عدد 18-عن الفقد والافتقاد
نهى مصطفىالقوة الناعمة
2020.11.01
القوة الناعمة
أنا ودينا جميل لم نكن رفقاء عمل سياسي. لم نتشارك الأفكار نفسها، ولم يجمعنا يومًا الهدف نفسه ولا الأيديولوجيا. نحن فقط صديقتان. نتحدث في كل شيء: الموضة، الحب والعلاقات، المسلسلات، أحوالنا وأخبارنا، مشكلاتنا في العمل، أين نريد أن نسافر، ما المطعم الذي نريد أن نجربه معًا.. وكل هذه الاشياء الحياتية البسيطة التي تتحدث فيها كل صديقة مع صديقتها.
كنا صديقتين تنهيان المكالمة بـ«بحبك قوي.. ربنا ما يحرمنيش منك». دينا، من القلائل الذين لا أخاف -وبالتأكيد لست وحدي- أن أعبِّر عن حبي لها. أستطيع أن أقول لها كل شيء، وأي شيء، دون أن يكون لديَّ ذرة من خوف أو قلق من أنها ستحكم عليَّ أو تديننى. فهي ربما أقل البشر إطلاقًا للأحكام على الأخرين، والأكثر تسامحًا وتقبلاً.. أسعد لحظات حياتي مرتبطة بها، وأكثرها حزنًا أيضًا.
أكثر ما يتذكره المرء عنها بعد أن يعرفها، ولو حتى معرفة عابرة، هو ابتسامتها المشرقة، ضحكتها، لطافتها ودفئها. التقينا للمرة الأولى في صحيفة «العالم اليوم» في عام 1993. كنا لا نزال حديثتي التخرج؛ أنا تخرجت في كلية الآداب قسم إنجليزي، ودينا في كلية الإعلام، جامعة القاهرة. تصغرني دينا بسنة، لأنها حصلت على شهادة الـ IGCE فدخلت الجامعة مبكرًا. وكانت كذلك قد سبقتني إلى العمل في «العالم اليوم» بعدة أشهر، في قسم المراسلين، وكنت أنا أعمل في القسم الخارجي.
ونحن نجلس في القسم ذات صباح، دخلت علينا فتاة مبتسمة بشوش ترتدي جاكيت جينز وبنطلون جينز، يبدوان واسعين عليها، وشعرها طويل وناعم حول وجهها الممتلئ، وتضع «روج» أحمر، اللون الذي تحبه وظل يميزها طول حياتها. قالت للزملاء «صباح الخير». قدمونا إلى بعضنا بعضًا، ساعتها لم أتحمس كثيرًا للتعرف إليها. هذه طبيعتي الخرقاء؛ فأنا لا أتحمس أبدًا لمعرفة البشر، وربما لا أفضلهم.
وعلى عكس اللقاء الأول الذي كان فاترًا، عندما تحدثنا ثانية بعدها بأسبوع أو اثنين، حدثت معجزة صغيرة. لقد بدأنا في الحديث عن الناس والكتب والسينما والألوان المفضلة، وغيرها من المواضيع، ووجدنا أننا نتشارك الكثير من الآراء والتفضيلات. شعرنا بالحماسة والتقارب والمحبة، ولم نتوقف عن الحديث من بعدها قط.
أصبحنا نخرج كثيرًا، ونذهب إلى أماكن كثيرة معًا، ونتزاور في المنزل. كانت هي من سكان مصر الجديدة في شارع ابن سندر، وأنا من سكان المعادي. ذهبت إلى منزلها وتعرفت إلى عائلتها، وخصوصًا والدتها، التي كان لها تأثير عظيم على كل من يراها ويتعرف عليها، تمامًا مثل ابنتها.
كلما كنا نكبر كنت أرى دينا تتحول في الشكل إلى والدتها. فقد كانتا طاقة من الحب والإيجابية والمرح والابتسامة الدائمة، والقوة الناعمة.
وبالتأكيد تعرفتْ هي أيضًا إلى عائلتي. وبدأنا علاقة ممتدة ومتداخلة مررنا فيها بالكثير. كانت «دينا» موجودة في كل مناسباتي المهمة؛ خطوبتي، وزواجي، وميلاد ابني الأكبر، الذي يتوافق مع يوم ميلادها (17 نوفمبر) والكثير مما مررنا به بعد ذلك. أنا أيضًا كنتُ موجودة في الكثير من المناسبات المهمة في حياتها، كانت دائمًا تؤكد على وجودي. كانت دائمًا تدعوني لأكون موجودة في حياتها، وفي كل مناسباتها والخروجات والسفريات، كانت تعرفني إلى كل أصدقائها وكل من يدخل حياتها وتهتم به. كانت تحرص دائمًا على أن تضمني وتشملني في علاقاتها. كل أصحابها الذي دخلوا حياتها بعد ذلك يعرفونني «كصاحبة دينا». كما لو إننا «باكيدج» لا بد أن تعرفنا معًا. فخورة بأنني صديقتك كل هذه السنين، وأننا على الرغم من اختلافنا الكبير في كل شيء تقريبًا، استطعنا أن نظل معًا.
بالطبع استمرت صداقتنا بعد أن تركنا «العالم اليوم». واتجهنا في مسارات مختلفة في مستقبلنا المهني، وعلى مر السنين دائمًا أنا فخورة بها ودائمًا هي تدعمني وتساندني.
كنا دائمًا نضحك كثيرًا. دائمًا لدينا الكثير من النكات التي جمعناها على مر السنين، خصوصًا عندما نتذكر شبابنا الأول وكيف كنا نتسم بمنتهى السذاجة. فنضحك على براءتنا وأفكارنا الطفولية ورغباتنا القوية الحارقة، وحبنا الأول البريء الملتهب، الذي لم نكن نتخيل أننا سنعيش بعده لو لم يكتمل، وكل ما كنا نريده ونفعله ونحن لا نزال في أوائل العشرينيات. كانت تضحكها كثيرًا حكاياتي مع أولادي، ومغامراتي ومشكلاتي كأم. وتشعرني دائمًا بأن «دمي خفيف» من كثرة ضحكها على ما أقصه عليها. لدينا دائمًا خطط للقاء، والكثير من الكلام الذي لم يقل، والضحك الذي يجمعنا في كل لقاء.
نتذكر معًا كل اللحظات الأولى التي تشاركناها. كم السذاجة والبراءة التي كنا نتمتع به. ثم خيبات الأمل، أو لنكن إيجابيين ونقول لحظات «الاستنارة» التي مررنا بها بعد ذلك، وأنضجتنا بالألم والدموع التي كنا نذرفها معًا. ثم أصبحت تضحكنا أخيرًا بعد خبرة السنين، ونحن في أواخر الأربعينيات.
كانت دينا هي المرآة التي اطمئن فيها على حالي، أرى فيها كيف تحولنا من البراءة إلى الخبرة دون أن نتلوث بالمرارة، ربما تألمنا لكننا لم نترك الحياة تحولنا إلى شخصيات معدومة الإحساس بل أصبحنا، وربما هي أكثر مني، نلتمس العذر للجميع، وننأى بأنفسنا عن الخوض في ذمهم أو السخرية منهم.
كنا نعزز معًا شعورنا بأننا جميلات وقويات، ولا شيء يمكن أن يوقفنا. نُذكِّر بعضنا البعض بما مررنا به، وبما تجاوزناه عندما كنا نشعر في بعض اللحظات بالإحباط. لذلك لم أتخيل يومًا أنني سأجلس لأكتب مثل هذه الكلمات.
كيف يمكن أن يحدث لنا هذا. كيف يمكن بعد كل هذه السنوات الطويلة، أكثر من 27 سنة، ترحل دينا وتتركني. بالتأكيد لا أستوعب أو أصدق أن الكلمات التي تأتي قبل اسمك، أو تلحق به، قد تكون «البقاء لله» أو «ربنا يرحمها» أو «كانت إنسانة جميلة».
ما هذا الهزار السخيف؛ ذهبت معك في المشوار الأخير.. وعدتُ وحدي!