هوامش
أشرف إبراهيمالمتحف المصري الكبير بين تسعير الدخول وتكنولوجيا الحجز
2025.11.15
مصدر الصورة : آخرون
«أثر السياسات الجديدة في ثقافة المشاركة الوطنية وإتاحة التراث لمواطنيه»
تداول رواد منصات التواصل الاجتماعي خبرًا يفيد بـ«حصر زيارات المتحف المصري الكبير على الأجانب خلال يومي الجمعة والسبت»، بينما الحقيقة أن إدارة المتحف لم تمنع دخول المصريين، بل قررت إتاحة التذاكر في هذين اليومين إلكترونيًّا فقط. غير أن هذا القرار يظل عائقًا فعليًّا أمام قطاع واسع من المصريين غير المعتادين على وسائل الحجز الإلكتروني، ويثير تساؤلات عن مدى المساواة في إتاحة الخدمات الثقافية لعموم المواطنين.
يضاف إلى ذلك أن سعر التذكرة للمصريين، البالغ 200 جنيه للفرد، يُعد مرتفعًا بالنسبة إلى شرائح كبيرة تعاني أصلًا من ضغوط التضخم وارتفاع أسعار أساسيات المعيشة. هذا السعر، الذي يُنظر إليه باعتباره مبالغًا فيه، يحد بدوره من قدرة كثيرين على زيارة المتحف الجامع لجزء مهم من الذاكرة الحضارية للمصريين.
الأبعاد الاقتصادية والسياسية
ورغم أن اعتماد الحجز الإلكتروني في عطلات نهاية الأسبوع يعزز جودة التجربة ويقلل الزحام والفوضى -وهي خطوة ضرورية لصون كفاءة استقبال الزائرين في أكبر صرح أثري بإفريقيا والشرق الأوسط- فإن أثره السلبي في سهولة وصول الجمهور المحلي لا يمكن تجاهله، خاصة للمصريين غير القادرين على التخطيط المسبق أو غير المتمرسين في الحجز الرقمي.
مع ذلك، يظل ارتفاع سعر التذكرة بالنسبة إلى المصريين غير مبرر في ظل الظروف الاقتصادية الحالية؛ فبينما يبلغ سعر التذكرة للأجانب أكثر من ألف جنيه، فإن حرص الدولة على تعظيم العائد من المزارات السياحية، خصوصًا في موسم السياحة الشتوية، يجب ألا يتعارض مع حق المواطنين في التمتع بتراثهم. وهذا يستلزم إحداث توازن عادل بين الأهداف الاقتصادية وحق المصريين في الوصول إلى مصادر الثقافة العامة، وفي مقدمتها تراثهم التاريخي والحضاري.
تسليع التراث والهوية الوطنية
تقييد زيارات المتحف المصري الكبير، خاصة في أيام الذروة، يمكن أن يكون له انعكاسات مباشرة على الوعي الثقافي والهوية الوطنية، إذ تؤثر إجراءات التنظيم والحد من الدخول الجماعي في مدى ارتباط المواطنين بتراثهم الحضاري وسهولة التفاعل معه.
من ناحية ثقافية، يُثير المنع العملي للمصريين غير المعتادين على الحجز الإلكتروني سؤال التشاركية في التراث الوطني؛ فالمتحف المصري الكبير لا يمثل مجرد وجهة سياحية بل رمزًا للهوية والتاريخ الوطني لمصر، وتقييد فرصة مكون رئيسي من الشعب -بشكل غير مباشر- قد يُشعر البعض بالتهميش أو تغليب الاستثمار السياحي والدولاري على حساب المجتمع المحلي والثقافة الوطنية. هذا التوجه قد يخلق هوة نفسية بين المواطن والقيمة الثقافية لمتاحف بلاده، ويدعم سرديات نقدية عن «تسليع» التراث لحساب السياحة الأجنبية.
أثر المتحف في تعزيز الوعي الثقافي
تؤدي المتاحف دورًا جوهريًّا في تعميق الوعي بالتاريخ الوطني لدى الأفراد، وتدفعهم إلى التعرف على الجذور الحضارية والفنية، وتُعزز من اعتزازهم بجذورهم الجماعية. وتمثل زيارة المتحف الكبير تجربة حية تمنح المصريين فرصة استلهام القيم الوطنية عبر التفاعل المباشر مع آثار وأعمال تمثل رموز تاريخهم وعبقريتهم. التقييد -حتى وإن كان تنظيميًّا- يقلل من حجم هذا التفاعل ويضعف إحساس المشاركة المباشرة في صنع وحماية الهوية الوطنية.
وقد يترتب على تقييد الدخول تداعيات سلبية على الهوية الوطنية، منها:
- إحساس المواطنين بالاستبعاد الذي يزيد من نزعة التغريب الثقافي، ويعزز الشعور بانفصال الشعب عن تراثه، خصوصًا إذا لاحظت قطاعات واسعة أن الأولى بالزيارة أصبحوا السياح وليس أهل البلد.
- يمثل المتحف «مرآة للروح الوطنية المصرية»، وأي خطوات تحد من مشاركة المواطنين تقلل من قدرة المؤسسة الثقافية على جمع الوجدان الوطني حول الرموز المشتركة، وتضعف اللحمة الوطنية التي تخلقها أحداث وتقاليد زيارة المتاحف.
- هناك أهمية قصوى لمنح المصريين عمليًّا فرصة «ملكية التراث»، عبر زيارات مفتوحة ونشاطات تعليمية جماهيرية، لأن بناء وجدان الأمة وهويتها يتطلب تكرار التجربة المتحفية وسط طلاب المدارس والعائلات والشباب.
لمن نعرض التراث؟
سياسات تقييد الزيارة حتى لو كانت مؤقتة أو تقنية (وليس منعًا مباشرًا)، تُثير جدلًا مجتمعيًّا حول أولوية المصريين في الدخول إلى متحف يرمز لهم أكثر مما يرمز للعالم السياحي، وتُعيد فتح سؤال: «لمن نعرض التراث»؟
وتدعو أصوات أكاديمية وثقافية إلى إعادة النظر في التوازن بين أهداف السياحة وتعزيز حضور المصريين في المؤسسات التراثية، انطلاقًا من أن «الوعي بالتاريخ هو الأساس لبناء مستقبل وطني قوي وموحَّد».
يبلغ سعر التذكرة للمصريين 200 جنيه للفرد البالغ، و100 جنيه للطلبة وكبار السن والأطفال، مع إعفاءات لذوي القدرات الخاصة والأطفال دون سن السادسة وبعض الفئات المهنية. ورغم هذه الاستثناءات، يظل السعر مرتفعًا مقارنة بمتوسط دخول الأسر المصرية، ما يثير جدلًا حول أثره في إقبال المواطنين من مختلف الطبقات وهو ما قد يؤثر في المشاركة المجتمعية، حيث إن:
- ارتفاع سعر التذكرة يؤدي إلى تراجع قدرة الأسر المتوسطة والمحدودة الدخل على زيارة المتحف بشكل جماعي أو متكرر، ما يضعف من إمكانية تعميق الصلة الشعبية بالتراث الوطني، ويحرم قطاعات واسعة من تجربة ثقافية محورية كان المتحف يروج لها كمنبع للفخر والهوية.
- رغم أن السعر ما زال أقل من تذاكر الأجانب (30 دولارًا أي ما يعادل 1450 جنيهًا مصريًّا)، فإنه يظل عائقًا حقيقيًّا إذا ما قورن بعدد أفراد الأسرة الواحدة، خاصة في ظل الغلاء المعيشي وزيادة تكاليف النقل والغذاء في مدينة كبيرة مثل القاهرة.
- الجمعيات والمؤسسات التعليمية تواجه صعوبات في تنظيم زيارات جماعية أو برامج تثقيفية موسعة، بسبب ضغوط الموازنة وقيود التكاليف، ما يقلل فرص التفاعل المدني والمؤسسي مع المتحف.
الأثر الثقافي والاجتماعي
يشعر كثير من المهتمين بالشأن الثقافي بأن تسعير التذكرة عند هذا الحد ينقل المتحف من مساحة جماهيرية ترحب بالجميع إلى «تجربة نخبوية» متاحة فقط لمن يملكون القدرة المالية، ما يعيد إنتاج الفوارق الاجتماعية في الفضاء الثقافي بدل أن يكون المتحف مساويًا بين المواطنين في الاحتكاك بتاريخهم.
ويتمثل التأثير طويل الأمد في ضعف نشأة تقاليد «زيارة المتحف كعادة وطنية» بين الأطفال والشباب، إذ تتحول الزيارات من نشاط اعتيادي إلى مناسبة استثنائية وربما غير ميسرة للكثيرين، الأمر الذي دفع بعض الأصوات إلى المطالبة بتخفيض الأسعار أو على الأقل بزيادة أيام وحصص المشاركة المجانية، أو منخفضة التكلفة لمختلف الفئات الشعبية وتنشيط المسارات التعليمية المرتبطة بزيارة المتحف.
أما بالنسبة إلى سياسات الاستثناء والتيسير التي تتبعها إدارة المتحف، فإن:
- سياسة الإعفاء للفئات الأكثر احتياجًا والدور المجتمعي كذوي الاحتياجات الخاصة وأسر الشهداء والمرشدين السياحيين وبعض الطلاب وأعضاء هيئات التدريس في التخصصات ذات الصلة، يخفف جزئيًّا من الأثر السلبي للسياسة التسعيرية، لكنه لا يعالج الفجوة بالنسبة إلى الطبقات المتوسطة والعائلات الكبيرة.
- يؤكد خبراء التراث والثقافة على ضرورة سن سياسات سعرية أكثر عدلًا، مثل «أسعار الأسر/العائلات»، ودعم الزيارات التعليمية الجماعية، وإقرار برامج يومية/شهرية مجانية أو منخفضة التكلفة تعيد للمتحف دوره كمنبر وطني جامع.
ويعد ارتفاع سعر التذكرة إلى 200 جنيه للفرد المصري عائقًا ظاهرًا أمام الإتاحة العادلة للتراث، ويؤثر مباشرة في مشاركة كل شرائح المجتمع في الاستمتاع بالهوية الحضارية لمصر، لذا يعتبر تطوير منظومة الأسعار والبرامج الاجتماعية والمدرسية ضرورة إستراتيجية إذا كان الهدف الحقيقي تعزيز الوعي الثقافي الشامل وترسيخ الهوية الوطنية من خلال المتحف الكبير.
أثر تقييد الدخول على مشاركة المجتمع المدني
تقييد الدخول إلى المتاحف الكبرى، كالمتحف المصري الكبير يمكن قياس أثره على مشاركة المجتمع المدني من خلال استعراض آليات المشاركة، وتقييم الحيز المدني، وتحليل السياسات والممارسات ذات الصلة.
آليات قياس الأثر
- يعبر المجتمع المدني غالبًا عن مخاوفه المتعلقة بتقليص الفضاء المدني عند ظهور قيود على دخول المؤسسات الثقافية الكبرى، إذ يُنظر إلى المتحف الكبير كساحة للتفاعل العام والمبادرات التطوعية، وشريك أساسي في تطوير الوعي الجماعي.
- الاعتماد على الحجز المسبق أو تقييد الدخول يمكن أن يؤدي إلى جعل مشاركة منظمات المجتمع المدني في الفعاليات والبرامج الثقافية أقل مرونة خصوصًا إذا لم تتوفر آليات توزيع عادلة وواضحة للتذاكر والمناسبات الخاصة بالجمهور المحلي.
انعكاسات على المبادرات المجتمعية
- تقييد الدخول يقلل من قدرة مؤسسات المجتمع المدني على تنظيم زيارات جماعية، أو ورش عمل تربوية، ويضعف من إمكانية إشراك قطاعات متنوعة مثل المدارس، والجمعيات الشبابية، والنوادي الثقافية، وهذا يؤدي إلى تراجع الأنشطة الجماهيرية المفتوحة التي تعد إحدى ركائز الحراك التطوعي المحلي.
- تضييق الفضاء المدني يجعل جهود المجتمع المدني أقرب إلى الإجراءات «الشكلية» ما لم تتوفر حماية وتشريعات داعمة تيسر دخولهم واستدامة مساهماتهم، ما يستدعي إصلاحات تعزز استقلالية الحيز المدني وتمكين المنظمات المحلية من المشاركة الفعلية والتأثير على السياسات الثقافية.
معايير المشاركة والتمكين
- لتحقيق مشاركة فعالة، يوصى بأن تُتاح آليات تحقق مستقلة لمتابعة جودة مشاركة المجتمع المدني في برامج المتحف وتقارير تقييم ذلك بانتظام.
- ضرورة ربط سياسات الحجز والتوزيع بأنظمة تيسيرية ملائمة للجمعيات والمؤسسات المحلية، ما يرسخ لدور المتحف كمؤسسة وطنية جامعة وليس فقط واجهة سياحية.
بهذا الأساس، يمكن القول إن أثر تقييد الدخول في مشاركة المجتمع المدني يظهر في تقلص الفضاء التشاركي، وتقليل المبادرة المجتمعية، وصعوبة تطوير مشاريع تعليمية وفعاليات ذات طابع شعبي داخل المتحف، ما لم ترافق القيود المنظمة تشريعات وتمكين فعلي للقطاع الأهلي وتوسيع فرص التفاعل المؤسسي والجماهيري مع التراث الوطني والثقافي.
إستراتيجيات لإعادة تعزيز الهوية الوطنية
على العكس من إجراءات التقييد وسعر الدخول المبالغ فيه كثيرًا بالنسبة إلى مستوى دخول قطاعات واسعة من الشعب المصري، الذي يئن تحت ضغط التضخم والغلاء، كان يجب على الدولة:
- إطلاق حملات موسعة لجعل المتحف مركزًا تعليميًّا شعبيًّا وليس فقط للسياح.
- تخصيص برامج وتذاكر وفعاليات نوعية للمصريين من جميع الفئات، مع تسهيل إجراءات الحجز وتأكيد رسالة ملكية التراث للجميع.
- إشراك المدارس والجامعات والمجتمع المدني في تنظيم زيارات مستمرة للمتحف، واستثمار الحدث الثقافي الكبير لبناء ذاكرة اجتماعية جديدة حول التراث المصري.
- التركيز في سردية وطنية تجمع الحقب والتجارب والشخصيات المصرية، وإحياء تقاليد «العيد الثقافي» بفعاليات مستمرة في المتحف.
بإيجاز، فإن التقييد المؤقت أو التنظيمي يحد من الدور الثقافي للمتحف الكبير وموقعه كجزء من التراث الحضاري للمصريين، وهو ما يستدعي مراجعة مستمرة لضمان أن يبقى المتحف مساحة وطنية جامعة، تنبض بقصص المصريين وتدعم مشروع بناء وعي وطني حي وفعال.