نظر

خالد يوسف

الكوميكس: فقاعات الدخان التي تنزف تاريخًا

2019.03.01

الكوميكس: فقاعات الدخان التي تنزف تاريخًا

بين كتب روجيه جارودي عن المادية الجدلية، ومجموعة أخرى لخالد محمد خالد، ها هو ذا كتاب دوق فليد يقبع ونسبة محترمة من الغبار على غلافه الملون، المكون من طبقة إضافية من الورق المقوى، تضيف ألوانه الفاقعة حيوية غير متوقعة في مواجهة اللون الرمادي السائد لعناصر «السحَّارة» الأخرى تحت سرير الوالد، والتي يبدو أنه لم يفتحها منذ وقت ليس بالقصير. ها هو الدوق فليد بخوذته البيضاء والزرقاء اللامعة تحتل الجزء الأكبر من الغلاف، وكأنه يستعد للقفز من السحارة برفقة ماكينته الضخمة «جرندايزر»، للتعبير عن رأيه في تلك الفترة الدقيقة من تاريخ العالم. كل السحر المتعلق بسلسلة «ما وراء الطبيعة» التي اجتاحت العالم العربي خلال فترة الثمانينيات كان مشحونًا بنظرات دوق فليد في ذلك العدد، كل التحدي إزاء ما يعتقده البعض محتوى أدبيًّا تافهًا للصغار، أو للمراهقين الذين فشلوا في تخطي مرحلة الطفولة.

محاولة قراءة رحلة دوق فليد (أو دايسكي طبقًا لاسمه الأرضي) بعد نحو ٣٠ عامًا من تركه لم يصاحبها شعور بالندم على إضاعة أوقات لا يمكن فيها متابعة إنتاج السلسلة (فضلاً عن جمعها ومطاردتها من بائع صحف إلى آخر في قاهرة الثمانينيات التي لا تكترث لرغبات زبائنها معظم الوقت). ولكن محاولة القراءة أعطت سببًا إضافيًّا لفهم مدى تعلق بعضنا بتلك السلسلة، ومدى التأثير البالغ الذي أحدثته لدى عقول صغيرة، تم التعامل معها بخفة من قبل المحيطين، فيما ظل دايسكي على سبيل المثال مفتاحًا باقيًا للتعرف على أفكار مثل العدل، والتعرض للظلم، والانتقام والغيرة والحب من طرف واحد، والحاجة الماسة للآخرين من أجل تنفيذ مهمتك الرئيسية، والارتباط الشديد برفيق الرحلة (حتى لو كان من الحديد الصلب كالسيد جرندايزر)، كلها أعطت تفسيرًا لحالة الملاحقة التي يتعرض لها كاتب هذه السطور من طبيب بشري في نهاية الأربعينيات من عمره، متوسلًا بشكل يومي سعيًّا للحصول على المجلد الكامل لميكي في الفترة بين عامي ١٩٧٧ و ١٩٨٣. والتوسل هنا وصف مخفف للمحاولات المتواصلة من جانب الطبيب، والتي تضمنت قدرًا لا بأس به من الابتزاز العاطفي، واستخدام ذكريات الوالد وسيلة للإقناع.

إلا أن القراءة التي كانت أكثر إثارة للاهتمام بشأن مغامرات دوق فليد، غير الطابع الأسطوري الميتافيزيقي لشخصية اليتيم المنبوذ من قومه، أنه في النهاية خلال معظم حلقات السلسلة مجرد لاجئ أجبرته الحرب التي شملت العديد من الكواكب، على الهجرة محطمًا، قبل أن يجد ملاذًا أخيرًا آمنًا في كوكب الأرض، وتحديدًا في مركز أبحاث الدكتور آمون (ربما هي واحدة من الحالات النادرة التي تكون فيها الأرض (فرش وغطا) بالتعبير العامي الشائع، بدلًا من أن تكون منتجعًا لكل مظاهر الديستوبيا والدمار النووي المصحوب بالأوبئة والطاعون). 

دوق فليد بين الوطن والهجرة

دوق فليد لاجئ بالمعنى الكلاسيكي، مهووس بفكرة العودة إلى الوطن المحطم مرة أخرى، مطالب بتبني اسم دايسكي لمسايرة الثقافة الأرضية الجديدة، في أزمة هوية متواصلة، يدعهما المناخ الريفي الذي يحيط بمركز الأبحاث، والذي يذكر دوق فليد باستمرار بالأجواء العائلية التي تم حرقها في وطنه، قصص الارتباط المحكوم عليها بالفشل بفتاة أرضية، حالة (الود - الغيرة) المتواصلة؛ كوجي «صاحب الأرض»، ذي القدرات المتواضعة على مستوى القتال والعتاد، إلى جانب استخدام الأعداء من كوكب فيجا لكل كارت ابتزاز وخداع يمكن اللعب به لابتزاز دوق فليد وتحطيم معنوياته، وإجباره على ترك فكرة الانتقام وقبول الأمر الواقع كلاجيء مدى الحياة. 

ربما تبدو تلك القراءة السياسية لجرندايزر ضربًا من الجنون بالنسبة للكثيرين من الكتاب والمثقفين الذين كانوا يعتقدون حتى منتصف التسعينيات أن مجال القصص المصورة سيكون فقط مرتعًا لمجموعة من الأبطال الخارقين أصحاب العضلات والأسلحة الفتاكة فقط، جسد دون عقل أو ربما روح، إلا أن المفارقة الحقيقية تكمن في أن فن الكوميكس أو القصص المصورة كان في حقيقة الأمر تاريخًا سياسيًّا في جزء كبير منه، ليس على مستوى القراءات لقصص أبطاله أو مغامراتهم، بل في العوالم الداخلية لصناعة ذلك الفن، الذي يعتبره البعض آخر قلاع الأدب بشكله الكلاسيكي في العالم الغربي. 

إمبراطورية تحت الرقابة

كتاب «لماذا الكوميكس؟» للباحثة الأمريكية هيلاري شوتي والصادر مؤخرًا يقدم بضع قراءات مهمة، للعوالم الخاصة للكوميكس، وتحديدًا في فصلين مهمين بعنوان «القصص المصورة والكوارث» و»القصص المصورة والحرب»، إلى جانب فصول لا تقل أهمية عن علاقة الكوميكس بالهوية الجنسية وبالأبطال الخارقين والنسوية وعالم الضواحي والمدن. في تنويعات مختلفة على واحدة من التيمات المهمة بكتاب شوتي، وهو أن القصص المصورة ليست فقط نمطًا أدبيًّا، ولكنها وسيط مستقل بذاته، يحمل وعيًا جماليًّا وسياسيًّا خاصًا به، ولكنه لا يتمتع بالحالة النخبوية التي قد تصاحب أشكالًا فنية أخرى، خصوصًا وسط عائدات سنوية تلامس المليار ونصف المليار دولار، ونحو الـ١٠٠ مليون دولار أسبوعيًّا من المبيعات داخل الولايات المتحدة فقط. ويتجاوز أيضًا عالم «الأبطال الخارقون» التي تنتجها إمبراطورية مارفيل أو «المانجا» اليابانية التقليدية، التي ينتمي لها تقنيًّا وتجاريًّا دوق فليد وتابعه جرندايزر. 

تشير شوتي إلى أن عالم الكوميكس قد يساعد في فهم حالة الرفض أو النبذ التي عرفتها الأشكال الفنية السابقة في قرون ماضية، بين حالة الرفض المجتمعي خلال حقبة الأربعينيات والخمسينيات، إذ أن القصص المصورة هي واحدة من الأسلحة التي يتم تدمير الشباب الأمريكي من خلالها، (حتى لو كان هذا السلاح المدمر هو واحد من أبكر المناهضين للنازية عام ١٩٤٠ قبل دخول أمريكا الحرب بعام كامل، وذلك بصفعة هتلر في واحدة من أكثر الصور الأيقونية في تاريخ الكوميكس الأمريكي). إلا أن ذلك الوسيط الجديد عرف عملية قص متدرجة للأجنحة في خمسينيات أمريكا جوزيف ماكارثي، بتأسيس الهيئة الرقابية المسماة بـ «كود الكوميكس»، والمعنية بعملية التصنيف والتنقيح لمحتوى الكوميكس قبل وقوعه في يد الصغار والمراهقين الأمريكيين. وعلى الرغم من صرامة هذه المؤسسة، إلا أن تداخل الكوميكس كصناعة مع السياسة الأمريكية كان سببًا في بزوغ نجم ما يسمى بالعصر الفضي من القصص المصورة، وتحديدًا في أواخر الستينيات ومطلع السبعينيات، وسط الزخم الذي كانت تعيشه البلاد بداية من فيتنام، للحركات النسوية، والثقافة المضادة الرافضة لأخلاقيات جيل الحرب العالمية الثانية. وربما كانت هي البداية للعصر الذهبي الأول للكوميكس البديلة أو «الأندرجراوند» المرتبطة بالصحافة اليسارية النشطة في مطلع السبعينيات، بكسرها لكل القوالب المتعارف عليها في مواضيع وتيمات القصص المصورة، وفي مقدمتها سلسلة «برينكي براون يلتقي بالسيدة العذراء» عام ١٩٧٢، وهي سلسلة قصص فائقة الجرأة عن وضع الكوميكس وسيطًا مهمًا للسيرة الذاتية، الحافلة بالاعترافات المهمة للرسام جيسي جرين مؤلف السلسلة، عن فترة المعاناة التي عرفها خلال نشأته الدينية المحافظة، في انتقاد صريح للمؤسسة الكاثوليكية الأمريكية وتناقضاتها الخاصة. 

الكنز السردي للكوارث 

تضع شوتي تلك العلاقة الوطيدة بين الكارثة وبين الكوميكس في مقدمة فصول كتابها، خصوصًا فيما يتعلق بالكوارث؛ بشكلها الطبيعي التقليدي أو كزومبي قابع في لا وعي الأمم، وهذه الأساليب المختلفة للتعبير عن الحالة الكارثية الجمعية، والتي تصل إلى التعامل مع رسالتين مزدوجتين، كما كان الحال مع سلسلة «مدينة الأراجوزات» عام ٢٠٠٣ للكاتب البيروفي دانيال آلاركون، متحدثًا عن حالة اختفاء الصحفيين وتعذيبهم في بلاده، وفي الوقت نفسه مستخدمًا مربعات موازية تشكل جملة «في ليما، الموت رياضة محلية».

إلا أن شوتي تفرد مساحة كبيرة لسلسة ماوس الكلاسيكية لمؤلفها أرت شبيجليمان، الذي يسخر كامل وقته منذ تفكيره في إطلاق السلسلة عام ١٩٧٨حتى عام ١٩٩٠ لذلك المشروع عن عملية توثيق كل التأثيرات التي شكلتها تجربة الهولوكوست في الأراضي البولندية على والديه اللذين نجيا من المحرقة، فيما سقط العم صريعًا بسببها في نهاية الأمر. وكما قال شبيجلمان فإنه «تربى حرفيًّا في الخندق الذي صنعته عائلته لحماية نفسها في أعقاب كارثة الهولكوست. ليصبح «ماوس» المعتمد على رمزية الحيوانات في ثنائية «فئران الجيتو في مواجهة قطط الجستابو» أحد أهم الأعمال المرجعية عن تلك التجربة اليهودية، خصوصًا فيما يتعلق بأزمتها المتواصلة مع فكرة الذاكرة، خصوصًا وأن شبيجلمان اضطر إلى قضاء سنوات كاملة لتسجيل حوارات مع والده بخصوص ذكرياته الخاصة عن تلك الفترة العصيبة من القرن العشرين، والتعامل في الوقت نفسه مع الذكريات التي تسببت في قرار الأم بالانتحار في نهاية الستينيات، مع فشلها التام في وضع تلك الأحداث خلف ظهرها. 

فكرة الذاكرة حاضرة مع الغالبية العظمى من أعمال الكوميكس ذات الطابع السياسي أو المتعلق بتيمة الكوارث، خصوصًا بشأن المساحة الضبابية بين الحقائق وبين التجربة الذاتية، وكأنها إعادة إنتاج لما يعتقد بأنه أول رسام قصص مصورة في العصر الحديث، متمثلًا في الفنان الإسباني فرانثيسكو جويا، وتوثيقه للمقاومة الإسبانية للاحتلال الفرنسي مطلع القرن التاسع عشر، في مزيج بين الفن التشكيلي، والصحافة المصورة، وحالة الرعب الذاتية التي توثقها عادة روايات الكوميكس، كما هو الحال في العديد من صفحات ماوس، إذ يقوم الأب بالتجول مع الابن في غابات ولاية نيويورك مدخنًا سيجارة، وفي الوقت الذي يتناثر فيه دخان السيجارة في جانب الصفحة، ينطلق الدخان في المربع التالي من أفران الغاز في أحد معسكرات الاعتقال. إن الغابات التي تبدو خلابة في مربع ما، هي نفسها التي تتحول إلى منصات للمشانق التي أقيمت للمعتقلين اليهود، والتي لا تغادر مخيلة الأب. إنها التجربة الفريدة نفسها التي حكى من خلاها الرسام والمؤلف الياباني كيجي ناكازاوا عن تجربته كطفل في الخامسة من عمره من سكان هيروشيما في أثناء سقوط القنبلة النووية، وذلك في سلسلة «لقد رأيت كل شيء» في محاكاة للعنوان الذي استخدمه جويا لسلسلة لوحاته لتوثيق الحروب التي عاصرها. 

كلاسيكات الصحافة البطيئة 

يمكن ملاحظة هذا التشابه المثير بين الكوميكس وبين لوحات جويا في تفسيرهما لمنطق الحروب، أو في ما سماه الصحفي الأمريكي من أصول مالطية جو ساكو بمدرسة «الصحافة البطيئة»، وتحديدًا مجموعة كتبه من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبشكل خاص في عملي «فلسطين» و«هوامش في غزة»، التي توثق للانتفاضة الفلسطينية الأولى في مطلع التسعينيات، ثم للفظائع التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في الجانب الفلسطيني من رفح على هامش العدوان الثلاثي في ١٩٥٦ (من المثير أن الحركة النقدية المصرية أو حتى صحافتها لم تكترث مطلقًا بالنظر إلى أعمال ساكو طيلة العقود الثلاثة الماضية، تمامًا مثل حالة التجاهل التي لازمت صدور الرواية المصورة التي تحكي السنوات الأخيرة لتيودور هيرتزل العام الماضي)، إذ لا يمكن تجاهل تأثر ساكو بجماليات جويا في ما يتعلق بوحشية وقسوة الظروف التي يعيشها الفلسطينيون، وفي الوقت نفسه وصف الحياة اليومية العبثية من خلال التأثر المماثل للرسام الهولندي بيتر بروجيل، وكأن حالة البؤس التي لازمت الريف الأوروبي في القرن السادس عشر لا تختلف كثيرًا عن الواقع الفلسطيني اليومي في نهاية القرن العشرين. 

كان المثقف الفلسطيني إدوارد سعيد يتحدث عن ذاك الأسلوب السردي الفريد الذي يتمتع به عالم الكوميكس، واصفًا إياه بواحد من أكثر الأساليب التفاعلية في عالم الأدب، وكأنها عملية «فك شفرة» للوقائع والحقائق، لا استقبالًا بديلًا لمعلوماتها، ولعل الأسلوب الذي اتبعه ساكو لسرد شهادات الأحياء من مذبحة رفح الفلسطينية على يد الإسرائليين عام ١٩٥٦ خير دليل على حالة «فك الشفرة»، من خلال وضع بطاقات لصور الشهود على خلفية عملية الضرب والقتل لجنود إسرائليين لا يمكن تمييز وجوههم، وهو ما تعمده ساكو، كوصف لفشله في فهم وجهة النظر أو التبرير الإسرائيلي لارتكاب مثل هذه المذبحة. مرة أخرى إنها حالة الوعي السياسي والجمالي التي يمكن أن تصنعها صفحة واحدة من الكوميكس. والتي أشار ساكو إلى أنه وجدها مثالية في الحالة الفلسطينية، خصوصًا في ظل الثقافة الفلسطينية السابقة تجاه شخصية حنظلة لناجي العلي، والتي يعتبرها الفلسطينيون روايتهم المصورة الخاصة. 

يؤكد ساكو طويلًا مدى تأثره الأدبي أيضًا بالكاتب والمراسل والطبيب الفرنسي لوي فيرديناند سيلين، وتحديدًا في روايته «رحلة حتى نهاية الليل»، والتي لا تدخر قدرًا من السوداوية في وصف واقع ما بعد الحرب العالمية الأولى، في حالة عدمية، يمكن ملاحظتها دون صعوبة في سلسلة ساكو عن مذابح التطهير العرقي التي أقامها الصرب للبوسنيين في مدينة جورازدي من خلال كتاب «منطقة آمنة في جورازدي» عام ٢٠٠٠، إذ لا يتوانى ساكو في وضع القاريء من خلال أسلوب الصحافة البطيئة داخل حقول إطلاق النار العشوائي، والتي يتم فيها إطلاق النار على البوسنيين كالذباب، مع أمل شحيح في النجاة. وفي صفحة أخرى تنزف بالعدمية، يتعرف فيها الناجون على أهاليهم ومعارفهم من خلال جثثهم المشوهة. إنه ذلك المزيج الذي يلازم كل المبدعين في ذلك الوسيط المثير، هل أنا صحفي أم كاتب أم رسام؟ إنه السؤال نفسه الذي لازم أسماءً مثل ساكو، ورياض سطوف، وجي ديلول ودانيال ألاركون.

نظرة أقرب إلى محتويات سحَّارة الوالد، يصبح التفكير في الاحتمالات التي كانت ستجعل من الثمانينيات عصرًا ذهبيًّا لانطلاق الروايات المصورة المصرية (دون نسيان المجهودات الخارقة التي يقوم بها الجيل الحالي من الرسامين والكتاب المصريين خلال العقد والنصف الماضي)، ولكنه من الصعب تخيل القفزات التي كان من الممكن أن تشهدها الروايات المصورة المصرية في نمطها السياسي إذا أتيح للرسام بهجت عثمان الوقت الكافي لتطوير شخصية «بهجاتوس الأول»، أو أحد شخصيات رجال الأعمال الكلاسيكيين لحجازي، أو النسخ المصرية للأبطال الخارقين في عصر الانفتاح. إن مجرد تخيل ذلك الواقع البديل أمر بالغ الإثارة، ولكن الإحباط سيصبح الفكرة التالية، عندما يكون الإجماع النقدي المصري والعربي في مناقشة سفسطائية نخبوية تقليدية حول ما إذا كان هذا يمكن اعتباره أدبًا أم لا.