مراجعات
حسام الخوليالقوة في الماضي لينين وإرهاصات الثورة الروسية غير المنتهية
2018.12.01
القوة في الماضي لينين وإرهاصات الثورة الروسية غير المنتهية
عرض كتاب "مآزق لينين (الإرهاب والحرب والإمبراطورية والحب والثورة)".
المؤلف: طارق علي / ترجمة: أمير زكي.
الناشر: الكتب خان 2018.
على مدى عدة قرون وحتى القرن الثامن عشر كان العديد من مؤرخي العالم يرون أن التاريخ يصنعه أفراد بوعيهم. لكن ذلك المنظور واجه تحديات قوية منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن من قِبل المؤرخين الماركسيين الذين يرون أن تحليل الظروف الاجتماعية والاقتصادية فقط هو ما يستطيع الأفرادُ تقديمه أو العجز عن فعله، في إطار الحتمية التاريخية الحاكمة للجميع. وفي خضم الحديث عن الثورة الروسية (أكتوبر 1917)، التي غيَّرت العالم -والتي لم تتوقف عقول وأقلام آلاف المفكرين والكتَّاب سواء الماركسيين أو غيرهم من الكتابة حول إرهاصاتها التي حققت مواجهة نموذجية بين الشعب والرأسمالية- ما زال البعض يرى أنها لم تكن لتتم دون شخص لينين “المنظِّر الوحيد المكافئ لماركس في تحرير البروليتاريا”* وحزبه الذي خطط له قبل خمسة وعشرين عامًا من الثورة وأسَّسه فعليًّا قبلها بأربعة عشر عامًا. يجعل هذا لينين وتدًا للثورة، ربما كانت ستسقط وتنكسر دونه، عكس زميليه كرومويل وروبسبيير في فرنسا وإنجلترا مثلًا اللذين “اعتنقا الثورة فقط عندما واجها واقعها على الأرض”. يدفعنا ذلك الأمر إلى طرح تساؤل مركب لا يمكن إجابته إلا في سياق إعادة تفكيك الأحداث: لماذا لينين بالتحديد؟ وإلى أي مدى كان نزعه من المعادلة يمكنه تغيير مجريات الأمور جذريًّا؟ وربما كان السؤال الأكثر بداهة من سابقيه هو: هل لا يزال هناك ما يمكن معرفته والقراءه عنه ناهيك عن تعلّمه من ثورة “السلام والخبز والأرض”؟
نقطة انطلاق الكتاب
على مدار خمسة أقسام يقدّم البريطاني الباكستاني اليساري طارق علي، تصوُّره الشامل حول الثورة ولينين في مركزها. يكتب إهداءه المبدئي “إلى هؤلاء الذين يجيئون من بعدنا: وحده الماضي هو الذي يمكن أن يفتح أبواب المستقبل”، ما يحيلنا منذ البداية إلى كلمات وصية لينين الأخيرة التي تحمل المعنى ذاته “إذا هُزم المرء سياسيًّا بسبب مزيج من أخطائه وظروفه الشخصية، فعليه أن يفهم لِمَ حدثت الهزيمة ثم يبدأ العمل من جديد”. نقطة الانطلاق تلك أوضحت منطق المؤلف وهدفه الأساسي بأهمية وفاعلية التذكر/الذاكرة التي تكوِّن تصوراتنا، بالإسقاط على تاريخ الثورة التي شكَّلت القرن الذي يليها نوعًا ما، بالتالي يجب تذكرها وهضمها ثم التعلم والتعامل من خلالها مع الوضع السياسي الراهن ربما في المنطقة العربية أكثر من أي مكان آخر. لأنه في الوقت الحالي استعادة الذاكرة التاريخية والسياسية بقدر الإمكان صار «فعل مقاومة»، خصوصًا عندما «أصبحت الموجة الأكاديمية هي ترك الحديث عن الماضي».
روسيا التي ولد فيها لينين
في النصف الأخير من القرن التاسع عشر 1870 وُلِد فلاديمير إيليتش لينين لوالدين محافظين من عائلة أوليانوف، أي إنه ولد في فترة محاولات اغتيال ألكسندر الثاني الذي كان قد اشترك في مؤامرة أدت لانقلاب في القصر واغتيال أبيه بافل الأول. المحاولة الأولى الفاشلة كانت في 1866 على يد شخص يدعى كاراكازوف الذي برَّر ذلك بأن ألكسندر وعد الفلاحين بالحرية وخدعهم. سعى بعدها ألكسندر لإزالة بعض البنى الكريهة في الحكم: حرَّر الأقنان (كان الأقنان مسئولين عن زراعة الأرض المملوكة جماعيًّا، يتعرضون لنفس المظالم التي يتعرض لها العبيد: اغتصاب النساء والأطفال وتعذيب الرجال. روسيا التي كانت تبلغ 49 مليون نسمة كان بها 36 مليون قن)، وأمر بنزع المشانق من الميادين العامة، وسمح باستيراد الكتب الأجنبية، وأنهى احتكار الدولة لدور النشر والمطابع. لكن محاولات اغتيال ألكسندر لم تتوقف لاستمرار الفروق الطبقية الكبيرة ذاتها؛ اُغتيل «القيصر الطيِّب» في 1881. وقتها كان الأطفال الثلاثة الأكبر في العائلة: آنا (15 عامًا)، وألكسندر أو «ساشا» (13 عامًا)، وفلاديمير (11 عامًا) على وعي بسيط بما يجري، إذ كان بإمكان الطفل الذي «لم يكن يتسلى بلعبه بل يحطمها» القراءة والكتابة في عُمر خمس سنوات. عالم متخم بالإرهاب واعتقاد سائد بين كافة الرؤساء أنه «عندما لا يكون هناك حزب أو شخص هُزم وقُطعت رأسه فالرجعية تنتصر لا الإصلاح»، ووقتٍ تحاول فيه الطبقات الفقيرة التحرر من سطوة كل تلك الديكتاتوريات. ربما لو جاز التعبير يمكن القول إنها بالفعل «كانت أحسن الأزمان، كانت أسوأ الأزمان، كان عصر الحكمة، وكان عصر الحماقة، كان عهد الإيمان، وكان عهد الجحود، كان ربيع الأمل، وكان شتاء القنوط، كان أمامنا كل شيء، ولم يكن أمامنا شيء».
مع نضوج آنا وساشا تقدَّم الأخير إلى الجامعة لدراسة العلوم الطبيعية في العاصمة التي ذهبت إليها الأخت بالفعل قبل عام، إلى جانب صداقتهما الشديدة وبعدهما عن والديهما صارا ملحدين معًا. وقتها ازداد المناخ قمعًا وركدت الحياة الفكرية، كان «كل شيء عبارة عن بلادة وحمق، روتين وإحباط، ولا يمكن تحقيق شيء مفيد وسط هذا العفن». شاركت مجموعات النخبة المتعلمة غير المتصلة بالبلاط الملكي «الأنتلجنسيا»، التي يقع في قلبها الأَخَوان، في التظاهرات المعارضة. ومع الوقت توصَّل ساشا وأصدقاؤه المعارضون إلى أن «القنبلة والمسدس يمكنهما تحقيق ما لم تستطع فعله المظاهرات». خططوا لقتل القيصر الجديد مثل أبيه لكن العملية فشلت. قُبض على ساشا ولم تنفع توسلات الأم؛ شُنق في التاسعة عشرة من عمره.
بداية راديكالية لينين السياسية
شعر لينين الذي كان يُشار إليه بعد ذلك بالشقيق الأصغر لساشا، بصدمة عميقة لقتل أخيه. نُبذت العائلة وأوقف معاش الدولة لهم ثم أُعيد بتوسلات. ذهبت الأسرة إلى «قازان»، ودرس لينين القانون هناك. تغير الشاب وتحول إلى الراديكالية السياسية بسبب الحدث وما تلاه، بالرغم من أنه لم يذكره على مدار الـ 55 مجلدًا التي كتبها، إذ «كان يخفي إحساسًا يبلغ من العمق درجة لا يمكن التصريح بها، ومن الألم ما لا يمكن تذكره». الحادث جعل لينين يختمر على مهلٍ.
بسبب المراقبة التي كانت على العائلة، كانت مشاركة لينين في إحدى التظاهرات، دافعًا للقبض عليه سريعًا. سأله الشرطي: «لمَ تتسبب في المشكلات أيها الشاب؟ أنت [بذلك] تخبط رأسك في الحائط». أجاب: «الحائط فاسد، ضربة قوية واحدة وسوف يسقط». نتيجة لذلك أُبعد مع العائلة من قازان أيضًا. في هذا الوقت اكتسحت الديكتاتورية أكثر، كان وقت قراءة الكتب، وقد فهم لينين ذلك والتهمها؛ فهم جيدًا قيمة بلورة الأفكار في عقله وأحلامه قبل واقعه. لاحقًا سيقتبس من كلمات ألكسندر بيساريف الذي كان يعشقه أخواه ليعبِّر عن تصوُّره الذي سيلازمه دائمًا: «هناك العديد والعديد من الفجوات بين الحلم والواقع... الفجوة بين الأحلام والواقع لن تؤدي إلى الأذى إذا آمن الشخص الحالم بالفعل بحلمه، إذا كان يلاحظ الحياة بانتباه، ويقارن ملاحظاته بالقلاع التي تُبنى في الهواء، وإذا تحدثنا بشكل عام، أن يعمل بوعي على تحقيق أخيلته، إذا كان هناك نوع من الاتصال بين أحلامه والحياة فهذا أمر طيب، للأسف هذا النوع من الأحلام لا يوجد منه الكثير في حركتنا».
صديقه المفكر البروليتاري يوليوس مارتوف الذي سعى معه لتأسيس الحزب، كان قد ملّ من أحاديث المقاهي، قرر وقتها الانتقال مؤقتًا إلى اختبار نظرياته على العمال اليهود في المدينة. وبعدما حفَّزته نتائج التجربة، عاد ومعه كتيب كتبه مع الناشط أركادي كريمر «عن التحريض»، اقترح خلاله طريقة لتجاوز ثنائية المثقفين/العمال. فهم لينين منه أن الممارسة عنصر أساسي في الوعي الثوري وبدأ بتنفيذ ذلك.
ما العمل؟
في 1897 نُفي مارتوف ولينين إلى سيبريا وبعدها بعام نظما الاجتماع الأول لحزب العمال الاشتراكي، بالاعتماد على قوة البروليتاريا ومحاولة تطبيق النظريات واقعيًّا. وفي 1900 أصدر لينين جريدة «إسكرا» الاشتراكية التي أوقعته في خلاف مع «أبو الماركسية الروسية»، جورجي بلياخانوف، الذي سيمثل وجوده فيما بعد عائقًا أمام أفكار لينين كلها. إلى جانب أفكار مارتوف العملية ونظريات ماركس المؤسسة، لم يجد المؤلف عملًا ترك تأثيرًا كبيرًا على لينين بقدر رواية «ما العمل؟» للكاتب نيكولاي تشرنوفسكي، وليس من قبيل الصدفة عنونة مقالته التي حملت أفكاره الأولى بالاسم ذاته في 1902. تلك الرواية التي «تزودك بطاقة تكفيك طوال حياتك»، وتكمن أهميتها في التأكيد على أولوية السياسة وضرورة الحزب الثوري الذي يصدر مجموعة قوية من المنشورات إلى جانب التخطيط الحريص للعلاقة بين النظرية والممارسة، وكانت بمنزلة «إنجيل الجيل الجديد في روسيا».
أسس لينين سلطته بقدراته النظرية ومهاراته في تفكيك وهدم الحجج الخاطئة. في عام 1894 فسر العمليات التي تجري في روسيا وأصر بقوة على تطورها الرأسمالي، لم يجادل بأن الرأسمالية الروسية أنهت عملها إلى درجة أن كل المتبقي هو الثورة الاشتراكية. كانت الفكرة الأساسية في حجته كما شرحها لأحد زملائه، هو أن «تفسخ المنتجين الصغار (الفلاحين والحرفيين) يبدو أنه سيكون الحقيقة الأساسية والمبدئية التي تشرح رأسماليتنا الحضرية واسعة النطاق، بدد الأسطورة التي تقول إن اقتصاد الفلاحين يمثل بنية بشكل ما».
تغيرت أفكار لينين عن الأسئلة العملية للاستراتيچية والتكتيك، ووافق على فكرة الإضراب الاقتصادي والسياسي الجماهيري، وعارض بقوة الفكرة التي ترى أن الإضراب وحده سيحول الأمور إلى ثورة اجتماعية وسياسية. مرة أخرى صنع سعيه للتجربة وفنَّد التنظير.
سعى الشاب -الذي ولد بعد عام من كومونة باريس [الثورة الفرنسية الرابعة] التي فقدت فيها فرنسا مائة ألف من ضمنهم أفضل العمال في كل المهن- لخلق «أممية» خاصة بالطبقة العاملة الجديدة أشمل وأقوى رغم فشل تطبيقها سابقًا. كان يسعى لوجود أممية شيوعية تقود العالم. سيساعده الظرف التاريخي في روسيا آنذاك بالحرب العالمية الأولى كـ«هدية» على تمسكه بالثورة رغم موت حوالي مليون روسي، إذ اختارت معظم الأحزاب الاشتراكية الحرب مع حكوماتها بينما أدان ذلك.
تصورات وآراء لينين تنتصر
انتهت انتفاضة فبراير 1917 -التي قوبلت كالعادة بالعنف- بامتلاك الثوار للعاصمة وانصراف الجنود ثم رحيل القيصر. تعلم الثوار وقتها من انتفاضة 1905 السابقة عندما رفضوا التحرك أكثر رغم نصيحة لينين، فعقدت السوڤييتات. مرة أخرى ثبتت صحة تصوراته التي عرضها قبل شهر من الانتفاضة وهو في منفاه بزيوريخ قائلًا «إن المعارك الطاحنة وحدها والحروب الأهلية وحدها هي القادرة على تحرير الإنسانية من نير رأس المال... السلام لن يتحقق إلا بمناديب سوڤييت العمال المسلحين». كان جديرًا بتفنيد المعضلات والتناقضات التي طرحتها الانتفاضة.
ترك حزب المناشفة، ذو الأقلية بين السوڤييتات، الدولة للحكومة الانتقالية في الوقت الذي كان لينين يرى أن عليهم إسقاط الوزراء الرأسماليين العشرة وانتقال السلطة كاملة للسوڤيتات وصاغ ذلك في «أطروحات إبريل» التي مثلت قطيعة مع الأرثوذوكسيات ومع تصورات ماركس ذاتها التي تقول إنه على الثورة أن تكون برجوازية ديمقراطية. كان رأيه هو ضرورة القطيعة مع البرجوازيين والسيطرة على السلطات وإنهاء الحرب ثم دعوة الجنود الألمان أنفسهم لعمل ثورة على برجوازيي دولتهم. في الحرب الأهلية اعتمد لينين على مجموعات الفلاحين القليلة، إذ كان تأييدهم لقرارات ملكية الأراضي هو العامل الأهم في تطبيقها. استوعب لينين أن العدو هو الرأسمالية ذاتها ووقف وحيدًا يواجه الجميع.
لم يساوم لينين عندما فهم قيمة الجرأة في قرار التقدم وإحراز انتصارات أكثر: «الجرأة ثم الجرأة ثم الجرأة». في أول خطاباته للفلاحين علم أنه لا بد من التأكيد على انتصار الثورة لطرد الخوف والتراجع وتنفيذ وعودها بـ«نقل ملكية الأراضي الفوري للفلاحين» الذين لولاهم لما نجحت، «من الآن فصاعدًا سيصبح كل العالم لكم [العمُال] ملكية عامة». في 1921 انتصر البلاشفة في الحرب الأهلية بعد موت ثلاثين مليون شخص من ضمنهم نخبة الطبقة العاملة، وقتها أدركوا أن الدولة التي أرادوها أصبحت «مستحيلة» لكن الأمر لم يتوقف.
في أكتوبر 1917 حصل البلاشفة على الأغلبية في سوڤيتي موسكو وبتروجراد وكانوا أكبر تيار سياسي. بالسيطرة على الحكم كان لينين شديد الإيمان بأن «مجموع أحداث الحرب وثورة أكتوبر، ستؤدي إلى صاعقة ثورية في أنحاء أوربا». وكانت تلك رؤية ثاقبة. بين عامي 1918و1920 ضربت موجة من الانتفاضات السياسية والعمالية أوروبا. كان وقت «عدم استقرار عام للجيوش والأساطيل في عدد من البلدان، وشعور متنامٍ لدى الحكام بأنهم لن يستطيعوا أن يحكموا بنفس الأساليب». في النهاية لم ينجح أيٌّ منها لكن ذلك خارج سيطرة الجميع. إجمالًا كانت «هناك حقيقة تقول إنه بدون المقاومة الروسية والقدرات التي كشفتها لاستولى الرايخ الثالث على أوربا».
الرفيق تروتسكي وزير الخارجية (العقل المدبر الذي اعترف ستالين أن «الحزب مدين له بالجهد العملي والتحرك السريع خلال الانتفاضة» ثم نفاه بعد موت لينين) كان يرى أن الحل في حالة اللاسلم واللاحرب مع ألمانيا وبقية الدول، بينما رأت الأحزاب أن الثورة هي الحل الواقعي. بعيدًا عن الجميع مجددًا كان لينين الوحيد الذي يرى أنه لا بديل سوى القبول بالصلح معهم لإيقاف المذابح وراحة الجيش. تم الصلح بالفعل، آنذاك ناشد تروتسكي العمال داخل الدول التي لم تأتِ وتوقع على السلام ونبذ الحرب، قائلًا «على العمال أن ينتزعوا مسألة الحرب والسلام من أيادي البرجوازية القذرة». وكان لمناشدته أثر كبير على أوربا.
مسألة النساء والجنسانية
كانت الاشتراكية هي التيار السياسي الأول داخل روسيا الذي استوعب فكرة قهر النساء وناقشها بجدية داخل الحركة. فـ«انحطاط النظام الاجتماعي يحدث نتيجة تناقص حرية النساء». تم تناقل كتابات ماركس وأنجلز بين الروسيين، حيث اعتبر الأخير الزواج «عُهرًا شرعيًّا» وانتقد الكنيسة وآمن بالحب الحر. إلى جانبه أدان أوجوست بيبل سوء محاكمة العاهرات في الوقت الذي اعتبر فيه المثلية «انحرافًا» وتجاهلها تمامًا أنجلز في كتاباته. الاثنان لم يؤمنا بأحادية الزواج وإلى جانبهم كثيرون. ثلاث سنوات فقط بعد الثورة أُتيحت فيها المثلية الجنسية ثم أُدينت مرة أخرى، وربما كان سبب رفضها أشياء تخص الثورة ليس إلا. على ما يبدو فهم لم يدينوا فعلًا جنسيًّا أخلاقيًّا أو مجتمعيًّا ما لم يتعارض مع دينهم ومركزية تفكيرهم: نجاح الثورة.
نلاحظ مثلًا أن لينين ممن كانوا يؤمنون بأحادية الزواج، فقط لأن «العيش المخلص هو اختيار هام للنظام الثوري وتعبير عن المساواة الحقيقية... فيمكن ملاحظة أن نجاح أي ثورة يُقاس بقدر مشاركة النساء فيها». انتقد الأسرة البرجوازية واستنكر «فساد وتعفن وقذارة زواجهم» لأنه «يقيد المرأة بالمطبخ ورعاية الأطفال، يسحقها بالعمل المنزلي التافه فتضيع قدرتها في أداء شيء غير مثمر». كان الحل في المغاسل والمطابخ والحضانات الجماعية والمباني السكنية الصغيرة.
بشكلٍ عام فيما يخص قضايا النوع سعى الجميع لتحصل المرأة على التعليم والاهتمام الشامل. قبل ذلك «لم تكن تقتصر عادات الزواج في بعض المناطق على إحضار العروس لسريرها فقط، فكانت تحضر معها سوطًا أيضًا لعريسها». بعد الزواج كنَّ معتادات على الولادة في الحقول ثم «يقطعن الحبل السري بأسنانهن».
انتزعت النساء دورهن المحوري في الثورة. سُجنت فيرا فيجنر عشرين عامًا لمشاركتها في اغتيال ألكسندر الثاني، في الوقت الذي أُعدمت فيه صديقتها صوفيا بيروفسكايا للسبب ذاته. تنظيم إرادة الشعب الذي هدف إلى اغتيال القيصر أساسًا كان ثلثاه من النساء. كنَّ السبب في انتفاضة فبراير بإضرابهن في مصانع النسيج. أُلغي الزواج الديني وأصبح مدنيًّا، ومُنح الطلاق عند طلب أيٍّ من الشريكين. حصل كل الأبناء على الحقوق بغض النظر عن زواج الأبوين من عدمه، وفككت القيود الأسرية، ولم يُسمح بالتبني المستقل، ثم حظر الإجهاض. و«كانت النساء المسلمات في روسيا ضمن الأفضل تعليمًا في العالم الإسلامي كله» آنذاك.
بالنسبة إلى لينين الذي «عاش مدمنًا لثلاثة أشياء خطيرة في شبابه: اللاتينية والشطرنج والموسيقى الكلاسيكية» كان الحب مُحرك علاقاته الشخصية بالنساء والأصدقاء. وافقت ناديا كروباسكايا على خطبته ورافقته إلى منفاه. كان زواجهما صوريًّا حتى هددت السلطات بإنهاء تواجدها معه إذا لم يحدث زواج حقيقي فأجبرا على الزواج. بعد سنوات وفي عام 1909 قابل لينين النسوية البلشفية إينيسا أرماند التي مات زوجها، كانت تعرف كتابات لينين جيدًا، صارا حبيبين بينما حافظت كروبسكايا كذلك على صداقتها بزوجها وحبيبته. الجلطة الأولى للينين حدثت بموت أرماند، الوحيدة التي حزن عليها مثل حزنه على ساشا. بالرغم من عبادته للثورة التي كانت تشكل مشاعره وتحركاته تجاه الأشياء لم يستطع منع نفسه من تأثير علاقاته الشخصية على حياته.
كان برتراند راسل يقول «لم أقابل لينين سوى مرة واحدة لمدة ساعة... كان الرجل مجبرًا على الدكتاتورية لأنه أقدر رجل سياسة في حركته الشعبية... كنت مقتنعًا أنه يمكنه التنحي عن موقعه في أي لحظة إذا ساهم ذلك في تقدم الشيوعية». أيضًا في أحد المرات سأل أرماند من الأهم بالنسبة إليها هو أم الحزب/الثورة؟ قالت: أنتما معًا. اعتبرها لذلك «فشلت في الاختبار».
الصديقان مارتوف ولينين كانا يحظيان بصداقة نموذجية حولتها خلافات العمل الثوري وأدت إلى اقتناع كل منهما أن هناك مشاكل في الشخصية والأسلوب المتسلط لدى الآخر. في أواخر أيامهما كان مارتوف يحتضر ببطء بالتزامن مع إصابة لينين بجلطته الأولى، وقتها «كان يتمتم لزوجته: يقولون إن مارتوف يحتضر أيضًا». مات مارتوف ولم يخبر أحد لينين خوفًا عليه، عندما علم بالأمر وبالرغم من تحذيرات الأطباء طلب أن يُجر كرسيه إلى الكرملين لقراءة المراثي عليه. أحد أصدقائه القدامى ذكر بعد ذلك «أن لينين كان يصر على زيارة مارتوف، كان وقتها مشلولًا غير قادر على الكلام، فكان يشير إلى كتب مارتوف ليصحبها إلى مؤلفها فتخبره زوجته مجددًا أنه توفي». توفي لينين بعد ثمانية شهور من وفاة صديق شبابه الذي قاطعه بسبب الثورة. رغم كل هذا الحب الذي كنَّه لأصدقائه وزوجته كانت الثورة دينه الأبدي على حساب حياته الشخصية. قبل أن يموت لينين طالب بعزل ستالين تمامًا عن الحزب، وتلك كانت آخر رؤاه الثاقبة التي لم تُنفذ.
ثورة بلا لينين؟
رغم كل ذلك وعلى عكس العديد من السير التي كُتبت عن لينين يلاحظ تعمد المؤلف في أكثر من موضع خلال الكتاب ألا يضعه في منطقة أسطورية متخيلة عن شخص لم يخطئ قط؛ ذلك التأليه الذي كان يُغضب لينين نفسه. فقد سعى لسرد أخطائه غير القليلة ومراجعاته الدائمة باعتبارها نقاط قوة تُضاف له لا عليه. كان الأكثر تجربة واعترافًا بالخطأ بين معاصريه، أخلص للثورة واعتبرها محور حياته، «طور أفكار ماركس وسيَّسها». قبيل وفاته كتب: «من أجل أن نحدّد جهاز دولتنا علينا أولًا وقبل كل شيء أن نتعلم وثانيًا أن نتعلم وثالثًا أن نتعلم ثم علينا أن نحرص على ألا يظل التعلم مجرد نظرية».
على ما يبدو لا يزال هناك ما يمكن تعلمه من الثورة الروسية التي يقع لينين في محورها، وحتى إذا كانت الظرفية التاريخية لتؤدي إلى ما حدث آنذاك داخل روسيا وخارجها فإن نزع لينين من المعادلة كان سيتبعه تغيرات جذرية أثناء محاولات تطبيق تنظيرات المفكرين داخل غرفهم.