذبح الأضحية في طفولتي يتم على استحياء في منور البيت، أو المطبخ، أو الفناء، وربما كان سبب ذلك أمران، الأول: نفور المصريين من عملية الذبح أصلًا، لأننا شعب زراعي يحب الحياة فلا يطربه منظر ضحية حيوانية ينبجس منها الدم وتخور وهي تلفظ أنفاسها، والثاني: مراعاة مشاعر الجيران الفقراء الذين لا يستطيعون شراء الأضحية. أما ما شهدناه في السنوات الأخيرة من عمليات ذبح علنية للخراف والثيران أمام الناس في الشوادر والشوارع، وما يتصل بها من تعذيب للحيوان، والأطفال الذين يغمسون أياديهم في دم الأضاحي، ويختمون بها على الجدران، وما يعقب ذلك من بحيرات دم تملأ الشوارع، ثم روائح الدم والدهن المقززة التي تملأ الأجواء، فأظنه تقليد وحشي بدوي لم تعرفه بلادنا إلا مع الموجة الوهابية البدوية، التي غضت حكوماتنا الطرف عنها لسنوات وعقود طويلة.

كفتة الأرز

 وقد عرفت الأسر المصرية كفتة الأرز التي تتكون من اللحم المفروم -خاصة اللحم الكندوز (أي كبيرة السن) أو الجملي- مع الأرز والبصل والثوم والبقدونس، وكانت عملية الفرم في ظل غياب الكهرباء وماكينات الفرم الحديث عملية صعبة ومعقدة، إذا يقطع اللحم قطعا صغيرة «رأس عصفورة» وتخلط بالأرز والبصل والبقدونس، وتدق في الهاون النحاس الثقيل مرات عديدة، أو ماكينة الفرم اليدوي مرات عديدة أيضًا، حتى تطمئن ربة البيت إلى نعومتها، وتتحول تلك العجينة الطرية من اللحم والأرز إلى أصابع أو كبيبات، وفي جلسة حميمية، يساعد فيها الأطفال، ثم تحمر. ولن ينسى من شارك في تلك الوجبة المركبة الأم أو الجدة وهي تنهر الأطفال لمنعهم من أكل أصابع الكفتة نيئة، لكن محمرة فقط، وبعد تحميرها يمكن أن تصمد لوقت طويل، ثم توضع في الصلصة ومع طبق من الأرز تصبح وجبة كاملة ومحبوبة معًا، كانت تطهوها أمي في «ليلة مولد سيدي صلاح»، حيث يكثر الزائرين الذين يجب أن يتناولوا العشاء، وتظل كفتة الأرز تلك التي تصنع في مواسم متباعدة، يحبها الناس وخاصة الأطفال والشباب جميعًا كنوستالجيا جميلة.