عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

هوامش

سانتياجو مونتاج

تحول سوريا «غير المستقر»

2025.11.15

مصدر الصورة : آخرون

تحول سوريا «غير المستقر»

 

قد يظن البعض أن سوريا [i] دخلت عصرًا جديدًا. ففي خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 24 سبتمبر -كأول رئيس سوري يلقي خطابًا هناك منذ ستة عقود- حظي الرئيس المؤقت أحمد الشرع بترحيب واسع باعتباره زعيمًا جديدًا يتعهد بمعالجة المشكلات الهيكلية في البلاد. غير أن الصورة الداخلية تبدو أكثر تعقيدًا وتناقضًا مما يوحي به هذا الظهور الدبلوماسي.

ففي 5 أكتوبر الماضي، شهدت البلاد أول انتخابات بعد عقود من الدكتاتورية وأربع عشرة سنة من الحرب، لكنها جرت تحت سيطرة مشددة من السلطات الجديدة، حيث استمر حظر الأحزاب السياسية، وسمح فقط للأفراد بالمشاركة. كما بدا واضحًا أن السكان لم يكونوا جزءًا فعليًّا من العملية، إذ لم يُسجَّل سوى بضعة آلاف للتصويت، في حين أن نحو ستة عشر مليون سوري داخل البلاد، إضافة إلى ستة ملايين لاجئ في الخارج، كانوا بالكاد مدركين لما يجري.

السلطة المعترف بها

تعكس هذه التطورات الهدف الأساسي للحكومة الجديدة؛ فرض السيطرة على كامل الأراضي السورية مع ترسيخ مركزية السلطة في شخص رئيس الدولة. ورغم أن هذا النهج يصاغ داخليًّا بوصفه «استعادة للدولة»، فإن إدارة الشرع ركزت مبكرًا في كسب الدعم الدولي. فقد قدمت تركيا دعمًا كاملًا منذ اللحظة الأولى، بينما اعتُبر السعي إلى إنهاء العقوبات الاقتصادية الأمريكية والأوروبية واليابانية وسيلة رئيسية لرفع التوقعات الشعبية تجاه الحكومة.

وفي هذا الإطار، وُقعت عدة مذكرات تفاهم بمليارات الدولارات مع شركات أمريكية وصينية وقطرية وإماراتية وتركية، وشملت تطوير الموانئ وقطاع الطاقة. كما اعتُبر رفع تنظيم «هيئة تحرير الشام» من قوائم المنظمات الإرهابية لدى الدول الغربية خطوة محورية لتعزيز شرعية الحكومة الجديدة.

ورغم هذا الجهد الدولي، فإن الحرية الجديدة المزعومة اتخذت داخل سوريا أشكالًا مقلقة. فقد شهدت محافظة السويداء في يوليو مواجهات عنيفة بين قبائل بدوية وقوات حكومية وفصائل درزية. وتكررت النزاعات في المحافظات الساحلية، بما فيها تمرد علوي في مارس، إضافة إلى اضطرابات في شمال شرق البلاد ذي الغالبية الكردية.

وفي موازاة ذلك، جاءت بداية المحادثات مع إسرائيل في باكو (أذربيجان) في يوليو بشأن وضع هضبة الجولان، إلى جانب تدخل حكومة الشرع في السويداء، لتكشف عمق التحديات الجيوسياسية وآثارها المباشرة داخل سوريا. فحتى لو لم تكن البلاد في وضع يسمح لها بمواجهة إسرائيل عسكريًّا في الجولان، فإن احتمال التنازل عن الإقليم يواجه رفضًا شعبيًّا واسعًا. كما أن التدخل الإسرائيلي لدعم ميليشيات درزية، مثل ميليشيا «حكمت الهجري» التي أعادت تموضعها بعد سقوط نظام الأسد، يعمّق الانقسامات الداخلية.

في المقابل، فسّرت الحكومة الانتقالية الاعتراف الخارجي المتزايد بوصفه ضوءًا أخضر لتوسيع سيطرتها على مؤسسات الدولة، سواء بالقوة أو عبر إعادة تعريف الحقوق الديمقراطية المتعلقة بالمجتمعات الدينية والنساء والفئات العرقية.

الإسلام الراديكالي؟

رغم المخاوف الغربية من أن يقود قدامى «هيئة تحرير الشام» حكومة ذات طابع إسلامي متشدد، فإن الرعاة الدوليين أكدوا أن الحكومة الجديدة اعتمدت نهجًا براجماتيًّا لترسيخ سيطرتها، متحدية التوقعات المرتبطة بتاريخها في «جبهة النصرة». وقد عدّل قادتها حساباتهم بما يتوافق مع الصورة الدولية ومع الطبيعة المتعددة للمجتمع السوري عرقيًّا ودينيًّا واجتماعيًّا.

ومع ذلك، فإن سيطرة الحكومة لم تكن سهلة منذ توليها السلطة في ديسمبر. فبعد سقوط ديكتاتورية الأسد تحت ضغط هجوم قادته «هيئة تحرير الشام»، انهارت مؤسسات الأمن بشكل مفاجئ، بعد سنوات من الحرب والعقوبات وإرث طويل من الفساد والاستبداد. وأدى هذا الانهيار إلى ظهور ميليشيات متعددة، نتج بعضها من انتشار السلاح، وخرج بعضها الآخر من مجموعات متطرفة مثل داعش ومنشقين عن «هيئة تحرير الشام»، لمحاولة إعادة التنظيم ومواجهة الحكومة المؤقتة. بينما ظهرت ميليشيات محلية للدفاع عن مجتمعاتها، غالبًا بالتنسيق مع وزارة الدفاع الجديدة، ولكن دون الخضوع الكامل لها؛ كما كان حال الدروز في السويداء قبل أحداث يوليو، وكحال التحالف الكردي-العربي في الشمال الشرقي الذي احتفظ بسيطرته على مناطقه.

وبعد نحو عام على وصول الشرع إلى دمشق، لا يزال السكان يعيشون حالة من الترقب وانعدام اليقين، في ظل أوضاع اقتصادية خانقة؛ إذ يعيش 90% من السوريين تحت خط الفقر، بينما يحتاج 70% منهم إلى مساعدات إنسانية. وزاد الوضع تفاقمًا مع استمرار العنف والتوترات الطائفية رغم إعلان نهاية الحرب.

يعكس هذا الواقع توترًا بنيويًّا بين رغبة الملايين -الذين أنهكهم القمع والضغط الاقتصادي والمعيشي خلال عهد الأسد- في حياة حرة وكريمة، وبين سعي الحكومة الجديدة إلى إعادة بناء الدولة وفق معايير جديدة تستخدم فيها الدمج السياسي والاجتماعي والعنف المباشر معًا.

الطائفية أداة للسيطرة

رغم تعهد الشرع بحماية الأقليات الدينية والعرقية، فإن قطاعات واسعة من العلويين والدروز والمسيحيين ما تزال غير مقتنعة. ولإجبار المعارضين، لجأت السلطات إلى القوة، وشهدت مناطق مثل حماة وحمص والسويداء ودمشق مستويات متفاوتة من العنف الطائفي، ما عمّق الإحباط الشعبي.

وتكمن خلف موجات العنف المتعددة مشكلة هيكلية، فالرئيس الشرع لا يسيطر بشكل كامل على الفصائل المنضوية تحت مظلة «هيئة تحرير الشام»، ولا يحكم جميع الأراضي السورية.

ومنذ يوليو، غرق الجنوب السوري، وتحديدًا السويداء، في فوضى كانت ثالث أزمة كبرى تحت الحكم الانتقالي. فقد أشعلت الاشتباكات بين القبائل البدوية والميليشيات الدرزية المحلية موجة جديدة من العنف، أعادت مشاهد الحرب إلى السطح. وعلى الرغم من انقسامات الدروز الداخلية، فإن معظم فصائلهم المسلحة ما تزال محافظة على مسافة من الحكومة الجديدة، أو معارضة لها.

وفي يوليو، أدى اختطاف تاجر درزي على يد فصائل بدوية موالية للحكومة إلى قتال شرس، تدخلت خلاله قوات حكومية وفصائل درزية. وأسفر التصعيد عن تدخل إسرائيلي عبر ضربات جوية ضد الجيش السوري، ثم تعبئة جماعية للقبائل البدوية، وتوثيق مجازر مروعة في عشرات المقاطع المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي. ونتيجة لذلك، بدت المفاوضات لدمج السويداء تحت سلطة الحكومة الجديدة أكثر تعقيدًا واستبعادًا.

وبحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، قُتل أكثر من 814 مدنيًّا أو مقاتلًا غير مسلح، وأصيب أكثر من 903 آخرين، فيما اضطر أكثر من مئة ألف نازح للجوء إلى مراكز مؤقتة في درعا ودمشق. ويسود الجنوب اليوم هدوء هش ووقف إطلاق نار مؤقت، وسط شحّ في المساعدات الإنسانية ونقص شديد في الماء والغذاء، مع حجب شبه كامل للصحافة.

وجاءت هذه الأزمة امتدادًا لتمرد بقايا النظام القديم في اللاذقية وطرطوس، حيث واجهت الحكومة الاحتجاجات بقمع واسع أدى إلى مجازر بحق المدنيين وإعدامات خارج القانون، حيث وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان مقتل أكثر من 1500 شخص. ورغم إعلان الحكومة فتح تحقيقات وتوصيف الجرائم بأنها «أعمال فردية»، لم يثبت توقيف أي مسؤول حتى الآن.

وتشير نسخ الرواية الرسمية إلى محاولة تحميل المجتمع العلوي ككل مسؤولية جرائم آل الأسد، ما يعكس -بحسب تحقيق لرويترز- سلسلة قيادة تمتد إلى دمشق. وقد تعرض المجتمع الدرزي لمصير مشابه في إبريل خلال أربعة أيام من الحرب الأهلية في ضواحي دمشق، ثم خلال هجوم على الأقلية المسيحية في 22 يونيو أدى إلى مقتل 25 شخصًا وإصابة 65، وسط عجز حكومي عن حماية جميع المكونات.

وتعكس هذه التطورات إستراتيجية حكومية تعتمد على الطائفية كأداة لتعزيز السيطرة، عبر تقديم السنة كضحايا رئيسيين لنظام الأسد من جهة، وتوظيف العصبيات القبلية لاستمالة مكونات يمكن أن تشكل تحديًا من جهة أخرى، كما حدث في تعبئة القبائل البدوية. وفي المقابل، تُصور مجموعات عرقية أو دينية أخرى على أنها تهديد أمني لصرف الأنظار عن الأزمات الاقتصادية والسياسية المتفاقمة.

المركزية الهشة

تكمن خلف موجات العنف المتوالية مشكلة بنيوية، تكمن في عدم قدرة الشرع على فرض السيطرة على جميع الفصائل المسلحة داخل «هيئة تحرير الشام»، أو على كامل الأراضي السورية. وتحدّ هذه المعطيات من إمكانية عقد اتفاقيات سياسية واسعة، في ظل غياب جيش موحد، واستمرار نفوذ أمراء الحرب المحليين، وسردية إستراتيجية ترتكز على «تفكيك بقايا نظام الأسد». وتعمل هذه الظروف مجتمعة على تآكل السلطة المركزية مع ابتعادها عن دمشق.

ورغم تفكك المشهد العسكري، تتقدم المركزية السياسية بوتيرة متسارعة من الأعلى إلى الأسفل. فقد منح الدستور المؤقت الصادر في مارس سلطات واسعة لرئيس الدولة، رغم تضمّنه ضمانات شكلية للحرية الدينية والتعبير والمساواة. وبات الشرع يسيطر على التعيينات في المحكمة الدستورية وثلث البرلمان، وله الحق في إعلان الطوارئ متى شاء. ومع إزالة الضوابط المؤسسية تحت شعار الوحدة الوطنية، تُرسَّخ سلطة مركزية شديدة.

على المستوى الدولي، تحقق سوريا خطوات حاسمة، فإعلان إدارة ترامب رفع العقوبات الأمريكية -بما فيها قانون قيصر لعام 2019- بالتزامن مع إعادة سوريا إلى نظام سويفت المصرفي، يمهّد لمسار تعافٍ اقتصادي، رغم أنه يحتاج إلى أشهر للتطبيق الفعلي. وفي الوقت نفسه، تتواصل المفاوضات مع إسرائيل حول الجولان، رغم التوسع الإسرائيلي في الأراضي المحتلة. وتشير هذه التحركات إلى تحول دبلوماسي عميق يبتعد عن جذور «هيئة تحرير الشام» الجهادية.

ورغم المخاوف من قيام دولة إسلامية أو نظام استبدادي جديد، فإن إدارة الشرع تسعى إلى نموذج حكم هجين، عبر مركزية سلطوية تقترن بلا مركزية تكتيكية تقوم على تحالفات مع زعماء القبائل وسماسرة النفوذ المحليين.

وفي ظل أن الأجور الحقيقية لا تتجاوز 150 دولارًا شهريًّا، تتراجع احتمالات الاحتجاج، خاصة بعد سلسلة هجمات على متظاهرين نفذها مجهولون بهدف الردع. وخلال ذلك، تلاشى أي أمل في بروز سياسة قائمة على الطبقات بفعل التركيز في الهويات العرقية والدينية. كما أُخمد المجتمع المدني الذي نشط في بدايات الانتفاضة، وحُلت الأحزاب والنقابات باسم «الانتقال الوطني»، واختفت احتجاجات موظفي الدولة للمطالبة بأجور أفضل بعد أحداث اللاذقية وطرطوس.

وفي عدة مناطق، قُتل عمال أثناء عودتهم ليلًا إلى منازلهم، وأظهرت تحقيقات متعددة أن هذه الهجمات كانت ذات دوافع طائفية وليست حوادث جنائية عشوائية. ورغم خروج مظاهرات للمعلمين في حلب ودير الزور للمطالبة بزيادة الأجور، فإنها بقيت محدودة وبعيدة عن أي تعبئة واسعة قائمة على مطالب اقتصادية.

وما تزال مسألة القوة المسلحة محورًا أساسيًّا. فهناك جهود لتوحيد الجيش السوري عبر دمج الفصائل المسلحة تحت قيادة مركزية. ورغم أن قيادة «هيئة تحرير الشام» تبسط سيطرة صارمة على عديد من الميليشيات السنية في إدلب، فإنها تُضطر إلى التفاوض مع مجتمعات غير سنية، مثل الدروز والأكراد، الذين لا تزال فصائلهم المسلحة تسيطر على أجزاء واسعة في الجنوب والشرق. ومع ذلك، تبدو جهود الدمج قد بلغت حدودها؛ إذ لا يزال القرار محصورًا ضمن دائرة ضيقة في القمة، بينما تقاوم الفصائل المحلية الخضوع الكامل للسلطات الجديدة.

ويبقى الإفلات من العقاب أخطر ما يهدد شرعية السلطة؛ إذ يقوّض الرواية الرسمية ويكشف واقعًا أعمق، فإستراتيجية الغرب الداعمة للنظام الجديد بوصفه ضامنًا لـ«استقرار مسلح» قد تنتهي بتكرار أخطاء الماضي؛ دعم «رجل قوي» جديد في منطقة تغرق تدريجيًّا نحو الفوضى.


[i] نُشرت المقالة في « Jacobin » بتاريخ 13 نوفمبر 2025.