الأقباط والعمل الأهلي
إسحاق عزيزالكنيسة بين الإصلاح والمحافظة - الجزء الأول
2024.10.19
البابا والمجلس الملي
ترتبط التطلعات بإدراك الفرد لواقعه، وتصوراته بشأن الفرص المتاحة له والتحديات التي يفرضها عليه هذا الواقع، فضلًا عن أن آفاق المستقبل تتأثر بالوسط الذي يحيط بالفرد فيما سًميّ "نافذة التطلعات المستقبلية"، وهو ما دفع عديدًا من الدراسات إلى التركيز في دراسة تطلعات الأقليات، انطلاقًا من فكرة أن خصوصية حالتهم التي تتسم بالتعقيد والتشابك تفرض عليهم رؤى مختلفة بشأن المستقبل، مقارنة بأقرانهم في المجتمع، وتدفعهم إلى مسارات معينة وتحدد لهم خيارات بعينها ترتبط بمرجعياتهم.
ولا يختلف الأمر بالنسبة إلى المجتمع القبطي الذي تبيَّن أن مستقبله محكوم بإرث الماضي وأبعاد الواقع الذي يعيش فيه، وهو الواقع المرتبط ليس فقط بخيارات الفرد، ولكن بمجموعة من العوامل المؤثرة التي تأتي في القلب منها أولويات المؤسسة الكنسية وأدوارها تجاه الأقباط واستئثارها ببعض أبعاد السلطة عليه.
موقع الكنيسة داخل المكوِّن القبطي
رغم أن المجتمع القبطي في النهاية لا يشكل كتلة واحدة، فإن من ينظر بعمق إليه يمكنه رؤية خيط رفيع يربطه بعضه ببعض، يظهر ذلك في روايات متكررة بين كثير من الأقباط حول همومهم وآمالهم، ووحدة فكر متجذرة في الأصول القبطية. فثمة عوامل كونت في مجملها الضمير الجمعي القبطي، وثمة أسباب أسست للهيكل الحالي للمجتمع القبطي الذي تقع المؤسسة الكنسية في القلب منه، وأضافت إلى أدوارها أدوارًا جديدة يومًا بعد آخر حتى تحولت إلى مظلة اجتماعية وسلطة سياسية، بعد أن كانت مقرًّا للعبادة فقط[1].
ويتجسد موقع "الكنيسة الأرثوذكسية" بالنسبة إلى الأقباط بوضوح في وصف إليزابيث أورام فيما يلي: "أثناء القيام بالعمل الميداني في مصر تلقيت عديدًا من الدعوات من أسر مسيحية، وكان الشيء المشترك بينهم جميعًا واللافت للنظر أنهم عند وصفهم مكان إقامتهم، يقومون بالإشارة في البداية إلى المنطقة السكنية (مثل: شبرا، أو المعادي)، وبعدها مباشرة يبدؤون في وصف مكان إقامتهم وعلاقته بموقع الكنيسة التي توجد بالحي، حتى إن كان الشارع أو المكان الذي يعيشون فيه مشهورًا أو أسهل وصفًا من دون الإشارة إلى الكنيسة، وكانوا يبذلون جهودًا كبيرة لوصف موقع الكنيسة في الحي، ومن ثم مكان الإقامة من هذا الموقع، فإذا لم أكن أعرف هذه الكنيسة، فإنهم يظلون يذكرون أسماء الكنائس الأخرى المجاورة والقريبة في الحي بحثًا عن نقطة انطلاق لخريطتهم الوصفية"[2].
توضح ملاحظات إليزابيث دور الكنيسة المحلية ومركزيتها في حياة الأقباط اليومية، فهي نقطة الانطلاق، والبوصلة التي على أساسها يحدد القبطي ليس فقط موقعه الجغرافي بل هويته وموقعه الاجتماعي ورؤيته لنفسه وللمحيط من حوله وهي أيضًا نافذته للتطلع إلى المستقبل.
غير أن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن في هذا السياق هو كيف تشكلت هذه الأدوار للكنيسة؟ وهل ظل موقع الكنيسة بهذا الشكل على مدار العقود والسنوات الماضية؟ أم أن الكنيسة القبطية التي نعرفها الآن هي نتاج لتفاعلات حدثت في مراحل تاريخية مختلفة أدت إلى هيكلة المجتمع القبطي وفي القلب منه الكنيسة؟ خصوصًا أن موقف الكنيسة كان محل جدال طويل أثناء الأحداث التي مرت بها مصر منذ 2011، وهو ما يعني أن المجتمع القبطي في علاقته بالكنيسة يتأثر بالتحولات السياسية والاجتماعية التي تحدث في مصر.
ويلاحظ أن الشعور بالهوية لدى الأقليات يكون قويًّا، خصوصًا إذا ما تمايزت عن المجتمع الأوسع الذي تعيش فيه، وقد تلجأ مجتمعات الأقليات إلى الانغلاق على نفسها، ومحاولة عزل نفسها عن المجتمع الأكبر، ففي الستينيات من القرن الماضي ظهر في ألمانيا مفهوم "المجتمعات الموازية"، الذي ارتبط ظهوره بجماعات المهاجرين، خصوصًا مجتمعات الأتراك في ألمانيا، الذين عزلوا أنفسهم طواعية أو بصورة "قسرية ضمنية" عن المجتمع الأكبر الذي لم يتقبلهم بالقدر الكافي، ولم يسمح لهم بالاندماج والذوبان في تفاصيله، وقرروا الانفصال والانعزال عن المجتمع مقابل خلق مساحة خاصة بهم يستطيعون فيها ممارسة حياتهم اليومية بتفصيلاتها الثقافية الخاصة واتسعت تلك المساحة وأصبحت بالنسبة إليهم "مجتمعًا بديلًا" أو منعزلًا إن جاز التعبير.
وتطبيقًا على السياق القبطي، فإن الكنيسة لم تكن في وضعها الحالي، بل إن إعادة صنع الهوية القبطية وإحداث التحول في "مفهوم" الكنيسة ودورها ومكانتها، كان نتيجة مباشرة لمجموعة التغيرات والتعديلات التي قام بها "البابا شنودة الثالث"، استكمالًا لما بدأه حبيب جرجس في ثلاثينيات القرن الماضي في إطار ما عرف بـ"النهضة القبطية" (Coptic Renaissance)[3]، كما تأثرت جهود الإصلاح بالتغيرات السياسية والاجتماعية للمراحل المختلفة على مدار العقود الماضية التي كانت سببًا في ظهور حركة الإصلاح في البداية، ثم شكلت تحديًا أمام جهود الإصلاح في فترة أخرى، وكانت عاملًا محفزًا ومسرِّعًا للنهضة القبطية في مرحلة أخرى ودفعت بالأقباط نحو العودة إلى الكنيسة.
الكنيسة ونشأة المجلس الملي
كان النفوذ المسيحي قبل ثورة 1952 وأثناء العصر الملكي، يتركز في يد بعض الأفراد الذين كان لهم تأثير في المجتمع القبطي يفوق الكنيسة وكانوا المتحدثين باسم الأقباط أمام الدولة، وهم المسيحيون من طبقة الإقطاع الذين استطاعوا الاستفادة من عمليات التحديث خلال تلك الفترة، كما كان منهم كبار المسؤولين البيروقراطيين الذين مثَّلوا العمود الفقري للجهاز الإداري المصري خصوصًا في مجال المالية والضرائب، وقد تأثرت هذه النخبة القبطية بالتعليم الأوروبي، والأفكار والثقافة الغربية بصورة كبيرة، ودفعوا في اتجاه الإصلاح وتوسيع دور العلمانيين في إدارة شؤون المسألة القبطية في مواجهة الكنيسة التي لم تكن راضية تمامًا عن تقويض دورها وهو ما كان مصدرًا للصراع بين المجلس الملي منذ نشأته في عام 1872م، والنخب المسيحية المؤثرة التي حاولت أن تمارس دورها في المجتمع القبطي من خلاله مستعينة في ذلك بقربها من دوائر السلطة لدعم موقفها، وبين الكنيسة التي لم ترضخ لهذا التيار العلماني الإصلاحي الجارف خاصة أن أحد جوانب الصراع بينهما كان يدور حول من هو الطرف الأحق بتمثيل الأقباط أمام الدولة[4]. ومن ثم كان نشأة المجلس الملي والصراع بينه وبين الكنيسة يشكل أحد التحولات المفصلية التي مر بها المجتمع القبطي، والتي شكلت واقعه الحالي وأسست العلاقة بين أعضائه ومنحت الشرعية لأدوار الكنيسة وأعادت بناء الهوية القبطية واتجاهات الأقباط نحو المجتمع ونحو الدولة.
ﻓبعد وفاة البابا ديمتريوس الثاني عام 1870، تولى وكيل البطريركية الأنبا مرقص مطران البحيرة والقائم بأعمال إدارة شؤون الأقباط وذلك إلى حين تنصيب بطريرك جديد وكان من الطبيعي أن يقوم الأراخنة بمساعدته في انتخاب البطريرك التالي وإدارة الطائفة، فقد قضى التقليد بأن تتفق الآراء في هذا الوقت، ولكن الأنبا مرقص مطران البحيرة وجد أن بعضًا من زملائه المطارنة في البداية لا يرحبون برئاسته كما أن اختيار وانتخاب بطريرك جديد قد طال وزاد على مدة الأربع سنين، وتلفت الأنبا مرقص حوله فوجد جمعية اسمها الجمعية الإصلاحية، وكانت تضم عددًا كبيرًا من الأقباط المثقفين الذين تربوا في عهد البابا كيرلس الرابع مؤسس الإصلاح والمتعلمين تعليمًا عاليًا ولهم شعبية في الوسط القبطي وكان هدفهم تقديم الخدمات كافة. وكان من رأي أعضاء الجمعية الإصلاحية أن هذا لا يكون إلا بتشكيل مجلس منتخب يضم العناصر الصالحة من أبناء الطائفة ليقوم بالتخطيط على مراحل للنهوض بالأقباط من خلال الدور الذي تلعبه الكنيسة في الحياة العامة، ولم يجد الأنبا مرقص مطران البحيرة إلا أن يقرب حوله أعضاء الجمعية الإصلاحية المخلصين للكنيسة، وكان يستشيرهم بشكل عرفي، وفي نفس الوقت وجد هؤلاء الأعضاء فرصة في تحقيق هدفهم بالتقارب مع رئاسة الكنيسة الدينية لتحقيق هدفهم القومي بإصلاح أحوال الأقباط، ولما طال الوقت الذي خلا فيه الكرسي المرقصي ووصل إلى أكثر من أربعة سنوات، بدأت تظهر خلال هذه المدة الطويلة أعمال المجلس الذي كان عرفيًّا على مستوى عالٍ للشعب القبطي، وتحول خلال هذه المدة الطويلة من مجلس عرفي إلى مجلس رسمي[5].
وفي يناير 1874م اجتمع عدد كبير من الأقباط المنتمين إلى الجمعية الإصلاحية في منزل أحدهم، وتناقشوا في أحوال الطائفة، وأسفر الاجتماع بعد مناقشات طويلة عن إصدار توصية بإنشاء مجلس ملي للأقباط أو حتى جمعية عمومية لهم، ويقول قليني فهمي في مذكراته: "وأن تخضع لمن يكون من أبنائها متقلدًا منصبًا حكوميًّا رفيعًا"[6].
وصدر الأمر العالي للخديوي إسماعيل بلائحة المجلس الملي للمرة الأولى في يناير 1874م، وكان بطرس باشا غالي في ذلك الوقت هو أبرز أبناء طائفته، إذ كان وكيلًا لإحدى الوزارات، كما كان على صلة طيبة باـلخديوي إسماعيل ورجال حاشيته، والذي حدث أن بطرس غالي باشا تبنى فكرة المجلس الملي، واستصدر بالفعل أمرًا عاليًا من الخديوي إسماعيل بتشكيل أول مجلس ملي للأقباط، وكان ذلك في فبراير 1874م وأنيط بالمجلس الجديد أن يحدد اختصاصاته، وأن يضع لنفسه لائحة داخلية. واختير بطرس غالي باشا وكيلًا للمجلس، حيث كانت الرئاسة للبطريرك، وأصدر الخديوي أمره باعتماد تشكيله. وبدأ المجلس يباشر مهامه في فبراير 1874م[7].
ويمكن إرجاع هذا التطور إلى تأثر الطبقة العليا في المجتمع القبطي وانبهارها بالتيار الغربي "الليبرالي"، ومن هنا كانت لديهم رغبة في إعادة تنظيم الكنائس على غرار نموذج الكنيسة الأمريكية التي تم إنشاؤها في صعيد مصر عام 1870م، ولاقت استحسانًا من النخبة المسيحية آنذاك، وكان يتم إشراك عامة الناس في اتخاذ القرارات الإدارية في الكنيسة بصورة ديمقراطية، وهو ما أسفر عن إنشاء المجلس الملي في الكنيسة الأرثوذكسية لتوسيع قاعدة اتخاذ القرار وعدم اقتصارها على رجال الدين[8].
وترجع أسباب انحياز الأقباط إلى الإصلاح الكنسي إلى الرغبة في إنشاء هيئة نيابية، لأن عددًا غير قليل من المصريين كان في ذلك العهد قد بدأ يذهب إلى فرنسا وإنجلترا لتلقي العلم، فراقهم مبدأ تشارك الشعب مع حكومته عن طريق هيئاته النيابية، وهؤلاء المصريون كانوا بالطبع أقباطًا ومسلمين، لذلك نجد الخديوي -تحت ضغط الشعب- افتتح مجلس شورى النواب. فأراد القبط أن يكون لهم هم أيضًا نيابة كنسية ورأوا أن تحقيق إرادتهم يكون عن طريق إنشاء "المجلس الملي"، أما رجال الإكليروس فهم بعيدون عن الممارسة والاختلاط بجميع فئات الحكومة، كما أن الإكليروس لهم المجمع المقدس، ومن ثم نجد أن رياح التغيير انتقلت من الوطن إلى الكنيسة العتيدة[9].
موقف البابا كيرلس من المجلس الملي
عندما جلس البابا كيرلس الخامس على الكرسي المرقسي، كان المجلس الملي في الصفوف الأولى لانتخابه، وقدم المجلس منشورًا إلى البابا الجديد باختصاصات المجلس، وناقشهم فيه ووافق عليه، وحضر البابا اجتماعات المجلس أكثر من مرة. وظل البطريرك والمجلس الملي يعملان بيد واحدة واتفاق تام في إصلاح الكنيسة والشؤون الملية إلى درجة أن من بين ثمارها إنشاء المدرسة الإكليريكية في القاهرة، ثم تصادف عقب هذا الوفاق بين شعب الأقباط والبطريرك حصول نفور بين الطرفين ألجأ البطريرك إلى عدم الصبر وتضايق من وجود سلطة أخرى تعمل بجانبه لم يخضع لها أحد من أسلافه، فلما رأى البابا نفسه غير مقتنع بنتائج وتعاليم المجلس أصدر أمره بغلق المدرسة الإكليريكية وكان من وراء ذلك إهمال الكهنة والقسوس ورسامتهم بدون تعليم لاهوتي أو دراسة تؤهلهم لحفظ مراكزهم الكهنوتية وتعظيم شأنهم في نظر الشعب. كما بدأ أعضاء المجلس الملي بالتدخل في مناقشة خطة الميزانية البطريركية وفي شؤون الأوقاف الكنيسية ما أغضب كيرلس الخامس فقاطع جلسات المجلس لمدة سبع سنوات. تعطل خلالها المجلس، وكان لذلك آثار وخيمة في قضايا الأقباط، مثل: الزواج والطلاق والميراث والأحوال الشخصية. وانحلَّ المجلس مدة سبع سنوات[10].
البابا ولائحة تشكيل المجلس الملي سنة 1883م
أنشأ عبد الله النديم في عام 1879م الجمعية الخيرية الإسلامية لرعاية فقراء المسلمين وإنشاء المدارس ونشر التعليم بينهم، ودعا الأقباط إلى إنشاء جمعية مشابهة، فقام بطرس غالي، وكان في درجة وزير في ذلك الوقت، بتشكيل "الجمعية الخيرية القبطية"، وكان من ضمن أهداف الجمعية فكرة بعث المجلس الملى في الإشراف على أوقاف الكنيسة وإدارة أموالها، لذلك سعى بطرس غالي لدى الدولة إلى إعادة تشكيل المجلس الملي مرة أخرى. وخوفًا من التأثير الكنسي في المجلس فتقوم الكنيسة بتجميده، فإن المؤمنين بالتطوير استصدروا قانونًا يحدد العلاقة بين البطريرك والمجلس الملي، حتى لا يحدث تداخل في الاختصاصات، بحيث تكون اللائحة مجرد قرار صادر بنفسه، ولكنها تصبح قانونًا له قوة النفاذ. وتطبيقًا لهذه الأفكار صدر قانون يحدد العلاقة بين الكنيسة والمجلس العمومي للأقباط الأرثوذكس وهو الاسم الرسمي للمجلس الملي، وصدر أمر عالٍ بتشكيل: "مجلس عمومي لجميع الأقباط بالقطر المصري"، وأُعيد انتخاب بطرس غالي وكيلًا له في 14 مايو 1883م[11].
كان هذا القانون هو محور المشاكل التي حدثت فيما بعد، وهو الذي فجر الخلاف بين المجلس الملي من ناحية والبابا من ناحية أخرى، لأن اللائحة نصَّت على أن "يقوم بكافة المواد المعتاد نظرها بالبطريكخانة" (م1). وأن يختص بحصر أوقاف الكنائس والأديرة والمدارس وجميع حججها ومستنداتها وتنظيم حسابات الإيراد والمنصرف وحفظ الأرصدة (م9) وأن يكون من واجبه إدارة المدارس والمطبعة ومساعدة الفقراء، وحصر الكنائس وقساوستها والأديرة ورهبانها والأمتعة والسجلات الموجودة بهذه الجهات (م10، 14) وذلك فضلًا عن اعتباره -أي المجلس الملي- محكمة للأحوال الشخصية للأقباط تنظر منازعات الزواج والطلاق وغيرها (م 16). وكانت هذه المادة هي بداية الصراع حول قضايا الأحوال الشخصية بين الإكليروس والعلمانيين في الكنيسة. ونصت اللائحة كذلك على أن يكون تشكيل المجلس من 12 عضوًا يكونون المجلس، و12 نائبًا يضافون إلى الأعضاء لتكوين الجمعية العمومية له، وينتخب الأعضاء والنواب 150 ناخبًا، ويكون البطريرك هو رئيس الاجتماع الانتخابي، كما تكون له رئاسة المجلس الملي ذاته على أن يُنتخب وكيل للمجلس من أعضائه يقوم مقام الرئيس عند غيابه، ومدة العضوية والنيابة في المجلس 5 سنوات تجدد بعدها الانتخابات. وقد رأى البابا أن هذه اللائحة تعني إبعاده ورجال الكهنوت عن إدارة الكنيسة، لذلك أعلن رفضه للائحة، كما رفض المطارنة المجلس وأصدروا بيانًا يؤكدون فيه أن المجلس مخالف للأوامر الإلهية والنصوص الرسولية[12].
وعندما ننظر في اللائحة السابقة نجد أنها تجعل من هذا المجلس برلمانًا خاصًّا للأقباط في مصر يبحث في شؤونهم ويدير ثروتهم ويراعي مشاريعهم، مثل: مدارسهم ومستشفياتهم وجمعياتهم الخيرية، ويعمل على إصلاح أحوالها. وقد يكون من البداية من رجال الدين ثم بعد ذلك يصبح برلمانًا علمانيًّا أي مكونًا من رجال ليسوا من رجال الإكليروس، لأن المجلس مخصَّص للإدارة وليس للنواحي الروحية التي تخص الكنيسة فقط، هذا من ناحية، أما من الناحية العملية فهؤلاء المنتخبون من أعضاء المجلس الملي من العلمانيين وهم من الشعب القبطي العادي، الذي مهما كان متدينًا فإنه لا يفهم المسيحية كما يجب، أو هكذا ينظر إليه رجال الدين[13]. ويرجع سبب هذه الصحوة العامة للأقباط إلى أنه قد نما جيل من الشبان الذين تعلم أغلبهم في مدارس الأمريكان أو الكاثوليك (اليسوعيين والفرير) وصاحوا مطالبين بإعادة انتخاب المجلس الملي.
وقد لاحظ أعضاء المجلس إهمال البابا إياهم وعدم دعوتهم إلى الانعقاد كما لا حظوا أيضًا أن نصائحهم لا يُلتفت إليها. وما زاد من غضبهم على البابا هو ما نصت عليه المادة التاسعة من لائحة المجلس الملي المختصة بحصر جميع الأوقاف الخيرية الموقوفة على الكنائس والأديرة والمدارس والإشراف على من يُقبل فيها من الرهبان. وعند اطلاع المجلس الملى الميداني على واقع الأوقاف المملوكة للأديرة وحالتها البائسة قدم أعضاؤه انتقادات لسلوك رؤساء الأديرة، والطريقة التي يتصرفون بها في دخل هذه الأوقاف الضخمة الموقوفة عليها وأن هذه الأوقاف لا تستغل أحسن استغلال، والبحث في موضوع الأوقاف القبطية أدى فيما بعد إلى مشاكل بين الكنيسة من ناحية والمجلس الملى من ناحية أخرى، وقد ظلت هذه الأوقاف سرًّا لا يعرفه أحد إلا رؤساء الأديرة حتى اكتشفها جرجس بك حنين صدفة عندما كان مديرًا لمصلحة الأموال المقررة والتي كان يدخل في اختصاصها آنذاك تسجيل الملكية الزراعية والعقارية، ولمَّا كان مسؤولًا كبيرًا في الوزارة استغل وجوده وبحث واستخرج سجلًّا شمل أملاك جميع الأوقاف القبطية وتفصيلاتها. وقد اكتشفوا عددًا كبيرًا من العقارات المبنية في القاهرة وضواحيها، وأراضي واسعة خصبة في جميع مديريات الوجهين البحري والقبلي وكان أغلبها في محافظة أسيوط وظلت قيمتها مجهولة، ولكن بعد أن بحثها جرجس بك حنين قدر قيمتها في سنة 1906 بمليون ونصف مليون من الجنيهات، وكانت هذه الأملاك الواسعة كلها تحت تصرف رؤساء الأديرة الذين لم يكن يزيد عددهم على أصابع اليد الواحدة. وعندما حدث نقاش في هذه المواضيع الخطيرة التي تمس الشعب القبطي ككل، فإن البطريرك دافع عن الأديرة وأنهى البابا كيرلس الخامس هذا الخلاف بتجميد المجلس الملي مرة أخرى سنة 1891م[14].
ونستكمل الحديث عن الصراع بين المجلس الملي والبابا في مقالة أخرى بإذن الله.
1- هالة الحفناوي، المجتمع القبطي: همومه وتطلعاته، العربي للنشر والتوزيع، القاهرة، 2023، ص ص 63-64.
2- Elizabeth E. Oram, Constructing Modern Copts The Production of Coptic Christian Identity in Contemporary Egypt, Ph. D Dissertation, Princeton University, USA, June, 2004, p.142
3- Karen A. Cerulo, Identity Construction new issues, new directions, annual review of sociology, issue 23, 1997, p. 142.
4- Mariz Tadros, Copts at Crossroads : The Challenges of Building Inclusive Democracy in Contemporary Egypt, (Cairo American University in Cairo Press, 1st edition 2013), pp. 62-63.
5- إيريس حبيب المصري : قصة الكنيسة القبطية، جـ 5 مكتبة كنيسة مار جرجس إسبورتنج بالإسكندرية 1998م ص 25.
6- قليني فهمي باشا: على هامش التاريخ المصري الحديث، مطبعة حليم، ب. ت، ص 45.
7- نجلاء محمد عبدالجواد: المجلس الملي: اختصاصاته وأعماله (1874-1952)، مجلة كلية الآداب، جامعة بنها، ع 13، ج 2، 2005، ص 2، ﻓايق ولسون سامي تاوضروس: تاريخ القضاء الملي الأرثوذكسي 1874-1955، مـﺠلة التاريخ والمستقبل، المجلد 35، العدد 70، يوليو 2021، ص 77.
8- موقع الكنيسة الإنجيلية بقصر الدوبارة موجود على الرابط التالي https//goo.gl/U4FPZU، هالة الحفناوي: المجتمع القبطي، ص 69.
9- سليمان شفيق: الأقباط ألفي عام بين المشاركة والعزلة، مؤسسة مجاز الثقافية، القاهرة، 2021، ص 103.
10- إيريس حبيب المصري، مرجع سابق، ص 26.
11- نجلاء عبدالجواد: مرجع سابق، ص ص 3-4.
12- سليمان شقيق: قصة الصراع بين العلمانيين والإكليروس على لائحتي المجلس الملي، مجلة وطني، 21 مارس، 2012
https://www.wataninet.com/2012/03/
13- صلاح عيسى: حكايات من دفتر الوطن، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998، ص 192.