دراسات

بريندا ويرث

العدالة بأثرٍ رجعيٍّ

2018.05.01

ترجمة: محمد عبد النبي

العدالة بأثرٍ رجعيٍّ

في أعقاب ارتكاب فظائع جماعية، يُمكن للجان التقصِّي والمحاكمات أن تسنَّ استراتيجياتٍ لالتماس الحقيقة والاعتراف والمساءلة والعدالة، إلى جانب تقديم طقوس عُبور للحكومات الانتقالية. تُشارك تلك اللجان والمحاكمات في إعادة تحرير الفضاء العام، وإعادة الاعتبار للاحتكام إلى القانون، واسترداد جهاتٍ مؤسسيةٍ لسلطاتها التي جُرِّدَتْ منها في ظل أنظمة الحُكم القمعية. كما أنَّ اللجان والمحاكمات تُعِدُّ مشاهدَ استعراضيةً، بمعنى أنَّ إعدادها وخلقها يفترضُ ضمنًا جمهورَ مُتفرِّجينَ. بحلول العام 2007 كان التقرير الأرجنتيني لنتائج لجنة تقصي الحقائق، والذي سُمِّي Nunca Mas، (Never again ،1984)، (لن يتكَّرر هذا أبدًا، 1984)، قد باع أكثر مِن نصف مليون نسخةٍ، ما يُشيرُ إلى قراءته على نطاقٍ واسعٍ محليًّا ودوليًّا1. لقد رأى أكثر مِن ثلاثمائة شخصٍ في الأرجنتين إجراءات محاكمة الجنرالات رؤيةَ العين، في حين شاهدَ عموم الجماهير مقاطعَ قصيرةً وصامتةً منها على شاشة التليفزيون. وخلال السنوات، أُجريتْ عمليات تنقيحٍ وإعادة إنتاجٍ لكلٍّ مِن تقرير (Never Again) ومحاكمة الجنرالات، في إصداراتٍ أُعيد تحريرُها وأعمالٍ وثائقيةٍ وأفلامٍ وأشكالٍ أُخرى مِن المنتجات الثقافية، مِن أجل أن يطَّلِعَ عليها جمهورٌ جديدٌ. إنَّ إعادة الإنتاج المتواصلة لتلك الأحداث الرمزية على مدى ثلاثين عامًا، قد جعلتْ منها نقاطَ تقاطعٍ مستمرةً في سياسات الذاكرة الخاصة بالأرجنتين إبَّان الفترة الانتقالية وما بعد الدكتاتورية.

نقطة انطلاق هذا الفصل هي المشاهدة، وعلى الخصوص فيما يتصل بالمعالم الانتقالية البارزة مثل تقرير «لن يتكرَّر هذا أبدًا»، ومحاكمة الجنرالات. وقد تزامن مع هذين التحرُّكينِ-اللذينِ رعتهما الدولة- تقديمُ عرضٍ مسرحيٍّ تأسيسيٍّ للكاتبة المسرحية جريزلدا جامبارو، بعنوان Antigona Furiosa أنتيجونا الغاضبة (1986)، الذي قَدَّمَ بُعْدًا استعراضيًّا إضافيًّا لإعادة تنظيم الدولة والعائلة وسياسات الذاكرة في أثناء الفترة الانتقالية. ظهرتْ دراسةٌ أكاديميةٌ مؤخرًا عن تقرير «لن يتكرَّر هذا أبدًا»، ومحاكمة الجنرالات، وعرض أنتيجونا الغاضبة، متناولةً ما يتمُّ إغفاله كثيرًا مِن دور وتأثير المنتج الفني في تكوين الاستراتيجيات الانتقالية (لجان تقصِّي الحقائق، المحاكمات، التحركات السياسية) ومدى فعالية تلك الاستراتيجيات في معالجة عنف الماضي، واستعادة العدالة، وإعادة بناء العلاقات السياسية والاجتماعية والقانونية في أثناء فترات التغيُّر الجماعي الضخم على الأصعدة السياسية والقانونية والاجتماعية2. إنَّ التأكيد على العناصر الاحتفالية أو الطقوسية الحاضرة في إنتاج وتلقِّي أعمال تلك المرحلة الانتقالية يضعُ في الصدارة آليات التجسيد وخطابات القوانين المتعلِّقة بالجسد عند فحص آليات المرحلة الانتقالية في تقديم الشهادات وتحقيق العدالة. علاوةً على ذلك، فإنَّ تحليل استقبال تلك الطقوس دفع دراساتٍ حديثةً إلى الانشغال بإنشاء خطاب المشاهدة فيما يخصُّ إعادة إنتاج والانتشار الهائل لكلٍّ مِن تقرير «لن يتكرَّر هذا أبدًا» والمحاكمات في أثناء مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية.

سياساتٌ انتقاليةٌ، وقضايا انتقاليةٌ

في ديسمبر مِن عام 1983، أسَّس الرئيس ألفونسو لجنة تقصِّي الحقائق، التي عُرفت بالاسم الـمُختصَر (CONADEP)3؛ بغرض جمع الشهادات والأدلَّة لتقصِّي وقوع حالات اختفاءٍ بإشراف الدولة لما يُقدَّر بنحو 30.000 شخصٍ أثناء الحقبة الدكتاتورية العسكرية في الأرجنتين (1976– 1983)4. كان الكاتب والناشط السياسي إرنستو ساباتو على رأس هذه اللجنة، وقد قام بتسليم التقرير النهائي يدًا بيدٍ للرئيس ألفونسو في احتفالٍ مُحرِّكٍ للعواطف يوم 20 سبتمبر 1984، أُقيمَ في مقر الحكومة الأرجنتينية قبالة بلازا دي مايو (ميدان مايو)، حيث احتشد 70.000 مواطنٍ للتعبير عن دعمهم. في أثناء الاحتفال سَلَّمَت اللجنةُ وثائقَ تجاوز حجمها 50.000 صفحةٍ، وقد أعلن ألفونسو أنَّه سوف ينشر التقرير النهائي ويجعله متاحًا لعموم الجماهير. أخذ هذا التقرير النهائي عند نشره عنوان Nunca Mas، «لن يتكرَّر هذا أبدًا»، جامعًا شهادات ما يقربُ مِن 400 شخصٍ ممَّن نجوا أو كانوا شهودَ عيانٍ، ومُقدِّمًا إحصاءاتٍ سُكَّانيةٍ ومعلوماتٍ أساسيةٍ حول المختفين، وواصفًا الإجراءات المُتَّبعة في حالات الاختفاء، كما يُحدِّد موقع مراكز الاحتجاز السرية“Centros Clandestinos de Detencion” CCDs5. بعد نشر التقرير في نوفمبر عام 1984، سرعان ما احتلَّتْ طبعتُهُ الأُولى موقع أفضل المبيعات، ونفدتْ منها 40.000 نسخةٍ في غضون يومين مِن إطلاقه (131). وقد عكستْ مطبوعاتٌ أُخرى تاليةٌ حالة الحضور المستمر لهذا الكتاب في الوعي الوطني. وبحلول نوفمبر 2007، كان قد بيع منه 500.000 نسخةٍ، منها45.000 نسخةٍ طُبعتْ ووُزِّعَتْ خارج الأرجنتين.

اتفق باحثا حقوق الإنسان بريسكيلا هاينر Priscilla Hayner وكاثرين سيكنيك Kathryn Sikkink، على أنَّ تقرير الأرجنتين «لن يتكرَّر هذا أبدًا» هو حجر الأساس الذي بُنيَ عليه المُجْمَل الهائل مِن تقارير تقصِّي الحقائق التي انبثقتْ في جميع أنحاء العالم خلال عقدي الثمانينات والتسعينات6. ولا مجالَ للشك في أنَّ نشر هذا التقرير قد ساعد في تسهيل محاكمة القادة العسكريين في الأرجنتين عام 1985. غالبًا ما تمضي كلٌّ مِن لجان تقصِّي الحقائق والمحاكمات يدًا بيدٍ؛ كما يُلاحظ كلٌّ مِن سيكنيك وبوث وولنج Booth Walling، فكلُّ دولةٍ في أمريكا اللاتينية ألّفتْ لجنةً لتقصِّي الحقائق قد عقدتْ محاكماتٍ وطنيةً كذلك7. تُقدِّم لجان تقصِّي الحقائق وثائقَ لما وَقَعَ في الماضي مِن انتهاكاتٍ، وتنشر ما تتوصَّل إليه مِن معلوماتٍ، وتُطالب بالاعتراف بالانتهاك المنهجي لحقوق الإنسان وضرورة تحمُّل مسؤولية ذلك. وفي وضعٍ مثاليٍّ، تقومُ المحاكمات بعد ذلك بترجمة ما توصَّلتْ إليه لجان التقصِّي إلى لغةٍ قانونيةٍ؛ فتوجِّهُ اتهاماتٍ رسميةً، وتُحدِّد المسئولية القانونية، وتُعيِّن العقوبة8.

وفقًا للباحث السياسي كارلوس نينو Carlos Nino، فقد ثبتَ أنَّ الأدلة الـمُقدَّمة مِن لجنة تقصِّى الحقائق لعبتْ دورًا حاسمًا في ما أطلق عليه الأرجنتينيون «مُحاكمة القرن»9. أمَّا إميليو كرنزل Emilio Crenzel، ففي دراسته الثَّاقبة حول التاريخ السياسي لتقرير «لن يتكرَّر هذا أبدًا»، يُلاحظ أنَّ التقرير يقرن كلَّ شهادةٍ فرديةٍ برقم قضيتها القانونية، وبذلك يربط الشهادات بالأدلة القانونية على نحوٍ ماديٍّ ملموسٍ10. علاوةً على ذلك، فإنَّ التقرير يتضمَّنُ تواريخ التسجيل الحكومي الرسمي لطلبات استدعاءٍ أمام القضاء لغالبية المختفين. وبهذا الاتهام الدقيق -ولكن العميق أيضًا- والذي يشي بخضوع وإذعان المحاكم تحت جناح الدكتاتورية، فإنَّ التقرير يدينُ تواطؤ نظام العدالة مع الدكتاتورية، لكنَّهُ في الحين نفْسه يتشبَّثُ بالقانون كأداةٍ قويةٍ لإرساء العدالة في المحاكمة المزمعة، ويُبشِّر بتحقق هذا الهدف قريبًا.

بدأتْ محاكمة الجنرالات يوم 22 أبريل 1985، في بوينس أيرس في قصر العدل في مجمع محاكم وسط المدينة. على الرغم مِن أنَّ قصر العدل نادرًا ما استُخدم لعقد المحاكمات فيه؛ نظرًا لضخامته ومهابته، فقد أثبتَ أنه الموضع الأنسب لاستيعاب أكثر مِن 300 شخصٍ ملأوا يوميًّا القاعة التي تتَّسعُ لمؤتمرٍ حاشدٍ على مدى فترة التسعة شهور مِن المحاكمة11. قدَّمتْ إيستر كوفمان Ester Kaufman دراسةً تفصيليةً حول الطقوس القضائية للمحاكمة. وتصف كوفمان فيها تنظيم الفضاء المكاني لقاعة المحكمة، والممثلين الأساسيين، والجماعات الحاضرة، وأسلوب التعبير والتواصل الخاص بكلٍّ مِن رجال القانون والشهود، ومراحل المحاكمة. تشيرُ كوفمان إلى جميع مَن حضر في قاعة المحكمة أثناء المحاكمات بوصفهم «مُمثِّلين»، وتُقسِّمهم إلى فئة الدائمين (estable) والعرضيين12. وتشمل فئة الـمُمثِّلين الدائمين كلًّا مِن القضاة الستة، والنائب العام ومَن ينوبُ عنه لتمثيل الدولة، ومحاميي الدفاع التسعة الذين وكَّلتهم شركاتٌ خاصَّةٌ لتمثيل الجنرالات التسعة. أما فئة الـمُمثِّلين العرضيين؛ فقد شملت الشهود (830 شاهدًا إجمالًا، ينتمون إلى كلٍّ مِن الدفاع والادِّعاء)، والضيوف المتميزين (140 شخصًا مِن جمعيات حقوق الإنسان، والأحزاب السياسية، والقوات المسلَّحة)، وصحافيين (241 صحافيًّا، محليًّا ودوليًّا)، وعوام الجماهير13. ووفقًا لكوفمان «كان الممثلون الدائمون، بمعنى ما، هُم مَن يُمثِّلون الأجهزة القضائية للدولة، بينما يُجسِّد الممثلون العرضيون المجتمع الدولي». وكما تُظهِر ملاحظات كوفمان فقد وفَّرت المحاكمة الممثلين والفضاءَ المسرحي لاستعادة سلطة القانون بصورةٍ أدائيةٍ، كما وفَّرت المتفرجين؛ ليشهدوا هذا الانتقال للسُّلطة ويجسِّدونه كذلك.

وقد نقلَ التقسيم الفضائي لقاعة المحكمة إعادة توزيع السُّلطة هذه. ضمَّت «خشبة مسرح» القاعة ثلاثة مستوياتٍ: شغلَ القضاة الستة المستوى الأعلى منها، وفي المستوى الثاني جلسَ أعضاء النيابة، حيث كان الشهود يُقدِّمون شهاداتهم وحيث يُسمح للدفاع بطرح دفاعاتهم. أمَّا المستوى الثالث، وهو الأدنى ارتفاعًا على الإطلاق، فقد خُصِّص لجلوس جنرالات القوات المسلّحة ومحامي الدفاع، جنبًا إلى جنب الضيوف المتميزين والصحافيين. وعلى هذا فإنَّ القضاة كانوا يُمثِّلون السُلطة الأعلى في السياق الإيديولوجي للفترة الانتقالية، في حين أُنزل الجنرالات المتهمون أدنى منزلةٍ، في وضعية خضوعٍ واضحٍ للقانون. وفي الوقت نفْسه، جلسَ الجنرالات على مستوى واحدٍ ومكافئٍ مع الغالبية العُظمي مِن مشاهدي المحاكمة والقُضاة غير الرسميين مِن أفراد المجتمع على وجه العموم.

حاولَ رؤساء المحكمة الحفاظ على جوٍّ عامٍّ يتسم بالوقار، بحيث تبقى الأمور تحت السيطرة؛ ليعكسَ جدِّية المهمة التي بين أيديهم، بهدف الحضّ على ضبط النَّفْس وكبح العواطف، وكذلك إبطال اتهامات مَن عارضوا المحاكمة بحجَّة أنَّ الإجراءات سوف تتحوَّل إلى «سيرك»14. ولتحقيق هذا الهدف وُضِعَتْ قواعد صارمةٌ للتحكُّم في سلوك الحاضرين في قاعة المحكمة. على سبيل المثال، إذا ما اضطُرَّ أحد متابعي المحاكمة إلى مغادرة القاعة لسببٍ أو لآخر، فليس مسموحًا له بالرجوع؛ كما حُظرتْ في قاعة المحاكمة الكاميرات، والميكروفونات، والحقائب الكبيرة، واللافتات، أو أيُّ أجهزةِ تسجيلٍ أُخرى؛ وكان مِن المتوقع التزام الصمت طوال الوقت، ومُنع المراقبون مِن إشهار رموزٍ أو إبداء آراءٍ أو مواقف خلال سير الإجراءات15. ورغم ذلك، فوراء هذا الاستقبال الإرشادي وتقديم القواعد للمتفرجين، فإنَّ توجيهات السلوك الواضحة والمحددة تلك تنمُّ عن جانبٍ أدائيٍّ للطقوس قد تجاوز المسألة المحضة لآداب اللياقة والتهذيب.

ما الذي يُفترض بمحاكماتٍ مِن هذا النوع وعلى هذه الدرجة مِن الخطورة أن تُظهرَهُ وتبرهنَ عليه، بصرف النَّظر عن إثبات الذنب أو البراءة؟ تتأمَّل حنَّا آرندت هذا السؤال في عَرْضِها المفصَّل لمحاكمة المجرم النازي أدولف إيخمان التي انعقدت في إسرائيل عام 1961:

«في إسرائيل، كما هو الحال في أغلب الدول، فإنَّ الـمُتَّهَم الماثل أمام المحكمة يُعتبر بريئًا إلى أن تثبتَ إدانتُهُ. ولكن في حالة إيخمان لم يكنْ هذا الافتراض إلَّا خيالًا واضحًا. فإنْ لم يكنْ قد اعتُبِرَ مُذنبًا قبل ظهورِهِ في القدس، مُذنبًا بما يتجاوز أيَّ شكٍّ معقولٍ، لما جَرُؤَ الإسرائيليون على اختطافه، ولما رغبوا في ذلك».16

في الأرجنتين، لم يُغذِّ أيُّ شخصٍ هذه الفكرة بالإدانة المُسبقة أكثر ممَّا فعل جنرالات الجيش، حيث أدانوا أنفسهم في وقتٍ مُبكِّرٍ مِن خلال اتخاذ قراراتٍ صُمِّمَتْ لتصوير أعمالهم في صورة خدماتٍ للأُمَّة (التقرير النهائي،1983)17؛ مِن أجل أن يضمنوا لأنفسهم حصانةً كاملةً مِن الـمُساءلة (قانون السِّلم والمصالحة الوطنية، 1983)، أو لتدمير جميع الوثائق النصيَّة المتصلة بأعمال القمع التي قام بها العسكريون18. ورغم أنَّ الحُكم بالإدانة كان مُحصِّلةً حتميةً عند الكثيرين، فإنَّ المحاكمة واصلتْ عملها؛ لكي تُثبتَ خطاباتٍ أساسيةً للفترة الانتقالية. فقد تزامنتْ فترة التسعة أشهر التي استغرقتها المحاكمة بصورةٍ رمزيةٍ مع فترة حَمْلٍ بنظامٍ وطنيٍّ جديدٍ، مِن خلال استعادة القانون المدني في صيغته الأصلح والأقدر على الاستمرار لمواجهة الماضي والإعراب عن علاقةٍ جديدةٍ بالمستقبل19.

إنَّ استرداد مكانة القانون في الحياة السياسية والثقافية للأرجنتين أسفرَ عن سُبُلٍ مُبتكرةٍ في تصوُّر كلٍّ مِن الأُمَّة والمواطنة، وفي الأداء الـمُعبِّر عنهما كذلك. في كتابها «العدالة الانتقالية»، تكتبُ روتي ريتيل Ruti Teitel : «لمفهوم العدالة في فترات التغيُّر السياسي أهميةٌ استثنائيةٌ وبنَّاءةٌ: فهو يتأسَّس بطبيعة الحقبة الانتقالية، ويؤسِّس لها بالتناوب»20. مع الاعتبار لهذا الدور التأسيسي للعدالة، تُلاحظ إينيس جونزالز بومبال  Inés Gonzalez Bombal على غرارٍ مُشابِهٍ أنَّ المحاكمة لم تنشغلْ إلَّا قليلًا بممارسة القانون بينما انشغلتْ أكثر بإعادة تشييد القانون كموضوعٍ21. دافعَ كلٌّ مِن تقرير «لن يتكرَّر هذا أبدًا» ومحاكمة الجنرالات عن القضية العالمية لحقوق الإنسان، ولكن لصالح قضيةٍ محليةٍ، ذاتِ أُسُسٍ تاريخيةٍ ومتواشجةٍ مع الشؤون السياسية. يشرح كرنزل Crenzel أنَّ أوصاف المختفين في التقرير قَدَّمتْ معلوماتٍ أساسيةً، بما في ذلك الاسم والسن والنوع والمهنة، ولكنها لم تشتملْ قط، إلَّا في حالاتٍ نادرةٍ، على أيِّ إشارةٍ للنضال السياسي للشخص المختفي22.

«على هذا النحو، فإنَّ لجنة تقصِّي الحقائق حول المختفين تُواجه جريمة الاختفاء مِن خلال إعادة الاعتبار لإنسانية المختفين في الإشارة إلى أسمائهم وأعمارهم وأنواعهم وأعمالهم أو أنشطتهم المهنية. تفترضُ إعادة الاعتبار هذه الشكل المجرَّد للأنسنة، وهو ما يُقدِّم حياتهم كجزءٍ مِن النوع الإنساني العام، فيما يطمسُ أوضاعهم ككائناتٍ لها أبعادها السياسية والتاريخية المجسَّدة؛ بتعبيرٍ آخر، أي تلك الأوضاع الدقيقة التي استدعت الصراعات التي قسَّمتْ المجتمع الأرجنتيني».

يُؤكِّد هذا فكرة الإنسانية الأساسية ونزع الصفة السياسية، وهي الفكرة التي تغلغلتْ في المحاكمة كذلك. قبل بدء المحاكمة بشهورٍ، بدأت النيابة في فحص نتائج لجنة تقصِّي الحقائق. وكما يُلاحِظ كرينزل، فقد انتقى المحامون قضايا لم يرتبط الضحايا فيها بأيِّ نضالٍ سياسيٍّ، وعلى المنوال نفْسه، اعترضت النيابة على أيِّ استجواباتٍ خاصةٍ بالدوافع السياسية للشهود أو للمختفين23.

التَّبادُلُ بين نماذج الحقوق المحلية والعالمية

تُلاحِظ إليزابيث جِلين Elizabeth Jelin أنَّ المنظمات الكُبرى العاملة في مجال حقوق الإنسان في الأرجنتين كانت موجودةً مِن قبل الدكتاتورية، باستثناء (CELS)24 [مركز الدراسات القانونية والاجتماعية]، والجمعيات التي تكوَّنتْ مِن أفراد أُسَر المختفين، مِن قبيل جمعية الأمهات وجمعية الجدات25. وفقًا لسِكنيك، فإنَّ التراث الأرجنتيني القوي لمنظمات حقوق الإنسان قدَّم أساسًا صلبًا لكي يلعب البلد دورًا رائدًا في صدارة حقوق الإنسان على صعيدٍ دولي26. كما أنَّ أغلب المعاهدات الدولية الأساسية لحقوق الإنسان كانت قد استقرَّتْ (في مواضعها) بحلول أواخر السبعينيات، بما في ذلك الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان (1978). رغم ذلك، وكما يُشير سِكنيك: «ففي كلٍّ مِن القضايا الدولية والإقليمية، كان إطار العمل القانوني والمؤسسي لا يزال خاملًا وغير مُفعَّلٍ». أخذ الوعي بحقوق الإنسان العالمية يتنامى في الأرجنتين على مدى فترة الحكم الدكتاتوري كنتيجةٍ للتعاون المتبادل بين الأرجنتين ونشطاء ومحامي حقوق الإنسان الدوليين. وكما تفترض جونزالز بومبال، فإنَّ الوعي الحقوقي الجديد قد بزغ في الأرجنتين في لحظةٍ قد سُدَّ فيها كلُّ سبيلٍ محليٍّ إلى القانون، وتحوَّلتْ جماعات حقوق الإنسان الأرجنتينية إلى منظماتٍ دوليةٍ؛ التماسًا للدعم والحماية القانونية27. وقعَ أحد الأمثلة الملموسة على هذا التعاون المشترك في عام 1979، عندما زارت الأرجنتين مفوضيةُ الدول الأمريكية لحقوق الإنسان؛ بغرض تقييم أزمة حقوق الإنسان، ومقابلة القادة، وجمع الشهادات. وكان تقرير المفوضية الذي يشجب الأوضاع في الأرجنتين هو أوَّل وثيقةٍ تُوصي بمحاكمة هؤلاء المتهمين بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان في أثناء الحكم الدكتاتوري.

في مطلع الثمانينيات، مهَّدتْ سياسات الرئيس ألفونسين الطريق أمام تصوُّر دورٍ أكثر فعاليةٍ، وكذلك نحو تطبيق معاهدات حقوق الإنسان والمعاهدات القانونية الدولية في الأرجنتين خلال الحقبة الانتقالية. لم يقتصر الأمر على أنه أصدرَ أمرًا بتشكيل أوَّل لجنة تقصِّي حقائق في الأرجنتين وأنه جعلَ محاكمة الجنرالات أمرًا ممكنًا، بل صدَّق أيضًا على الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان (وهو ما يُلزِم ضمنًا بقبول السُّلطة القضائية للمحكمة الأمريكية لحقوق الإنسان)، كما صدَّق على ميثاق الأمم المتحدة للحقوق المدنية والسياسية، وميثاق الأمم المتحدة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. بالإضافة إلى ذلك، ووفقًا لكارلوس نينو، ففي خطابٍ لألفونسين أمام اتحاد المحامين في الأرجنتين28 في أغسطس مِن عام 1983، أشارَ بإيجازٍ إلى خمسة مبادئ فلسفيةٍ أساسيةٍ لحقوق الإنسان، وقد لخَّص نينو أحد هذا المبادئ كالتالي: «فيما يخصُّ المجتمع الدولي؛ فإنَّ الدفاع عن حقوق الإنسان يتخطَّى الحدود الإقليمية للدول»29. وبالتالي فإنَّ محاكمة الجنرالات في سياق هذه السُّلطة القضائية الانتقالية الجديدة، والمؤيَّدة مِن قِبَل السلطات التنفيذية، كانت أيضًا محاكمة (كتجربةٍ أُولى غير مُؤكَّدةٍ) لمادةٍ مِن القانون قد تمَّ الموافقة عليها حديثًا، مادة مُرتكزة على مفهوم حقوق الإنسان العالمية.

على الرغم مِن أنَّ هذه النقطة مثار جدلٍ وخلافٍ، فإنَّ نزع الصبغة السياسية عن الضحايا، إلى جانب إضفاء السمة الدولية على خطاب حقوق الإنسان، كفلَ لإجراءات المحاكمة أن تمضي بكفاءةٍ وفعاليةٍ، وأبعدَ الانتباه عن المواقف السياسية المحلية موضع الشبهات. وكما تُلاحِظ فيلد Feld، فقد أبدى القضاة قلقهم إزاء تأثير الصدمة العاطفية الهائلة على المحاكمة، في حين ظلَّت الحكومة تتوخَّى الحذر مِن سخط العسكريين30. بعد تسعة أشهرٍ مِن الشهادات والسجالات والتدارس والمشاورات، أُعلنَ القرار النهائي والأحكام النهائية31. وكان البث الحي للنطق بالحكم علامةً مميّزةً؛ لأنه كان الوقت الوحيد خلال فترة المحاكمة بكاملها الذي اشتملت فيه التغطية التليفزيونية على الصوت إلى جانب الصورة، كما تمَّ بثه على الهواء مباشرةً. الإذاعة الجماهيرية الواسعة لهذا العرض الصوتي-بصري أَرسلتْ رسالةً فوريةً ومباشرةً بأنه قد تمت استعادة السُّلطة القضائية (للوقت الراهن على الأقل)، وقد بدَّلت الدولة تحالفها مع المؤسسة العسكرية إلى التضامن مع ضحايا الدكتاتورية. علاوةً على ذلك، فقد رسمتْ إذاعة هذا الحكم خطًّا فاصلًا لانتقال التركيز مِن سياسات التوثيق والشجب والاستنكار إلى سياسات الإقرار بالماضي وبثِّهِ للجميع.

في دراسة كلاوديا فيلد Claudia Feld عن التوثيق السمعي-بصري لمحاكمة الجنرالات وتحوُّلات هذا التوثيق على مدار حقبة ما بعد الدكتاتورية، تتناول بالتفصيل التفاعل ما بين سياسات الذاكرة وصراعات السُّلطة، وبين تحرير الأرشيف السمعي-بصري وإعادة إنتاجه. تُحدِّد فيلد، وتُحلِّل أيضًا، أوجه التحويل والتكييف الأساسية في إنتاج أربعة أفلامٍ وثائقيةٍ مختلفةٍ تمَّ إعدادُهَا مِن إجمالي 530 ساعة مِن مشاهد الفيديو الأساسية (footage) الخاصة بالمحاكمة، ظهرتْ تلك الأفلام الأربعة في ما بين عامي 1987 و1998. وكما تُلاحِظ، فإنَّ أوَّل فيلمٍ وثائقيٍّ كان بعنوان (senores ide pie!) (قفوا أيها السادة!) وتألَّف مِن اثنتي عشرة ساعةً مِن المشاهد الـمُصوَّرة الأساسية، قُسِّمَتْ إلى مقاطع، مُدَّة كلٍّ منها ساعتان. كانت رؤية فريق الإنتاج مُتأثِّرةً بالكاتب الدرامي كارلوس سوميجليانا Carlos Somigliana، وهي أنَّ حقائق المحاكمة ستعبِّر عن نفْسها بنفْسها؛ وهكذا فلم يكنْ هُناك إضافةٌ لتعليقٍ صوتيٍّ، واقتصرت العناصر الخارجية على تضمين بضع صورٍ فوتوغرافيةٍ، وعناوين أساسية، وأُخرى فرعية32.

ورغم اكتمال هذا الفيلم الوثائقي في ديسمبر 1986، فقد تمَّ إرجاء إذاعته مراتٍ عديدةً إلى أن تمَّ تأجيل ذلك إلى أجلٍ غير مُسمًّى بعد انتفاضات أسبوع الآلام للعسكريين، والتي عُرفتْ حركتهم باسم Carapintada (الوجوه المطلية) في أبريل عام 1987 33.أمَّا النُسَخ التالية؛ فقد كانت مكثفةً وموجزةً بدرجةٍ معقولةٍ، ولا سيَّما الإنتاج الثالث والرابع اللذان أظهرا جهدًا خاصًّا في وضع المحاكمة داخل سياقها التاريخي (81-118). وأخيرًا، في عام 1998 تمَّ بث النسخة الرابعة على التليفزيون، مع الصوت للمرة الأُولى كجزءٍ مِن الفيلم الوثائقي (ESMA: El dia del Juicio) (يوم الحُكم/ المحاكمة، 123)34. شاهدَ هذه النُّسخة الأحدث أكثر مِن مليوني شخصٍ، ويظهر فيها النزوع المتواصل نحو تسليع هذا الشريط الوثائقي وتقديم منتجٍ مُؤثِّرٍ ومُحرِّكٍ لعواطف المشاهدين. تُلاحِظ فيلد أنَّ المَشاهِد التي أُعيد خلقها وتوليفها في هذه النُّسخة لا يُمكن تفريقها عن مشاهد الفيديو الأصلية للمحاكمة. وتضرب مثلًا على ذلك بيوم النطق بالحكم على الجنرالات، حيث ينتقل الشريط ما بين صور رئيس المحكمة القاضي ليون كارلوس آرسلانيان وهو يتلو نصَّ الحُكم وبين وجهي كلٍّ مِن فيديلا وماسيرا (رغم حقيقة غيابهما في يوم النطق بالحكم)، كما لو أنهما كانا حاضرينِ في قاعة المحكمة يستمعان إلى الحُكم الصادر.

إنَّ ما تضع فيلد يدها عليه مِن إعادة اعتبارٍ تدريجيةٍ للسياق التاريخي المُحيط بالحدث في النُّسَخ المعاد تحريرها وتوليفها مِن الأرشيف الصوتي-بصري للمحاكمة يُعَدُّ سببًا ونتيجةً معًا للقيود المفروضة على القانون كأداةٍ لتوصيل المعرفة ولتقييم حقبة الدكتاتورية تقييمًا شاملًا. إعادة الإنتاج المستمرة لكلٍّ مِن المحاكمة وتقرير «لن يتكرَّر هذا أبدًا»، سواء في وسائط مرئيةٍ أو مكتوبةٍ، واصلتْ وضع المواطنين في دور المتلقِّي بعد فترة الانتقال، سواء بوصفهم مشاهدين للمحاكمة أو قُراءً للتقرير النهائي للجنة تقصِّي الحقائق. إبَّان الحقبة الدكتاتورية، أدَّى الاستعراض الـمُبالَغ فيه للسُّلطة العسكرية والتهديد بالعنف إلى غرس الخوف في نفوس المواطنين، مِن خلال خلق بيئة «يخشى فيها الناس مِن أن يُضبطَوا وهم ينظرون»35، وفقًا لما تُلاحظه ديانا تايلور Diana Taylor. وخلال الفترة الانتقالية، فإنَّ هذه النظرة المحوَّلة أعادتْ توجيه تركيزها بالتحديق في عروضٍ ديمقراطيةٍ أساسيةٍ، مثل: محاكمة الجنرالات وتقرير لجنة التقصِّي، ما سهَّل تجديد وإنعاش المواطَنة الديمقراطية عبر نماذج جديدةٍ مِن المشاهدة.

إنَّ إعادة إنتاج المحاكمة في نسخٍ وصيغٍ مختلفةٍ يحفظ ذاكرة الحدث في عقول الأجيال الأكبر سنًّا، كما يُثقِّف الأجيال الأصغر سنًّا حول الحدث للمرة الأُولى. ثمة هدفٌ آخر لعملية إعادة الإنتاج هو المساعدة في ترسيخ وتعزيز الديمقراطية على نحوٍ ملموسٍ، عبرَ خلق أدِّلةٍ ماديةٍ للعملية الانتقالية. وفي الحين نفْسه، فإنَّ إعادة تصوير الحدث بالوسائط التكنولوجية باستمرارٍ تمضي عكس اتجاه الهدف الجوهري للمحاكمة، ألا وهو التوصُّل لحُكمٍ نهائيٍّ وإغلاق القضية. في كتاب شوشانا فيلمان Shoshana Felman، اللاوعي القضائي The Juridical Unconscious ، تُحلِّل العلاقة بين القانون والفن فيما يخصُّ المحاكمات التاريخية والإقرار بحالات الضرر واسعة النطاق، فتخلصُ إلى:

«يُفترض بالمحاكمة أن تكون بحثًا عن الحقيقة، ولكنها، تقنيًّا، بحثٌ عن قرارٍ، وعلى هذا فهي، في جوهرها، لا تلتمسُ الحقيقة وحسب، ولكنَّها تلتمس نهايةً: قوة البتّ بقرارٍ. والنص الأدبي، في المقابل، هو بحثٌ عن معنًى، وعن تعبيرٍ، وعن دلالةٍ بارزةٍ، وعن فهمٍ رمزيٍّ»36.

وبالمثل، فإنَّ محاكمة الجنرالات في الأرجنتين تُحاول أن تُغلق القضية وأن تضعها طيَّ الماضي، لكنَّ الزيادة المتواصِلة في الـمُنتَج الثقافي الذي يتناول الدكتاتورية منذ الفترة الانتقالية تُبرهن على أنَّ الحُكم القانوني لم يطوِ صفحة الماضي بكفاءةٍ و«يلقي بجسرٍ فوق الهاوية». وتُؤكد فيلمان أنه بينما يسعى القانون لاتخاذ مسافةٍ مِن ذلك الذي لا يُمكن التعبير عنه، فإنَّ الفنَّ قادرٌ على أن يُديننا منه. تُميِّز فيلمان ما بين العدالة الأدبية والعدالة القانونية، وهو تمييزٌ له جدواه خاصَّةً عند تقييم العلاقة ما بين الفن والقانون في أثناء فترة الانتقال للديمقراطية في الأرجنتين. تتناغم وتتوافق أشكال العدالة الأدبية والعدالة القانونية في اختصاصاتٍ وقواميسَ واستراتيجياتٍ مُنفصِلةٍ، تُتاح لمجموعاتٍ متنوعةٍ وأفرادٍ مختلفين عند مواجهة فظائع الماضي الصادمة. فعلى سبيل المثال، أي نوعٍ مِن العدالة يُمكن أن تُقدِّمَه مسرحية أنتيجونا الغاضبة، Antigona Furiosa، لجامباروGambaro التي عُرضت على المسرح عام 1986، ولا يُمكن أن تُقدمَّهُ خمسمائة ساعةٍ مِن إفادات الشهود وإعلان الحُكم بالإدانة في محاكمة الجنرالات عام 1985؟37 كيف لتقديم مسرحية أنتيجونا الغاضبة أن يُكمل ويُتمم القانون، أو أن يُعوِّض عن عدم الكفاءة القانونية في تحقيق العدالة بأثرٍ رجعيٍّ؟ أم أنَّ أهداف التناول المسرحي للماضي الدكتاتوري في الأرجنتين تختلف عن ذلك اختلافًا تامًّا؟

كلٌّ مِن محاكمة الجنرالات التي جرت بمبادرة الدولة ومسرحية أنتيجونا الغاضبة ذات الرؤية الخاصة بفنانٍ مُحدَّدٍ يتقاسمان فيما بينهما كثيرًا مِن الملامح والأهداف ذات الدلالة، فكلتاهما يُقدِّم أمثلةً على الشهادة الـمُجسَّدة سواء في إطار الخطاب القانوني في الأُولى، أو في إطار الخطاب المسرحي في الثانية، وكلا الحدثينِ يتطلَّبُ حضور جمهورٍ ويجذب الانتباه إلى دور المشاهَدَة فيما يتصل بالشهادة. كما يشترك كلاهما في إعادة بناء الفضاء العام خلال الفترة الانتقالية، عبرَ إعادة الاعتبار لسيادة القانون وتطبيقه في قاعة المحكمة مِن ناحيةٍ، ومِن ناحيةٍ أُخرى عبرَ استعادة النشاط المسرحي غير التجاري في مسارح بيونُس أيرس. علاوةً على ذلك، فإنَّ كُلًّا مِن المحاكمة والعرض المسرحي ضمّا نماذجَ محليةً وعالميةً معًا في تعريفهما للذاتيّة وللعدالة، سواء مِن خلال التعاون مع منظمات حقوق إنسانٍ دوليةٍ لتوسيع نطاق المرجعية القانونية، أو مِن خلال اقتباس المجاز الإنساني العالمي المتمثل في شخصية أنتيجون. كما أنَّ كليهما يميلُ إلى مفاهيم العائلة في تعزيز المطالبة بالعدالة والتعبير عن الحداد. وأخيرًا، فإنَّ كُلًّا مِن المحاكمة ومسرحية أنتيجونا الغاضبة يُسائلان العلاقة ما بين الدولة، والحداد، والقانون، وكلتاهما يعكسُ التوتَّر ما بين الرغبة في طيّ الماضي واستحالة هذه الرغبة في نفْس الوقت.

مع الرجوع إلى طرح فيلمين ووضعه في الحسبان، فإنَّ التحليل التالي لمسرحية جامبارو أنتيجونا الغاضبة لا يقتصر على فحص الوسائل التي يستعينُ بها الفنُّ لكي يُقرِّب الجمهور مِن فهم الصدمة، لكنَّهُ أيضًا يفحصُ الوسائل التي يستعينُ بها الفنُّ لاتخاذ مسافة مِن الحدث. ما هو تأثير قدرة الفن على تضييق وتوسيع هذه الفجوة بين الحدث المفجع وبين التعرُّف عليه وإدراكه على مستوى الخبرة الجماعية للمُشاهَدَةِ؟ يُقدِّم المسرح شكلًا فريدًا مِن الشهادة الحيَّة مِن شأنها أن تكمل استراتيجيات الانتقال الأُخرى، مِن قبيل تقرير لجنة تقصِّي الحقائق «لن يتكرَّر هذا أبدًا» ومحاكمة الجنرالات، بغرض تقييم الماضي، وتحويل «المعلومات التي كُشِفَتْ عن الماضي إلى صيغ إثباتٍ متداولةٍ وراهنةٍ»38 حسب كلمات ستانلي كوهين Stanley Cohen. ورغم ذلك، فإنَّ المسرح في الحين ذاته يُظهِر الحدود المفروضة على تلك الاستراتيجيات، بينما يقرُّ بمجموعة الحدود الخاصة به، جنبًا إلى جنب المسائل السياسية والأخلاقية الـمُتضَمَّنة في تجسيد فواجع الماضي.

أنتيجونا الغاضبة (1986)

كان العرضُ الأوَّل لمسرحية الكاتبة جريزلدا جامبارو Griselda Gambaro أنتيجونا الغاضبة Antigona Furiosa في سبتمبر 1986 على مسرح معهد جوته في بوينُس أيرس. وقد سعتْ مخرجة العرض، لاورا يوزمن Laura Yusem، وهي أيضًا راقصةٌ مُدربةٌ على الرقص الكلاسيكي، إلى خلق نسخةٍ تستلهم الرقص مِن مسرحيةٍ أنتيجونا، على سبيل الاحتفاء بما قامت به مُنظمة أمهات ميدان مايو the Madres of Plaza de Mayo، فطلبتْ مِن جامبارو كتابة النص. واصلتْ كلٌّ مِن المخرجة يوزِم والممثلة والراقصة بيتينا موراناBettina Murana  التدريبات على مدى عامين، منذ 1984 وحتَّى 1986، قبل العرض الأوّل للمسرحية39. قامت جارسييلا جالان Graciela Galan، مُصمِّمة المناظر المسرحية والتي جمعها تعاونٌ طويلٌ مع يوزمن، بتصميم قفصٍ مرتفعٍ هرميِّ الشكل، صِيْغَ مِن قضبانٍ حديديةٍ متقاطعةٍ، حيث تؤدِّي مورانا دورها داخله في شخصية أنتيجونا. تعتمد جامبارو، كاتبة المسرحية، على عمل سوفوكليس، ولكنَّها تُقلِّص عدد الشخصيات الرئيسة وتُكثِّف الأحداث في إطار فصلٍ واحدٍ. الشخصيات الثلاث الرئيسة في نسخة جامبارو هم أنتيجونا (والتي تتلبَّس بين الحين والآخر هوية هيمون وتتلو سطوره) وكوريفيو وآنتينو، اللذان يلعبان أدوار كلٍّ مِن الجوقة والحارس وتريزياس، كما أنهما يتحوَّلانِ للعب دور شخصينِ عاديينِ مِن مدينة بوينُس أيرس يحتسيان قهوتيهما على أحد المقاهي. يُجسِّد كوريفيو شخصية الملك كريون عندما يرتدي المحارة المنحوتة، التي تُشبه زِيَّ الـمُحارِب في درعها ورُدينيها وخوذتها، والتي صممها خصيصًا مِن أجل المسرحية النحَّات خوان كارلوس دِستيفانو Juan Carlos Distéfano . تتمثَّلُ مهمة أنتيجونا في نسخة جامبارو، كما في نص سوفوكليس أيضًا، في أن تدفن جثة شقيقها بولينيس، وتؤدِّي طقوس الجنازة والحداد كما يليق به، بعد أن قُتلَ في معركة جنبًا إلى جنب شقيقه وخصمه إيتوكليس. يأمر الملكُ كريون بأن يُدفَن إيتوكليس وأن تُكرِّمَهُ المدينة، أمَّا بولينيس، الذي عارضَ حُكم كريون، فسوف يبقى مِن غير أن يُدفن ولا يُبكى عليه، وسيُترك جسده نهبًا للطبيعة والضواري. تعصي أنتيجونا قرار كريون وتدفن بولينيس، فيعاقبها كريون على عصيانها هذا، ويحكم عليها بالموت، وتُنبَذ في أحد الكهوف، حيث تُنهي حياتها بنفْسها.

ألهمتْ مسرحية أنتيجونا الغاضبة مجموعةً بديعةً مِن الكتابات النقدية حولها، ويميل دارسو تاريخ المسرح الأرجنتيني إلى رؤية العمل في سياقٍ كاملٍ بين أعمالٍ دراميةٍ وتياراتٍ مسرحيةٍ أُخرى في الأرجنتين. يذهب أوزفالدو بيليتيري Osvaldo Pellettieri إلى أن أنتيجونا الغاضبة تنتمي إلى سلسلةٍ مُتَّصِلةٍ إيديولوجيًّا لمسرحياتٍ أُنتجتْ كجزءٍ مِن مهرجان المسرح المفتوح Teatro Abierto (1981 – 1985)40. يرى كلٌّ مِن بيليتيري وآنا لاورا Ana Laura أن شخصية أنتيجونا كما قدَّمتها الكاتبة جامبارو هي وريثةُ شخصيةِ دولوريس مِن مسرحية La Malasanger (دمٌ فاسدٌ،1982)، وشخصية مارجريتا 2 مِن مسرحية Real Envido (مؤامرةٌ ملكيةٌ، 1983) في قدرتها المكتشفة حديثًا على التمرُّد ضد السلطة البطريركية الأبوية41. فيما تزعم ميرتا آرلت Mirta Arlt أنَّ مجاز شخصية أنتيجونا حاضرٌ وسارٍ عبرَ مجمل أعمال جامبارو الدرامية42. ومؤخرًا، تُبدي سوزانا تراناتيوفيز Susana Tarantuviez ملاحظةً ذات أهميةٍ خاصَّةٍ لدراسات مسرح ما بعد الدكتاتورية؛ إذ ترى أنه بدايةً مِن مسرحيتيْ La Malasanger وأنتيجونا الغاضبة تصبحُ لحظات الصمت المميزة لأعمال جامبارو الدرامية تجسيدًا ليقظة الوعي التي لا تحدث إلَّا في أعقاب إدانة السُّلطة الاستبدادية43.

أمَّا الباحثون الأكثر اهتمامًا بدراسة أنتيجونا الغاضبة في سياق الفترة الانتقالية وما بعد الدكتاتورية؛ فَهُمْ يميلون للتركيز على اقتباس الكاتبة المسرحية للنص اليوناني وتعديله بحيث يلائم المناخ الاجتماعي والسياسي المحدَّد للأرجنتين في عام 1986. وغالبًا ما اعتُبِرَ قرار جامبارو الأدلّ مِن الناحية الإبداعية في اقتباسها هو أن تستخدم موت أنتيجونا كنقطة انطلاقٍ لمسرحيتها. تظهر أنتيجونا في المشهد الافتتاحي وقد فارقتها الحياة، ولا تزالُ الأنشوطة محيطةً بعنقها. وما هي إلَّا دقائق معدودة حتَّى تتحرَّك حركةً هيِّنةً، فتنزع عنها الأنشوطة، وتعود إلى الحياة؛ فقط لكي تُشتِّت المشاهدين للحظاتٍ باستدعاءٍ مُقتضَبٍ لشخصية أوفيليا مِن مسرحية هاملت44. أَوَّلَ النقَّاد بالتعاقب تقديم جامبارو لبنيةٍ دائريةٍ كتأكيدٍ على مسألة موت أنتيجونا، التي قُدِّمت مِن قبلُ في نص سوفوكليس، أو على العكس مِن ذلك، كتحدٍّ للموت في الوعد بانبعاثها الدوري للحياة مِن جديدٍ في مُستهل المسرحية. نزعت آنا بوجا Ana Puga إلى الرأي الثاني، وفي إثباتها له تُلاحِظ أنَّ جامبارو تمنح أنتيجونا الخاصة بها قدراتٍ خارقةً للطبيعة بإعطائها القدرة على نزع الأنشوطة مِن عنقها والعودة للحياة مِن جديدٍ45. وعلى هذا النحو كذلك تستجيب الكاتبة جامبارو لمطالب منظمة الأمهات بإعادة أبنائهن إلى الحياة ( Aparicion con Vida– [اظهروا/ عودوا للحياة]) عن طريق السَّمَاح لأنتيجونا بالرجوع للحياة (أنتيجونا التي تُمثِّل المختفين وهي في نفْس الوقت أم/أخت الشخص المختفي كذلك) حتَّى تُدلي بشهادتها على ما حدث. في مسرحية جامبارو، تُقدِّم أنتيجونا الشهادة التي لا يستطيع أن يُوفِّرَها كلٌّ مِن تقرير تقصِّي الحقائق ولا محاكمة الجنرالات؛ أي تلك الشهادة الأكثر جوهريةً والأشد استحالةً على الإطلاق، شهادة أولئك الذين اختفوا في حقبة الدكتاتورية. تكتب شوشانا فيلمان: «إنَّ ما يجب سماعه في قاعة المحكمة هو تحديدًا ما لا يُمكن صياغتُهُ بلغة القانون»46. بتصوير عودة أنتيجونا مِن الموت، العودة الخارقة لقوانين الطبيعة، فإنَّ المسرح يُعطي لغةً لصياغةٍ ما لا يُمكن سماعها في قاعة المحكمة. وبهذه الطريقة، يُمكن للجمهور أن يقترب مِن شهادة المختفين في المسرح، ومع ذلك فالهُوَّة لا تزال هناك في المركز، بتعبير فيلمان، هُوَّةٌ لا يُمكن أن يعبرها جسرُ القانون أو الفن

تُلاحظ سيلفيا بيلارولو Silvia Pellarolo أن جامبارو حينما جعلتْ مِن موت أنتيجونا نقطة انطلاق مسرحيتها، فإنها تُقدِّم البُعد الخاص بالحداد47. الواقع أنَّ المسرحية تبدأ بالوقوف على حقيقة الموت يقينًا، الأمر الضروري للغاية حتَّى تتسنَّى عملية التفجُّع والحداد. في مقالٍ لكلٍّ مِن جوليا براون دي دونايفيتش Julia Braun de Dunayevich  وماريا ليوسيلا بِلينتو Maria Lucila Pelento، حول العلاقة ما بين حالاتٍ خاصَّةٍ للحداد وهذه الحاجة للتيقُّنِ مِن الموت، كتبتا:

«في حين تبدأ عملية الحداد، تحت الظروف الاعتيادية، بالتيقُّن المسموح به والمتاح اجتماعيًّا، فإنَّ الأمر مختلفٌ في حالات الاختفاء حيث تُعوِّق عملية الحداد بسبب تحريف الحقيقة المفروض مِن قِبَل سُلطة القتل الـمُنظَّم».

كما أشرنا سابقًا، ففي بعض الأحيان تُجسِّد أنتيجونا المختفي وأيضًا أم/أخت الشخص المختفي معًا. تُبرِز بداية المسرحية ظهورها مِن جديدٍ، وتُصبح المسرحية بكاملها شهادتها على اختفائها. فيما بعد، وعند سماع أنتيجونا حُكم كريون، تعلنُ قائلةً: «لن أكون بين البشر ولا بين أولئك الذين رحلوا، لن أُعَدَّ بين الموتى ولا بين الأحياء. سوف أختفي مِن العالَم، في الحياة». رغم أن أنتيجونا في هذه الفقرة تُجسِّد الشخص المختفي والذي يتطلَّب الحداد، فخلال أغلب أجزاء المسرحية تتلبَّس دور الشخص الـمُتفجِّع؛ إذ تندب شقيقها المفقود، بولينيس.

في تحليلٍ مُقارَنٍ بين شخصية أنتيجونا عند سوفوكليس وعند جامبارو، تُلاحظ لاورا موجليانيLaura Mogliani أنَّ جامبارو تُقدِّم على خشبة المسرح بعض العناصر التي تُخالف التقاليد المسرحية اليونانية القديمة، كما يُرى في التمثيل الجسدي والرنَّان للمعركة، تسير أنتيجونا وتسقط كما لو كانت محاطةً بالجثامين، وطقوس دفن بولينيس49. مِن الواضح أنَّ التأكيد على التمثيل الجسدي واللغة غير اللفظية يُعزى إلى يوزم (مُخرِجة العمل) ورغبتها في خلق عملٍ ينتمي إلى المسرح الراقص «danza-teatro»، وهو ما أوحى بكتابة تعليقاتٍ نقديةٍ، بأقلام كلٍّ مِن ديانا تايلور Diana Talyor ، ومارلا كارلسُنMarla Carlson ، ونيفيس مارتينيز-أولكوز Nieves Martinez-Olcoz، حول تمثيل جسد أنتيجونا بوصفه حيزًا للعُنف50. ففي حين يجري دفن بولينيس في عمل سوفوكليس خارج خشبة المسرح، فإنَّ أنتيجونا هنا تدفنه على خشبة المسرح. وكلا المشهدينِ اللذين تتعرَّف في أولهما أنتيجونا على جسد أخيها على خشبة المسرح (مُمَثَّلًا بكفنٍ) وفي ثانيهما، وهو المشهد التالي، تؤدِّي طقوس الدفن والتكريم له، لهما سطوةٌ باطنيةٌ بالغة الأثر ويُشكِّلان الذروة العاطفية في المسرحية51.

«أنتيجونا: الذكرى أيضًا تُشكِّل قيدًا، وهو ما لا يعلمه كريون وقانونه. أي بولينيس، سأكون لكَ عُشبًا وحَجَرًا. لن تمسَّكَ الكلاب ولا الطيور الجارحة (بإيماءةٍ أموميةٍ). سأُغسِّلُ بدنك، سأمشِّط شَعرك (تفعل ذلك). وسأصرخُ، يا بولينيس... سأصرخ... اللعنة عليهم»!

«الطقوس، تتشبَّثُ بالأرض بأظافر يديها، تنثر التراب الجاف على بدنه، تُغطِّي جسده بجسدها. تعتدلُ في جلستها وبحجرينِ كبيرينِ تقرعُ إيقاعَ مسيرة جنازةٍ»  52.

طقوس الدفن التي تُؤديها أنتيجونا على خشبة المسرح تجري في صمتٍ، وجسدها هو موقع ومركز هذا المشهد التأبيني والذي تنقل فيه المعنى الإيماءاتُ والحركةُ الإيقاعية. في ترسيخٍ لروابط التماهي، يستجيب الجمهور للإشارات البصرية والسمعية وللغة اللفظية وغير اللفظية. في مقال أوزفالدو كيروجاOsvaldo  Quiroga على المسرحية، يُلاحِظ أنه «قد كُتب الكثير حول أهمية الجسد في العملية الإبداعية للممثل. ولكن على المرء أن يُضيف أنَّ كلَّ حركةٍ في الفضاء المسرحي هي كذلك حركةٌ في عقل المُشاهدين»53. ينطوي التلقي والتماهي في المسرح على امتزاج الخبرة الحسية. يشير هيربرت بلوا Herbert Blau إلى «تراسل الحواس Synesthetic transference» الذي يجري داخل المشاهدين «ممَّن ترى أعينهم ما... يصلهم عبرَ آذانهم، كما لو كان شيئًا مِن خلق اللوغوس [العقل الكُلي المحيط]». يُعلِّق كلٌّ مِن بياتريز تراستوي Beatriz Trastoy وبيرلا زاياس دي ليما Perla Zayaz de Lima: «توصَّلت البحوث المبكرة حول لغة الجسد إلى أن أنظمة الحركة الجسدية هي نظائرُ مُقابِلةٌ للإيقاعات اللغوية»54. بترجمة الفعل المُجسَّد إلى معنًى لدى المشاهدين ينتج «فعلٌ تحويليٌّ»55 لدى المشاهدين، يحوُّل طقوس تأبين أنتيجونا لأخيها المفقود إلى فعلٍ جماعيٍّ للحداد والتأبين، فعل يلفُّ أفراد الجمهور ويُوحدُّهم معًا.

تُؤدِّي أنتيجونا على خشبة المسرح أفعال التعرُّف على جسد أخيها وطقوس تأبينه، الأفعال التي لم تكن ممكنةً، ولا تزال في حالاتٍ كثيرةٍ غيرَ ممكنةٍ؛ بسبب افتقاد المعلومات أو عدم ظهور جثةٍ. وفقًا لبولين بوس Pauline Boss، «مِن بين جميع تجارب الفقد في العلاقات الشخصية، يظلُّ الفقدُ المُبهَمُ هو الأشد تدميرًا؛ لأنه يبقى أمرًا غير واضحٍ، غيرَ مُؤكَّدٍ»56. في No habraflores en la tumba del pasado تصف لودميلادا سيلفا كاتيلا Ludmila da Silva Catela  كيف يؤثر عدم ظهور جثةٍ في حالة الأشخاص المختفين على طقوس الحداد، وتشيرُ إلى الاختفاء كنوعٍ مِن الموت غير المحسوم؛ فكلٌّ مِن الزمان والمكان اللذين يتم تحديدهما وتخصيصهما عادةً مِن أجل طقوس الحداد يمتدَّان إلى ما لا نهاية، فيما يتواصل انتظار أفراد الأسرة، ويتواصل أملهم في رجوع عزيزهم الغائب57، وتسأل: «دون جثةٍ، أي دون الحيّز الجوهري لطقوس الموت، ما هي الفضاءات التي تُجدَّد وتُبعث لمعالجة هذا التصدّع؟». تُزوِّدُنا الفنون بقناةٍ إبداعيةٍ لتوجيه الطاقة والعاطفة التي لم يكن بالوسع استثمارهما في العليات «الاعتيادية» للحداد، تلك العمليات التي تظلُّ مُعلَّقَةً على التيقُّن مِن الموت والدفن.

تشير دا سيلفا كاتيلا إلى (المُتنَفَسّ الإبداعي) (Salida Creativa) اللازم للأفراد والمجتمع لمواجهة الغياب الناجم عن حالات الاختفاء. تقوم تلك المساعي الإبداعية، ولو إلى حدٍّ ما، «بمصارعة الموت، أو تخفيف وطأته على الأقل، تُسيطر عليه، تردُّهُ وتعكس مساره، تطوِّعُهُ ثقافيًّا، وتصنع منه شيئًا مِن الممكن فهمه». أحد الأمثلة المؤثرة بوجهٍ خاصٍّ لهذا النوع مِن التجسيد الفني بدأ في الأرجنتين عام 1983 مع ظهور رسومٍ مُظلَّلةٍ بالخطوط الخارجية (سيلويت) بالحجم الطبيعي للإنسان لأجسادٍ على ورقٍ أبيضَ ولصقها على جدران المباني عبرَ بوينُس أيرس ومدنٍ أُخرى كجزءٍ مِن مشروعٍ فنيٍّ حضريٍّ، سُمِّيَ «Siluetazo» بمعنى المظللين أو الغائبين في الظلال. على كل رسمٍ كان يُكتب اسم الشخص المختفي وتاريخ اختفائه. وفقًا للكاتبة دا سيلفا كاتيلا، فإنَّ حضور تلك الصور المظللة عام 1983 وَضَعَ علامةَ استفهامٍ كبيرةً أمام الحكومة الديمقراطية الجديدة، مُحرِّضًا على الإقرار بوقوع الانتهاكات والتعامل معها، ومع مسألة محو هوية المختفين. بعد مرور عدة سنواتٍ، ظهرتْ مسرحية جامبارو أنتيجونا الغاضبة كتجسيدٍ آخر «للمُتَنَفَّس الإبداعي»، أي مصارعة الموت عبر التعبير الإبداعي، وتقديم إقرارٍ واعترافٍ بالموت، وتجسيد طقوس الدفن، تلك العناصر التي تُحدِّدُها الكاتبة دا سيلفا كاتيلا بوصفها لا غنى عنها لإتمام عملية الحداد.

في كتاب جيليان روز Gillian Rose، بعنوان الحداد والقانون، تكتب: «يقوم الحدادُ على عدالةٍ متساميةٍ وقابلةٍ للتمثيل، ما يجعل معاناة التجربة المباشرة مرئيةً وملفوظةً»58. إن قابلية العدالة للتمثيل تُعيد المناقشة إلى قاعة المحكمة وخشبة المسرح بوصفهما موضعينِ منفصلينِ لجعل شهادةٍ ما مرئيةً ومنطوقةً. ترى فيلد أنه نظرًا للطبيعة التاريخية لمحاكمة الجنرالات، سمحَ القُضاة للشهود بمواصلة سرد ما لديهم مِن إفاداتٍ حتَّى بعد الانتهاء مِن تقديم الدليل الضروري59. وفي الحين نفْسه، وكما ذكرنا سابقًا، وقعَ القضاة تحت ضغطٍ شديدٍ مِن الحكومة والمؤسسة العسكرية مِن أجل احتواء حالة الجيشان العاطفي المصاحبة للإجراءات. تلاحظ جونزاليز بومبال Gonzalez Bombal ما يلي:

«لم تكن مشاعر الحسرة والمعاناة وغير ذلك أشياءَ قابلةً للقياس بأهداف الأدلة القانونية وقد قُوطعتْ باعتراضاتٍ مِن جانب المحكمة؛ حرصًا على أن تمضي عملية تقديم الشهادات قدمًا. وعلى الرغم مِن ذلك، فقد كان هذا التأرجح على وجه التحديد، ما بين سرد روايات الشهود وانقطاعه المفاجئ، هو ما خلَّف الأثر العاطفي الأشدَّ على المشاهدين: ذلك التلميح إلى أنه سيكون مستحيلًا روايةُ أيِّ تجربةٍ، أو ربما الاستماع إليها، كما تتكشَّف في صورتها التامة غير المنقوصة» 60.

سَمَحَت المحاكمة بالاستماع إلى شهاداتٍ بقدرٍ أكثر مِن اللازم قانونيًّا، شريطة أن تتخذ شكل الروايات اللفظية وحسب. وعلى الرغم مِن ذلك، فإنَّ التعبير غير اللفظي عن العاطفة تم اعتباره تهديدًا لسلامة ونزاهة الإجراءات، وتم إيقافه بغلظةٍ في الحال. تكشف القيود المفروضة على اللغة غير اللفظية في المحكمة عن حالة انزعاجٍ وضيقٍ إزاء الجسد، والتي تجدُ التعبير عنها في التوتر المتصاعد بين الأجساد والسرد اللفظي في المسرح في أثناء حقبة ما بعد الدكتاتورية61. تكملُ مسرحية أنتيجونا الغاضبة المحاكمة بتحويلها الانتباه إلى اللغة غير اللفظية وإضفاء الطبيعة الجسدية على كلٍّ مِن الشهادة المُقدَّمة والحداد. ومع ذلك، فلا تُجاهد المسرحية على الإطلاق للتغلب على التوتر ما بين الجسد والسرد اللفظي، التوتر الذي تم توجيهه إبداعيًّا في التعاون بين جامبارو، وهي كاتبةُ مسرحيةٍ معروفةٌ باحترامها للنص المكتوب، ويوزِم، وهي راقصةٌ أرادتْ أن تتخيَّل أنتيجونا عبرَ حركة الجسد. ورغم أنَّ طقوس الدفن والتأبين المؤداة على خشبة المسرح تُتيح حالةً مِن الحداد الجمعي وتومئُ نحو إمكانية إغلاق المسألة وطيِّ الصفحة، فإنَّ الحوار المنطوق يعترض السياق عمدًا؛ لكي يمنع هذه القراءة. على غرار النسخة اليونانية القديمة، يقوم الحرَّاس في مسرحية جامبارو أيضًا بمقاطعة ما تفعله أنتيجونا وحرمانها مِن إتمام طقوس دفن أخيها.

في نسخة سوفوكليس، تستدعي مقاطعة الحرَّاس الأمر الصادر عن الدولة بمراقبة الممارسات العامة للحداد التي تجري في أثينا في زمن عرْض مسرحية أنتيجون للمرة الأولى، ما بين 442 و441 قبل الميلاد. ففي أثناء القرن السادس قبل الميلاد في أثينا، تمت السيطرة على كل المظاهر المُبالَغ فيها مِن الحداد العام للأقرباء مِن أجل احتواء نفوذ العائلات الأرستقراطية وتحويل الولاء مِن العائلة إلى الدولة-المدينة الجديدة62. في نقاشها للقانون والدولة والطقوس الجنائزية في مدينة أثينا القديمة، تكتب أولجا تاكسيدو Olga Taxidou:

«في أغلب القراءات، يستدعي الحديث عن التضييق على الطقوس العلنية للموت نشوء وازدهار الدولة-المدينة. وهذه في الحقيقة مقابَلةٌ خصبةٌ، ذلك أنها ترى تطوَّر الدولة-المدينة المتشكلة حديثًا، والتي سرعان ما ستصير مدينة (polis) ديمقراطيةً، كأمرٍ مرتبطٍ على نحوٍ لا يُمكن فصمه بتجاوز الحداد والتفجُّع العلني».

تُؤكِّد تاكسيدو أنَّ «التراجيديا كانت على الدوام تدور حول الديمقراطية. وعلى الرغم مِن ذلك، فإنَّ هذا المفهوم للديمقراطية، والذي ما زلنا نعيش في ظله إلى اليوم، لم يكنْ يدور حول التقدُّم والشفافية والتحضُّر، ولكن أيضًا حول العنف والاستبعاد والتوحُّش». ومِن جانبه، يُعزِّز دارس الكلاسيكيات سيمون جولدهيل Simon Goldhill هذا التواصل التاريخي حين يكتب: «إنَّ نصوص التراجيديات اليونانية تعكسُ حتمًا تكوُّنها في مجتمعٍ غريبٍ علينا تمامًا–ولكنه أيضًا مألوفٌ لنا بدرجةٍ مخيفةٍ»63. وكما ذكرنا سابقًا، ففي الأرجنتين في الفترة الانتقالية لعبت الدولة هذا الدور في التفاوض حول الحداد، كما ظهرَ في مراقبة أي إظهارٍ للتفجع في أثناء محاكمة الجنرالات، أي «إسكات كل انفعالٍ»، وهو ما تم تنفيذه بالمعنى الحرفي، كما يُلاحظ فيلد، في المقاطع التلفزيونية اليومية مِن إجراءات المحاكمة التي كانت تُذاع مع «إسكات» شريط الصوت64.

ثمّة نقطةٌ غالبًا ما تغفلها الدراسات حول الحداد في الاقتباسات المعاصرة لمسرحية أنتيجون، وهي أن أنتيجون في النص اليوناني لا تُؤدِّي الحداد فقط على أخيها بولينيس، بل أيضًا على أبيها أوديبوس وعلى أمها يوكاسته65. تذهب تاكسيدو إلى أن أنتيجون في حدادها تُواصل مساندة بيت أبيها، وأنها «مِن بين جميع الأدوار التي تُؤدِّيها والمواقع التي تشغلها –بالنسبة للرجل، للأخ، بل وللأب–؛ فإنَّ الموقع الذي ترفض أن تشغله هو موقع الأم». ومع ذلك، ففي مشهد الدفن في مسرحية أنتيجونا الغاضبة، نرى أن جامبارو قد وضعتْ إشارةً (إيماةً أموميةً) في التوجيهات المسرحية؛ مِن أجل تعزيز حالة التماهي بين أنتيجونا ومنظمة أمهات المختفين، إنَّ أضافة جامبارو هذه هي لفتةُ تقديرٍ لهنَّ، حتَّى مع اعتبار الموقف السياسي الفريد للغاية لهذه الجماعة إزاء أحبابهنَّ المختفين. تناقش تايلور حالة التسييس التدريجي لمنظمة الأمهات، والانشقاق في نهاية الأمر، ما حدا بالأمهات أن ينفصلن عن Linea Fundadora (الخط الأساسي) في 1986. ووفقًا لجيلين، فخلال السنوات الأُولى مِن نشاط منظمة الأمهات، كنَّ يطالبن برجوع أحبابهنَّ إليهنَّ، (أحياء أو موتى)، ثُمَّ صار شعارهنُّ بدايةً مِن عام 1980 هو (اظهروا/ عودوا للحياة) 67، وقد تمَّ تبني هذا الشعار في تحدٍّ للمسؤولين الرسميين الذين بدأوا يعلنون على الملأ أنَّ هؤلاء المختفين قد ماتوا، وقد جعلت تلك التصريحات منظمة الأمهات تبدي مزيدًا مِن القوة في الالتزام بشعارها، بما أنه، على حدِّ قولهنَّ، لم يهتم أحدٌ بإخبارهنَّ بما حدثَ لأبنائهنَّ وبناتهنَّ، وهكذا فسوف يواصلن الاعتقاد بأنهم أحياء68.

خلال السنوات الأُولى مِن الحقبة الانتقالية، شعرتْ منظمة الأمهات بخيبة الأمل؛ لأنَّ حكومة الرئيس ألفونسين لم تُشكِّل لجنةً برلمانيةً لها سُلطة الاستدعاء أمام القضاء مِن أجل تقصِّي مشكلة المختفين، كما بدا أنه يتم تقديم تنازلاتٍ أكثر مِن اللازم للعسكريين، على وجه العموم69. إضافةً إلى ذلك، وكما تُصرِّح هيبي دي بونافيني Hebe de Bonafini ، رئيسة منظمة الأمهات، حدثَ خلال الشهور القليلة الأُولى مِن تولِّي ألفونسين لمهام منصبه، أن بدأتْ أمهاتٌ كثيراتٌ يتلقَّين إخطاراتٍ بالعثور على رفات أحبائهنَّ في مدافنَ وقبورٍ جماعيةٍ، دون تقديم أي تفسيراتٍ إلى جانب هذا، أو كان يتم إخطارهنَّ بالرد المصطلح عليه وهو أنهم قُتلوا في مواجهاتٍ عسكريةٍ. تواصل بونافيني القول بأنه كان على عضوات منظمة الأمهات اتخاذ القرار بالغ الصعوبة برفض نبش تلك القبور الجماعية؛ «لأننا لو قبلنا نبش قبور الموتى، قبور هؤلاء الذين قيل لنا أنهم لقوا حتفهم في القتال، لو أننا قبلنا ذلك الموت، دون أن يخبرنا أيُّ شخصٍ مَن الذي قتلهم، دون أن يخبرنا أيُّ شخصٍ مَن الذي اختطفهم، دون أن يخبرنا أيُّ شخصٍ بأيِّ شيءٍ، سيكون هذا مثل أن يُقتلوا مَرَّةً أُخرى». وتعتبر جيلين أنَّ هذا الموقف السياسي كان الأشد راديكاليةً بين المواقف التي اتخذتها أيُّ منظمة حقوق إنسانٍ أرجنتينيةٍ خلال الفترة الانتقالية70. الأمر الذي يُعبِّر عن قرار منظمة الأمهات بالتضحية بإمكانية الحداد الشخصي وأداء طقوس الدفن لأحبائهنَّ لصالح المُضي قُدَمًا في السعي إلى عدالةٍ قانونيةٍ والمطالبة بالإقرار الرسمي والاعتراف بالمسؤولية الجنائية مِن قِبَل العسكريين.

تذهب تايلور إلى أنَّ الأمهات كُنَّ محاصراتٍ في فخٍّ مِن النصوص التي تُصرُّ على حصرهنَّ إلى الأبد في دور المضحيات بذواتهنَّ71. وفي الحقيقة، فإنَّ جامبارو تُظهِرُ وَعيًا بعبء شخصية أنتيجون كمجاز، جنبًا إلى جنب جدارته كاستعارةٍ للمقاومة والعدالة، وهكذا فهي تجدلُ استراتيجياتٍ مختلفةٍ معًا؛ لتعكس التملُّص مِن المسؤولية الناجم عن تحريف الحقائق. تطلبتْ مهمة جامبارو عند خلق النسخة الأرجنتينية مِن أنتيجون درجةً تكاد تكون مستحيلةً مِن التوازن بين النص اليوناني، وبين مجازٍ له وزنه، وتوقُّعات الجمهور، وكذلك مع السياسات المتعينة والخاصة لمنظمة الأمهات في 1986. ولي أن أضيفَ هنا أنه خلف هذه التوازن يكمن أيضًا قلق الخصوصية، والتوتر ما بين الموضوع العالمي لحقوق الإنسان وبين الموضوع السياسي المحلي المؤلَّف مِن تقرير تقصِّي الحقائق «لن يتكرَّر هذا أبدًا» ومحاكمة الجنرالات. في المقتطف التالي مِن الإعلان الدعائي للمسرحية يمكننا أن نجد لمحةً تشي بهذا التوتر: («أنتيجونا الغاضبة» هذه لا هي اقتباسٌ ولا هي نسخةٌ أُخرى مِن أنتيجون سوفوكليس)، وهو شعورٌ تردَّد صداه داخل جامبارو نفْسها فيما بعد خلال حوارٍ صحفيٍّ أجرته معها رينا روفي Reina Roffe، وقد صرَّحَتْ فيه جامبارو: «على كلِّ حالٍ، إنها أنتيجون الخاصة بسوفوكليس، وهي ليست كذلك تمامًا. يُمكن لمسرحياتي أن تقع أحداثها في اليونان القديمة أو في فرنسا القرن الثامن عشر، لكنَّ النظرة المُحدِّقة أرجنتينيةٌ دائمًا وأبدًا؛ ذلك لأنَّ تجربتي مُتجذِّرةٌ في واقع بلدي»72. وهُنا، تعكسُ تعبيراتٌ مِن قبيل «لا هي ...، ولا هي...»، وهي كذلك وليست كذلك تمامًا» حالةٌ مِن توتر التناصِّ ما بين أنتيجون الفلسفية المجرَّدة، وأنتجون ذات السياق السياسي والتاريخي المحدَّد.

تُعَدُّ أنتيجون، مِن جوانبَ عديدةٍ، شخصيةً مثاليةً؛ لِتُجسِّدَ نموذجًا واضحًا لنزع الخصوصية السياسية والاجتماعية في ترسيخ مسألة حقوق الإنسان ذات الطبيعة العالمية. يُعوِّل دراسو الكلاسيكيات على كتاب فنّ الشِّعر لأرسطو (350 ق. م) باعتباره أوَّل مَن أشار إلى تحوُّل أنتيجون إلى موضوعٍ فلسفيٍّ، وبناءً على هذا، كما يقول تشارلز سيجال Charles Segal، يعرض فنُّ الشِّعر لأرسطو «عدم الاكتراث التام تقريبًا للبُعد الطقسي للتراجيديا، والاستهانة بعنصر المُشاهَدَة المسرحية، ورؤية التراجيديا كعوالم يتم كشفها واستعراضها»73. لطالما كان موقع أنتيجون في الخطاب الفلسفي مَصبًّا لاهتمامٍ هائلٍ مِن قِبَل الباحثين على مدار العصور، مِن أمثال هيجل ونيتشه ولاكان وإيريجاري وشتاينر وبتلر، وآخرين غيرهم. يتساءل شتاينر: «ما سبب أن جميع «الأنتيجونات» خالداتٍ حقًّاوحاضراتٍ في اللحظة الراهنة كذلك»74؟ فيما يتأمَّل لاكان تأملًا تجريديًّا بدرجةٍ ما في «الرَّوعة التي لا تُطَاق» لأنتيجون75. ومِن جانبٍ آخر تُذكِّرنا إديث هول بأنَّ التجريد الفلسفي كان شيئًا لا غنى عنه للتراجيديا؛ لكي تكتسب صبغةً عالميةً كما ينبغي لها76. ومع ذلك، فإنَّ الاقتباسات المسرحية لأنتيجون –مِن جان أنوي، وبرتولد بريخت، وآثول فوجارد، ولويس رافائيل سانشيز، وجريزلدا جامبارو، وصولًا إلى عمل فرقة فنون الأداء يوياشكاني Yuyachkani، وآخرين يصعب حصرهم– تلك الاقتباسات تعتمدُ على قدرة الجمهور على تكوين معنى عبرَ التناظر مع سياقه المحلي.

وإزاء هذه الهُوية المنشقَّة على نفْسها لأنتيجون –أي كمثالٍ فلسفيٍّ مُجرَّدٍ مِن جانبٍ، ومِن جانبٍ آخر المرأة المبتلاة بالفقد والحداد في السياق المحلي– كانت استجابة كاتبة العمل جامبارو هو أن تضاعف الانشقاق (وربما أن تُحرَّرها مِن ازدواجيتها) عبرَ استراتيجيات التناص وابتكاراتٍ مُجدّدةٍ في تصوير الشخصية. كما ذُكر سابقًا، تظهر أنتيجون في المشهد الافتتاحي مرتديةً ثوبًا أبيض مُلطَّخًا، وعلى رأسها إكليلٌ مِن زهورٍ بيضاءَ ذابلةٍ. وعلى المقهى، يجلس كوريفيو يتحدَّث عن أنتيجون هازئًا منها، فيقول: «مَن تكون تلك؟ أوفيليا؟»77. إلى جانب ترديد أنتينو لسطورٍ مِن السوناتا الصغيرة للشاعر روبن دارييو، للتحقير مِن أصل أنتيجون ونَسَبِهَا: «إنها لحزينةٌ، ماذا يُعكِّر صفو الأميرة؟». إنَّ كلًّا مِن أنتيجون لدى سوفوكليس وأوفيليا شكسبير وأميرة دارييو يتبادلن الأماكن فيما بينهنَّ لدى كوريفيو وأنتينو، اللذين سيواصلانِ لعبة عدم التعرُّف على شخصيتها كممارسةٍ استراتيجيةٍ للسُّلطة، تُعلِّق ماجدا كاستيفي ديمور Magda Castellvide Moor على ما تقوم به جامبارو مِن محاكاةٍ ساخرةٍ للأسطورة اليونانية، ومِن جانبها تضع سيلفيا بيلارولو يدها على تفكيك الخطأ التراجيدي عبرَ اللغة الهزلية لكلٍّ مِن كوريفيو وأنتينو، وهما نموذجان تقليديان لأبناء مدينة بوينُس أيرس ومعاصران لجمهور المشاهدين78. عبرَ تكرار أفعال عدم التعرُّف مِن قِبَل كوريفيو وأنتينو، تُحوِّل جامبارو الانتباه عن مجاز أنتيجون، وتجعلنا نُركِّز بدلًا مِن ذلك على هذا التذَّبذب في الهُوية، إذ يتصل باستعراض السلطة. فمِن الواضح أنَّ كوريفيو وأنتينو لهما اليد العُليا في تحديد التسمية والخطأ فيها، ويعكسُ عدم تعرُّفهما الواعي والمفارق هذا، بصورةٍ أشدّ مكرًا، رفضهما الاعتراف بمعاناة أنتيجون ومطالبتها بالعدالة.

تُوظِّفُ جامبارو استراتيجياتٍ متعارِضةً مِن أجل تقويض الهُوية الثابتة للشخصيات، بطرقٍ لا تُجرِّد أنتيجون مِن أسلحتها كما لا تُرسِّخ النظام الأبوي السلطوي كذلك. تقترح تايلور أنَّ جامبارو تُسرَّب إلى النص ما للنساء مِن نشاطٍ فاعلٍ في الحياة السياسية عن طريق جعل أنتيجون تتلبس شخصية هيمون والسماح لها بتلاوة سطوره79. فيما ترى بيلارولو أنَّ اندماج أنتيجون بشخصية هيمون يتيحُ لها أن تُحوِّل خطاب أنتيجون الصارم والانقياد للموت إلى غضبةٍ وثورةٍ80. إنَّ مَنح غضبة هيمون لأنتيجون يجعل النص منفتحًا بصورٍ خلَّاقةٍ؛ إذ لا تعود شخصية أنتيجون «تمثالًا منحوتًا مِن أقسى الصخور»، بل تكتسب أبعادًا متعددةً وتعقيدًا مِن خلال ما عمدتْ إليه جامبارو مِن مزجٍ للشخصيات81.

في حين تستوعب شخصية أنتيجونا الشخصيات الأُخرى بقوةٍ جاذبةٍ إلى المركز، فإنَّ شخصية كريون بالمقابل تتعرَّض لتشظٍّ وتفتيتٍ بحركةٍ طاردةٍ مِن المركز في مسرحية جامبارو، فقد تمَّ تجسيد سُلطته كشيءٍ مُنفصِلٍ عن جسد الممثل في صورة صَدَفةٍ خارجيةٍ يُمكن خلعها. تُفسِّر مارلا كارلسُن Marla Carlson إمكانية الخلع هذه باعتبارها قابلية انتشار وتوزيع السُّلطة الاستبدادية: «بجعلها جسد السُّلطة شيئًا ملموسًا في صورة دِرعٍ يُمكن ارتداؤه كما يُمكن خلعه، فإنَّ مسرحية أنتيجونا الغاضبة تتحرَّك صوب إعادة السُّلطة إلى مكانها الصحيح، مثل مِلكيةٍ متغيِّرةٍ للعلاقات الاجتماعية»82. وبالمقابل، مِن الممكن أيضًا تفسير رفض جامبارو «للتجسيد الجامد لموضع السُّلطة» كانتقادٍ لعدم مُساءلة ومحاسبة هؤلاء الأفراد، مِمَّن كانوا في السُّلطة خلال الحقبة الدكتاتورية العسكرية، ثُمَّ اختاروا الانسلاخ مِن أدوارهم والتملُّص مِن المسؤولية بعد الانتقال إلى الديمُقراطية، وكأنها مجرد صدفةٍ منحوتةٍ ومُفرَّغةٍ مِن اليسير خلعها. ويبدو هذا التأويل الثاني أكثر ملائمةً، مع الاعتبار للتصوير الخبيث لشخصية كريون، الذي يظلّ حتَّى النهاية مُصرًّا على رفضه الاعتراف بمسؤوليته عن جرائمه والنتيجة التراجيدية لها، إذ يسخر مِن اتهامات الآخرين له:

«كوريفيو: إنني أسامحكِ. إنهم لا يدرون ما يفعلون. يظنون أنَّ بوسعهم إدانتي على إرسال ابني وزوجتي إلى هذه المحرقة. أنتِ يا أنتيجونا، أنتِ مَن جلبتِ عليَّ وعلى أُسرتي شرورًا كثيرةً. إنني أسامحكِ!

أنتينو: (بأداءٍ مسرحيٍّ مبالَغٍ فيه): برافو!

(يخلع كوريفيو عنه الصَّدَفة وينحني للأمام)» 83.

كما تُلاحِظ آنيت واناماكر Annette Wannamaker فإنَّ كريون، عن طريق هذا الأداء الهزلي، يُقوِّض تصريحه المعبِّر عن الاعتراف والاعتذار84.  إذا ما قارَّنَّا شخصية كريون في عمل جامبارو، حيث لا يُبدي ندمًا ولا اكتراثًا، بنظيره عند سوفوكليس، فإنَّنا نجده في النقطة ذاتها مِن المسرحية يُقِرُّبمسؤوليته عن موت زوجته أوريديس:

«كريون: أنا أصل هذا البلاء كله

ولا يُمكن أن يتحمَّل تبعتَهُ إنسانٌ سواي،

لا مهربَ لي. لقد قتلتكِ،

إنني أقرُّ بكلِّ شيءٍ، وليرحمني الله!

                           إلى خدمه

قودوني بعيدًا عن هنا، في الحال؛ لأختفي عن الأعين.

لستُ موجودًا – أنا لا أحد. لا شيء»85.

إلى حدٍّ كبيرٍ فإنَّ كريون هو البطل التراجيدي في هذه الفقرة من سوفوكليس، واعترافه بالذنب التام والهلاك يجعل الجمهور أكثر تعاطفًا معه شخصيته. ومِن الجليِّ أنَّ جامبارو لم تستطعْ أن تمنحَ كريون هذه الصورة البطولية المثيرة للتعاطف في نسختها مِن أنتيجون، التي عُرضتْ لأوَّل مَرَّةٍ في لحظةٍ كان العسكريون فيها يحرزون تقدمًا ثابتًا في الضغط على الدولة لمنحهم الحصانة، وهو ما تمكنوا منه في نهاية الأمر مِن خلال (قانون التوقُّف النهائي، 1986) ثُمَّ (قانون الطاعة الواجبة، 1987)86. يظلَّ كريون لدى جامبارو هازئًا متوعدًا إلى النهاية. إنَّ رفضه الإقرار بأعماله الإجرامية وافتقاده للإحساس بالندم يعكسُ الإفادات التي قدمها كثيرون مِن القادة العسكريين قبل عرض المسرحية بشهورٍ قليلةٍ في أثناء محاكمة الجنرالات. فعلى سبيل المثال، صرَّح الجنرال ماسيرا، في شهادته، أنه ليس في موقف دفاعٍ؛ لأنه أدارَ حربًا مُوفَّقَةً ضد الإرهاب المخرِّب87. والجنرال فيولا احتجَّ بأنه مُتهمٌ بشيءٍ كان فخورًا بفعله: وهو النصر على المخربين. وقد مرِّ عِقدٌ كاملٌ قبل أن يُصدر القائد الأعلى للجيش، في أبريل من 1995، بيانًا غير مسبوقٍ نبذَ فيه الدفاع عن قانون الطاعة الواجبة، ونَعَتَ الدكتاتورية العسكرية بالإجرام غير المبرر لخرقها للدستور، وهو ما كان السابقة الأُولى مِن نوعها أن يُقدِّم قائدٌ عامٌّ للقوات المسلحة في أمريكا اللاتينية بكاملها اعتذارًا رسميًّا عن الجرائم المرتكبة خلال الحقبة الدكتاتورية في الأرجنتين88.

بناءً على هذا، تكون مسرحية جامبارو أنتيجونا الغاضبة عن الأشكال المتنوِّعة، والدلالات والمعاني الضمنية، للإقرار بالحقيقة وإنكارها، في أثناء الدكتاتورية وما بعدها. تتعرَّف أنتيجونا على جثة أخيها وهي قادرةٌ على الشُّروع في طقوس دفنه وتوديعه كما يجبُ. غير أنَّ كريون بالمقابل لا يتزحزح عن موقف رفضه الإقرار بمسؤوليته، أمَّا كلٌّ مِن كوريفيو وأنتينو؛ فيواصلانِخطأهما في التعرُّف على هُوية أنتيجونا. وبهذا المعنى، ووفقًا لتايلور، فهما يُمثِّلان «الشهود/ المتفرجين فاقدي الأهلية ثقافيًّا وغير المُعوَّل عليهم»89. في كتابهما الصدمة والشفاء تحت إرهاب الدولة، يناقش كلٌّ مِن إنجير آجير Inger Agger وسورين باس جينسين Sorenbuus Jensen الحاجة إلى التعرُّف والإقرار مِن وجهة نظر المبتلى بموت عزيزٍ عليه:

«عندما تُصرُّ على تجربةٍ ما يُنكرها كلُّ ما حولك، فإنَّ الرسالة التي تصلك عندئذٍ هي أن تجربتك تلك ما هي إلا وهمٌ وضلالٌ. عندما تُصرُّ على أنك رأيتَ ما حدث، فإنَّك تُوَاجَهُ باحتمال أنك مررت بتجربةٍ غير مشتركةٍ ولا عامةٍ، أي أنك رأيتَ، وسمعتَ، وشعرتَ بشيءٍ لم يحدث بالمرة – تجربة هلوسة».

وفي الاتجاه ذاته، تُشير دوري لاوب Dori Laub إلى ما يقع للقصة مِن طمسٍ وتبدُّدٍ عندما لا يُوجد أيُّ «آخر تمكن مخاطبته» لينصت إلى الذكريات ويقر بكونها حقيقةً واقعةً90. إن أنتيجونا لدى جامبارو هي تحديدًا شخصٌ بحاجةٍ إلى «آخر تمكن مخاطبته». على طول المسرحية، التماسات أنتيجونا للتعرّف والإقرار لا تُقابَل إلَّا بالاستهزاء والسخرية:

«أنتيجونا: هل تراني يا كريون؟ هل يمكنك أن تسمعني يا كريون؟ (آهة عميقة محزونة، غليظة وحلقية).

كوريفيو: إنني لا أسمع شيئًا. لا أسمع أيَّ شيءٍ. (يتلعثم بينما يُغنِّي، ولكن بنغمة مزاحٍ وهزلٍ) لا... لا يوجد... أيُّ ندمٍ.. دم.. دم. تح..تح..تحت السماء، آه ما أصفى السماء»91!

يُناقش كلٌّ مِن آجير وباس جينسين أهمية تأسيس فضاءٍ جماعيٍّ يصل بين ذواتٍ منفصلةٍ، يُمكن فيها للناجين مِن محنةٍ أن يحكوا قصصهم. كتبتا: «الجماعة موضعٌ يُمكن فيه تقاسم الزمن والمكان؛ إنها موضعٌ يُمكن فيه للمرء أن يُلقي نظرةً على ذاته ويرى إيماءات الآخرين، حيث يُدرك الناس بعضهم بعضًا بحواسهم وينجزون مهمةً ما. وعبرَ هذه المهمة، يحدث تحوُّلٌ، وهو ما يخلق بنية الترابط المتبادل»92. إنها هذا التبادل ما بين الذوات المستقلة والمتفرقة والتعرُّف، في سياق شبكة عملٍ اجتماعيةٍ، هي أيضًا سماتٌ جوهريةٌ للتجربة المسرحية؛ فالمشاهدون يجتمعون معًا في فضاءٍ يصل بين ذواتهم ويتوقعون أن ينخرطوا في طقس تعرُّفٍ على الأحداث التي تُؤدَّى. يُقدِّم المسرح نظيرًا مقابِلًا لمحاكمة الجنرالات بإعطاء الفرصة للمشاهدين باسترداد دورهم كشهود عيانٍ.

أبدى ستانلي كوهين اهتمامًا خاصًّا بالطريقة التي يستجيب بها الناظرون للأعمال الوحشية التي تُرتكب في الحاضر والماضي، ويُحدّد ثلاث مجموعاتٍ رئيسةٍ مِن المتفرجين: (1) هؤلاء الذين كانوا شهود عيانٍ فعليًّا على الأعمال الوحشية والمعاناة؛ (2) هؤلاء الذين تلَّقوا معرفتهم بالصدمة الجماعية عبر مصادرَ مباشرةٍ، مِن قبيل وسائل الإعلام والمنظمات الإنسانية؛ ثُمَّ (3) الجهات الحكومية الأُخرى أو المنظمات الدولية93. أذكر تلك الفئات للتشديد على فرادة المشاهَدة المسرحية كشكلٍ مِن الشهادة العينية في صيغة إفادةٍ مُجسَّدةٍ في إنسانٍ حيٍّ، ودون تدخُّل أيِّ وسائط تحول بين الشاهد والمشهود. يتيحُ هذا الضرب مِن شهادة العيان للمتفرجين الفرصة للتعرَّف على الماضي، وتذكُّرِهِ وإحيائِهِ، ولكن فيما وراء تلك الأهداف، يُقدِّم المسرح وسيلةً ثمينةً لما أسماه كوهين «البناء السلبي»، وهو: «النظر إلى الوراء؛ ليس بغرض التعرُّف والإقرار فحسب، بل أيضًا بغرض تقويض الخطاب العام الذي سمحَ بالتواطؤ والصمت وعدم الاكتراث». إنَّ أنتيجونا جامبارو تضربُ مثلًا على محاولة فضح أشكال التواطؤ الحاضرة في الخطاب العام، وهو ما يتحقَّقُ بكلِّ وضوحٍ في تصوير شخصيتي كوريفيو وأنتينو؛ الاثنين الجالسين على المقهى، ولا يتوقفان عن السخرية والاستهزاء، ويرفضان الاعتراف بتوسلات أنتيجونا. إنَّ التركيز ينتقلُ هُنا مِن الإقرار والتعرُّف إلى استقصاء الظروف التي تُديم الإفلات مِن العقاب، وفقدان الذاكرة الاجتماعي، والجور والإجحاف.

الهوامش:

Crenzel, La historia del Nunca Mas, 18

من أجل الاطلاع على  دراسات حول العدالة الانتقالية، يمكن الرجوع إلى

Teitel, Transitional Justice; Kritz, ed., Transitional Justice, Barahona de Brito, Carmen Gonzalez-Enriquez and Paloma Aguilar, The politics of Memory;  Jelin and Hershberg, Constructing Democracy; Guillermo O’Donnell, Transitions from Authoritarian Rule.

La CommisionNacionalsobre la Desaparicion de Personas (National Commission on the Disappeared).

إن تقرير (لن يتكرر هذا أبدًا) الأصلي (1984) قد حدّد 8.960 شخصًا مختفٍ رغم أن العدد التقديري للأشخاص المختفين كما أقرته أغلب المنظمات الرسمية وجماعات حقوق الإنسان يصل إلى 30.000 شخصًا. انظر Hayner,Unspeakable Acts, 33.

Crenzel, La historiadelNunca Mas, 117.

تقتبس سيكنيك ملاحظة هاينز أن أوغندا وبوليفيا قد كوّنا لجانًا لتقصي الحقائق قبل الأرجنتين في عامي 1974 و 1982 ولكنها تشير إلى أن أيًا من هاتين الدولتين لم تنشرا تقريرًا نهائيًا.: “From Pariah to Global Protagonist; Argentina and the struggle for International Human Rights.” 4; Hayner,  Unspeakable Acts, 51-53.

Sikknik and Booth Walling, “The Impact of Human Rights in Latin America,” 430.

Jelin, “La Politica de la memoria: el movimiento de derechoshumanos y la construcciondemocratica en la Argentina,” 138

على وجه التحديد أحالت لجنة تقصي الحقائق حول الأشخاص المختفين 1086 قضية إلى النظام القضائي. Nino, Juicio al mal absouto, 133-34.

Crenzel, La historiadelNunca Mas, 124.

Fled, Del estrado a la pantalla: las imagines deljuicio a los ex comandantes en Argentina, 18.

 Kaufman, “El ritual juridico en el juicio a los ex comandantes. La desnaturalizacion de lo cotidiano,” 9-10.

 Fled, Del estrado a la pantalla: las imagines del juicio a los ex comandantes en Argentina, 1.

 Fled, Del estrado a la pantalla, 36; Gonzalez Bomba, “Nunca Mas,” 211.

Camara Federal, Acordada 14, March 27, 1985. Qtd. In Fled, Del estrado a la pantalla, 20-21.

يستشهد فليد بالحادثة التي طُلبَ فيها من رئيسة جمعية الأمهات، هيبي دي بونافيني، أن ترفع عن رأسها المنديل الأبيض في أثناء وجودها في قاعة المحكمة، الطلب الذي ردّت عليه بونافيني بقولها إنه ما دام مسموحًا للعسكريين بارتداء زيهم الرسمي فينبغي أن يُسمَح لها بوضع وشاحها.Del estrado a la pantalla, 21

 Arendt, Eichmann in Jeruasalem, 209.

كان العنوان الكامل هو (التقرير النهائي للمجلس العسكري عن الحرب ضد التخريب والإرهاب).

Acuna and Smulovitz, “Adjusting the Armed Forces to Democracy”, 16.

Gonzalez Bomba, “Nunca Mas,” 208.

Teitel, Transitional Justice, 6.

Gonzalez Bomba, “Nunca Mas,” 208.

Crenzel, La historiadelNunca Mas, 110.

Crenzel, La historiadelNunca Mas, 139; Kaufman, “El ritual juridico en el juicio a los ex comandantes. La desnaturalizacion de lo cotidiano,” 18.

CELS (Center for Legal and Social Studies/Centro de EstudiosLegales y Sociales). Pre-existing human rights groups include SERPAJ (In Service of Peace and Justice/Servicio Paz y Justicia); APDH (Permanente por los DerechosHumanos).

Jelin, “La Politica de la memoria: el movimiento de derechoshumanos y la construcciondemocratica en la Argentina,” 106.

Sikknik, “From Pariah State and Global Protagonist: Argentina and the Struggle for International Human Rights,” 1.

Gonzalez Bomba, “Nunca Mas,” 215.

Federacion Argentina de Colegios de Abogados.

 Nino, Juicio al mal absolute, 115.

Fled, Del estrado a la pantalla: Las imagines deljuisio a los ex comandantes en Argentina, 36.

من بين الجنرالات التسعة الذين تمت محاكمتهم، فإن كلًا من خوخري رافايل فيديلا وإيميليوإدواردوماسيرا حُكم عليهما بالسجن مدى الحياة، أمّا روبرتو إدواردو فيولا فقد تلقّى حكمًا بالسجن سبعة عشر عامًا، وآمارندولامبورشيني ثمانية أعوام، وأورلاندو رامون آجوستي أربعة أعوام ونصف. بينما تمت تبرئة ساحة كلٍ من عُمر دومينجو روبنز جرافيانا، ليوبولدوجالتيري، خورخي إيساك آريا، وباسيليولاميدوزو.

Nino, Juicio al mal absolute, 144.

تم  إنتاج الفيلم الوثائقي (قفوا أيها السادة!)  تحت إشراف تيلام، وهي وكالة الأنباء الرسمية

Fled, Del estrado a la pantalla: Las imagines deljuisio a los ex comandantes en Argentina, 67-74.

The Carapintadas (Painted/camouflaged faces)

أي حركة الوجوه المطلية-المموّهة، وهي حركة تألّفت من القطاع اليميني المتطرف من الجيش، الذي أثارَ عدة احتجاجات بين عامي 1987 و1990 ضد الرئيسين ألفونسين ومنهم استنكارًا للإجراءات القضائية التي تُتخذ ضد العسكريين بسبب جرائمهم التي اقترفوها إبان الحقبة الدكتاتورية.

 ESMA (EscuelaMecanicade la Armada/ The Navy Mechanics School).

Taylor, Disappearing Acts, 122.

Felman, The Juridical Unconscious, 55.

انظر المرجع السابق في الجزء الخاص بالعدالة الأدبية في مقابل العدالة القانونية

Felman, The Juridical Unconscious,8.

 Cohen, States of Denial, 226.

Interview with Laura Yusem, November 2004.

Pellettieri, “El sonido y la furia; Panorama del teatro de los ‘80 en la Argentina,” 47.

Lusnich, “Cambio y continuidad en el realism critco de Griselda Gambaro y Eduardo Pavlovsky,” 346; Pellettieri, “EstudioPerliminar,” 30.

Arlt, “Los ‘80 –Gambaro-Monti-y masalla…,”49-58.

Tarantuviez, La escenadelpoder. El teatro de Griselda Gambaro, 128.

إن تحليل تارناتوفيز قائم على دراسة لكريستين نجرو للمضامين الأنثوية الخفية في لحظات الصمت في الأعمال المبكرة لجامبارو.

Nigro, “DiscursoFemenino y el teatro de Griselda Gambaro,” 65.

 Gambaro, AntigonaFuriosa, 197.

Puga, Memory, Allegory, and Testimony in South American Theater, 183.

Felman, The Juridical Unconscious, 4.

Pellarolr, “Revisando el canon/la historiaofical: Griselda Gambaro y el Heroismo de Antigona,” 7.

 Braun de Dunayevich and Pelento. “Las vicissitudes de la pulsion de saber en ciertosduelosespeciales,” 89.

Mogliani, “AntigonaFuriosa de Griselda Gambaro y suintertextogriego,” 102.

 See Taylor’s Disappearing Acts; Nieves Martinez de Olcoz’s “Cuerpo y Resistencia en el recienteteatro de Griselda Gambaro,” and Marla Carlson’s “Antigone’s Bodies: Performing Torture>”

تعلّق مُخرجة المسرحية «يوزمن» على قرارها بعمل نسخة جديدة من أنتيجون، قائلة: «لم يكن لديّ خيار في تلك اللحظة. لم يكن قرارًا وليد التدبير والتفكير، بل قرارًا باطنيًا عميقًا».  Personal interview, November 2004.

Gambaro, AntigonaFuriosa, 202.

Quiroga, “Entrevista con Laura Yusem,” 10.

Trastoy and Zayaz de Lima, Los lenguajes no verbles en el teatroargentino, 29.

 See Chapter 1 of Taylor’s The Archive and Repertoir and Connerton’sHow Societies remember, 39.

 Boss, Ambiguous Loss, 5-6.

da Silva Catela, No habraflores en la tumba del pasado, 114-115.

 Rose, Mourning and the Law, 36.

 Feld, Del estrado a al pantalla; lasimagenesdeljuicio a los excomandantes en Argentin, 42.

 Gonzalez Bomba, “Nunca Mas: El Juicio mas alla de los estrados,” 211.

Trastory, Teatroautobiografico, 9.

Taxidou, Tragedy, Modernity and Mourning, 176.

Goldhill, How to Stage Greek Tragedy Today, 150.

 Feld, Del estrado a al pantalla; lasimagenesdeljuicio a los excomandantes en Argentin, 36.

Taxidou, Tragedy, Modernity and Mourning, 24.

  Taylor, Disappearing Acts, 188-89.

Jelin, “La Politica de la memoria: el movimiento de derechoshumanos y la construcciondemocratica en la Argentina,” 110.

 See Hebe de Bonafini’s speech from conference on July 7, 1988: http://www.madres.org.

 Guest, Behind the Disappearances, 383. 

Jelin, “La Politica de la memoria: el movimiento de derechoshumanos y la construcciondemocratica en la Argentina,” 130.

 Taylor, Disappearing Acts, 220.

Roffe, “Interview: Griselda Gambaro,” 114.

 Segal, “Catharsis, Audience, and Closure,” 157.

 Steiner, Antigones, xi.

Lcan, “The Splendor of Antigone,” 247.

 Hall, “Is There a Polis in Aristotle’s Poetics?,” 305.

 Gambaro, AntigonaFuriosa, 197.

CastellviseMoor, Dramaturgasargrntinas. Teatro, Politica y genero, 29; Pellarolo, “Revisando el canon/La historiadficial: Griselda Gambaro y el heroism se Antigona,” 82.

  Taylor, Disappearing Acts, 221.

Pellarolo, “Revisando el canon/La historiadficial: Griselda Gambaro y el heroism se Antigona,” 84.

 See Anna Krajewska-Wieczorek’s account of her experience as dramaturg for Sopholes’ Antigone in “Two Contemporary Antigones,” 329.

 Carlson, “Antigone’s Bodies: Performing Torture,” 390.

 Gambaro, AntigonaFuriosa, 216.

 Wannamaker, “Memory Also Makes a Chain,” 79.

Sopholes,  Antigone, 126.

يلاحظ بوجا أن العروض المسرحية الأربعة المختلفة لمسرحية «أنتيجونا الغاضبة» امتدت في الفترة من 1986 حتى 1988، تم التصديق خلال تلك الفترة ذاتها على كلٍ من قانون التوقف الأخير وقانون الطاعة الواجبة.

Memory, Allegory, and Testimony in South America Theatre, 148.

 Nino, Juicio al mal absouto, 140.

Barahona de Brito, Gonzalez-Enriquez, and Aguilar, The Politics of Memory, 140.

 Taylor, Disappearing Acts, 213.

Laub, “Bearing Witness or the Vicisssitudes of Listening,” 68.

 Gambaro, AntigonaFuriosa, 201.

Agger and Buus Jensen, Trauma and Healing under State Terrorism, 154.

 Cohen, States of Denial, 15.