عدد 18-عن الفقد والافتقاد

مجدي جرجس

القبط وتاريخ طويل من الندب

2020.11.01

القبط وتاريخ طويل من الندب

ما إن يَرِد ذكر أمر ما من مظاهر ثقافتنا أو تاريخنا، حتى ينصرف الذهن إلى جذوره في ثقافة المصريين القدماء، ومحاولة تتبع هذا الأمر، وكيف كان عليه، ثم مراحل تطوره الطقسية أو اللغوية، وصولاً إلى ما نحن عليه الآن. والطريقة الثانية، هي البحث عن الأسس الدينية التي صاغت أو رسَّخت ونظمت هذه الممارسات. وقد شغلَ الموت ولواحقه وطقوسه حيزًا كبيرًا في ثقافة المصريين القدماء والمحدثين. ولكن الموت شأن إنساني، والطقوس المصاحبة له ليست قصرًا على شعب بعينه، أو ثقافة بذاتها أو حتى دين؛ فكل الشعوب والثقافات والديانات تعاملت مع هذه الظاهرة، واحتفت بها بطرق قد تتشابه وقد تتباين.

ولعل التباين الواضح في قضية الموت والاعتقاد بحياة أخرى، يظهر في الاختلاف بين الثقافات الشرقية وثقافة اليابانيين، على سبيل المثال. فكل ممارسات ومعتقدات الشرق تسير في طريق الخلود والتخليد، وهي على العكس تمامًا من تصورات اليابانيين وإمعانهم في التخلص من بقايا المتوفى بالحرق، أو ما يمكن تسميته الفرق بين ثقافة الحجر (الشرق) وثقافة الخشب (اليابان). وبالطبع هذه التصورات ستنعكس على مفاهيم الموت والدفن والتذكر.

وما مِن شك في أن الموت كانت له مكانة خاصة في فكر وحياة المصري القديم، حتى إنه كان يتفانى في بناء مقبرته وهو بعد حي، ويمدها بكل ما يوفر له حياة مستقرة آمنة -حسب اعتقاده- بعد موته، شأنه شأن شعوب أخرى. إذ تشير الأدلة الأثرية في بلاد الشام وفلسطين ومناطق أخرى إلى ممارسة دفن مقتنيات المتوفى المادية في المقابر منذ القرن الخامس قبل الميلاد. ولكن الطقوس الجنائزية ومدتها، تختلف من مكان إلى آخر ومن شعب إلى آخر. وقد تناول أمور الندب واللطم والعديد في الثقافة المصرية، باحثون من حقول معرفية مختلفة: التاريخ، والآثار، والأدب، والأنثروبولوجي، والفلكلور، وكلٌ له إسهامه. دارت رحى المناقشة حول «التعديد» (العديد)، على سبيل المثال، ما بين قائل بأنه اختراع مصري أصيل، وبين آخر يقول بأصوله العربية المتجذرة في قصائد الرثاء في الشعر العربي، ومنها انتقل إلى مصر وأُعيد صوغه بالعامية المصرية.

والشهادات والأدلة الأثرية ترصد مراسيم تشييع الجنازات في مصر القديمة، والتي كانت تسير وفقًا لطقوس طويلة عديدة، تبدأ بمجرد الإعلان عن موت شخص ما، فيندفع أهل الميت إلى خارج المنزل بالصراخ، وتحل النساء شعورهن، ويهلن التراب والطين فوق رؤوسهن. وعندما يعلم الرجال بالخبر، يمزقون ثيابهم ويضربون على صدورهم بأيديهم. ثم تبدأ بعد ذلك إجراءات التحنيط، فيُحمل جثمان المتوفى إلى الضفة الغربية من النيل، حيث مراكز التحنيط، يصحبها أهل الميت وأقرباؤه وأصدقاؤه، وخلفهم النساء يندبن ويولولن، وتستغرق عملية التحنيط قرابة الأربعين يومًا، يظل خلالها أهل المتوفى متسربلين بملابس الحداد، ويستقبلون وفود المعزين ويقيمون الولائم لهم. وبعد انتهاء إجراءات التحنيط، تبدأ مراسم تشييع الجنازة، فيستأجر أهل المتوفى فرقة من النائحات، ويعبرون النهر في الصباح الباكر، ليعودوا بموكب الجنازة يتقدمه الكهنة الجنائزيون، وفى نهايته النسوة النائحات وقريبات المتوفى وصديقاتهن، ويقمن بالفاصل الأخير من الندب واللطم.

وعلى الرغم من الموقف الصريح والواضح للمسيحية والإسلام (ديانة غالبية المصريين) ضد هذه المظاهر، فإن هذه المشاهد، مع اختلاف طفيف في التفاصيل، استمرت سائدة حتى وقت قريب، ويمكن للكبار منا تذكر هذه الطقوس، وشيوع وجود الندابات والمُعدِدات في معظم القرى والمدن.

وفي السطور التالية سأعرض لهذه القصة من منظور آخر، في محاولة لتفسير جانب مهم في تاريخ المصريين، وهو كيفية تمصير الدين، أو كيفية صبغ المظاهر الاجتماعية أو القومية بالدين. وكيفية عمل المؤسسات الدينية وخلق مساحات رمادية بين المنظور الديني والمنظور الاجتماعي، وغض الطرف عن ممارسات تبدو فاحشة التعارض مع النصوص الدينية، وقبولها تحت ضغوط اقتصادية واجتماعية. وأنتهز هذه الفرصة لعرض بعض من وثائق القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، والتي تظهر هذه الممارسات وحجم الإنفاق عليها.

تمصير المسيحية، أو تنصير الديانة المصرية القديمة

عندما اعتنق المصريون المسيحية كان من المفترض أن تتوارى هذه المظاهر تدريجيًّا، خصوصًا وأن الموت في المفهوم المسيحي يحمل دلالات مفرحة؛ إذ به يتوج الإنسان جهاده في الأرض وينتقل إلى حياة أفضل، ونهت المسيحية عن الحزن عن المتوفين «لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم» (تسالونيكى الأولى 4: 13). وأقبل بعض المصريين، في أول عهدهم بالمسيحية، على الموت بشغف وفرح في أثناء فترة الاضطهاد الروماني، وخصوصًا في نهاية القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الميلادي، واعتبرت الكنيسة أن هذه المناسبات بمثابة مولد جديد لهم.

بعد أن ترسخت سلطات الكنيسة المصرية في القرن الثاني الميلادي، أخذت على عاتقها مهمة تغيير مفاهيم المصرين وتجذر ثقافة أجدادهم في كل تفاصيل حياتهم، فواجهتها مصاعب جمة في هذا السياق. فقد بذلت الكنيسة جهودًا مضنية لحمل المصريين على الانصياع للتقاليد المسيحية الجديدة دون نتائج تُذكر. لعل أبرز الأمثلة على ذلك استمرار المصريين في الاحتفال بأعياد آلهتهم بطقوس وشعائر الديانة المصرية القديمة نفسها. وفي نهاية المطاف، استسلمت الكنيسة لهذه الممارسات بعد الفشل في اقتلاعها من وجدان المصريين. وأقدمت على تغيير الأسماء فقط، فبدلاً من آلهة المصريين القدماء، صارت أسماء الكائنات السماوية في الاعتقاد المسيحي. وهي خطوة محسوبة؛ إذ لم تُستبدل هذه الأعياد بأسماء لقديسين من البشر، بل اختارت الكنيسة عنوانًا لهذه الأعياد كائنات تشبه آلهة المصريين القدماء، كائنة عاشت ولا تزال تعيش في السماء، وهي الملائكة. في قراءات يوم 12 بؤونة يأتي عيد الملاك ميخائيل، وهو العيد الذي كان مُخصصًا لاحتفال المصريين بالإله زحل. عندما فشلت الكنيسة في إقناع المصريين بالعدول عن هذا الاحتفال القديم، غيَّرت المسمى ليكون عيدًا للملاك ميخائيل، وخلد السنكسار، وهو الكتاب الرسمي لسير القديسين في الكنيسة القبطية، هذه القصة التي وقعت في أوائل القرن الرابع الميلادي، وأنقلُ هنا النص بحروفه كما ورد في كتاب السنكسار «وفيه أيضًا تذكار الملاك العظيم ميخائيل، رئيس الملائكة المتشفع في جنس البشر دائمًا، هذا الذي ظهر ليشوع بن نون وقال له لما رعب أنا هو رئيس الملائكة، رئيس أجناد الله وعضده وحطم العمالقة وافتتح أريحا وأوقف له الشمس» ثم تأتي سيرة القديسة أوفيمية وقصتها مع الملاك ميخائيل، وتُختتم قراءات هذا اليوم بفقرة تشرح سبب الاحتفال بعيد الملاك ميخائيل في هذا اليوم (12 بؤونة) «أما السبب الذي صار يعيد الملاك ميخائيل في هذا اليوم أن كان بمدينة الإسكندرية هيكلاً عظيمًا كانت اكلاوبطرة (كذا) الملكة ابنة بطليموس قد بنته على اسم زحل، وعيد له في مدينة الإسكندرية في اثنى عشر من بؤونة. وكان في الهيكل صنمًا هائلاً من نحاس يسمى زحل، وكان يُذبح له في يوم عيده ذبائح كثيرة. فمكثوا هكذا يعيدوا الصنم إلى أيام رياسة الأب الاسكندروس وذلك فوق الثلثمائة سنة فلما تقدم الاسكندروس وتملك قسطنطين القديس وانتشر المسيحية أراد أن يكسر هذا الصم فمنعه عوام أهل الإسكندرية وقالوا نحن قد ألفنا أن نعيد لهذا الصنم وقد مضت ثمانية عشر بطركا لم يغيروا عادتنا. فوعظهم كثيرًا، وبين لهم أن هذا الصنم لا يضر ولا ينفع وأن الذي يعيد له إنما يعيد للشياطين. ثم قال لهم متى سمعتم مني أنا أرتب لكم هذا العيد كما كان، فهو أن نقطع هذا الصنم ونكرز هيكله كنيسة على اسم ميخائيل ونجعل العيد له والذبائح لله تعالى تأكلها المساكين والمحتاجين، ليشفع الملاك فيكم قدام السيد المسيح. فأرضاهم هذا الرأي الجيد وأطاعوه، وبنيت البربا كنيسة على اسم الملاك الجليل ميخائيل». هذا المشهد يوضح قوة تعلق المصريين بعاداتهم وتقاليدهم القديمة، حتى وإن اصطدمت بالتعاليم الدينية، وفي النهاية رضخت المؤسسة الدينية أمام هذه العادات وأعادت توفيق الأوضاع وإلباسها ثوبًا دينيًّا جديدًا. ما لم تبح به هذه القصة هو العوامل الاقتصادية الكامنة وراء هذا التساهل/ التغاضي! إذ أن هذه المناسبات تعد من مصادر رزق طغمة الكهنة وخدام هذه الأماكن. وربما كان وقوف بعض هؤلاء دفاعًا عن مصادر دخلهم سببًا إضافيًّا لقبول الهيئة العليا للكنيسة باستمرار هذه الاحتفالات. وهذه القصة دالة على كيفية استمرار مظاهر أخرى من العادات والتقاليد المصرية القديمة، بعد انتشار المسيحية في مصر.

الأمر نفسه بالنسبة لتاريخ الندب واللطم والطقوس الجنازات والمآتم: فعلى الرغم من موقف المسيحية المناوئ للحزن ومظاهره، إلا أن المصريين استمروا في طقوس الجنازات بطريقتهم المصرية القديمة نفسها. ويمكن فهم الأمر بالطريقة نفسها. وكان تطويع الكنيسة لهذه المظاهر وإلباسها ثوبًا جديدًا شرعيًّا، بالدوافع نفسها: صعوبة اقتلاع التقاليد المصرية القديمة؛ وصعوبة قفل أبواب الرزق للقائمين على هذه الطقوس. واضطرت الكنيسة إلى أن تغض الطرف عن هذه الممارسات، بل والمشاركة فيها. زاد تغلغل الثقافة المصرية القديمة في المسيحية المصرية بعد عام 451م. حين زادت حدة النقاشات والمساجلات حول شخص السيد المسيح، وتفرقت الآراء وتباينت بين مسيحيي العالم حول هذه القضية، وانعقدت عدة مجامع مسكونية لمناقشة هذه الأمور، كان آخرها مجمع مسكوني انعقد في مدينة خلقدونية، عام 451م، لحسم هذا الصراع. وانتهى إلى اعتبار اعتقاد الكنيسة المصرية في السيد المسيح خروجًا عن الإيمان القويم. وحدثت قطيعة بين الكنيسة القبطية ومعظم كنائس العالم، وهو الأمر الذي حدا بالكنيسة القبطية إلى الإغراق في المحلية، واستلهام عناصر تميزها عن باقي الكنائس المسيحية. وتمثَّل ذلك في أمور عدة؛ في الطقوس واللغة، وإضفاء الشرعية على جوانب كثيرة من مظاهر الحياة الاجتماعية والدينية للمصريين. كان من بينها مظاهر الجنازات القديمة؛ الندب واللطم، وزيارة المقابر وإقامة الولائم.

ربما كانت المبررات الشرعية للكنيسة القبطية في قبول هذه العادات، هو استنادها إلى نصوص من الكتاب المقدس من العهد القديم، أفاضت في وصف مظاهر الحزن المصاحب للجنازات، والتي تمثَّلت في الندب واللطم وتمزيق الثياب ونتف اللحى وجرح الأجساد، واستئجار النائحات. منها ما يرد عما فعله عزرا الكاهن في موقف حزن «فلما سمعت بهذا الأمر مزقت ثيابي وردائي ونتفت شعر رأسي وذقني وجلست متحيرًا» (سفر عزرا، إصحاح 9، آية 3). وما قاله داوود النبي بعد علمه بمقتل شخصية مهمة «فقال داود ليوآب ولجميع الشعب الذي معه: مزقوا ثيابكم وتنطقوا بالمسوح والطموا أمام ابنير، وكان داود يمشي وراء النعش» (صموئيل الثاني، إصحاح3، أية 31). حتى مشاهد محاكمة السيد والمسيح وصلبه، يذكر الإنجيل بأن جمهور كثير تبعه «والنساء اللواتي كن يلطمن وينحن عليه»، (إنجيل لوقا، اصحاح 23، آية 27). فحتى وإن نهى العهد الجديد عن طقوس الحزن، تقف نصوص العهد القديم مبررًا لمن شاء! لذا جاء في التشريعات المسيحية المصرية نصوصًا قانونية لا تبيح هذه المظاهر مباشرة، وإنما تلمح بطريق خفي بإجرائها، إذ نصحت بعمل التذكارات المتنوعة للمتوفي استنادًا إلى نصوص العهد القديم. ووردت نصوص في أشهر وأهم مجموعة قانونية في الكنيسة القبطية، وهو العمل الذي قام به الصفي ابن العسال (القرن الثالث عشر الميلادي)، تساير هذا التوجه، فيقتبس نصًّا من مجموعة قوانين منسوبة إلى عصر تلاميذ السيد المسيح، يقول «اعملوا الثالث للذين رقدوا لأجل الذي قام في اليوم الثالث، وأصنعوا السابع تذكارًا للأحياء والأموات، وتصنعوا أيضًا الشهر كالمثال الأول، هكذا حزن الشعب على موسى، وتصنعوا أيضًا تمام السنة مثل تذكارهم وتدفعوا للفقراء من قنايا الذي مات تذكارًا له». وهذه الموسوعة هي المرجع القانوني للكنيسة القبطية منذ القرن الثالث عشر وحتى منتصف القرن العشرين. بالطبع التفسير الروحي لهذه التذكارات يقول إنها إقامة الصلوات والقُدَّاسات على روح المتوفى. ولكن، النصوص التشريعية، وتفسيراتها، تقدم نموذجًا افتراضيًّا لمجتمع مثالي، لم يكن له أي وجود على أرض الواقع. ومن ثم، تعد هذه التشريعات تلميحًا خفيًّا بضرورة استمرار هذه الطقوس.

تكرر هذا الأمر مع دخول العرب مصر، فالإسلام ينهى أيضًا عن مظاهر الندب واللطم والإفراط في الحزن؛ إذ روى البخاري عن الرسول «ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية» وإنما أُبيح البكاء دون ضجيج أو مبالغة، ورُوي عن الرسول أنه قال عند قبر ابنه إبراهيم «إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون»، وقد منع الإسلام أن يُقام الحداد على الميت لأكثر من ثلاثة أيام. ولكن لم يمض وقتٌ طويلٌ على المسلمين في مصر حتى تغلبت عليهم العادات المصرية، ومارسوا الطقوس الجنائزية المصرية، أو ربما طقوسهم العربية القديمة! ولم تردع المصريين تعاليم المسيحية أو الإسلام، أو حتى محاولة بعض الحكام الوقوف أمام هذه العادات.

ونذكر على سبيل المثال محاولة مزاحم بن خاقان والى مصر، إذ أصدر أمرًا في سنة 867مـ بألا يُشَق ثوب على ميت، أو يسود وجه، أو يُحلق شعر أو تصيح امرأة. ولكن مظاهر الجنازات المصرية التي تغص بها الحوليات، توضح شيوعها بين المصريين جميعًا. نذكر منها جنازة خمارويه بن أحمد بن طولون، عام 895م، فما إن خرج نعشه حتى «خرجت الجواري ونساء قواده لاستقباله بالصياح وما تصنع النساء في المآتم، وخرج الغلمان وقد حلوا أقبيتهم ومنهم من سود ثيابه وشقها، فكانت في البلد ضجة وصرخة حتى دُفن».

كان الجانب الاقتصادي أيضًا عاملاً مهمًا في استمرار هذه الطقوس والعادات بين القبط في العصر الإسلامي؛ إذ تقلصت إلى حد بعيد مصادر الكنيسة القبطية. وصارت صدقات ونذور القبط تشكِّل موردًا مهمًا للكنيسة. ومن ثَم صار دخل الكهنة يعتمد إلى حد كبير على ما يتقاضونه من القبط جراء إتمام مراسم وطقوس كثيرة. لذا لم تستطع الكنيسة أن تقف في مواجهة الكهنة وهم يرسخون مصادر دخل ويدافعون عنها؛ وهي الأموال التي يحصل عليها الكهنة نظير قيامهم بإتمام طقوس العماد والزواج والصلاة على الموتى.

ومن ثَم، أصبحت الجنازات مصرية خالصة ولكن بمشاركة الكنيسة فيها، إذ أن الصلوات التي تقام على روح الميت لا تصح دون مشاركة الكهنة، بالطبع يحصل الكهنة على مقابل مادي لحضور هذه المناسبات. وعلى الرغم من التصريح للكاهن بأن يتعيش من خدمته، باستثناء إقامته للأسرار المقدسة (أسرار الكنيسة السبعة) التي لا يجب أن يأخذ عنها أجرًا، فإنه في أحيان كثيرة صار الكهنة يتقاضون مقابلاً عن كل خدمة يؤدونها. وعندما أتيح للكنيسة أن تستعيد عافيتها تحت الحكم الفاطمي، وتعيد ترتيب أوراقها (بداية من أواخر القرن العاشر الميلادي) لم تتمكن من الإعلان صراحة عن تحريم هذه المصادر، ولكنها حلَّت المشكلة بإضفاء بعض الشرعية على هذه المصادر التي اكتسبها الكهنة بالتقادم، وصاغت هذا القانون شديد الذكاء الذي يقر الواقع وينكره «يجب أن يتحرز جماعة كهنة البيع وقيمتها (جمع: قيم) من التماس شيء من أحد المؤمنين عن حق مدفن أو معمودية أو إكليل، إلا أن يتبرع ذلك بشيء من نفسه عوضًا عن اكتساب التوبة فإن ذلك غير ممنوع» (من قوانين البابا كيرلس البطريرك السابع والستين 1078 - 1092م). وهذا البطريرك نفسه يصدر أقصى عقوبة كنسية لمنع المظاهر المصاحبة للجنازات «يجب على جماعة النساء المؤمنات أن يتحرزوا إذا طرأت على إحداهن مصيبة، من تسويد وجهها، أو إحضار نوايح وقوالات، فمن يفعل ذلك فهو محروم». والمقصود بالنوايح: الندابات، والقوالات: المُعدِدات. واستخدام البطريرك لأقصى عقوبة كنسية للحد من هذه الظاهرة، يعبر عن مدى رسوخها في نفوس المصريين.

وتشير الشواهد إلى رسوخ ظاهرة الندابات والمُعدِدات، وانتشارها في المجتمع المصري. حتى صارت مهنة رسمية تحصل عنها الدولة الضرائب. على أن تمسك المصريين بهذه العادات لا يتعلق فقط بحزنهم على المتوفين، ولا استهتارهم بتعاليم الأديان، بل يتعلق أيضًا برغبتهم الشديدة في البكاء والصراخ للتنفيس عن آلامهم ومتاعبهم وقهرهم. ويبدو أن محمد على (1805-1848م) فطن لذلك، وأتاح للمصريين اللطم والندب، إذ رفع الضرائب المفروضة على طائفة الندابات في عام 1836م، حتى يجد المصريون من يعينهم على البكاء بأرخص الأسعار. وجاء في هذا الأمر تعريف عملهن «الندابات اللاتي يحترفن البكاء أمام الأموات بوضع عصير البصل في أعينهن».

وكان للخديو إسماعيل منطق آخر، اتخذ إثره قرارًا منع عمل الندابات، إذ ورد في قانون (إجراءات واختصاصات مأموري ضبطيات الأثمان سنة 1880م)، المادة 35، ما نصه «إن بعض أرباب المياتم يستحضرون حريمات تسمى بالندابات، وبوجودهن تجتمع كثير من النساء ويلطمن على وجوههن وصدورهن، وينشدون أقوال توجب زيادة تهييج أهل الميت ... ووجودهن يوجب زيادة تهييج أهل الميت، وربما بهذا يحصل الضرر لم تكون حامل من النساء لذا يلزم منع وجود حريمات ندابات». ويبدو أن القبط كانوا -ولا يزالون!- أكثر رغبة في الندب واللطم، مما اضطر البابا كيرلس الخامس (1874-1927م) إلى أن يُصدر أمرًا يؤكد فيه تحريم الندب واللطم والحزن المفرط على الميت.

أما الشق الثاني المصاحب لهذه المظاهر، وهو إقامة الولائم واستمرار المآتم لفترات طويلة، فلم يزعج أحدًا، بل قد يكون، من طرف خفي، معضدًا من رجال الدين البسطاء؛ إذ أن هذه المناسبات كانت تمثل أهم مورد من موارد دخلهم، في غيبة الرواتب الثابتة، فهي فرصة للكهنة لإقامة الصلوات، والحصول على «المعلوم»، وفرصة للمشايخ لقراءة القرآن والحصول على «النفحات». ومن ثَم تبارى الناس في إقامة المآتم، وبالغوا في الإسراف، بغرض التباهي والتفاخر.

وظلت المآتم في الريف المصري، حتى وقتٍ قريبٍ، تقام مدة تتراوح ما بين ثلاثة أيام أو سبعة أيام، حسب منزلة الميت وسنه، هذا عند المسلمين. أما المسيحيون فكانت مآتمهم بين ثلاثة أيام وأربعين يومًا. وفى مآتم الأثرياء كانت تذبح الذبائح يوميًّا لمدة أربعين يومًا. على أن الآن خفت حدة مظاهر الإسراف هذه، وظهرت صور أخرى للتباهي والتفاخر، أبسطها إعلانات الصحف، التي تطالعنا يوميًّا بصور ضخمة لمتوفين، تستفز غالبية المطحونين من أبناء هذا البلد، وبالطبع قليل منهم من يترحَّم على هؤلاء المميزين في حياتهم وموتهم.

تاريخ حي للموت وطقوسه: وثائق الجنازات والمآتم

في الصفحات التالية سأعرض لعدد من الوثائق المختلفة التي ترصد مظاهر طقوس الجنازات والمآتم، والقائمين عليها، وحجم الإنفاق وفقًا لحالة المتوفى ووضعه الاجتماعي. وترد هذه التفاصيل في ثنايا وثائق ضبط وحصر وتقسيم التركات. وخصم الديون منها، وتقسيم الباقي على الورثة الشرعيين. وكانت مصروفات هذه المآتم تمثل البند الأول في ديون التركة.

والواقع أن تركات المسلمين في العصر العثماني خلت إلى حدٍ كبيرٍ، من إنفاق باذخ على الخرجة والمأتم. وكانت العبارة التقليدية في بند توزيع التركة وتحديد مصاريف الخرجة والجنازة والمأتم، مختصرة ودالةـ منها على سبيل المثال «ما صُرف في تجهيز المتوفى المذكور وتكفينه ومواراته في رمسه وبر وصدقة وقراءة ختمات شريفة في ليالي الجمع وثمن أطعمة وغير ذلك، المبلغ 8850 بارة». النموذج الثاني «ما صُرف في تجهيز المتوفى المذكور وتكفينه ومواراته في رمسه صرفت في ذلك أسوة أمثاله وفي بر وصدقة وقراءة ختمات شريفة وغير ذلك، المبلغ 10 ريالات ونصف».

وفيما يتعلق بالقبط سأذكر فقط مثالين على مصاريف الجنازات والمآتم لاثنين من مشاهير القبط في القرن الثامن عشر، فعلى سبيل المثال بلغت نفقات جنازة ومأتم الوجيه القبطي الشهير نيروز نوار مبلغ ٥٠ ألف بارة «وما هو في كفن وردم الهالك وطُلَع وأربعين وقسس ومصاريف لازمة». في حين بلغت مصروفات ابنه المعلم أسعد نيروز ٤٠ ألف وثلاثمائة وثلاثة وعشرون بارة «المصاريف اللازمة على ذلك في تجهيز وتكفين ودفن وردم الهالك المذكور وفي عمل ثالث وخامس عشر وأربعين وطُلع وتصاديق متفرقة».

القرن التاسع عشر ووثائق تفصيلية

في القرن التاسع عشر لدينا قوائم تفصيلية بالإنفاق من أول تجهيز المتوفى إلى يوم السابع، ثم الأربعين وباقي المواسم السنوية. وبالنسبة للجنازات: في حالة وفاة أحد

الأعيان، قد يدعى البطريرك نفسه لقيادة الصلاة، أو يحضر أسقف الناحية، بالإضافة الى كهنة الناحية، واعتبرت أيضًا مظاهر الخرجة وكم الكهنة الحاضرين، ويا حبذا لو الأسقف أو البطريرك، أحد نواحي التفاخر والتباهي في المجتمع، ويحصل الكهنة المشتركون في الصلاة على المتوفى على مبالغ مالية، تختلف تبعًا لحالة المتوفى، فعندما كان المتوفى أحد الأثرياء، حصل الكهنة المشاركون في الصلاة على مبالغ جيدة، بيانها كالتالي:

195 قرشًا للقس جرجس (وهو كاهن الأسرة).

38 قرشًا للقس يوسف ببابلون (مصر القديمة).

38 قرشًا للقس جرجس بحارة السقايين.

152 قرشًا لعدد 4 كهنة بكنائس مصر.

وفى خرجة أحد الأثرياء بالصعيد (برديس) كان جملة ما حصل عليه الكهنة المشاركون في الصلاة عليه مبلغ سبعة عشر ألف قرش (17000 قرش)، وهم كهنة جرجا وبرديس والبلينا.

بيد المُعدِدة

يبدو أجر الندابة هنا كبيرًا، وربما كانت تصحب معها نسوة أخريات يشاركنها اللطم وإدارة المَنْدَبَة. وبينما يبدو أجر المُعدِدة ضئيلاً مقارنة بالندابة، إلا أنه في نهاية الأربعين يومًا، يرد بند خاص بالمُعدِدة بمبلغ 615 قرش «كمالة مقاولة المُعدِدة». بلغ إجمالي المنصرف في مأتم ميخائيل بشاي حتى يوم الأربعين 13625 قرش ثلاثة عشر ألف وستمائة وخمسة وعشرون قرشًا.

لا يقف الأمر عند هذا الحد بل لا تزال مناسبات أخرى تستنزف جهدًا ومالاً من أسرة المتوفى، وهي ما تُسمى بالمواجب، أو طُلع الأعياد.

والمقصود بالطُلع زيارة المقابر في أيام الأعياد والمناسبات المختلفة، وهي تراث فرعوني قديم أيضًا. واعتاد الكهنة أن يخرجوا مع أهالي الموتى الى المقابر ويبخرون عند قبر كل ميت، فيدفع أهل الميت مقابل ذلك، أما عن أيام الطلع، فكانت تتم في جميع الأعياد السيِّدية (أي الأعياد المتعلقة بالسيد المسيح) كالميلاد والغطاس والقيامة.. إلخ وكذلك الأعياد والمناسبات الأخرى، كعيد النيروز، وعيد الصليب، ونصف الصوم الكبير، وشم النسيم.. إلخ. وبالنسبة للعائلات الثرية، تقيم هذه العائلات ولائم كبيرة في المقابر، تسمى «المواجب»، وخصوصًا في طُلع السنة الأولى بعد الوفاة. تكلفت طلعة عيد النيروز للوجيه المشهور يوسف نصر الله مبلغ ألف قرش، أما ميخائيل بشاي، فبلغت جملة المتصرف على طلعة العيد الكبير وشم النسيم مبلغ ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمسين قرش.

ختام

ما بين الموروث الديني والموروث الثقافي، تتباين الرؤى حول مظاهر الحزن والاحتفاء بالموت والحياة. على أن كتابة تاريخ مجتمع ما، من خلال نصوص مقدسة أو رسمية، توقعنا في أخطاء فاحشة. إذ أن هذه النصوص تقدم نموذجًا مثاليًّا افتراضيًّا لمجتمع ما، وهو نموذج منعزل عن الواقع التاريخي بالكامل. ولعل تاريخ الحزن والندب واللطم عند المصريين عمومًا، والقبط خصوصًا، يقف دليلاً على صحة هذه الفرضية. وربما يمكننا القول إن مواءمات المؤسسات الدينية ورجالها، بغض النظر عن دوافعها، تفصح عن مرونة ومساحة من قبول لما تعتبره مخالفة من وجهة نظرها، واستيعابها، وإعادة تدويرها وإنتاجها. الجانب الآخر هو أن تمسك الناس بعاداتهم وتقاليدهم، والدفاع عنها، يشكِّل حصنًا منيعًا لها، يصمد أمام أي اعتبارات دينية أو رسمية.

وعلى ذلك لا يمكن فهم اختفاء عادات وتقاليد مصرية خالصة، واستبدالها بعادات أخرى تحت شعارات إصلاحية دينية أو غيرها، من خلال البحث عن قوى جديدة فاعلة وافدة، بل أيضًا في تدني الوعي الثقافي بقيمة التاريخ والعادات والتقاليد.

ولعل المثال الأروع لتخليد العديد، هو ما بثَّه بيرم التونسي في عدودة «الأولة في الغرام»، ووضع فيها زكريا أحمد كل لوعته وحزنه على مصابه، ولم تقم أم كلثوم بدور المُعدِدة، بل صرخت بالعدودة وكأن المصاب مصابها، وناحت قائلة:

حطيت على القلب إيدي وأنا باودع وحيدي.. وأقول يا عين اسعفيني وابكي وبالدمع جودي

من يوم ما سافر حبيبي وأنا باداوي جروحي.. أتاري في يوم وداعه ودعت قلبي وروحي..