هوامش
منى يسريالفردوس المفقود قصة انهيار «النصر للسيارات" الشاهد الأكبر على جرائم الخصخصة
2021.04.01
الفردوس المفقود قصة انهيار «النصر للسيارات" الشاهد الأكبر على جرائم الخصخصة
على صفحات صحيفة الأهرام، كتب عبد الرحمن عقل، في يونيو من عام ١٩٩٥، مناشدًا رئيس شركة النصر لصناعة السيارات المهندس سعيد النجار، بأن يستكمل مشروع التطوير بإنتاج سيارة جديدة، تتماشى مع الموديلات الحديثة، كي لا تستطيع الشركة بصفتها صرح الصناعة الوطنية، من الاستمرار واستكمال مسيرتها التنموية. لكن نداء عقل لم يجد من يلبيه، وسرعان ما تولى الدكتور عاطف عبيد رئاسة الوزراء، وتوّج على عرش مهندس الخصخصة الأهم في تاريخ مصر، عام ١٩٩٩.
بدأ الحديث عن خصخصة الشركة الأولى من نوعها في الشرق الأوسط، منتصف التسعينيات من القرن الماضي، بالرغم من محاولات التطوير والتحديث التي لطالما ادعّت حكومات مبارك المتعاقبة، منذ توليه السلطة عام ١٩٨١، بالشروع في تنفيذها، لكنها محاولات صورية، ربما تمّت لتجميل وجه النظام الحاكم، كي لا ينقلب آلاف العمّال ضد المؤسسة، التي بدأت في الانقضاض عليهم مع بزوغ الألفية الجديدة، وعلى مراحل متباعدة. أغلقت الشركة أبوابها أمام العمال للمرة الأخيرة في عام ٢٠١٠، على بعد خطوات من اندلاع ثورة يناير، وعلى الرغم من المحاولات القانونية التي أعقبت الثورة، لاسترداد الكثير من شركات القطاع العام، التي دهستها عجلات الخصخصة بلا رحمة، لم تنجح الشركة في العودة مجددًا إلى حاضنة الدولة. لكنها عادت للحديث مجددًا منذ عام ٢٠١٨، بعد إعلان وزير قطاع الأعمال العام هشام توفيق، عن توقيع اتفاق مبدئي مع شركة نيسان اليابانية لإنتاج ١٠٠ ألف سيارة سنويًّا لرفع نسبة المكوّن المحلي وتصدير معظم الإنتاج.
كانت شركة النصر للسيارات، ضمن العشرات من مشاريع الدولة الناصرية التي أعقبت العدوان الثلاثي على مصر، الابن الشرعي لاقتصاد قائم على التخطيط، متأثرًا بالتجربة السوفيتية التي مكنّت الروس من الصعود إلى القمر، وامتلاك أكبر ترسانة نووية في العالم، لكن الواقع الاقتصادي الذي ستشهده مصر ومن حذا حذوها من دول العالم الثالث لاحقًا، سيكشف عوار النظام الاقتصادي الذي لم يكن قائمًا على التخطيط المركزي بنموذجه السوفيتي. لكن بحلول عام ١٩٥٧، وما تلاه، أصبح القطاع العام يسيطر على قرابة ٨٠٪ من الاستثمارات الوطنية.
خمسية الأحلام الكبرى
كان الاقتصاد المصري قبل ثورة يوليو ١٩٥٢، خاضعًا لنظام السوق اقتصر دور الدولة فيه على تقديم الخدمات العامة، بدأت هذا في التفكك وتسربت الدولة إلى كل القطاعات الاقتصادية، وتحت شعار «الاشتراكية»، قدّمت نموذجًا اقتصاديًا جديدًا على المصريين في ذلك الوقت، كانت رأسمالية دولة تحاول بناء إمبراطورية صناعية جديدة، بدأتها بعدما أصدرت القانون ٢٥٨ لسنة ١٩٥٦، الخاص بتأميم قناة السويس، في نفس الوقت الذي شرعت فيه على إقامة صناعات استراتيجية منها الحديد والصلب والأسمنت والسيارات، فكانت شركة النصر لصناعة السيارات ضمن روافد الخطة الخمسية الأولى لدولة عبد الناصر (٦٠/٦١ - ٦٤/٦٥)، التي شهدت نموًا ملحوظًا في الأداء الاقتصادي للبلاد، أعقبه إخفاق طبيعي، نتيجة الطموح الكبير للدولة الذي لم يكن يتناسب مع الأداء الحكومي، القائم في ذلك الوقت على تعيين الثقات بدلًا من الكفاءات. في تلك الأجواء أنشأت شركة النصر وسط آمالًا عريضة بأن تصبح مصر ثقلًا إقليميًا في مجال تصنيع السيارات، قبل أن تنقض عليها أنياب الخصخصة، ويمزّق الانفتاح أوصال الآف من العمال والمهندسين من ذوي الكفاءات العالية.
بحلول منتصف التسعينيات من القرن الماضي، وبعدما انتهاء وزير قطاع الأعمال في ذلك الحين الدكتور عاطف عبيد، من وضع خطته المتكاملة لخصخصة القطاع العام، التي جاءت في إطار برنامج التكيّف الهيكلي الذي فرضه البنك الدولي على مصر مطلع التسعينيات، بدأت الأصابع تتجه إلى النصر للسيارات، إلّا أنّ التلاعب الإعلامي لعب دورًا في التشويش على العمال، فعلى صفحات صحيفة الأحرار في مارس ١٩٩٥، خرج رئيس اللجنة النقابية لشركة النصر للسيارات، سيد حنفي، مكذبًا أي حديث عن عروض أجنبية لشراء الشركة، بالرغم من إعلان الحكومة عن عروض تلقتها الشركة من شركة دايو الكورية في ١٩٩٣، لكن الحكومة استطاعت في كل مرة تكذيب هذه الادعاءات والتلاعب بالعمال الذين عاقبهم السيد عاطف عبيد أكثر من مرة، كان منها ما حدث في سبتمبر ١٩٩٥، حين اعتصم العمَّال مطالبين بالحوافز السنوية، لكنّ الإدارة لم تستجب، وقرر إثرها عاطف عبيد إعطاء ١٥٠ عاملًا منهم إجازة مفتوحة، في تهديد واضح وإجراء عقابي لجميع العمال.
حتّى الرمق الأخير
لم يتوانَ عمّال الشركة عن تنفيذ الإضرابات الجماعية، في وجه الإدارة التي سلبتهم كل حقوقهم، وصدمت الإضرابات على الرغم من البطش الشديد الذي مارسه عبيد قبل أن يصبح رئيسًا للوزراء، واستمرت الأزمة حتى مطلع يناير ١٩٩٦، حين بدأ العمال إضرابا مفتوحًا، اعتراضًا على عدم صرف الحوافز والبدلات المقررة لهم وفقًا للقانون، وعلى الرغم من تهديدات الوزارة ووعيد الإدارة، واصل العمّال إضرابهم، الذي لم يكن الأول من نوعه، لكنّه زاد الضغط على الشركة، وكشف أزمتها الحقيقية، التي بدأت منتصف الثمانينيات، وتفاقمت مع تراجع الطلب على المنتجات الخمس الأهم التي تقدمها الشركة (اللوري، سيارات الركوب، عربات النقل، الأتوبيس، والجرار الزراعي)، فمع الانفتاح الاقتصادي وحريّة التجارة، اتجه القطاع الداخلي إلى الاستيراد ومع تحفيز صندوق النقد الدولي للدولة آنذاك بالاتجاه إلى الخصخصة، كان على القطاع العام أن يغلق بابه في وجه العمال، ويرغمهم على التقاعد الاجباري. بدأت الشركة في تصفية ١٩٢٥ عامل من إجمالي ١٠ آلاف، كدفعة أولى في مارس ١٩٩٦، ورصدت مبلغ ٢٠ مليون جنيه لسداد مكافآت نهاية الخدمة.
بحلول عام ١٩٩٨، بلغ عدد الشركات التي خُصخصت كليًّا أو جزئيًّا ١٠٠ شركة، بيعت بقيمة ٨.٨ مليار جنيه، ما يمثل ٣٠٪ من إجمالي شركات القطاع العام، وفي نفس العام طُرح ما تبقى من قيمة أصول النصر للسيارات في البورصة للتداول. لم تكن شركة النصر للسيارات استثناءً، لكنّها كانت الأهم، كونها تغذي ٢٥٠ شركة ووطنية أخرى للتخديم على هذه الصناعة، وهو ما يعني تسريح مئات الألوف من العاملين، الذين لن يصمدوا كثيرًا أمام رياح الليبرالية الجديدة، التي فتكت بحقوقهم. وفتح تصفية الشركة نقاشًا في مجلس النواب، عام ٢٠٠٣، نشرت تفاصيله مجلة الأهرام الاقتصادي، بعد جلسة استجواب مطوّلة أثر الخلل الهيكلي الحاصل في الشركة، بعد تقسيمها إلى شركتين، والتشديد على أهميّة الحفاظ عليها، كون ذلك حفاظًا على الأمن القومي للبلاد. ما بين عامي ٩٧٨ و ١٩٩٥، زادت خسائر القطاع العام بنسبة ٦٦٪ تقريبًا وفق الأرقام الرسمية، مثلت هذه الخسائر ثلث عجز الموازنة العامة في مطلع التسعينيات، كما بلغ عجز الموازنة مع نهاية الثمانينات ١٧٪ من صافي الناتج الوطني، وهو ما اتخذته الحكومة ذريعة كافية لتفكيك القطاع العام.
نهب وفساد وأشياء أخرى
مع نهاية شهر مايو من عام ٢٠٠٤، تجمهر أكثر من ٣ الآف عامل من عمال شركة النصر للسيارات، بسبب منع حضورهم من اجتماع الجمعية العمومية للصندوق التكميلي، وذلك بعد تسرب أخبار، تكشّف عن نوايا الإدارة بتخفيض مكافآت العمال بنسبة ٦٠٪، هي حلقة واحدة في مسلسل التلاعب بعمال الشركة الذي بدأ من أواخر الثمانينيات. وعلى الرغم من تشدق الدولة بمحاولات إصلاح الشركة، فإنها سارعت من انهيارها، بتعيين المهندس أحمد عبد الغفار رئيسًا لمجلس الإدارة، والذي بلغت خسارة الشركة في عهده إلى أكثر من ٤ مليار جنيه. وصل معدل إنتاج الشركة بحلول عام ٢٠٠٠، ألف سيارة أتوبيس، و١١٠٠ سيارة نقل، و١٣٠٠٠ سيارة ركوب، وألف جرار زراعي في العام. دفعت ادعاءات الإدارة بخسارة الشركة، إلى خروج القيادات النقابية عن صمتها، في عام ٢٠٠٨، حين صرَّح رئيس الشركة القابضة المهندس زكي بسيوني، بأن خسارة الشركة بلغت أكثر من ٥٠٠ مليون جنيه، ليخرج عضو اللجنة النقابية بالشركة سيد النوبي، مكذبًا هذه الأرقام، موضحًا أن خسائر الشركة لم تتجاوز المليوني جنيه وفقًا لآخر ميزانية عام ٢٠٠٨.
استمر مسلسل النهب والتخريب في الشركة، حتى الرمق الأخير، ووزعت مكافآت نهاية خدمة هزيلة لم تتجاوز المئة ألف جنيه على أقصى التقديرات لكل عامل، ومع توحش الخصخصة وابتلاعها لكل نواحي القطاع العام، لم يكن أمام العمّال سوى القبول بهذه المبالغ الزهيدة التي قدّمت كقرابين للتغطية على جرائم الفساد التي ارتكبت بحق الشركة، أوصلتها إلى طرق مسدودة. مثالًا على هذه الجرائم، ما كشفته مجلة الأهرام العربي في تحقيق صحفي عام ٢٠٠٥، عن هدايا بقيمة عشرات الآف من الجنيهات وزعتها الشركة على عملائها بمناسبة العام الجديد، كما أدرجت مستندات عدة تفيد بإجراء مبيعات صورية لم تتم من الأساس، أو تمّ بعضها، ولم تحصّل الشركة قيمتها.
أنياب النيوليبرالية
خلال أقل من خمسين عامًا ترنّح الاقتصاد المصري بين أنظمة اقتصادية هجيبة، لم تملك مشروعًا ناضجًا باستثناء الفترة ما بين ١٩٦٠/١٩٦٥، والتي بموجب ما حققت من إنجازات، جاء الانفتاح الاقتصادي عام ١٩٧٤ ليبدأ بالسطو على مكتسبات تلك الفترة، لكن السادات الذي ضرب بقراره الاقتصاد القومي في مقتل، تمهل في تطبيق السياسات، خوفًا من الإضطرابات السياسية، خصوصًا وأن البلاد تعيش نشوة انتصارات أكتوبر، لكن تجربته المساس بالدعم عام ١٩٧٧ كانت خير شاهدًا على ما سيلقاه إذا طبَّق انفتاحه على نسق الصدمة. ثم جاء مبارك محملًا بوصايا صندوق النقد الدولي، مسلحًا بأنياب النيوليبرالية الجديدة، التي كانت في طريقها إلى مصر، بعدما غزت عدة بقاع حول العالم انطلاقًا من الولايات المتحدة الأمريكية، ليستهل مبارك حقبة جديدة، كانت الديون والخصخصة من أهم ملامحهما.
كان الإطار القانوني أهم مرحل التمهيد للخصخصة، خاصة بعد إصدار قانون القطاع العام رقم (٢٠٣) ١٩٩٣، والذي أعاد تنظيم عمل ٣١٤ منشأة إنتاجية صنفت بأنّها غير استراتيجيّة، وقدرت موجوداتها بنحو ٦٨ مليار جنيه مصري. وعلى الرغم من تشدّق حكومة عاطف عبيد طوال فترته بالنجاح الذي أحرزته الخصخصة على الطريق التنموي في مصر، فإن وقائع الفساد المالي والإداري التي كشفتها منظمات حقوقية في أعقاب ثورة يناير، كانت صدمة كبرى تضاف إلى رصيد الصدمات التي جلبتها النيوليبرالية، إذ بيعت الأصول بأقل من ربع قيمتها السوقية، وكان هذا مدخلًا قانونيًا لمحاولة إبطال البيع واسترداد أصول الدولة الضائعة، بيد أنّ هذا الاسترداد لم يصلح ما أفسده تشريد مئات الآف من العمال، وما جلبته عليهم وعلى أسرهم، وعود الخصخصة التي لم ير فوائدها سوى عاطف عبيد وعصبته، أمّا العمال فتركوا فريسة سهلة لمشاعر الإحباط واليأس وقلة الحيلة، والبحث عن أي مصدر للرزق خوفًا من الفقر والحاجة.