رؤى

أسماء سعد

المرأة واللغة: إقصاء متعمد للمرأة في الخطاب اللغوي

2020.01.01

تصميم آخرون

 المرأة واللغة: إقصاء متعمد للمرأة في الخطاب اللغوي 

اللغة بالنسبة للبشرية هويتها وماهيتها، لسان صدق يقول حياة الجماعة زمانًا ومكانًا وإنسانًا وحضارة، يجليها كما هي؛ دالاً ومدلولاً بحيادية مفترضة، وعلى الرغم من ذلك يسترعى انتباهنا بخس المرأة، المستمر، على المستوى اللغوي، ووضعها في طبقة أدنى من الرجل، على مستوى الحصيلة المفرداتية، وما يتبعها من إشارات ورموز لغوية ودلالية.

تعمَّدت الأنساق المعرفية لمختلف الثقافات اليونانية والإنجليزية والعربية "مركزة الذكورة" وتهميش الأنوثة؛ إذ ساهمت اللغة في طرد المرأة من أحضان الثقافة عمومًا، واللغة خصوصًا، بما يكفل للرجل دورًا تفرَّد فيه بالفحولة، وأصبح المهيمن والصانع والمنتج للقواعد والقوالب اللغوية والنحوية.

وقد نتج عن تغييب المرأة أن جاء الزمن موثقًا ومسجلاً ومكتوبًا بالقلم المذكر واللفظ الرجولي، حتى أننا عهدنا الراوي على الدوام، هو الكاشف عن حقيقة وصفات وحكايات المرأة، ولم تستطع الأخيرة أن تستكشف بذاتها شروط وقوانين اللغة وتثبت حضورها لغويًّا، وحتى مع تمكنها الآن من الكتابة والتعبير أكثر من ذي قبل، فقد اصطدمت بحواجز العادات والتقاليد والثقافة، والتي لا تزال تعاملها ككائن مستلب، لمجرد افتقارها ميزة الذكورة.

الدراسات السوسيولچية المرتبطة بدراسة القوانين التي تحكم تطور المجتمعات، تثبت أن اللغة -ليست العربية فقط- تنحاز إلى الذكورة وتُحابيها، وتهمِّش الأنوثة وتقصيها، وأن الحقول الدلالية والبنى اللغوية، جاءت متحاملة على جوهر الكيان اللغوي الأنثوي، وتخلَّت عن حيادها لصالح الرجل، وهو ما يظهر في أغلب النعوت المادية والمعنوية، وليس أدل برهانًا على ذلك من اﺳﺘﻌﻤﺎل ﺻﻴﻎ "ﻓﻌﻮل وﻓﻌﻴﻞ وﻣﻔﻌﻞ وﻣﻔﻌﺎل وﻣﻔﻌﻴﻞ" للمؤنث والمذكر، تماشيًا مع الأخير.

ليتضح أمامنا جليًّا أن النظام البطريركي؛ الذي وضع الرجل على رأس هرم المجتمع، وألقى بالمرأة في قاعدته، قد استخدام "اللغة" أداة لذلك، ليعزز من كونه نظامًا اجتماعيًّا يرتكز على ترسيخ العادات والتقاليد، بشكل ينحاز إلى الذكور أو الأب، ويحقق لهما سلطة على الزوجة والفتيات.

التذكير هو الأصل

تكمن أهمية اللغة، وخطورتها، في أنه وفقًا لها يتعلم الأطفال منذ ولادتهم كيف يرون أنفسهم، عبر المحادثات والتفاعل المستمر على صعيد توظيف الرموز والمفردات المناسبة للموقف، وبالنظر إلى بنية اللغة نتلمس فيها بُعدي "المبنى والمعنى"؛ فعلى صعيد المبنى تُخاطَب الأنثى بألفاظ الذكور، وعلى صعيد المعنى تُصنف المرأة على أنها كينونة مؤصلة على السلبية والخضوع والضعف، خصوصًا وأن المقاربة المعجمية تؤسس لذلك بشكل لا خلاف فيه.

عزَّزت الفصاحة العربية من كون التذكير أصل البلاغة، ومن ثم صار التأنيث فرعًا، ونجد ذلك في كون المرأة "عضوًا" في مجلس أو هيئة ما، و"مديرًا أو رئيسًا" لجلسة ما، وتلقب بـالمحرر أو الأستاذ أو المحاضر، ويقال عنها "زوج" فلان وليس العكس، وذلك بخلاف ما سبق وذكرناه من اﺳﺘﻌﻤﺎل ﺻﻴﻎ "ﻓﻌﻮل وﻓﻌﻴﻞ وﻣﻔﻌﻞ وﻣﻔﻌﺎل وﻣﻔﻌﻴﻞ" للمؤنث والمذكر.

كما أن الترتيب العربي للضمير، ثابت وراسخ، في القول "هو وهي"، فقد اتفق النحاة "الأقدمون" على أن الترتيب المعتاد بينهم للضمائر يسبق فيه الذكر الأنثى، فاعتادوا القول "هو وهي"، واتفقوا على أن تقديم الضمير المذكر على المؤنث هو الأصل، كما رفضوا في أغلب مؤلفاتهم إطلاق مسمى "جمع المؤنث السالم" واستبدلوه بلفظ "الجمع بألف وتاء مزيدتين" وفسروا ذلك بأنه ربما كان مفرده مذكرًا، وفي هذه الحال لا يمكن أن نصف الجمع منه كـ "مؤنث".

ودافع عن نظرية أن الأصل اللغوي ذكوري وليس أنثوي، أبو الفتح عثمان بن جني، المرجع اللغوي والنحوي، والذي أثنى عليه المتنبي، ذاكرًا أن "تذكير المؤنث واسع جدًا؛ لأنه رد إلى الأصل"، ليرسخ من التعامل مع المرأة ليس ككائن مستقل، وإنما مجموعة من الصفات والدلائل.

كما أن الأستاذ الأول للكتابة الفنية عند العرب، القرشي عبد الحميد الكاتب، الذي يعتبر من أساتذة البلاغة العربية، وأحد أعلام الكتاب في القرن الثاني للهجرة، له مقولة شهيرة "خير الكلام ما كان لفظه فحلاً ومعناه بكرًا"، ليظهر بوضوح أن العبارات اللغوية تحتفظ بقوة اللفظ للرجل، بينما تحصر المرأة في التعبير عن المعنى، ولا يمكن بأي حال أن يكون المعنى كائن قائم بذاته دون وجود اللفظ.

وللعجب فإن اللغة الإنجليزية ليست استثناءً من ذلك؛ فقد ألغت المرأة أيضًا، ودمجتها كـ"ملحق لفظي"، فالرجل يشكِّل بوضوح التكوين الأساسي في الألفاظ التي تدل على أصل البشرية، ترسيخًا لكونه المركز، وهو ما يتضح في الآتي، والذي لو حذفت منه كلمة "رجل أو MAN" لما كان للمرأة وجود (wo-man.. hu-man.. man-kind).

لنكون بذلك أمام مفردات وقواعد لغوية لم تترك مفرًا للمرأة من أن تصب أنوثتها في قالب لغوي مذكر، لتعوم بشكل سطحي في خطاب اللغة، التي يظل عمقها وباطنها ذكرًا ورجلاً.

وبالنظر إلى كلاسيكيات التراث الشعبي العربي، سنجد أنساقًا جاهزة نُقلت عبر جسر اللغة، وترسخت في الوجدان، وهو ما ورد في كتاب "المثل الشعبي وإنتاج النوع الاجتماعي" على سبيل المثال "اللحية تسبق الضفيرة"، بما يعطي الأولوية للذكورة، ويغلب صفاتها على الأنوثة.

رموز منحازة

التعامل مع المرأة كممتلك يدخل خزانة الرجل، والذي رُسِّخ في المعايير اللغوية، وتأسيس مبدأ المركزية الذكورية في التعابير اللغوية، ساهم فيه، على مدى التاريخ، أعلام ورموز شرعنوا للرجل وضعية أعلى من الأنثى، ومارسوا ضدها العنف الرمزي في اللغة والمفاهيم، وكرَّسوا لأشكال الطبقية والدونية، في أكثر العلوم والحضارات ذيعًا للصيت.

لا يمكن تبرئة "الفلسفة" من الانخراط في مجتمع ذكوري متشدد في تعاليه على المرأة، فبدءًا بالفلسفة الإغريقية؛ لطالما عبَّر أفلاطون عن أسفه لأنه كان "ابن امرأة"، وقد ازدرى أمه في أكثر من موضع فقط لأنها أنثى، وعبَّر صراحة عن أن الحب الحقيقي هو ما كان بين الرجل والرجل، ويرى الجمال المبهج في الشبان، وللمجتمع أن يكافئ الرجال المحاربين بأن يمنحهم نساءً؛ جائزة لهم على شجاعتهم، كما ورد نصًّا في كتابه "الجمهورية".

وقد غابت المرأة واختفت من الخطاب اللغوي الموثق والمكتوب بمعرفة أفلاطون، الذي أقصاها عن عمد إلى الهامش، وهو ما تكرر في المجتمع اليوناني قبل الميلاد من خلال سوفوكليس؛ أحد أعظم ثلاثة كتاب للتراجيديا الإغريقية، والذي وهب ابنه وصية، ورد فيها "جدير بالمرء ألا تلين له قناة أمام امرأة في أي شأن من الشؤون، فإنه لمن الأفضل له أن يُطاح به من الحكم على يد رجل، وبذلك لن يسمع أحد يدَّعي أننا هُزمنا على أيدي النساء".

وبالإضافة إلى سقراط وأفلاطون، هناك نيتشه، وشوبنهاور، ودارون؛ الذي كان يؤمن بأن المرأة بيولوچيًا أحط شأنًا من الرجل، وقد وثَّق ذلك خطابيًّا وكتابيًّا في نصوص وصفت المرأة بالحيوان المُشوَّه في سلم التطور، معتبرًا الرجل أعلى منها مرتبة.

وضمن أيقوناتنا الثقافية المنحازة، يأتي الأديب الراحل عباس محمود العقاد، المعروف بـ"عدو المرأة"، الذي قال وكتب "إن المرأة خُلقت جميلة لسبب واحد، هو أن تَسعَد بها عيون الرجال"، وهو الذي طالما منح الرجل السيطرة الكاملة على معاقل الثقافة واللغة، ورسَّخ ذلك في العرف الاجتماعي، وجعل من الرجل إلى جانب آخرين "فاعلًا لغويًا"، يكتب ويشهد، أما المرأة، فهي الموضوع الموصوف والمكتظ بجوانب حسيَّة لا تعبر عن الأنثى إلا كجسد شبقي مثير.

أصوات منصفة

لا توجد نماذج متعددة لأقلام نسائية أو حتى ذكورية قاومت الرؤية اللغوية الذكورية، لحداثة عهد المرأة بتقديم نفسها كمحرك قادر على زعزعة اللغة والفكر الذكوري المهيمن، ولكن المفكرة المصرية بنت الشاطئ، صدحت بأن مؤرخي الأدب تعمدوا طمس أدب المرأة العربية في عصورها الماضية وألقوا بآثارها في الظل، وهو ما أسمته بالوأد العاطفي والاجتماعي، منادية بضرورة أن يكون لذلك تبدل ينصف المرأة، ويجعلها على القدر نفسه من الرجل.

كما أن الأديبة اللبنانية الفلسطينية، مي زيادة، طالبت بالتفرقة بين الأنساق الدينية والثقافية، وقالت إنه على المستوى العقائدي، فقد لاقت المرأة تكريمًا سماويًّا، وأن الفطرة وهبت المرأة حقها الطبيعي، أما الثقافة التي تصنف كصناعة بشرية ذكورية، فهي المسؤولة عن إهدار حقوق المرأة وبخسها ما تستحقه، وهي من حوَّلتها إلى كائن مستلب في قوالب ثقافية ولغوية مخزية.

وقبلهم بزمان طويل، مثَّل الأديب العربي الجاحظ، استثناءً ذكوريًّا نادرًا، فقد عبَّر، في كتبه، عن تقديره للمرأة، ورفضه للتمييز ضدها بقوله "لا يقول أحدٌ ممن يعقل إنّ النساء فوق الرجال أو دونهم بطبقة أو طبقتين أو بأكثر، ولكن رأينا ناسًا (يَزِرون) عليهن أشدَّ الزراية، ويحتقرونهنّ أشدّ الاحتقار، ويبخسونهن أكثر حقوقهن... ونحن وإن رأينا أن فضل الرجل على المرأة في جملة القول في الرجال والنساء أكثر وأظهر، فليس ينبغي لنا أن نقصِّر في حقوق المرأة، وليس ينبغي لمن عظَّم حقوق الآباء أن يصغّر حقوق الأمهات، وكذلك الإخوة والأخوات، والبنون والبنات، وأنا وإن كنت أرى أن حقّ هذا أعظم، فإن هذه أرحم".

تحالفات مسؤولة

تقع مسؤولية وضع المرأة تحت أغلال اللغة على مجموعة عوامل ثقافية واقتصادية، وفي السياق الثقافي، وضع المؤرخ السويسري يوهان باخوفن؛ الذي عاش في القرن التاسع عشر، نظريته المعروفة بـ"حق الأم"، والتي تذهب إلى أنه قد جرى تحول عام في المجتمع، لا على مستوى اللغة فقط، لصالح الرجل، من "نظام الأمومة" القائم على علاقات الارتباط والرحم والتصالح مع الطبيعة وإعمال الفطرة، إلى "نظام الأب" القائم على الصرامة وفرض القوانين العقلانية وقواعد القوة.

ودفع باخوفن بأن الرجل سعى بكل ما يملك، عقب ترسيخ وضعه في الطبيعة، إلى نسب الأطفال إليه، وربطهم باسمه ولغته، وأنه سخَّر العلامات اللغوية من أجل تحقيق الخلود لنفسه بنسب الأطفال إليه اسمًا.

كما أن تحالفات اقتصادية معاصرة، تعمدت الإبقاء على المرأة أسيرة للرجل، بآلة دعائية ضخمة، تدير أفكار وتوجهات الرجل، اعتمادًا على الترويج للأنثى كسلعة جسدية، بإعمال خطاب دعائي ولغوي، حتى لو كان يروج لـ"مستلزمات نسائية" أو بضاعة تخص المرأة، فإنه يعلن عنها ويروِّج لها باعتبارها أفضل المنتجات التي تجذب الرجال.

وعقد هؤلاء تحالفًا ضمنيًّا مع علماء اجتماع وعقائديين، رسَّخوا لاستلاب المرأة، والتعامل معها باعتبارها أداة للتوظيف والترميز؛ تحمل دلالات حسيَّة وجنسيَّة يعبَّر عنها بأصول لغوية ساعدت على تغلغل الثقافة الذكورية، وهو ما يضع الجميع أمام تحدٍ حتمي لوضع استراتيچيات الخروج من هذا الوضع، وإرساء لغة خاصة بالمؤنث يمكنها كسر الاحتكار اللغوي الذكوري، وأن تكون المصطلحات الأنثوية مكافئة لمصطلحات الفحولة الذكورية السائدة في الحقول اللغوية والدلالية في مختلف الثقافات البشرية.