هموم

عماد أبو غازي

المذكرات الشخصية وكتابة التاريخ المصري الحديث

2021.03.01

المذكرات الشخصية  وكتابة التاريخ المصري الحديث

ويثير موضوع المذكرات الشخصية عدة تساؤلات أولية حول ما يمكن أن يوصف بأنه مذكرات، ومدى مصداقية هذا النوع من الكتابات، وإمكانية الاستناد إليها كمصدر يُوثق به لدراسة التاريخ، والحقيقة أنه منذ بدأ هذا النوع من الكتابات يعتمد كمصدر للدراسة التاريخية لدى باحثينا أثار نقاشات عدة بين المتخصصين، تحول بعضها إلى معارك فكرية وسياسية.

وسوف تناقش هذه الورقة بعض هذه التساؤلات محاولةً تقديم إجابة عليها، مع تقديم بعض النماذج للمذكرات التي وصلتنا من العقود الثلاثة الأولى للقرن العشرين، تلك السنوات التي شهدت بداية موجة جديدة من الحراك السياسي توجتها ثورة ١٩١٩، وهي فترة شاع بين الفاعلين فيها عادة كتابة مذكراتهم، وسأحاول أن أبين سياقات كتابة هذه المذكرات وكيفية انتقالها إلينا وأهميتها كمصدر لدراسة التاريخ.

أولاً: الكتابة عن الذات

توجد أنواع متعددة من الكتابة عن الذات، وتعتبر المذكرات الشخصية أو اليوميات نوعًا من أنواعها؛ كالسيرة الذاتية والسيرة الذاتية ذات الطابع الأدبي والذكريات، بالإضافة إلى أدب الرحلة الذي يسجل فيه كاتبه نشاطًا محددًا مارسه في مرحلة من حياته؛ وتوجد فروق واضحة بين هذه الأنواع، من حيث سياق إنتاجها، وأسلوب كتابتها، وقيمتها كمصدر أولي لكتابة التاريخ.

فالسيرة الذاتية هي ما يسرد فيه الشخص قصة حياته على لسانه كما وقعت أو كما يرغب هو أن يقدمها، ولدينا نماذج كثيرة من هذا النوع عبر مدى زمني طويل كتبها أدباء وفنانون، من أبرزها "الأيام" لطه حسين، التي يصنفها البعض باعتبارها أول سيرة ذاتية عربية حديثة، وأعتقد أنه أمر يحتاج لمراجعة، ومن أمثلتها أيضًا "حياتي" لأحمد أمين، و"زهرة العمر" و"أوراق العمر" لتوفيق الحكيم، و"أوراق العمر" للدكتور لويس عوض، و"حملة تفتيش أوراق شخصية" للطيفة الزيات، و"مذكرات إنجي أفلاطون من الطفولة إلى السجن"، و"يومًا أو بعض يوم" لمحمد سلماوي، ومن السير الذاتية للسياسيين "خطِّ العتبة" و"الخليج العاشق" لفتحي رضوان، "قصة حياة عادية" ليحيى الجمل، و"كتابيه" لعمر موسى، وعادة ما يأتي الحديث في هذا النوع من الكتابة عن الذات بضمير المتكلم، لكن في بعض الحالات يستخدم الكاتب وهو يروي سيرته الذاتية ضمير الغائب، مثلما فعل طه حسين في "الأيام"، وعادة ما يحكي صاحب السيرة قصة حياته منذ الميلاد أو منذ وعى الدنيا إن أردنا الدقة، لكنه يختار ما يراه من مواقف مر بها تستحق التوقف عندها ويسردها تفصيلاً، وقد يرجع في بعض الأحيان إلى مصادر مختلفة يسد بها فجوات الذاكرة.

وتوجد السيرة الذاتية التي تأخذ طابع النص الأدبي، الذي يحكي حياة صاحبها أو صاحبتها أو مرحلة من مراحلها مع دراجات متفاوتة من المزج الروائي، ونماذج هذا النوع متعددة في أدبنا المصري بعضها يقترب أكثر للسيرة الذاتية المروية بضمير الغائب، والبعض الآخر مثل "عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم تصنف كروايات سيرة ذاتية، ومثلها "حجر دافئ" لرضوى عاشور، كما تصنف بعض نصوص السير الذاتية تحت ما يعرف بأدب الاعتراف، وتذهب بعض الدراسات الحديثة إلى أنه من الصعب الآن التمييز بين هذه الأنواع الأدبية ووضع الحدود بينها.

ويمكن أن نعتبر أدب الرحلة نوعًا من أنواع الكتابة عن الذات، إذ يروي فيه صاحبه مشاهداته وانطباعاته عن رحلاته في بلاد مختلفة عن موطنه، والنصوص التي تندرج تحت أدب الرحلة قديمة، ومن أقدم ما وصلنا من نصوص أدب الرحلة ما دون على جدران مقبرة الرحلة المصري القديم حر خوف، ومن أشهر تلك النصوص كتاب المؤرخ الإغريقي هيرودوت؛ فتاريخه "تمحيص الأخبار" جاء نتاج رحلاته ومشاهداته فهو مؤرخ رحالة جمع تاريخه من جولاته في العالم القديم، ويزخر التراث العربي بكتب الرحلات، ومنذ رحلة الطهطاوي إلى باريس كتب عدد من المصريين المحدثين فيما يمكن أن يصنف تحت أدب الرحلة.

وتوجد أخيرًا ما يسمى بالمذكرات، وهي موضوع هذه الورقة؛ ويمكن أن نميز فيما يطلق عليه مسمى المذكرات بين شكلين مختلفين تمامًا: الأول الذكريات والثاني اليوميات، ومع أنهما يحملان مسمى المذكرات يوجد اختلافات جوهرية بينهما.

تندرج كل هذه الأنواع السابقة (السيرة الذاتية والسيرة الأدبية وأدب الرحلة والذكريات واليوميات) تحت عنوان الكتابة عن الذات، لكن هناك فوارق عدة بينها: فارق في موضعها بين أنواع السرد المختلفة، وفارق في القصد من وراء تدوينها، وفارق في موقعها بين مصادر دراسة التاريخ، فضلاً عن التفاوت الزمني بين ظهور هذه الأنواع عمومًا، وظهورها ورسوخها في الثقافة العربية والمصرية بشكل خاص.

ورغم التفاوت الزمني بين ظهور هذه الأنواع من الكتابة عن الذات في مصر فإن جلها ظهر منذ القرن التاسع عشر بين المصريين وبين بعض من عاشوا في مصر وعملوا فيها لفترات متفاوتة، فتضم أوراق حككيان ما يمكن أن نعتبره يومياته، كما دون محمد عبده سيرة ذاتية، ويوميات تغطي فترة الثورة، وكتب رفاعة الطهطاوي في أدب الرحلة، وأحمد فارس الشدياق في رواية السيرة، وسجل نوبار باشا ذكرياته التي كتبها لأسرته ليشرح فيها مواقفه، ونشر عددًا من رجال الثورة العرابية شهادتهم عن الثورة.

ثانيًا: الفرق بين الذكريات واليوميات

كثيرًا ما تحمل أغلفة الكتب عنوان مذكرات، لكن هذه المذكرات تنقسم إلى نوعين من الكتابة الذاتية مختلفين إلى حد كبير؛ يمكن أن نطلق على أحدهما مسمى الذكريات، وعلى الآخر مسمى اليوميات، وهي التي ينطبق عليها المفهوم العلمي الدقيق للمذكرات.

وقد شهدت مصر في القرن ونصف القرن الماضيين موجات متوالية لقيام عدد من الشخصيات العامة بنشر ذكرياتهم في كتابات تحمل عادة عنوان المذكرات أو الشهادات، وهي مؤلفات يكتبها أصحابها أو يملونها على من يحررها باسمهم، ولا تتضمن مجمل سيرة حياتهم على الأغلب، بل تركز على مرحلة من مراحلها لعبوا فيها دورًا في العمل العام، وهذا النوع يكتبه أصحابه بشكل قصدي ليقدموا شهادة على تلك المرحلة أو ليبرروا مواقفهم ويدافعوا عنها أمام الناس.

والمسمى الأدق لهذا النوع من الكتابات الذكريات، إذ أنها تعتمد عادة على ما ترسب في ذهن صاحبها عن الأحداث التي عايشها ولعب دورًا فيها، وفي كثير من الأحيان يعتمد أصحاب الذكريات على بعض المصادر لدعم ما يكتبونه أو للتيقن مما يتذكرونه، مثل الصحف أو بعض الوثائق الرسمية والخاصة، أو على بعض ما دونوه متفرقًا من ملاحظات وقت وقوع الأحداث التي يكتبون عنها، مثلما يذكر الدكتور محمد حسين هيكل في تقديمه لمذكراته التي صدرت في جزئين "هذه مذكرات في السياسة المصرية استمليتها من الذاكرة، إلا قليلاً رجعت فيه إلى الصحف لمزيد من الدقة في التأريخ للحوادث، أو في تصوير ما غشي عليه الزمن بحجاب جعلني لا أطمئن كل الاطمئنان إلى ما بقي في الذاكرة من صورته".

ترجع الموجة الأولى من المذكرات إلى الفترة التي تلت هزيمة الثورة العرابية وبداية الاحتلال الإنجليزي لمصر، حين دوَّن عدد من المشاركين في الثورة ذكرياتهم عنها، وصدرت في شكل مؤلفات توثق الحدث التاريخي من وجهة نظر كل منهم، وقد صدرت بعض هذه المؤلفات مطبوعة بعد سنوات من كتابتها وبعد وفاة أصحابها، وعكست هذه الكتابات تباين مواقف رجال الثورة والمشاركين في الحدث بعد الهزيمة؛ وإذا أردنا أن نتوقف عند هذه النماذج فسوف نكتشف أنها في غالبيتها العظمى تدخل تحت تصنيف الذكريات حتى لو أطلق عليها أصحابها مسمى المذكرات، بل سنكتشف أن بعضها تعامل معها أصحابها باعتبارها مؤلفات في التاريخ، وبعضها جاءت كتوليف لكتابات متعددة لأصحابها وضعها جامعها بين دفتي كتاب ووصفها بأنها مذكرات.

من هذه النماذج كتاب "كان ويكون" لعبد الله نديم، والذي ألفه في فترة هربه، إذ يذكر في مقدمته "وقد ابتدأت الكتابة فيه في الساعة الثامنة من يوم الخميس ٢٨ ربيع الثاني عام ١٣٠٠ هجرية الموافق ٨ مارس عام ١٨٨٣ ميلادية في قاعة ظلماء وحيدًا بعيدًا عن العلماء والكتبيّات والجرائد مختفيًا متغيبًا عن الجواسيس والعيون من الباحثين عليّ"، وتولى نشر الكتاب أخوه عبد الفتاح النديم بعد عودة النديم من النفي الأول، وقد فقدت بعض أجزاء الكتاب، وعصر الدكتور محمد أحمد خلف الله على الجزء الثالث منه مخطوطًا في دار الكتب المصرية، تحت عنوان تاريخ مصر في هذا العصر، فحققه وقدم له وأضاف إليه كتابات أخرى وأصدره عام ١٩٥٦ بعنوان "عبد الله النديم ومذكراته السياسية"، ولكن الكتاب يبعد تمامًا عن أن يكون مذكرات، وهذا ما تؤكده الكلمات التي صدر بها عبد الفتاح النديم الكتاب، الذي وصف الكتاب بأنه تاريخ أدبي عام، وكذلك مقدمة عبد الله النديم التي يشرح فيها سبب تأليفه للكتاب والتي أكد فيها أن كتابه هذا كتاب في التاريخ، وربما ما يكون قد دفع البعض إلى التعامل مع النص باعتباره مذكرات ما تخلله من فقرات متفرقة صاغها النديم في صورة يوميات.

وإذا أخذنا مثالاً كتاب أحمد عرابي "كشف الستار عن سر الأسرار"، ذلك النص الذي يُصنف باعتباره مذكرات أحمد عرابي، والذي انتهى من كتابته في ٢٦ يوليه سنة ١٩١٠، وصدرت طبعته الأولى سنة ١٩٢٦، بعد وفاته بسنوات، وبعد ثورة ١٩١٩ التي أتاحت رد الاعتبار للثورة العرابية، ثم صدرت له طبعة ثانية في عام ١٩٥٣ بتصدير للواء محمد نجيب، هي التي حملت عنوان "مذكرات أحمد عرابي"، فسنكتشف أن مبرره في تأليف كتابه كان الرد على ما نشر عن الثورة العرابية في الصحف والمجلات وما ألفه البعض عنها من كتب رأى فيها بعدًا عن الحقيقة، ويرى محقق الطبعة الكاملة من المذكرات التي صدرت في ثلاثة أجزاء الدكتور عبد المنعم الجميعي أن الكتاب لا ينطبق عليه مفهوم المذكرات، ويراه أقرب إلى الخواطر والذكريات، بل إن أحمد عرابي نفسه لم يصف ما كتبه بأنه مذكرات "رأيت أن أكتب للناس كتابًا يهتدون به إلى الحقيقة تمحيصًا للتاريخ من درن الأهواء الفاسدة والمفتريات الباطلة... قيامًا بالواجب عليَّ لأبناء وطني الأعزاء، وبرًا بهم وتصحيحًا للتاريخ، وخدمة عامة للإنسانية وبنيها"، فالكتاب لم يكن في تعريف صاحبه له مذكرات، وربما كان تصديره للكتاب بسيرته الذاتية ونسبه وحسبه جعل من هذا التصدير نوعًا من السيرة الذاتية المختصرة.

أما الكتاب الذي يحمل عنوان "مذكرات الإمام محمد عبده"، فعبارة عن توليف لمجموعة مختلفة من النصوص التي كتبها محمد عبده، الأمر الذي يقر به جامع هذه النصوص في تقديمه لها "عنيت بأن أجعل هذه المذكرات صورة صادقة للحياة الوطنية والسياسية لهذا الإمام الكبير، فلم أقتصر على نبذ عن الثورة العرابية كتبها في دفتر صغير - وهو في السجن -جمعت كتاباته الوطنية وآراءه في محمد علي وإسماعيل وتوفيق، وما كتبه بالتفصيل ثم بالاختصار عن الثورة العرابية وأسبابها وأحداثها والرجال الذين اشتركوا فيها، وما دونه من تحليل لأهداف هؤلاء الرجال، وقد قمت بتحقيق ذلك وشرحه والتعليق عليه تعليقًا علميًا وتاريخيًا دقيقًا، وتقديمه تقديمًا جديدًا، بحيث اجتمع من ذلك ما يصح أن يطلق عليه اسم محمد عبده في حياته الوطنية، أو مذكرات الإمام محمد عبده، وقد اخترت هذا الاسم لأنها بقلمه"، إننا إذن أمام مجموعة نصوص مختلفة لا يجمع بينها إلا أن كاتبها هو الإمام محمد عبده، فالصفحات الأولى من المذكرات هي سيرة ذاتية مختصرة لمحمد عبده منذ مولده إلى لقائه بالسيد جمال الدين الأفغاني، وتستغرق ٢٠ صفحة، ويذكر في بدايتها أنه يكتب سيرته الذاتية، ثم يضم الكتاب نصًا كتبه عن تاريخ مصر منذ زمن عصر محمد علي حتى هزيمة الثورة العرابية، فقد جمع فيه طاهر الطناحي بعض مقالات محمد عبده مع الكتاب الذي ألفه عن الثورة العرابية بطلب من الخديو عباس حلمي الثاني، وهذا النص يجمع بين التأريخ والذكريات، ولا يجوز تصنيفه باعتباره مذكرات، ومن الجدير بالذكر أن محمد عبده قد دون يوميات قصيرة في فترة الثورة العرابية، نشرت في الجزء الأول من أعماله الكاملة.

وتأتي الموجة الثانية من كتابة الذكريات في النصف الأول من القرن العشرين، وكثير منها يرتبط بثورة ١٩١٩ والصراع السياسي بعدها من أبرز نماذجها "مذكرات فخري عبد النور" عن مرحلة الثورة، ومذكرات الخديو عباس حلمي الثاني "عهدي"، التي نشرها بالفرنسية وترجمت إلى العربية بعدها بسنوات، و"مذكرات في السياسة المصرية" لمحمد حسين هيكل، و"مذكراتي" لإسماعيل صدقي، و"مذكراتي ١٨٨٩-١٩٥١" لعبد الرحمن الرافعي، وقد نشرت أغلب هذه المذكرات في شكل مسلسل في بعض الصحف والمجلات وأعيد نشرها في كتب بعد ذلك، وقد نشر بعضها بعد انتهاء هذه الحقبة، وجميع هذه النصوص تقع بين الذكريات والسيرة الذاتية، ولا يمكن أن تصنف باعتبارها مذكرات أو يوميات.

فذكريات فخري عبد النور عن الثورة دونها بين عامي ١٩٣٨ و١٩٤٢، نُشر بعضها في جريدة المصري وقتها، كما نشرت المصور سنة ١٩٦٩ فصلاً منها في سياق الاحتفال بالعيد الخمسيني لثورة ١٩١٩، وأعادت جريدة الوفد نشرها مرة أخرى، ثم جُمعت في كتاب لأول مرة بتقديم لمصطفى أمين وتحقيق للدكتور يونان لبيب رزق في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، ويصف فخري عبد النور نفسه في تمهيده لما كتبه بأنه ذكريات دونها عن ثورة الشعب المصري، لكن الكتاب مدعم بعدد من الوثائق الأصلية والصور الفوتوغرافية، التي ترجع إلى سنوات الثورة، والتي تضيف إلى قيمته، وتؤكد رواية صاحب الذكريات في مواجهة ما تسجله الوثائق البريطانية.

أما ذكريات عباس حلمي والتي اختار لها عنوان "عهدي" فقد بدأ تدوينها في عام ١٩٣٩، إذ يذكر في التمهيد أنه قرر بعد ربع قرن على تنحيته أن يرسم بيده لوحة عمله كحاكم؛ والكتاب يوثق فيه عباس حلمي لفترة حكمه التي امتدت من ١٨٩٢ إلى ١٩١٤، لكنه يبدأ بصفحات قليلة يتحدث فيها عن جده (الخديو إسماعيل) وأبيه (الخديو توفيق) ثم فصل قصير يتناول فيه طفولته وصباه حتى اعتلائه العرش، والعمل في مجمله يصنف ضمن نوع الذكريات السياسية.

كذلك كتب إسماعيل باشا صدقي سيرته الذاتية وذكرياته التي أسماها "مذكراتي" في نهاية الأربعينيات بطلب من مجلة المصور، وبعد نشر المذكرات مسلسلة جُمعت في كتاب صدر عن دار الهلال سنة ١٩٥٠، ومن استعراض عناوين فصول الذكريات يتضح أنها ذكريات دفاعية يسعى فيها لتبرير المواقف التي حاز بسببها لقب عدو الشعب، كما أنها ذكريات انتقائية، لم يسجل فيها كل المواقف المهمة التي مر بها؛ مثل تجاهله لذكر حادث ٤ فبراير ١٩٤٢، الأمر الذي فسره الدكتور سامي عبد النور محقق الطبعة الثانية من المذكرات بأنه محاولة لتلافي هجوم الوفد عليه.

نموذج آخر للذكريات التي وضع لها صاحبها عنوان المذكرات، مذكرات عبد الرحمن الرافعي، التي انتهى منها في أول فبراير سنة ١٩٥٢، وهي خليط من الخواطر والذكريات والمذكرات المدونة وقت وقوع الأحداث، كما يشير الرافعي في تقديمه الذي يحمل عنوان "هذه المذكرات".

ومنذ منتصف سبعينيات القرن الماضي عشنا مع موجتين من الذكريات، الموجة الأولى ارتبطت بالجدل الذي ثار في المجتمع حول تقييم التجربة الناصرية، والذي افتتحه توفيق الحكيم بكتابه "عودة الوعي"، ثم كتابات الدكتور فؤاد زكريا، والردود عليهما، ومن هنا انطلقت هذه الموجة مع فتح الباب أمام انتقاد التجربة الناصرية علنًا، ومع التغيرات السياسية التي شهدتها مصر بعد مايو ١٩٧١، وبدأت بمذكرات الرئيس محمد نجيب بعد رفع الإقامة الجبرية عنه، وحملت ذكرياته عنوان "كلمتي للتاريخ"، ثم توالى صدور ذكريات لعدد من الضباط الأحرار، منهم عبد اللطيف البغدادي وكمال الدين حسين وزكريا محيي الدين ويوسف صديق وثروت عكاشة ومحمود الجيار ومنير حافظ وغيرهم، وربما كانت مذكرات عبد اللطيف البغدادي أقربها إلى مفهوم المذكرات، إذ صاغ مذكراته اعتمادًا على يوميات كان يسجلها في حينها لكنه لم ينشرها ضمن كتابه واكتفى باتخاذها مصدرًا لما يكتب، بينما أخذت بعض المذكرات الأخرى شكل الذكريات أملاها صاحبها على محرر يقوم بصياغتها، وأحيانًا جاءت في صيغة أسئلة وأجوبة.

كذلك نشر بعض المدنيين ممن شاركوا في الحكم بعد يوليو ١٩٥٢ ذكرياتهم، منهم سيد مرعي وفتحي رضوان وعبد الوهاب البرلسي، وضياء الدين داوود، وبينما ركزت معظم هذه الذكريات على فترة مشاركة أصحابها في السلطة، استعرض البعض الآخر مجمل مراحل حياتهم، كما نشر بعض كبار الصحفيين ذكرياتهم عن فترات من حياتهم وما مروا به من تجارب، مثل حافظ محمود ومصطفى أمين، ومع عودة جماعة الاخوان الى الساحة في بداية عصر السادات ثم الانشقاقات التي حدثت داخل الجماعة، بدأ عدد من قادتها في نشر ذكرياتهم من بينهم زينب الغزالي ومحمود عبد الحليم وحسن عشماوي وغيرهم، كذلك ظهرت مذكرات لبعض ممن شاركوا في الحركة الشيوعية المصرية، مثل طاهر عبد الحكيم وفتحي عبد الفتاح وإلهام سيف النصر ومصطفى طيبة وفخري لبيب وأبو سيف يوسف وغيرهم، واحتلت فترات الاعتقال وما تعرض له الإخوان والشيوعيون في السجون من تعذيب مساحة من هذه المذكرات.

وفِي أعقاب حرب أكتوبر بدأت سلسلة جديدة من كتابة الذكريات للقادة العسكريين تناولت مرحلة الهزيمة وحرب الاستنزاف ثم حرب أكتوبر، ومع توقيع معاهدة كامب ديفيد نشر عدد من رجال الدبلوماسية المصرية وممن شاركوا في مراحل المفاوضات أو عارضوا الاتفاقيات ذكرياتهم، كذلك نشر عدد من رجال عصر السادات ذكرياتهم، وفي سياق هذه الموجة كذلك نشر بعض رجال العهد الملكي ذكرياتهم في هذه الفترة، وظهرت ذكريات دونت في فترات سابقة إلى النور.

وجاءت ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ والسنوات التي اعقبتها فتحت الباب امام موجة جديدة من كتابة الذات في صورة ذكريات وشهادة لبعض من تولوا المسؤولية أو كانوا شهودًا بشكل أو بأخر على هذه الفترة، ومنهم حازم الببلاوي وعلي السلمي وعبد العظيم حماد وأسامة هيكل وجودة عبد الخالق، كذلك قدم الصحفي عمر قناوي شهادة مهمة في كتابين خبرني العندليب والثورة المصنوعة.

لقد انفتح الباب لكتابة الذكريات ولَم يتوقف الى الآن.

ولا يعني الحديث عن هذه "الموجات الكبرى" من الذكريات أن الكتابة عن الذات بأشكالها المتعددة قد توقفت في أي فترة من الفترات، لكن هناك مراحل تاريخية شهدت غزارة في هذا النوع من الكتابة بشكل لافت، كما أن النصوص التي أشرت إليها هنا هي مجرد نماذج للتمثيل لكن ما ظهر من مذكرات وذكريات وسير ذاتية على مدى قرابة قرن ونصف أكثر من ذلك بكثير، وقد قدم عبد العظيم رمضان حصرًا بالمذكرات التي صدرت حتى منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وصدرت بعد هذا الحصر عشرات من المذكرات والسير الذاتية.

وفي جميع المراحل ارتبط نشر هذه الذكريات بجدل سياسي واسع، خاصة وأن بعضها كان ينشر مسلسلاً في الصحف والمجلات قبل أن يجمع في كتب، لكن فترة السبعينيات كانت الأعلى صوتًا في "حرب الذكريات"، أثارت مستويين للمعارك، معارك وقت نشرها بين السياسيين ومعارك أكاديمية.

يبقى نوع آخر من المذكرات الشخصية، وينطبق عليه مفهوم المذكرات بشكل دقيق، يعتبر الأكثر أهمية ومصداقية كمصدر أولي لدراسة التاريخ، إنه اليوميات التي يدون فيها صاحبها ما يفعله ويقع له وما يمر به في حياته يومًا بيوم أو يقوم بالتدوين بشكل متقطع كل عدة أيام على فترات متقاربة، وبعض هذه اليوميات تبدأ مع بداية ارتباط صاحبها بالعمل العام، أو مع وصوله لسن معين، أو مع مناسبة أو حدث أثر في حياته، وقد يبدأ صاحب اليوميات بموجز لحياته قبل بدأ تدوين يومياته، وبعض أصحاب اليوميات يلتزم بالتدوين دون توقف، بينما نجد أن آخرين يتوقفون لفترات عن التدوين ثم يعودون إليه ثانية، وبعض هذه اليوميات قصد بها أصحابها أن تنشر في حياتهم أو بعد وفاتهم، والبعض الآخر كان يكتب يومياته لنفسه فقط، أو هكذا يبدو لنا، أي أننا أمام يوميات مقصودة وأخرى غير مقصودة، وهذا النوع الذي لم يقصد به أصحابه النشر يكون أكثر مصداقية عادة.

ثالثًا: خمسة سياسيين ويومياتهم

ظهر اهتمام الساسة المصريين والمشتغلين بالعمل العام بتدوين مذكراتهم اليومية منذ القرن التاسع عشر، ومن اليوميات المبكرة التي وصلتنا أناقش هنا المذكرات أو اليوميات لخمسة من هؤلاء الساسة هم أحمد شفيق ومحمد فريد وسعد زغلول، ومصطفى النحاس، وراغب إسكندر، من حيث سياق التدوين، وكيفية وصولها إلينا، ومدى أهميتها ومصداقيتها.

• بداية التدوين وسياقه

بدأ أحمد شفيق باشا (١٨٦٠-١٩٤٠) تدوين مذكراته منذ فترة مبكرة، فكما يذكر في مقدمة مذكراته "كنت أشعر منذ الحداثة بشغف قوي في تدوين مذكرات يومية عن دراستي وأحوالي، وما أستطيع إدراكه ومشاهدته".

وقد قرر أحمد شفيق نشر مذكراته في الثلاثينيات لقناعته بأهمية المذكرات كمصدر لدراسة التاريخ، ولا يخفي تأثره بالغرب في ذلك، ولشغفه بدراسة التاريخ ومطالعته، كما يعتبر أن مما غذى ميوله لكتابة المذكرات قربه من ولي الأمر مما أتاح له أن يقف على "مجرى الحوادث ومصادرها، ومبعث أطوارها وتقلباتها، متدرجًا في ذلك من عهد الفتوة إلى عهد الكهولة”.

نحن إذن في حالة أحمد شفيق باشا أمام رجل مدرك لأهمية كتابة اليوميات، وكذلك لأهمية ما تحت يده من معلومات بحكم قربه من الحاكم على مدى سنوات، كما أنه مقر بأن ما تحويه مذكراته ليس إلا زاوية رؤيته للأحداث التي عاشها، وقد بدأ المذكرات ككتابه تاريخية وذكريات، ثم تتحول بعد ذلك الى يوميات، لكنها يوميات موجهة للجمهور من البداية. وقد تعرضت بعض هذه اليوميات للحذف وفقًا لروايات بعض معاصريه الذين ذكروا أنهم نصحوه بحذف بعض الفقرات وأنه استجاب لهم، كما يذكر أحمد شفيق نفسه أن جزء من هذه اليوميات كتبه في شبابه عن عصر الخديو إسماعيل صادرته السلطات وهو مبعد في أوروبا، كما فقد بعضها في ظروف أخرى.

أما محمد فريد (١٨٦٨-١٩١٩) فقد بدأ تسجيل يومياته بأحداث عام ١٨٩١، وهي السنة التي انتقل فيها للعمل بالنيابة وحاز رتبة البكوية، وينتهي ما وصل إلينا من هذا القسم من اليوميات بحوادث يونيه سنة ١٨٩٧، وقد اختار لها فريد عنوان "تاريخ مصر من ابتداء سنة ١٨٩١ مسيحية"، ويبدو أن هناك جزء مفقود من اليوميات، ربما كان يغطي الفترة حتى ١٩٠٤، وهي السنة التي يبدأ بها القسم الثاني.

أما القسم الثاني من مذكرات محمد فريد فيحمل عنوان "مذكراتي بعد الهجرة"، وقد بدأ في تدوين اليوميات في عام ١٩١٣ وواصل الكتابة حتى قبيل وفاته، وقد قدم لهذا الجزء بملخص للحوادث المهمة ابتداءً من سنة ١٩٠٤.

وتبدأ يوميات سعد زغلول (١٨٥٨-١٩٢٧) بدايات متعددة، فقد بدأ لأول مرة في تدوين ما يشبه اليوميات في أكتوبر ١٨٩٧ لعدة شهور، ثم عاود الكتابة في مايو ١٩٠٣، ثم في يناير ١٩٠٥، أما اليوميات المنتظمة فتبدأ من أول يناير سنة ١٩٠٧.

ومن الواضح أن سعد زغلول قد بدأ في الانتظام في كتابة مذكراته بعد فترة وجيزة من توليه نظارة المعارف، وتتخلل اليوميات فترات توقف فيها سعد زغلول عن الكتابة لأسباب مختلفة، وفي بعض الأحيان كان يكتب ملخصًا لحوادث الفترة التي أسقطها، وفي بعض الأحيان يذكر أن حالته النفسية أو الصحية لم تسمح له بالتدوين في هذه الفترة التي سقطت من يومياته.

كما أن هناك صفحات من اليوميات أملاها على سكرتيره الخاص، وهناك أيضًا صفحات بين مذكراته تخص سائقه عبد الله محمود، الذي كان مرافقًا له في المنفى الثاني في سيشيل وجبل طارق، وتغطي هذه المذكرات بعض الفجوات في مذكرات سعد، وربما كان هذا سبب احتفاظه بها، نشرت هذه الصفحات ضمن الجزء العاشر من مذكرات سعد زغلول، مع إشارة واضحة إلى كاتبها في محاولة لسد بعض فجوات المذكرات، وأدى هذا الأسلوب في النشر إلى ارتباك في تتابع أفكار سعد نفسه، وربما كان الأوفق نشر مذكرة محمود عبد الله في ملحق مستقل، ومن الجدير بالذكر هنا أن محمود عبد الله كان قد نشر مذكراته بالفعل مع عودة سعد من المنفى في سبتمبر ١٩٢٣، بمقدمة لأحمد حافظ عوض، وهناك اختلافات قليلة بين النص الموجود في كراسات سعد زغلول والنص المنشور سنة ١٩٢٣.

ومن الواضح أن سعد كان يكتب هذه اليوميات لنفسه، ولم يكن يقصد نشرها في بداية الأمر على الأقل، وكان يكتب كل ما يعن له منتقدًا سلوكه الشخصي في بعض الأحيان، إنها يوميات تتضمن اعترافاته الشخصية، وقد أورد فيها عبارة دالة اختارها الدكتور عبد العظيم رمضان الذي أشرف على تحقيق الأجزاء التسعة الأولى من المذكرات "ويل لي من الذين يطالعون من بعدي هذه المذكرات".

وتتناول "مذكرات النفي" لمصطفى النحاس (١٨٧٩-١٩٦٥) رحلة نفي مصطفى النحاس إلى سيشيل مع سعد زغلول وأربعة أخرين من قادة الوفد، هم فتح الله بركات وعاطف بركات وسينوت حنا ومكرم عبيد في ديسمبر ١٩٢١ لفترة قاربت عامًا ونصف العام؛ فقد قبضت سلطات الاحتلال على سعد زغلول صباح يوم الجمعة ٢٣ ديسمبر ١٩٢١، وبعدها بساعات تم القبض على باقي المجموعة، وتم ترحيلهم إلى السويس ومنها إلى عدن في طريقهم إلى سيشيل، ونتيجة للضغوط المتواصلة في مصر وبريطانيا تم نقل سعد زغلول إلى جبل طارق؛ فغادر سيشيل يوم ١٧ أغسطس ١٩٢٢ ليصل إلى جبل طارق يوم ٣ سبتمبر؛ ويستمر هناك حتى مارس ١٩٢٣، أما باقي المنفيين فقد استمروا في سيشيل عشرة أشهر أخرى.

وينطبق على هذه المذكرات مفهوم اليوميات، ويغطي ما وصل إلى أيدينا منها في ثلاث كراسات منفصلة الفترة من ١٩ ديسمبر ١٩٢١ حتى ١٢ مارس ١٩٢٣، أي أنها تبدأ قبل اعتقال سعد ورفاقه بأربعة أيام، ولا تستمر حتى نهاية فترة النفي، كما أن هناك فجوات طويلة فيها لم تصل إلينا أو لم يدون فيها مصطفى النحاس مذكرات؛ يبدو بوضوح أنه قد بدأ في تدوين الكراسة الأولى بعد بداية الأزمة التي انتهت بنفي سعد ورفاقه، لكن باقي المذكرات كما يتضح من أسلوبها، كانت يوميات يدونها الرجل في حينها، باستثناءات قليلة؛ لكن هناك تفاوتًا واضحًا فيما كان يكتبه في كل يوم وفقًا للأحداث؛ فبعض الأيام يشغل عدة صفحات وبعضها أسطر قليلة، وبعضها لا يدون فيه أحداثًا إطلاقًا.

وقد وضع مصطفى النحاس عنوانًا للمذكرات على صفحة الغلاف للكراسة الأولى؛ فأسماها "مذكرات النفي"، وقد بدأت الكراسة الأولى من مذكرات النفي بمقدمة بعنوان "عهد العنف والشدة والإرهاب"؛ تناول فيها أجواء ما قبل قرار النفي: الأيام القليلة السابقة على القرار، وفشل مفاوضات الوفد الرسمي المصري في لندن برئاسة عدلي يكن، وضغوط اللورد أللنبي لقبول مشروع كرزون، ثم استقالة الحكومة العدلية.

ويبدو أن هذه المذكرات كتبت لتنشر، وأنها مذكرات "رسمية" بمعنى ما أو "عامة" بمصطلح النحاس، وأنها محاولة من الوفد المصري لتوثيق ما يتعرض له رجاله، وأن المكلف بكتابتها في البداية كان فتح الله بركات؛ لكنه حولها لمذكرات شخصية، وقد دب خلاف بينه وبين مصطفى النحاس وسينوت حنا حول طريقته في كتابة المذكرات مما أدى إلى انتقال المهمة للنحاس، كما يبدو أيضًا أن مصطفى النحاس كان يدون نصوصًا أخرى أو مذكرات أخرى خاصة به وحده، لكن الواضح في مواضع كثيرة من الكراسة الثانية تحديدًا أنها لم تكتب بصيغة مذكرات عامة فالنحاس يسرد آراء شخصية ويوجه لومًا كثيرًا لفتح الله، ويتهمه بالبخل، وربما تكون الكراسة الأولى والثالثة أقرب للمذكرات العامة والثانية مسودة لمذكراته الخاصة وكان سيختار منها العام فقط لتبييضه.

وتعد هذه هي المرة الأولى التي تنشر فيها مذكرات لمصطفى النحاس بخطه؛ لكن من الجدير بالذكر هنا أنه منذ سنوات نشر الأستاذ أحمد عز الدين مذكرات منسوبة لمصطفى النحاس تحت عنوان: مذكرات مصطفى النحاس - ربع قرن من السياسة في مصر ١٩٢٧-١٩٥٢، وقد نشرت في جزئين؛ مع تقديم لكل جزء بقلم أحمد عز الدين، ومقدمة للجزء الأول بقلم محمد كامل البنا الذي كان سكرتيرًا لمصطفى النحاس، والذي قام بتدوين هذه المذكرات بشكل متفرق حسبما يذكر في مقدمته، بمعنى أن تلك المذكرات لم تكن مدونة بخط مصطفى النحاس، كما لم تصغ في الأصل بصورة مذكرات مملاة، بل هي خليط من مشاهدات الرجل وإملاءات النحاس.

أما المذكرات اليومية لراغب إسكندر (١٨٨٨-١٩٨٣) المحامي والسياسي الوفدي فقد بدأ في تدوينها في أول ديسمبر سنة ١٩٢٢، لكنه يروي فيها حوادث اليوم السابق على أول ديسمبر، وما تبقى من هذه المذكرات ست كراسات كبيرة، تغطي مرحلتين مختلفتين الأولى في أعوام ١٩٢٢ إلى ١٩٢٤، والثانية في سنتي ١٩٣٣ و١٩٣٤؛ وفي تقديري أنه لم يتوقف عن الكتابة لكن باقي اليوميات فقدت مع الأسف.

يبدأ يومياته هكذا "تنتهي بانتهاء اليوم سنتي الرابعة والثلاثين، وقد ولدت في يوم أول ديسمبر سنة ١٨٨٨"، ويؤكد أن هذه هي بداية يومياته "وهذه أول مرة ابتدأ فيها بكتابة مذكراتي؛ أما الحوادث والأحوال السابقة لهذا اليوم مدة الـ٣٤ سنة الماضية فسألخصها في دفتر خاص بها"، ويبدو أن راغب إسكندر اتخذ قرار البدء في كتابة يومياته عندما شعر بخطورة الدور الذي يلعبه، وبأن هذه اليوميات من الممكن أن تشكِّل شهادة مهمة من فاعل أساسي في الأحداث، ويشير في بداية اليوميات إلى أنه يبدأ مرحلة جديدة "وأبدأ اليوم حياة جديدة وأنا عضو وسكرتير للوفد المصري الحالي، ورئيسه معالي سعد باشا زغلول؛ وعضو كذلك في جمعية التوفيق القبطية، ومستشار للجمعية الخيرية القبطية”.

• كيف وصلت إلينا هذه المذكرات؟

قام أحمد شفيق باشا بنشر مذكراته بنفسه في حياته، وكان قد قبلها "حوليات مصر السياسية" التي تغطي السنوات من ١٩٢٤ أي السنة التي توقفت فيها مذكراته إلى ١٩٣٠، كما ترك قبل وفاته موضوعات متفرقة كتبها بعد المذكرات نشرها أبناؤه بعد وفاته بعنوان "أعمالي بعد مذكراتي"، وقد رأى أن نشر المذكرات في حياته رغم أن العادة جرت على نشر المذكرات بعد وفاة صاحبها كما يقول، خشية تناثرها بعد وفاته، أو نشرها مشوهة مبتورة، "كان من الشجاعة الأدبية أن تنشر مذكرات في حياة مدونها فيحتمل وهو على قيد الحياة كل تبعة فيما تسجل من الحوادث والشئون".

بينما وصلت أوراق محمد فريد ومذكراته إلى دار الكتب والوثائق القومية عن طريق نجله عبد الخالق فريد، وقد مرت المذكرات برحلة طويلة بين الأيام السابقة على وفاة محمد فريد وانتقالها إلى الدار، ثم ظهورها منشورة نشرًا علميًا؛ كان فريد يحفظ أوراقه لدى سيدة ألمانية كان يسكن عندها، وعندما استشعر تدهور حالته الصحية استدعى صديقه إسماعيل لبيب من جنيف إلى برلين، وطلب منه تسلم صندوق الأوراق وتسليمه إلى ابنه عبد الخالق فريد عندما يتمكن من العودة إلى مصر ويكبر الابن بصورة تسمح له بتحمل مسئولية الحفاظ على هذه الأوراق حتى يصبح الوضع العام في مصر ملائمًا لنشرها، وقد توفي إسماعيل لبيب قبل أن يسلم الصندوق لعبد الخالق فريد، وتولت أرملته المهمة بعد ذلك، ولم يعلم أحد بوجود المذكرات إلا عدد قليل من أعضاء الحزب الوطني، وقد استعان بهذه الأوراق عبد الرحمن الرافعي في تأليفه لكتابيه عن مصطفى كامل ومحمد فريد، كما عرف بها الرأي العام عندما بدأ نشر أجزاء منها في مجلة "كل الناس والدنيا" عام ١٩٣٥، وفي الستينيات نشر أجزاء منها كل من محمد صبيح، وخلال عامي ١٩٦٣ و١٩٦٤ سلم عبد الخالق فريد المذكرات وما معها من أوراق إلى دار الوثائق القومية، لتبدأ مرحلة الجديدة من التعامل مع المذكرات.

ومرت مذكرات سعد زغلول برحلة مشابهة، في الانتقال من يد ليد، فقد أوصى سعد زغلول بأن تكون المذكرات حوزة مصطفى النحاس وفتح الله بركات، وترك لمصطفى النحاس حق نشر المذكرات بالكيفية التي يراها وفي الوقت الذي يراه مناسبًا، بعد مراجعتها سياسيًا وعائليًا، وبعد أن كادت بعض الكراسات تفقد من بيت الأمة بطريق الخطأ، سلمت أم المصريين المذكرات لمصطفى النحاس، وقد قام الأخير بإيداعها في خزانة خاصة ببنك مصر خشية الاستيلاء عليها من جانب حكومة الانقلاب الدستوري (انقلاب صدقي/فؤاد)، وقد استخدم الوفد أجزاء من المذكرات أكثر من مرة في دعايته السياسية في الثلاثينيات والأربعينيات، وقد ثار نزاع قضائي بين ورثة سعد والنحاس على حيازة المذكرات، فاز فيه النحاس، لكنه قرر في عام ١٩٦٣ نقل المذكرات لحيازة إلى بهي الدين بركات، ثم انتقلت حيازتها إلى دار الوثائق القومية مقابل تعويض مالي.

أما مذكرات النفي لمصطفى النحاس فقد حصلت على صورة من هذه المذكرات من القطب الوفدي الكبير الأستاذ فؤاد بدراوي كانت ضمن الأوراق التي انتقلت لحيازة فؤاد باشا سراج الدين بعد وفاة السيدة زينب الوكيل، وتسليم المنزل للمالك، وقد عثر عليها الأستاذ فؤاد بدراوي في أثناء إخلاء قصر فؤاد سراج الدين بعد أن باعه الورثة منذ قرابة ست سنوات ودفع بها إليَّ لتحقيقها بناءً على اقتراح منير فخري عبد النور، وقد استغرق تحقيقها خمس سنوات لتصدر في إطار احتفالات الذكرى المئوية لثورة ١٩١٩.

وظلت مذكرة راغب إسكندر طي النسيان منذ وفاته عام ١٩٨٣، ولا أعرف المسارات التي أوصلتها إلى حيازة الدكتور بطرس غالي، ولكن راغب إسكندر هو زوج خالته، قد اقترح عليَّ الدكتور بطرس غالي أن أحققها وأنشرها، فرحبت بذلك، ولم أكن أعرف وقتها عن راغب إسكندر إلا القليل الذي صادفني وأنا أقرأ عن ثورة ١٩١٩، وحصلت على صورة من الدفاتر الستة من الدكتور بطرس غالي قبل عام من وفاته، وأقوم على تحقيقها حاليًا، وقد انتهيت بالفعل من تحقيق الدفترين الأول والثاني وبدأت في تحقيق الدفتر الثالث.

رابعًا: هل تعتبر المذكرات واليوميات وثائق،
وما مدى مصداقيتها؟

يختلف الباحثون حول اعتبار اليوميات مادة وثائقية، فبينما يذهب بعض المؤرخين إلى اعتبارها نوعًا من الوثائق الخاصة، يرى الأرشيفيون أن المعايير العلمية للوثيقة الأرشيفية لا تنطبق عليها، وأنها أقرب للإنتاج الفكري الذي ينبغي أن يحفظ في المكتبات، وربما يرجع جذر هذا الاختلاف إلى فهم المصطلح لدى كل طرف.

فتعريف الوثيقة لغة هي ما يحكم به الأمر، وهي المستند وما جرى مجراه، أي أن المعنى اللغوي للكلمة يتضمن إشارة إلى الشيء الذي يرجع إليه ويعتد به في تحديد الأمور المختلفة بشكل عام، ومن هنا يمكن أن نطلق المصطلح على مستند قانوني أو إداري أو علمي، لكن المعنى الاصطلاحي للوثيقة في مجال دراسات الوثائق والأرشيف أكثر تحديدًا، حيث يقصد بها: المكتوب أو المستند الذي تمت صياغته في قالب أو شكل خاص، الذي ينتج كإفراز طبيعي من خلال ممارسة البشر أفرادًا ومجتمعات لنشاطهم اليومي، ويتضمن فعلاً قانونيًا أو واقعة قانونية أو عملاً إداريًّا، والوثيقة بالتالي نوعان؛ قانونية وإدارية.

ويقصد بالوثيقة القانونية كل نص مكتوب أو مدوّن يشمل على تصرف قانوني أو واقعة قانونية تم تدوينه لحفظ حق من الحقوق أو لإثبات حالة من الحالات. والوثائق القانونية نوعان: عامة وخاصة. والوثائق العامة هي التي تصدر عن جهات الدولة المختلفة أو تكون إحدى هذه الجهات طرفًا فيها، وتتعلق موضوعاتها بأحكام القانون العام، أما الوثائق الخاصة فهي التي يكون التصرف القانوني فيها متعلقًا بأحكام القانون الخاص، وغالبًا ما تكون بين أشخاص طبيعيين أو بين شخصيات اعتبارية خاصة، كما تدخل فيها أطراف عامة أحيانًا مثل وثائق بيع أملاك الدولة، لكنها جميعًا وثائق تتعلق دائمًا بأمور تخضع لأحكام القانون الخاص، أما الوثيقة الإدارية؛ فيقصد بها المكاتبات والأوامر والتقارير الناتجة عن العمل اليومي لمؤسسات المجتمع، سواء كانت مؤسسات للدولة أو مؤسسات أهلية، وسواء كانت متداولة داخل المؤسسة أو موجهة إلى مؤسسات أخرى خارجها أو إلى أشخاص طبيعيين.

أما التعريف المعجمي لليوميات فيعرفها بأنها السجل الذي يدوِّن فيه الشخص انطباعاته يوميًّا، وهي المذكرات التي يدونها صاحبها يومًا بعد يوم، فهي نصوص دونها أصحابها بشكل قصدي ليسجلوا ما يمروا به في حياتهم العامة أو الخاصة أو كلتاهما يومًا بيوم، وفي التعريفات الاصطلاحية "عبارة عن محكي حميمي وشخصي، يكتب من يوم لآخر، ليس محكيًا استعاديًا إذ لا يتيح للمؤلف إمكان اتخاذ مسافة من الأحداث المروية،" كما تُعرّف بأنها "متوالية من النصوص، تكتب بشكل يومي، غير محددة بزمن معين، تبدأ أو تذيّل بتاريخ اليومية، يتم فيها تقييد الأحداث أو المواقف أو المقابلات أو الانطباعات والآراء، من وجهة نظر معينة، تختلف باختلاف الاهتمامات والأهداف"؛ أي إنها كتابة حرة لا تخضع لقالب محدد في صياغتها، ولا تهدف لإثبات الحقوق القانونية أو إنشائها، كما أنها لا تنظم عملاً إداريًا، ولا يوجد إلزام بكتابتها.

وقد ارتبط ظهور الدراسات الوثائقية الحديثة في أوروبا بالتحديث وبظهور الدولة القومية بشكل أساسي، ويشمل هذا الأمر الدراسات الوثائقية بشقيها؛ أي اتخاذ الوثيقة موضوعا للبحث من جانب، واعتمادها مصدرًا للمعلومات خاصة في مجال الدراسات التاريخية من جانب آخر. ولا يختلف الحال في العالم العربي عنه في أوروبا؛ فقد بدأ الاهتمام بحفظ الوثائق ثم استخدامها كمصادر للدراسة التاريخية مع تكوين الدولة الحديثة ومؤسساتها وظهور الأفكار القومية، كما ارتبط كذلك بموجة المد الاستعماري الأوروبي الزاحف على المنطقة العربية وما صاحبه من اهتمام استشراقي بدراسة المنطقة وتاريخها. وهي الفترة ذاتها التي بدأ فيها الاهتمام بالمذكرات الشخصية واليوميات والكتابات عن الذات عمومًا، فقد ارتبط هذا الاهتمام بالتحولات المصاحبة بالتحديث والحداثة، وإن تأخر الاهتمام بها لدينا عن الاهتمام بالوثائق قليلاً، ورغم أن بعض أشكال الكتابة عن الذات قديمة ترجع إلى ما قبل الحداثة بكثير، في معظم الثقافات الإنسانية بما فيها الثقافة العربية، فإن التعامل معها كمصادر للتاريخ بعد أن تحول إلى علم أمر حديث، مثلما الحال مع الوثائق الأرشيفية.

وربما يرجع حرص بعض المؤرخين على اعتبار المذكرات واليوميات نوعًا من الوثائق إلى حالة "الولع بالوثائق" التي أصابت المؤرخين منذ تحول الوثائق إلى مصدر لدراسة التاريخ، وشاعت معها مقولات مثل "الوثائق أصدق مصدر لكتابة التاريخ"، "لا تاريخ دون وثائق"، وربما من هنا جاء الخلط في توصيف كل مصدر من مصادر دراستنا للتاريخ بأنه وثيقة تاريخية، والحقيقة أن الوثائق تكذب مثلها مثل غيرها من مصادر دراسة التاريخ، كما أن مصادر التاريخ متعددة ومتنوعة لا تقتصر على الوثائق.

لو استخدمنا المصطلحات العلمية فلا يمكن أن نصنف اليوميات باعتبارها وثائق، لكن هذا لا ينفي أهميتها كمصدر أولي لدراسة التاريخ مثلها مثل الوثائق القانونية والإدارية التي تحتفظ بها الأرشيفات، بل ربما تفوقها أهمية في بعض الحالات، وتعلو عليها في درجة الصدقية.

ومن الجدير بالملاحظة أننا في مصر نحفظ المذكرات التي تقتنيها الدولة في دار الوثائق القومية في إدارة الوثائق الخاصة، وقد قام مركز وثائق وتاريخ مصر الحديث والمعاصر، أحد المراكز البحثية بدار الكتب والوثائق القومية منذ الستينيات، بنشر بعض ما لديه من مذكرات وأوراق شخصية، لكننا ما زلنا نكتشف كل يوم جديد في أوراق العائلات.

تعتبر هذه اليوميات تعد مصدرًا مهمًا لكتابة التاريخ، وللتعرف على ما وراء الأحداث الكبرى وعلى تفاصيل ما يدور في الكواليس وخلف الأبواب المغلقة، خصوصًا إذا كان صاحب اليوميات لا يقصد نشرها، هذا فضلاً عما تقدمه من تفاصيل للحياة اليومية لأصحابها وأسرهم.

ولا شك أن اليوميات التي لا يقصد بها أصحابها أن تنشر للرأي العام تكون أكثر صدقًا، وأكثر قيمة للبحث التاريخي، ولعل مذكرات سعد زغلول من أصدق المذكرات التي وصلتنا، وأكثرها تلقائية، حيث لم يكن هدف سعد من تدوينه على الأقل في بداية الأمر أن ينشرها، كما أنه لم يغير فيها عندما أوصى بإمكانية نشرها. وهذا لا يعني أن المذكرات التي يكتبها صاحبها واضعًا نصب عينيه من البداية الجمهور الذي سيقرأها مثل مذكرات أحمد شفيق غير مهمة، لكن على الباحث في التاريخ أن يتعامل معها واضعًا في اعتباره هذا الأمر. ويضاهي مذكرات سعد زغلول في مصداقيتها يوميات راغب إسكندر الذي كان يكتب بتلقائية شديدة، سواء في الأمور السياسية العامة أو في الأمور المتعلقة بحياته الشخصية والأسرية، وفضلاً عن تلقائية الرجل في التدوين وعدم مراجعته لما يكتبه فإنه يكشف عن كثير من تفاصيل السياسة المصرية في سنوات الثورة الأخيرة، ١٩٢٢ إلى ١٩٢٤.

كذلك الكراسة الثانية من مذكرات النفي لمصطفى النحاس، وهي مسودة لم يتم تبيضها، لذلك بدت كمادة خام صادقة، بينما في الكراسة الأولى والثلاثة وهما مبيضتين، فإن الكتابة رغم أهميتها الشديدة وما تكشف عنه من أوضاع المنفيين وتفاصيل حياتهم في سيشيل، فالتعامل معها كمذكرات للنشر جعل النحاس يتعامل بحرص شديد في الكتابة في بعض الأحيان.

أما محمد فريد فقد كان صادقًا في مذكراته، وكاشفًا عن آرائه في كثير من الأوضاع السياسية، كما تبين مذكراته بعد الهجرة تطور مواقفه السياسية في كثير من المواقف، وتكشف عن ظهور اتجاهات متباينة داخل الحزب والوطني، وقد سمح عبد الرحمن الرافعي وآخرين لأنفسهم بالعبث بالمذكرات عندما كانت بحوزتهم، فقاموا بشطب فقرات كاملة، وعبارات وكلمات، رأوا فيها ما قد ينتقص من زعامة فريد من وجهة نظرهم، أو ما يختلفوا معه فيه، وهذا التصرف مخالف للأمانة. ويدفعنا هذا إلى التساؤل حول أخلاقيات التعامل مع المذكرات ونشرها، هل يجوز حجب بعض الفقرات أم لا؟ سواء لمن يتاح لهم الاطلاع على المذكرات من المقربين من كاتبها، أو ممن يقومون بنشرها؟ وإذا كان هذا الأمر غير جائز بالنسبة للمذكرات واليوميات التي كتبها أصحابها بهدف النشر، فهل يجوز ذلك في المذكرات التي لم يقصد بها أصحابها أن تنشر وكانوا يكتبونها لأنفسهم؟ هل إذا كان في المذكرات غير المعدة للنشر ما قد يسيء لصاحبها أو ينتقص من قدره، يمكن أن نحذف أو نحجب أجزاء من المذكرات؟

ليس العرضحال مجرد وثيقة يمكن دراستها أو استخلاص المعلومات التاريخية منها؛ بل هو ظاهرة ميَّزت تاريخ مصر الحديث، فقد كان العرضحال هو لغة الحوار الدائم بين المصريين والسلطة الحاكمة خلال القرنين الماضيين، لم يقطعه إلا القليل من حركات التمرد والنادر من الثورات، فلم يكن المصريون يلجؤون إلى العنف أو الثورة إلا إذا يأسوا من جدوى العرضحال. وعلى ذلك فالعرضحال هو أهم وثيقة لدراسة تطور الدولة الحديثة في القرن التاسع عشر، فهو الوسيلة الأولى لتبع مراحل تسرب فكرة الحقوق والواجبات-التي هي أُسُّ فكرة الدولة الحديثة-إلى فئات المجتمع من الفلاحين والحرفيين والتجار؛ ولذلك فإن العرضحال-الذي هو الآن مجرد مصدر تاريخي مجهول-يجب أن يوضع في بؤرة اهتمام المؤرخين كوثيقةٍ وكظاهرةٍ.

والعرضحال هو الورقة التي يقدمها الشاكي يَعْرِض فيها مَظْلمته، ويرفع من خلالها صوته. وقد شاعت هذه التسمية في مصر في القرن التاسع عشر، وتأتي هذه التسمية من خلال دمج كلمتي "عرض" و "حال"، بمعنى أن يعرض صاحب المظلمة حاله ويصور مظلمته. وفي النصف الأول من القرن العشرين شاعت تسمية "الالتماس"، وأخيرًا استقر الأمر على تسميتها "شكوى".

والجذور التاريخية للعرضحال قديمةٌ قِدَم التاريخ، فمنذ العصر الفرعوني كانت هناك الشكاوى تقدم إلى الملك ويتم البت فيها، وليس فينا من يجهل "شكاوى الفلاح الفصيح"، التي ترجع إلى نهاية الألف الثالثة قبل الميلاد والتي تعتبر من أهم أدبيات العصر الفرعوني. وفي العصر الإسلامي وُجد "ديوان المظالم" الذي كان يختص بنظر الشكاوى التي يقدمها الناس ضد رجال الإدارة في دواوين وولايات الدولة الإسلامية. وفي العصر العثماني ضعفت آلية الشكوى بضعف الدولة المركزية؛ مما أدى إلى بحث الناس عن طرقٍ أخرى لرفع الظلم عنهم، أو رضوخهم للأمر الواقع أحيانًا، ولكن الأمر لا يخلو من وجود بعض العرضحالات التي كانت تقدم إلى الولاة، كما شقَّ بعضُ الفلاحين طريقهم إلى الآستانة وقدموا عرضحالاتهم إلى السلطان نفسه الذي كان يصدر فرمانًا برفع الظلم عن مقدمي العرضحال.

أما في القرن التاسع عشر، ومع تدعيم سلطة الدولة المركزية في عصر محمد علي، ومع القضاء على العصبيات التي كانت تلعب دور الوسيط بين الحكومة والشعب، أصبحت الدولة تتصل اتصالًا مباشرًا بالفلاحين، وتتدخل في كل كبيرةٍ وصغيرةٍ في حياتهم، ولم تكن حكومة محمد علي تقبل أن يشاركها أحدٌ في ظلم الفلاح، حتى لو كانوا رجالها أنفسهم، فوضعت اللوائح التي تحدد سلطات رجال الإدارة، وتفرض عليهم الرقابة الصارمة، كما سعت إلى فتح حوارٍ مع الفلاحين والحرفيين متجاوزةً رجال الإدارة من خلال فتح الباب أمامهم للشكوى في حالة خروج هؤلاء عن القانون. وكانت "لائحة زراعة الفلاح وتدبير أحكام السياسية بقصد النجاح" الصادرة سنة ١٨٣٠ هي أول قانون يحمي الفلاح من سطوة رجال الإدارة، فأعطت الفلاحين حق الشكوى، وأوجبت على رجال الإدارة ضرورة النظر في شكاوى الفلاحين، وبخاصةٍ إذا كان قد صدر أمرٌ عالٍ بالتحقيق في الشكوى، وحتى إذا أكثر الفلاح من الشكوى بلا داعٍ، فلا يجب مُعاقبته على ذلك أو على حد تعبير اللائحة: "إذا كان أحد المشايخ أو الفلاحين قدَّم عرضحالًا إلى الأعتاب الكريمة، وصدر الأمر بأعالي العرضحال خطابا إلى من هو في جهته وتوجه به صاحبه، وسلّمه له وعمل دعوته بوجه الحق، وظهر أن صاحب العرض ليس له حق وأعطى له جواب، ثم وبعد مدة توجه ثانيا وقدم عرضحال آخر يستدعي فيه أن دعوته لم تمَّت، وقصد بذلك تعطيل شغله وعدم دفع الذي عليه وتعطيل أشغال الميري، فما يجب على الذي مثل ذلك؟ فمن حيث أن جناب ولي النعم أفندينا-أدام الله تعالى أيام دولته إلى آخر الدوران-بابه الأعلى ملجأ إلى الفقراء والضعفاء فحاشا أن يرتد أملهم خائبًا، فمن ذلك لا يجوز إلى فاعل ذلك من أنواع التأديبات شيئًا قط، الله سبحانه وتعالى أن يجعل الجميع في ظلاله أمين". فكان هذا الحق هو المفتاح الذي اعتمدنا عليه لتقييم حالة الرفض لدى المصريين بشكل عام والفلاح بشكل خاص، ومدى خضوعه واستسلامه لمظالم رجال الإدارة، ومدى إدراكه لحقوقه وواجباته.

وقد تدعم هذا الحق بصدور "لائحة ديوان المعاونة" في ١٣ ربيع الأول ١٢٥٩هـ/ ١٣ إبريل ١٨٤٣م التي أشارت إلى أن دعائم الحكومة تقوم على أساس هذا الحوار بين الحكومة والرعية، فقالت في افتتاحيتها: "إن انتظام حال الملك والدين منوط برؤية المصالح الخيرية ودعاوى الرعية على الوجه اللائق في وقتها وزمانها"؛ ولذلك وضعت تلك اللائحة عقوبات للموظفين الذين يهملون النظر في العرضحالات أو يضيعونها فنص البند السادس على أنه "يلزم أن العرضحالات التي ترد يومي يُوضع عليها تاريخ الورود وفي المغرب يصير مطالعة العرضحالات... ويُقرأ بالشورى في اليوم الثاني... وإذا ضاع أحد العرضحالات... فكل من ضيَّع عرضحالًا فلا يصير مجازاته بالجزاء الجاري في بقية الأقلام بل يُحبس في المرة الأولى ثمانية أيام، وفي المرة الثانية يصير تضعيف ذلك، وفي المرة الثالثة ثلاثة أضعاف...".

ثانيًا: أرشيف العرضحال:

وكانت النتيجة مئات الآلاف من الشكاوى التي انهالت على دواوين الدولة ومجالسها القضائية وعلى الباشا نفسه وديوانه الخديوي ومعيته السنية، ومع كثرتها ورغبة الدولة في ضبط حركتها ومراقبتها ألزمت المصالح والمؤسسات المختلفة بتخصيص سجلات خاصة بالعرضحالات، فأصدر الوالي سعيد باشا أمرًا إلى مجلس الأحكام في شهر ذي القعدة ١٢٧٤هـ/ يونيو ١٨٥٨م ينص على أن تقوم كل المصالح والدواوين والأقاليم "بتخصيص نمرة مخصوصة بقلم عرضحالات...؛ للزوم حصر صادراته ووارداته بدفاتر مختصة به". ولذلك لا توجد في دار الوثائق القومية مجموعة أرشيفية خاصة بالعرضحالات، فهي مبعثرة في كل الوحدات الأرشيفية تقريبًا، بحيث أصبح حصر عدد العرضحالات التي قدمها المصريون خلال القرن التاسع عشر أمرًا مستحيلًا، وإن كان العدد في تقديري يزيد على المليون عرضحال مسجلة في نحو عشرة آلاف سجل، تعتبر مصدرًا تاريخيًّا لا غنى عنه لكتابة تاريخ مصر في القرن التاسع عشر. فهو من ناحية مصدرٌ تاريخيٌ غير تقليدي؛ لأنه لا يُعبِّر عن وجهة نظر مؤسسةٍ حكوميةٍ، ولا جهةٍ رقابيةٍ، بل يعبر عن وجهة نظر عامة الناس من كل الطوائف والطبقات، والنص المكتوب في العرضحال لا يعبر فقط عن وجهة نظرهم، بل نسمع فيه صوتهم، ونشعر فيه بإحساسهم وخلجات نفوسهم؛ لأنهم هم الذين كتبوه أو على الأقل أملوه على من كتب. حتى إن العرضحالات تحتوي على مفرداتٍ لغويةٍ متنوعةٍ تعطي قاموسًا لغويًا مهمًا يساعد على دراسة تطور اللغة في ذلك العصر؛ وبذلك فهو من جميع الوجوه مصدرٌ صادقٌ وغنيٌ ومباشرٌ.

والعرضحال بدار الوثائق القومية يوجد في إحدى صورتين: الأولى هي العرضحال بحالته الأصلية، وهي "العريضة" المكتوبة على "ورقة التمغة"، وهذه النوعية تحفظ في دار الوثائق في مجموعة محافظ مبعثرة في مجموعاتٍ أرشيفيةٍ مختلفةٍ أهمها ما يوجد في المجموعة الأرشيفية الخاصة بمحافظ ديوان الداخلية التي تحتوي على عرضحالات عديدة، وكل عرضحالٍ عليه شرحٌ من الجهة المقدَّم إليها إلى الجهة صاحبة الاختصاص. وكذلك الحال في مجموعة محافظ مجلس الأحكام.

أما الصورة الثانية للعرضحال فهي الأكثر انتشارًا، وهي تسجيل نص العرضحال أو مضمونه في السجلات الخاصة بالمكاتبات الصادرة والواردة للدواوين والمصالح المختلفة، حيث جرت العادة أنه عندما يتقدم أحد الأشخاص بعرضحال، أن يتم الشرح على أحد جوانب العرضحال لجهة الاختصاص لتقوم بالتحقيق، ويتم تسجيل نص أو مضمون العرضحال، وكذلك نص الشرح الموجه إلى جهة الاختصاص في سجل العرضحالات الصادرة، وعندما يأتي رد جهة الاختصاص الذي يكون عادة في شكل شرح على نفس ورقة العرضحال، يتم تسجيل الموضوع والشرح الصادر والرد الوارد في سجل العرضحالات الواردة. وكانت النتيجة أن أصبحت دار الوثائق تحتفظ بمجموعة ضخمة من سجلات العرضحالات يندر أن نجد لها مثيل في أي مكان في العالم، يزيد عددها على عشرة آلاف سجل مبعثرة في مجموعات أرشيفية مختلفة.

فإذا كان الشاكي من الأقاليم فسيتقدم بمظلمته إلى ديوان المديرية التي يتبعها، وفي هذه الحالة سنجد العرضحال مُسجلًا في أحد سجلات العرضحالات بتلك المديرية. ورغم ضخامة عدد هذه السجلات وأهميتها لدراسة التاريخ الإداري سواء ما يتصل بإدارة الأقاليم، أو العمد والمشايخ؛ إلا أن أحدًا لم يُعرها اهتمامًا، ومنها على سبيل المثال مجموعة سجلات العرضحالات الموجودة في أرشيف مديرية بني سويف، والتي تربو على مئتي سجل أهمها: مجموعة "صادر العرضحالات بمديرية بني سويف" التي تضم ١٢٦ سجلًا، ومجموعة "وارد العرضحالات بمديرية بني سويف خارج المدينة" وتضم ٤١ سجلًا، بالإضافة إلى مجموعاتٍ أخرى أقل عددًا.

أما إذا كان الشاكي من المحافظات-وهي العاصمة والثغور-فسيعرض مظلمته على ديوان المحافظة أو الضبطية التي يتبعها، وتسجل في سجلاتها، وأهمها بالطبع "محافظة مصر" و"محافظة الإسكندرية"، وكذلك "ضبطية مصر"، و"ضبطية الإسكندرية"، والضبطية هي ما يشبه الآن "مديرية الأمن". فأرشيف "محافظة مصر" مثلًا يحتوي على أكثر من مئة سجل للعرضحالات أهمها مجموعة "صادر العرضحالات بمحافظة مصر" التي تضم وحدها ٦٣ سجلًا. وأرشيف "ضبطية مصر" يحتوي على نحو من ١٥٠ سجلًا للعرضحالات.

أما إذا لم يجد الشاكي استجابةً من المديرية أو المحافظة أو الضبطية فسوف يلجأ إلى تقديم مظلمةٍ أخرى إلى جهة أعلى، وهي في هذه الحالة المجلس القضائي للإقليم، وهي خمسة مجالس ابتدائية أنشئت في عهد عباس، وزاد عددها في عهد إسماعيل حتى وصلت إلى خمسة عشر مجلسًا، وبالتالي سنجد شكواه مسجلةً في سجلات ذلك المجلس، ومنها على سبيل المثال مجموعة "صادر عرضحالات مجلس بني سويف" التي تضم ثلاثة عشر سجلًا.

وعندما لا يُحرك المجلس المحلي ساكنًا سيلجأ الشاكي إلى هيئة أعلى ليشكو إليها إهمال المديرية والمجلس المحلي، وأهمها "مجلس الأحكام" الذي تحتوي مجموعته الأرشيفية على نحو مئة سجل مخصصة لقيد العرضحالات وما يتصل بها من مكاتبات، وهي مصنفة في مجموعات مختلفة أهمها: مجموعة "قيد العرضحالات الصادرة بمجلس الأحكام" وهي ٣٥ سجلًا، ومجموعة "وارد عرضحالات دواوين وأقاليم" وهي ٢٥ سجلًا. ومن تلك الهيئات التي يمكن أن يلجأ إليها الشاكي "ديوان الكتخدا" والذي تحتوي مجموعته الأرشيفية على نحو ثلاثين سجلًا، أهمها مجموعة "صادر الدواوين والأقاليم عرضحالات" وتشمل اثني عشر سجلًا.

وإذا لم يجد الشاكي مُغيثًا؛ لأنه سَلَك كل السُبُل وطرق كل الأبواب ولم يجد من يحقق في مظلمته، خاصة إذا كانت شكواه من كبير أو أمير، فسوف يضطر إلى طرق آخر الأبواب التي يمكنه أن يلجأ إليها وهو باب الخديو نفسه "الأعتاب السنية" حيث يرفع مظلمته إلى "المعية السنية" ليصدر عليها أمرٌ عالٍ بالتحقيق فيها، وعندئذ يُشمر رجال الإدارة عن سواعدهم، وتستيقظ فيهم الهمة التي كانت نائمة، وعندها يستطيع الشاكي أن يأخذ حقه؛ ومن هنا فإن أرشيف المعية السنية يحتوي على أهم مجموعة عرضحالات بدار الوثائق. وعدد السجلات الخاصة بالعرضحالات في أرشيف المعية السنية يبلغ ١٢٣ سجلًا: منها ٧٣ سجلًا باللغة العربية، و٥٠ سجلًا باللغة التركية. وأهم المجموعات العربية: مجموعة "صادر الأوامر العلية بنمر العرضحالات إلى الدواوين والأقاليم وغيرها" وتشمل ١٧ سجلًا"، ومجموعة "صادر العرضحالات للدواوين والمجالس والمحافظات" وتشمل ٢٦ سجلًا. أما أهم المجموعات التركية فهي مجموعة "صادر إفادات وأوامر العرضحالات دواوين" وتشمل ٣٢ سجلًا. ومع أن أرشيف المعية السنية هو أكثر الأرشيفات تداولًا في أيدي الباحثين في تاريخ القرن التاسع عشر إلا إن المجموعة الخاصة بالعرضحالات فيه أقلها تداولًا بينهم، أو بالأحرى فإن أحدًا منهم لم يفكر في إلقاء نظرة عليها.

جدير بالذكر أن هذا التسلسل لم يكن قاعدةً واجبة الاتباع، فهناك حالاتٌ تبدأ من أعلى السُّلم حيث يختصر الشاكي الطريق ويتقدم بعرضحاله إلى المعية مباشرةً، خاصة وإنه يعلم أن شرح المعية على العرضحال يعطي القضية دفعةً كبيرةً لا يحققها شرحٌ من أية جهةٍ كانت. كما حاول أحدهم تجاوز كل حدود البروتوكول وأراد أن يقدم شكواه شفاها إلى سعيد باشا عندما كان يزور القناطر الخيرية، عن طريق الصياح، "وكان هذا بحالة هَوْلٍ كبير... حتى إن كافة خدمة المعاونة وقتها اجتمعت عليه"، وطبعًا انتبه سعيد باشا له وسأل عن أمره فأجابه مدير القليوبية بأنه سيحقق في شكواه بنفسه. والأكثر من هذا أن البعض كان يسلك طريق التزوير وصولًا إلى سرعة النظر في شكواه، فقد كتب أحدهم عرضحالًا وكتب شرحًا عليه على لسان سعيد باشا وزوَّر ختمه، وقد تحرى مجلس الأحكام الأمر، واكتشف أن الختم مزورٌ.

وليس ثمة شك في أن هذه المجموعات الأرشيفية بكل مستوياتها تقدم صورةً واضحةً عن حجم الرفض والاحتجاج الذي أظهره المصريون في ظل الدولة المركزية في القرن التاسع عشر، وكيف حاصر الفلاحُ المصري البسيط الدولةَ بوسائلها وقوانينها، وأرغمها على أن تعمل ألف حسابٍ لوجوده، فقد ارتفع صوته بكلمة "لا" أكثر من مليون مرة مسجلة وموثقة في مجموعات أرشيفية مختلفة. كما تُقدم هذه المجموعات مادة علمية مباشرة وصادقة تخدم جميع المجالات، ليس القطاع الريفي فقط الذي سنعرض له الآن، ولكن أيضًا جميع القطاعات والمجالات بلا استثناء، فهناك عرضحالات مقدمة من التجار والحرفيين والموظفين، من المدنيين والعسكريين، من الرجال والنساء، من المسلمين والأقباط واليهود والأجانب، وحتى من العرضحالجية أنفسهم. ولا شك أن دراسة كل هذا يحتاج إلى مجهودات فريق من الباحثين لسنين عديدة. ولعل هذه الدراسة تكون نقطة انطلاق في هذا المجال.

ثالثًا: العرضحالجية:

"العرضحالجي" هو من يبيع "ورق التمغة" الذي يُكتب عليه العرضحال، وغالبًا هو الذي يكتب نص الشكوى لمن يشتري الورق، ولم يكن العرضحالجية موظفين حكوميين، بل كانوا ينتظمون في طائفة حرفية لها شيخ يشرف عليهم، ويتمركز العرضحالجية عادة أمام الدواوين والمصالح الحكومية التي لها سلطة النظر في الشكاوى، فتذكر إحدى الوثائق التي ترجع لسنة ١٨٦٤م عن أحد العرضحالجية أنه "مقيم أمام الضبطية-مديرية الأمن-لكتابة العرضحالات"، كما تشير الوثيقة إلى أن معه صندوق يضع فيه أوراق التمغة وأدوات الكتابة.

ويبدو أن هذه المهنة كانت مُربحةً، خاصةً مع إطلاق الحكومة العَنَان للأهالي للشكوى؛ لدرجة أن دَخْلَ العرضحالجي كان مَحَط أنظار رجال الإدارة، وبالتالي فلا نعدم وجود عرضحالات قدمها عرضحالجية بخصوص مظالم تعرضوا لها، فقد قدم أحد العرضحالجية-المقيم بالمحمودية أمام مصلحة حوض المحمودية-عرضحالًا إلى مجلس الأحكام يشكو من أن "باشكاتب الحوض أراد يُقاسمه في كل ما تحصل من كتابته العرضحالات، ولما امتنع في ذلك فاتحد مع القاضي وحرر إعلامًا بالافتراء بطرده من البلدة، والقاضي حلف عليه بالطلاق ثلاثًا بأنه لم يقيم في البر المذكور وتسببوا في قطع معاشه".

ومع ذلك فليس شرطًا أن يكون العرضحالجي هو كاتب العرضحال، فإذا كان الشاكي يستطيع القراءة والكتابة فيمكنه أن يكتب لنفسه، كما كان بعض الشاكين يذهبون إلى أقارب لهم يعرفون الكتابة ليكتبون لهم، ونجد مثلًا أحد الفلاحين من القليوبية يشتري ورقة العرضحال ويذهب إلى أحد "بلدياته" من المجاورين بالأزهر ليكتبه له.

وفي البداية كان الشاكي يقدم شكواه على ورقة عادية، ولكن كثرة الشكاوى أربكت الحكومة، فعملت على تنظيم الشكاوى والاستفادة منها في الوقت نفسه، فألزمت الشاكين بكتابة شكاواهم على "ورق التمغة" وإلا لن يُنظر فيها. وبذلك أصبح "ورق التمغة" من مصادر الدخل الهامة للدولة. وكانت الدولة تعطي عملية بيع ورق التمغة التزامًا لأحد الأشخاص، ليقوم ببيعه للعرضحالجية في إقليم معين، لمدةٍ زمنيةٍ معينةٍ، مقابل حصوله عمولةٍ محددةٍ سلفًا، وكان إعطاء الالتزام يتم عن طريق "مناقصة" على العمولة، وإن كانت الوثائق تسميها "مزاد"، حيث تشير إحدى مضابط مجلس الأحكام إلى أن متعهد بيع ورق التمغة سنة ١٢٦٦هـ/ ١٨٥٠م قد التزم بها مقابل عمولة قرشين عن كل مئة قرش، وأنه عند انتهاء مدته تم عمل "المزاد" الذي رسا على شخصٍ آخر نزل بالعمولة إلى ٤٤ فضة-القرش يساوي ٤٠ فضة-عن كل مئة قرشٍ. كما نفهم من المضبطة أنه في حوالي عام ١٢٧٠هـ/١٨٥٤م تم إلغاء بيع ورق التمغة بالمزاد، وتم ترتيب عمولة ثابتة مقدارها ثلاثة قروش عن كل مئة قرش.

ومن حيث التصميم نجد أن ورقة التمغة التي يكتب عليها العرضحال كان طولها ٣٠سم، وعرضها ٢٥سم، مطبوع في أعلاها من اليمين كلمة عرضحال، وفي وسطها ختم عليه تاريخ طباعة الورقة، وفي أعلاها من اليسار مطبوع سعر الورقة، وهو ثلاثون فضة-أي ثلاثة أرباع القرش-وذلك في عام ١٢٦١هـ/ ١٨٤٥م، ولكن زيادة عدد العرضحالات التي كان يقدمها المصريون جعلت الحكومة ترفع سعر ورق التمغة حتى أصبح سعر الورقة تسعين فضة سنة ١٢٧٩هـ/ ١٨٦٢م، ثم وصل في عام ١٢٩٥هـ/ ١٨٧٨م إلى ثلاثة قروش.

رابعًا: ثقافة الرفض:

كَثُرَ الحديث حول مسألة خضوع الفلاح المصري وسلبيته، وأجمع الرحَّالة وكثير من المؤرخين على أن خضوع الفلاح واستسلامه يُعد إحدى الظواهر الاجتماعية الأساسية في مصر، بل إن جون باورنج John Bowring يقول عنه: "إنه يفضل الموت على أن يثور ويتمرد"، وقد ناقش جابرييل بير Gabriel Baer هذه المسألة، واستعرض بعض الثورات والتمردات التي قام بها الفلاحون على مدار القرن التاسع عشر، ولكنه خلص في النهاية إلى أن مسألة خضوع الفلاح وتقبله "للقسمة والنصيب" كانت متأصلة فيه. كما ساعد على تدعيم فكرة سلبية الفلاح أن أول من روجوا لها هم من المدرسة الكولونيالية التي أن تُظهر المصريين بمظهر العجز وعدم القدرة على تطوير الذات، ويأتي كرومر على رأس هؤلاء. ولكن أحدًا ممن بحث هذه المسألة لم يبحث عن إجابة محتملة لمسألة خضوع الفلاح وثورته في "العرضحال"، فلا شك أن وجود أكثر من مليون عرضحال في دار الوثائق أمرٌ له دلالته!! فإذا وضعت إلى جانب دلائل أخرى كالأمثال الشعبية والأغاني التي تحضُّ على الرفض، والتسحب ورفض دفع الضرائب، والأنباء المتناثرة في الوثائق عن تمرُّداتٍ وثوراتٍ متتاليةٍ قام بها الفلاحون؛ لدلَّت دلالةً واضحةً على أن الفلاح كان يرفض، وأن الرفض كان مُكونًا أساسيًا من ثقافته.

وعند دراسة نماذج من العرضحالات التي قُدِّمت خلال سنوات معينة نجد أنه بعد أن تم تنظيم آلية الشكوى أقبل المصريون على الشكوى، فقدموا مثلًا ١٧٠٥ عرضحالات إلى مجلس الأحكام-أعلى هيئة قضائية في البلاد-فقط خلال الفترة من ٩ سبتمبر ١٨٥٣م إلى ١١ سبتمبر ١٨٥٤م، بمتوسط ٤.٧٥ عرضحال يوميًا، وكان ثلاثة أرباع الشاكين من الفلاحين، بينما لم يمثل التجار والحرفيون أكثر من عشرة بالمئة من الشاكين. وهكذا حاصر الفلاح الحكومة بوسائلها، فعمدت إلى تقييد آلية تقديم العرضحالات ورفعت سعر ورقة التمغة؛ فتراجع عدد العرضحالات بشكل تدريجي، فوصل إلى ١٦٧٥ عرضحال قُدمت إلى مجلس الأحكام وحده خلال الفترة من ٢٤ أغسطس ١٨٦٣م إلى ٤ سبتمبر ١٨٦٤م، بمعدل ٤.٦٥ عرضحال يوميًّا، وهو يقل قليلا عما كان عليه الحال قبل عشر سنوات، ثم نجد أن العدد قد تراجع بمعدلٍ كبيرٍ جدًّا فوصل عدد العرضحالات التي قدمها المصريون خلال الفترة من أول يناير ١٨٧٧ إلى آخر ديسمبر من السنة نفسها ١٦٨ عرضحالٍ فقط .

ونلاحظ أن أغلب الشكاوى كانت تأتي من مناطق جنوب الدلتا وشمال الصعيد، وأنه كلما ابتعدنا عن القاهرة كلما قل عدد العرضحالات المقدمة، وهذا الجدول يرصد ذلك في سنوات مختلفة:

الجذور التاريخية للعرضحال قديمةٌ قِدَم التاريخ، فمنذ العصر الفرعوني كانت هناك الشكاوى تقدم إلى الملك ويتم البت فيها، وليس فينا من يجهل «شكاوى الفلاح الفصيح»

في البداية كان الشاكي يقدم شكواه على ورقة عادية، ولكن كثرة الشكاوى أربكت الحكومة، فعملت على تنظيم الشكاوى والاستفادة منها في الوقت نفسه، فألزمت الشاكين بكتابة شكاواهم على «ورق التمغة»


والقاعدة العامة هي تراجع عدد العرضحالات بشكلٍ مستمر، ولا يكسر هذه القاعدة إلا مدينة القاهرة، التي نجد أن عدد العرضحالات يتزايد باستمرار، وليس معنى هذا أن المظالم قد خفت عن كاهل الفلاحين، ولكنه يعني أنه في الوقت الذي كان التجار والحرفيين قد بدأوا يدركون أهمية العرضحال، نجد أن الفلاحين قد كفروا بآلية العرضحال وجدواه، وبدأوا يبحثون عن البدائل التي كانت الثورة أهمها، فامتلأت فترة الستينيات والسبعينيات بكثير من حركات التمرد في الريف المصري، كان عددها وعنفها يزداد بالتزامن مع انخفاض عدد العرضحالات المقدمة من الفلاحين، حتى نصل إلى مطلع الثمانينيات لتشتعل مصر كلها بأحد الثورة العربية.

- سليم حسن: مصر القديمة، جـ١٧، الأدب المصري القديم، طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة ٢٠٠٠، ص٥٤- ٧٠.

- حول شروط قاضي المظالم واختصاصاته انظر الباب السابع الخاص "بالولاية على المظالم" من كتاب أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي: الأحكام السلطانية والولايات الدينية، تحقيق: محمد بدر الدين النعساني الحلبي، القاهرة، ١٩٠٩م.

- محافظ الأبحاث، محفظة رقم ١٢٩، ملف ملخص الفرمانات من ١٠٠٦هـ إلى ١٢٥٧هـ، فرمان من السلطان عبد الحميد الأول إلى والي مصر في أواسط ذي القعدة ١١٩١هـ، بخصوص رفع الظلم عن أهالي زفتى الذين يشكون من تعدي كاشف الغربية وإحداثه البدع والمظالم.

- انظر تفاصيل ذلك في لائحة زراعة الفلاح وتدبير أحكام السياسة بقصد النجاح، طبعت بمطبعة صاحب السعادة (بولاق) في سلخ رجب الفرد ١٢٤٥هـ/ ٢٥ يناير ١٨٣٠م، ص.ص٣٤- ٦٠.

- لائحة ديوان المعاونة، طبعت بمطبعة بولاق في ١٣ ربيع الأول ١٢٥٩هـ/ ١٣ إبريل ١٨٤٣م، ص٢.

- المصدر نفسه، ص١١- ١٢.

- مجلس الأحكام، سجل رقم: س٧/٩/٤، دفتر صادر العرضحالات دواوين وأقاليم، ص١، مكاتبة رقم ١، من مجلس الأحكام إلى الداخلية، في ١٠ ذي القعدة ١٢٧٤هـ/ ٢٣ يونيو ١٨٥٨م.

- انظر على سبيل المثال: محافظ ديوان الداخلية، محفظة رقم ٢٧ حيث تمتلئ بالعرضحالات المشروح عليها من جهات مختلفة، كما توجد حوالي١١ محفظة تحتوي على أوراق قلم عرضحالات.

- انظر نماذج من هذا النوع في: محافظ مجلس الأحكام، محفظة رقم ١، ومحفظة رقم ٢.

- انظر: أرشيف مديرية بني سويف، مجموعة "صادر العرضحالات بمديرية بني سويف، وهي تأخذ أرقام قديمة غير مرتبة، تبدأ من رقم ٢٥١ حتى رقم ١٩٢٢ على غير ترتيب، ويصعب ذكرها تفصيليًا هنا، وهي تغطي الفترة من ١٢٧١هـ/ ١٨٥٤م إلى ١٢٩٧هـ/ ١٨٨٠م.

- وهذه المجموعة تأخذ أرقام: لـ٢٠/١٦/١- ٤١، وتغطي الفترة من ١٢٧١هـ/ ١٨٥٤م إلى ١٢٩٧هـ/ ١٨٨٠م.

- منها على سبيل المثال: مجموعة "صادر عرضحالات مديرية بني سويف للمالية" وهي ٤ سجلات؛ ومنها "صادر عرضحالات إدارة بني سويف" وهي ستة سجلات.

- محافظة مصر، السجلات أرقام: ل١/٦/١- ٦٣، صادر العرضحالات بمحافظة مصر، وتغطي الفترة من ١٢٧٦هـ/ ١٨٥٩م إلى ١٢٩٦هـ/ ١٨٧٩م.

- ضبطية مصر، السجلات أرقام: ل٢/١١/١- ٥٤، وتغطي الفترة من ١٢٧٥هـ/١٨٥٨م إلى ١٢٨٨هـ/ ١٨٧١م. وضبطية مصر، السجلات أرقام: لـ٢ـ/١٢/١- ١٧، وتغطي الفترة من ١٢٨٧هـ/ ١٨٧٠ إلى ١٢٩٧هـ/ ١٨٨٠.

- وهي أيضا تأخذ أرقامًا قديمة داخل أرشيف مديرية بني سويف، وتغطي الفترة من ١٢٧٩هـ/١٨٦٢م إلى ١٢٩٦هـ/ ١٨٧٩م.

- مجلس الأحكام، السجلات أرقام: س٧/٩/١- ٣٥، وتغطي الفترة ١٢٦٩هـ/١٨٥٣م إلى ١٣٠٤هـ/ ١٨٨٦م.

- مجلس الأحكام، السجلات أرقام: س٧/١٥/١- ٢٥، وتغطي الفترة من ١٢٧٤هـ/ ١٨٥٨م إلى ١٣٠٠هـ/ ١٨٨٣م.

- ديوان الكتخدا، السجلات أرقام: س٤/٨/١- ١٢. وانظر أيضا مجموعة "صادر عرضحالات" س٤/٩/١- ٦؛ وكذلك مجموعة "وارد عرضحالات" س٤/١٨/١- ٣.

- المعية السنية، السجلات أرقام: س١/٧/١- ١٧، وتغطي الفترة من غرة صفر ١٢٥٠هـ/ ٩ يونيو ١٨٣٤م إلى ٢١ جمادى الآخرة ١٢٩٦هـ/ ١٢ يونيو ١٨٧٩م.

- المعية السنية، السجلات أرقام: س١/٩/١- ٢٦، وتغطي الفترة من ١٥ شعبان ١٢٧٦هـ/ ٨ مارس ١٨٦٠م إلى ٢٠ ربيع الأول ١٣٠٤هـ/ ١٧ ديسمبر ١٨٨٦م.

- المعية السنية، السجلات أرقام: س١/٤٦/١- ٣٢، وتغطي الفترة من ١٧ جمادى الآخرة ١٢٥٢هـ/ ٢٩ سبتمبر ١٨٣٦ إلى ٧ جمادى الآخرة ١٢٨٤هـ/ ٦ أكتوبر ١٨٦٧م.

- مجلس الأحكام، س٧/١٠/٢٠، ص١٩٣، مضبطة ٧٤٧، في ٧ ذي القعدة ١٢٨٠هـ/ ١٤ إبريل ١٨٦٤م.

- مجلس الأحكام، س٧/١٠/٢٢، ص٧، مضبطة رقم ٧٧٤، في ١١ ذي القعدة ١٢٨٠هـ/ ١٨ إبريل ١٨٦٤م.

- مجلس الأحكام، س٧/١٠/١٩، ص٧٨، مضبطة ٤٠١، في ٢٩ رجب ١٢٨٠هـ/ ٩ يناير ١٨٦٤م.

- مجلس الأحكام، س٧/٩/١، ص٥٧، مكاتبة رقم ٢٦ من مجلس الأحكام إلى ناظر الحوض بالمحمودية، في ٢٦ ربيع الآخر ١٢٧٠هـ/ ٢٦ يناير ١٨٥٤م.

- مجلس الأحكام، س٧/١٠/٥، ص٥٩، مضبطة ٨١١، في ١٤ شعبان ١٢٧٥هـ/ ١٩ مارس ١٨٥٩م.

- مجلس الأحكام، س٧/٢٩/٣، قيد القرارات واللوائح الصادرة بمجلس الأحكام، ص٦٨، مضبطة ٢٦٣، في ٨ شعبان ١٢٧١هـ/ ٢٦ إبريل ١٨٥٤م.

- محافظ مجلس الأحكام، محفظة رقم ١، وثيقة رقم ٢٦، وهي عبارة عن عرضحال مقدم من مشايخ وعمد قرية شبين القناطر إلى عباس باشا بتاريخ ٢٥ رجب ١٢٦٥هـ/ ١٦ يونيو ١٨٤٩م وفي أعلاه شرح بختم عباس باشا إلى مجلس الأحكام يكلفه بنظر الشكوى بتاريخ ٢٠ رمضان ١٢٦٥هـ/ ٩ أغسطس ١٨٤٩م.

- محافظ الداخلية، محفظة رقم ٢٧، عرضحال مقدم من محمد بسيوني بتاريخ ١٨ رمضان ١٢٩٥هـ/ ١٥ سبتمبر ١٨٧٨م.

- انظر الفصل الذي يحمل عنوان" خضوع الفلاح وثورته" في كتاب جابرييل بير: المرجع السابق، ص٢١٧- ٢٣٣.

- مجلس الأحكام، س٧/٧/١، دفتر صادر تحريرات عربي، وهو في حقيقته صادر عرضحالات وليس تحريرات.

منذ نحو ثلاثين سنة، وحتى انتقل الزمن بنا من القرن العشرين إلى الواحد والعشرين كان مفهوم عبارة "التراث الفوتوغرافي" كما نعرفه اليوم شبه غائب في مصر، على الرغم من وجود عدد قليل من المؤسسات الحكومية التي كانت تحتفظ بأرشيف موروث للصور، وكان في غالب الأمر متهالكًا جدًا ومهملاً، ومقصورًا استخدامه على المؤسسة ذاتها، كما كان غير متاح للجمهور والباحثين. أما على مستوى العامة؛ فلم تكن الصور الفوتوغرافية القديمة تمثِّل أهمية سوى كونها ذكريات عائلية. فكانت تُحفظ في مظاريف تراكمت عبر السنين في صندوق كرتوني، أو في الأدراج النائية للدواليب، أو ربما كانت في بعض الأحيان صورًا بأحجام متفاوتة لبعض أفراد العائلة معلقة داخل كادرات على حوائط الصالونات وغرف المعيشة. ولكن لوحظ خلال العقدين الماضيين تنامي الاهتمام المؤسسي والعام بتراث مصر الفوتوغرافي، بالتوازي مع انتشار كم هائل ومتنوع من الصور القديمة بالأبيض والأسود على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي الصحافة، وظهور أرشيفات جديدة وأسواق للصور القديمة وتجار متخصصين.