دراسات
نايف الهنداسالمركزية الأوروبية: فكرة خطرة
2017.11.01
مصدر الصورة : ويكيبيديا
المركزية الأوروبية: فكرة خطرة
إلى أي حد يفكّر أحدنا في أصليّة أفكاره وفي تحررها من ثقل الإرث الغربي كفاعلٍ استعماري في بنية معرفتنا حول أي شيء نعرفه؟إلى أي حدٍ يستطيع المرء أن يفكك تلك البنية المتراكمة التي قد تُشكّل وعينا بما نفكر فيه من موضوعات؟
في حديثنا عن «ما بعد الكولونيالية» كمجموعة أدوات فكرية، لا بد لنا أن نأخذ بحسباننا ظروف نشأتها وارتباطمفكريها بـ»اندثار» الماركسية (لو سلمنا جدلًا بذلك) وهزيمتها كمدرسة فكرية تتصدى، وحيدةً، لدراسة التغيير التاريخي في المجتمعات.استغل كبار ما بعد البنيويينهؤلاءعواملَ عدة-مثل انهيار الاتحاد السوفييتيوصعود الصين والشرق الآسيوي بشكل عاموارتحال الفكر اليساري الأكاديمي إلى الولايات المتحدة(الذيخلّف تغيّرًا في الاقتصاد السياسي للمعرفة في العالم الغربي)- ليؤكدوا على اندثار الفكر الماركسي.هذا أمرنراه في تأكيدات كثير منهم، مثل روبرت يونج محرر مجلة الدراسات الما بعد كولونياليةالذي يتحدث عن ما بعد الكولونياليةكأحدأعراض هذا الانهيار قائلًا: «إن صعود دراسات ما بعد الكولونياليةيتوازى مع نهاية الماركسية كفكرة شارحة للسياسي والثقافي والاقتصادي في العالم الثالث».
تركز ما بعد الكولونيالية نقدها على الماركسية، وترى نفسها بصفتها فكرًا منقلبًا على تلك الأخيرة وعلىمركزيتها «الأوروبية»، وترى نقدها هذا ضروريًا وقبْليًا لفك الارتباط بينها وبين المركزية الأوروبية.إن دعاوى ما بعد الكولونيالية حول موضوعات مثل»المركزية الأوروبية» (أو الأوروبويّة)و»التاريخانية»و»الحداثة»و»الاقتصادوية» تفتح أبوابًا للنقاش في مسلّمات الأفكار مثل الماركسية والقومية ودراسات التأريخ. لكن النقاش لايتقدم بل يدور في حلقات. ويتكرر السؤال الذي يشكك في كل معرفة: هل يبنيصاحب النزعة القومية معرفته على الأسس التي أرساها عدوه، ألا وهو الاستعمار؟
ستركز هذه الورقة على موضوعات النقد الأساسي المرتبطة بالمركزية الأوروبية: التأريخ، والتأريخ من أسفل، ومقاربة المؤرخ البريطاني إيريك هوبسباوم للتاريخ الفلاحي كنموذج، ونقوداترانجيت جوها وديبيشتشكربارتي عليه. أيضًا ستعرّج الورقة على تفكيك المادية الجدلية من حيث هي منتج يحمل في طياته آثارًا لمركزية أوروبية تمتدّ من أصل هيجليّ حتى ماركس والماركسية بشكل عام. ثم بعد ذلك سنعرّجعلى المزاعم حول آثار المركزية الأوروبية الموجودة في النصوصالماركسية الأولى لدى ماركس وأنجلز. بعد ذلك سنناقش مسألة أفق الأفكار التقدمية وشبح العدمية فيما بعد الكولونياليةمن خلال دراسة المفكر الفلسطيني جوزيف مسعد ونقد مايكل هارت كمثال.
سأركز في ورقتي هذه على موضوع المركزية الأوروبية بصفتها نزعة لا مفرّ منها بحسب المنظّر ما بعد الكولونيالي الهندي ديبيشتشاكربارتي. وسيكون تعريف المركزية الأوروبية ونقاش حيثيات هذا المصطلح وصعوده نقطة البداية من أجل التوسع في تفاصيل فكرية جمّة خلفه. فجوهر المركزية الأوروبية كما يعرفها بإسهاب ألكسندر أنيفاس وكريم نيسانجيولو في كتابهما «كيف حكم الغرب؟» يكمن في أنهاتربط أصل الحداثة الرأسمالية بتطورات محصورة على الداخل الأوروبي. فيمكننا القول عن أي مسار لتطور المجتمع بناء على الافتراض الآنف ذكره بأنه محصور في تفاعلات هذا المجتمع الداخلية حصرًا. فيصبح الحديث عن النهضة والأنوار مثلًا، حديثًا عن ظاهرة داخلية في أوروبا بصفتها نتيجة تفاعلات ذاك المجتمع،وأي تقدم لأي مجتمع بحسب سمير أمين في كتابه»المركزية الأوروبية» لايكون إلا بالتماهي مع الغرب وأوروبا، ولا يمكن تصور أي تقدم لأي مجتمع إلا على الطريقة الأوروبية وإنسانويتها الكونية. أما الافتراض الثاني فهو يسمى بـ»الأولوية التاريخية»، وهويُموضع التمييز التاريخي بين التقليد/التقليدية والحداثة، على سورٍ فاصلٍ بين «الغرب» و»الشرق». وإذا ما سلّمنا بهذه النظرية تصبح المجتمعات غير الأوروبية هي المقابل والآخر الفكري لأوروبا، بالتالي تكون المقابل والآخر أيضًا بالنسبة لقيمها، ومنها الحداثة. أما الافتراض الثالث فهو»التطور الخطي»، وهو القائلبعالمية تجربة الحداثة الأوروبية،وبعالمية الخطوات التي مرت بها أوروبا من الإقطاع إلى الرأسمالية إلى آخره.
التأريخ من الأسفل والرواية ما بعد القومية
كان مشروع التأريخ من الأسفل في الستينات والسبعينات، الذي تصدى له بعض رموز التأريخ اليساريين أمثال الشهير إيريك هوبسباوم وإيريك ثومسون، مشروعًا رائدًا في الأوساط الماركسية التي كانت قد سادت فيها سرديات ليبرالية تشبه السرديات التي لقنتها البرجوازية للمؤسسات التعليمية في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين حول تاريخ أوروبا والعالم. فالتأريخ من الأسفل لو أردنا به اختصارًا هو كتابة التاريخ الشعبي متجاوزًا تاريخ السلطة ورموزها والنخب بشكل عام. وأخذًا بعين الاعتبار ما يسميه الناقد الماركسي عارف ديرليك «حساسيات العالم الثالث»، فالإشكالية العامة في منتجات التأريخ النخبوي التقليدي هي في التعاطي مع الاستعمار.منتجات التاريخ النخبوي أعطت للتابعيين (أي المهتمين بدراسة التابع، وهو مصطلح قد صاغه المفكر الإيطالي أنطونيو جرامشي في دفاتر سجنه)كما يرى رانجيت جوها: «دليلًا على حقيقة تاريخية مهمة، تبيّن فشل البرجوازية في التحدث بلسان القوم». وهذه القراءةقد وسعت من أفق التأريخ من ناحية الفاعلين السياسيين ليشمل: تاريخ الجندر، دراسات التابع، ودمقرطة المعرفة التاريخية. فكيف نشأ خط التأريخ هذا لدى البريطانيين هؤلاء؟ وماهي أوجه نقد جوها له؟
بعد نهاية الاستعمار البريطاني وحكمه في الهند عام 1947، انتشرت في الجامعات المحلية والغربية في الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرها محاولة لكتابة تاريخ الاستعمار المنتهي لتوه. وكان المثير للاستقطاب في ذلك المجال البحثي هو الموقف القومي، والموقف من الاستعمار البريطاني بشكلٍ عام. حيث كان مؤرخو الهند من القوميين يحاولون القيام بما يسميه تشكربارتي»تطهير التاريخ من رواسب الاستعمار».وقد سلك بعض القوميين الهنود مسلك استخدام الماركسية من أجل تأسيس فكرة قومية هندية مناهضة للاستعمار. فألّف بابين شاندرا مثلا كتابًا في الاقتصاد السياسي للقومية المحلية بعنوان «نشأة القومية الاقتصادية ونموها في الهند»، وألف أنيل سيل كتاب «ظهور القومية الهندية في أواخر الستينات»، هذا بالإضافة إلى كُتبٍ أخرى متنوعة عن الجنوب الآسيوي وظهور القومية قد يطول بنا ذكرها وسرد محتوياتها.
في الوقت نفسه كان هناك فريق آخر يناقش فضل البريطانيين في تحديث البلاد وإرساء المؤسسات الصحيةوالتعليميةوالثقافية وإرساء حكم القانون وبدء مشروع صناعي حديث. لكن ما أن ننظر إلى رؤية رانجيتجوها ومن يدور في فُلك اليسار الهندي آنذاك، سنشهد نظرة توفيقية بين المشروع القومي الهندي وبين الاستعمار، من حيث هما رؤيتان لتقسيم اجتماعي عمودي تدفعه المصالح. فالحركة القومية الهندية كما يذكر تشكربارتي انشغلت بالعمل على الحصول على الأحياز الصغيرة التي كانت تمنحها مؤسسات الحكم الذاتي التي يسمح بها الاستعمار البريطاني. وفي سبيل هذا خاضت هذه النخب صراعًا داخليًا، يصفه أنيل سيل بأنه «تنافس بين الهندي والهندي، علاقته بالإمبريالية علاقة دميتين قلقتين من القش تتشبثان ببعضهما البعض»، لدرجة تدوين الفوقية التي تعامل بها الرموز القومية الهندية، مثل نهرو وغاندي، مع الطبقة الفلاحية والعمالية فيما يخص مطالبهم السياسية الخاصة. فكان هذا التأريخ للحركة القومية ورموزها بحسب جوها، تاريخًا للهند على شكل قصص إنجازات النخب فقط لا غير. فمؤرخو هذا التاريخ من النخب لا يمتلكون من الأدوات ما يخولهم لفهم دور العوام والمهمشين في صنع هذا التاريخ.
لم يظهر في الهند مجال آخر لدراسة التاريخ بمعزل عن دور النخب حتى عام 1982، حين بزغت شمسُ مدرسةٍ منقلبةً على مدارس التأريخ الآنف ذكرها، وبانيةً أسسها المعرفية على بنىً فوكوية-نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو- تتعلق بثنائية المعرفة/السلطة.ففي عام 82 و84 أسس تلك المدرسة كلٍ من جوها وديفيد أرنولد، الأول في مقالة بعنوان «عن بعض جوانب التأريخ الهندي» في مجلة «دراسات التابع»، والثاني في كتابات حول التاريخ التاميل الهنود بدأها في أواخر السبعينات وتبلورت في مقالة نُشرت عام 1984.ارتبطت تلك المدرسة بشكل كبير بمدرسة «التأريخ من الأسفل»، والتي يجب التعريج عليها عندما نريد الحديث عن دراسات التابع.
كان من بدأ حركة التأريخ من الأسفل جماعة من المؤرخين الماركسيينتشكلت في منتصف الأربعينات. إلى جانب هوبسباوموثومبسون، كان هناك كريستوفر هيل وبراين بيرس وآخرين. وقد كانت هذه المجموعة التي انضمت إلى الحزب الشيوعي البريطانيتشكلت نواتها في جامعة أوكسفورد،وقد تأثرت بفكرة جرامشي عن التأريخ الاجتماعي، خصوصا أن فكر جرامشي كان رائجًا في تلك المرحلة. فانعكاسات الجرامشوية القوية على الفكر الماركسي، وإن كانت مبعثرة في أوروبا، خاصة بعد الانقسام بين الماركسية «الإنسانية» الأوروبية المتجاوزة للأرثوذوكسياتالستالينيةوالماركسية السوفييتية، أثرت على تلك المجموعة التأريخية فجعلتها تميل لتاريخ الجموع ومسائل الوعي الشعبي.
رغم ذلك فإنرانجيت جوها، بعد تفرغه من توضيح تهافت التأريخ النخبوي والكتابة للتاريخ القومي للهند، توجه بسيف نقده الصارم إلى مدرسة «التأريخ من الأسفل». فأفرد نقودات مطولة هووتشكربارتيلهوبسباوم ورؤيته للوعي الفلاحي السياسيالهندي.
ذهب هوبسباومإلى نزع الرؤية السياسية الحديثة عن الفلاحين الهنود قائلًا: «هؤلاء أشخاص غير سياسيين لم يعثروا بعد أو لميبدأوا بالعثور على لغة خاصة للتعبير عن طموحاتهم إزاء العالم». في الكتاب الذي اقتبس منه ما سبق، وهو بعنوان «الثوار البدائيون»، يؤطر هوبسباوم الوعي الفلاحي في إطار لم يصل بعد إلى حداثة سياسية مما يجعله في مرحلة «ما قبل سياسية».
يرفض جوها ما سبق بشدة ويعتبره تمظهرًاللتمركز حول الأوروبية في فكر هوبسباوم. فتأريخ الحالة الفلاحية كحالة «ما قبل سياسية» تضع الفلاحين فيما يصفه تشكربارتيبـ»تناقض زمني»، يخفي فهمهم الخاص للحداثة الاستعمارية، ومقاومتهملها من خلال هذا الفهم، ووسائلهم الخاصة في معارضة السّلطة الاستعمارية،تحديدًا في الثورات الزراعية بين أعوام 1783و1900. يستغل تشكربارتي هذه الفترة من الاضطرابات للمقارنة بين التأريخ التقليدي والتأريخ الماركسي من أسفل وكيف أن كلًا منهما قد وقع في خطأ إغفال توضيح أساليب المقاومة لدى الفلاحين الهنود. فالتأريخ التقليدي اعتبرها ثورات بأساليب متخلفة اعتمدت على أدوات بدائية مثل العصي والحجارة دون أي محتوى وشعار سياسي صلب خلفها،بينما اعتبرها الماركسيون تعبيرًا عن وعي زائف أو محاولة لإعادة إنتاج نفس النظام الاجتماعي.
ينبع رفض جوها لهذه الأفكار من فكرة تأسيسية في دراسات التابع عن السيطرة دون هيمنة. فما يلاحظه جوها في كتابه «الجوانب الأساسية» Elementary Aspectsأنه في الدراسات الماركسية والليبرالية على حدٍ سواء تشيع الرؤية للعلاقات غير الديموقراطية في المجتمع على أنها رواسب لحقب سابقة على الحداثة الرأسمالية لالى أنها من صميمها أو من تمظهراتها، وبالتالي تصبح كما في الفهم الماركسي التقليدي دليلًا على الفشل في التحول إلى النظام الرأسمالي.
ينتقد جوها هوبسباوممن زاوية أن هذا الأخير ينتظر سيناريو أوروبي، بمعنى أن ينضم الفلاحون إلى صفوف العمال لكي يصبحوا بفكرهوبسباوم مواطنين جديرين بالحداثةوبإمكانهم الدخول في العملية السياسية، وإلا بقوا حالة خارجانية بالنسبة لرأس المال.يقول هوبسباوم عن علاقة الفلاحين برأس المال: «فهو خارجي بالنسبة لهم، بفعل ما يتخطى أفهامهم من قوى اقتصادية لم يجربونها ولا يسيطرون عليها».
الإشكالية كما يراها هوبسباوم هي أن الاستعمار البريطاني أسس لوضع أرسى فيه رأس المال العالمي هيمنته على الجنوب العالمي دون أن يمر هذا الجنوب بمرحلة دمقرطة النظام والعلاقات الاجتماعية والسياسية.هوبسباوم قطعًا لا يخفى عليه دور الفلاحين والمهمشين في مسائل التثوير والحراك السياسي. فهو يؤكد في أكثر من موضع أن ما يجعل القرن العشرين «أكثر القرون ثورية» هو اكتساب هذه الفئات وعيًا وإدراكًا سياسيًا. لكن هذا لم يمنعه من أن يتيه في تاريخويته الآتية من إرث أكاديمي أنجلوساكسوني.
إذن، يقف جوها موقف الناقد من مدرسة «التأريخ من أسفل» بسبب الموضع «ما قبل السياسي» الذي تضعه هذه المدرسة كخط ترسمه الرسملة؛ من وصَلإليه أصبح سياسياً، ومن لم يصل بقي في تلك المرحلة المتخلفة.وقد فكك جوها في كتابه «الجوانب الأساسية» مصطلح الوعي الفلاحي. فهو بحسب دراسة تشكربارتي له يُفرّق بين الوعي الجمعي ونظرة الذات لنفسها،ومن ثم لا يؤمن أن هناك فكر ثوري متبلور وواعٍ، وإنما يرى التمرد الفلاحي كنتيجة لعلاقات تربط بين «النخب والتابعين، والتابعين أنفسهم، وما يؤثر فيهم».
إن ما يقوم به جوها يتخطى محاولات إخراج التاريخ من تحيزات النخبإلى محاولة فهم السلطة ذاتها من منظور الحراك الذي يقوم به المزارعون. فقد كان يجمع كل ما يتوفر من أرشيف حول حركات الفلاحين الهنود وما تم ضدها من قبل السّلطة، من أجل أن يسلك مسلك المؤرخين الذين ينتقدهم في إعادة إنتاج منطق التمثيل الذي ابتدعته النخب في السيطرة على التابع. ولكن هذا المسار الذي اتخذه جوها قد جعله يجانب الافتراضات الأساسية لدى المؤرخين الماركسيين من الأسفل، وبالتالي فهو بحسب تشكربارتي قدأسس لنهج يأخذ الجوانب الماركسية في دراسات التابع إلى «متاهات لغوية، واضعة دراسة التابع موضع اليسار غير التقليدي».
يتماهى تشكربارتي مع كثير من النقد الماركسي الموجه لجوهابشأن إهماله لعوامل اقتصادية واجتماعية لصالح التركيز على الجوانب اللغوية والثقافية. فمثلًا فيما يتعلق بنقد جوها لفكرة الحالة «ما قبل السياسية» عند هوبسباوم، يتفق الأستاذ الجامعي الماركسي الهندي فيسنتكايوار مع تشكربارتي في أن جوها يسيء فهم وتوظيف هذا التوصيف وينتزعه من سياقه. يذكر كايوار في كتابه النقدي ضد ما بعد الكولونيالية «الشرق ما بعد الكولونيالي: سياسات الاختلاف»، أن فهم دراسات التابع لمصطلحات مثل (ما قبل سياسي، بدائي، إلخ.) خاطئ. إذ تفسرها باعتبارها نوع من الأحكام السياسية المطلقة، في حين هي لا تعدو كونها توصيف زمني.وفي الموازاة ينتقد تشكربارتي في كتابه «ترييف أوروبا» نقد جوها للمصطلحات الآنف ذكرها لكونه يضخم تاريخ السلطة في الحداثة المعولمةمنتزعًا إياه من سياق سرديات انتشار رأس المال.
الماركسية ونزعالثقل الاستعماري عن الديالكتيك
كما ذُكر آنفًا،رسّخت ما بعد الكولونيالية نفسها كبديلٍ عن الماركسية، من حيث أنها المدرسة الفكرية المعنية بدراسة أحوال المهمشين والنهضة بهم لتمكينهم من لعب الأدوار الرئيسية في التاريخ.ارتبطهذا الترسيخ بشكل كبير بالانقلاب على الماركسية كونها تقع في حدود دائرة النقد ما بعد الكولونيالي.
هذا النقد ذو الطابع «الانقلابي» بدأكنقد نصوصيّ، عادةً ما يكون مبتسرًا، مثل النقدالذي قدمه إدوارد سعيد. وكان الماركسي إعجاز أحمد قد أوضح هشاشة نقد سعيد، مبينًا كيف تناولهذا الأخير النص دون دلالاته. كذلك شارك اللبناني مهدي عامل في نقد سعيد من زاوية إغفالهللجوانب المادية للثقافة المهيمنة على الشرق وإغفاله كذلك للتناقضالمادي الديالكتيكيفي صلب هذه الثقافة السائدة.
من هذه النقطة بدأت ما بعد الكولونيالية في توجيه نقدها نحو الديالكتيك الماركسي بتشريحهالنصوص لماركس وأنجلز»تثبت» أن هذا الديالكتيك مبني على تصورات متأثرة بالنزعة المركزية الأوروبية، وأنه ببنىً معرفية ومناهج تأريخية تتخذ من أوروبا أنموذجًا يجب تعميمه على سائر العالم.
يرتكز النقد ما بعد الكولونياليعلى فضح سردية يتفق تشكربارتيوتشيبر على تسميتها بسردية «التأريخ الليبرالي». حيث تبنّى ماركس بصفته ابن عصره، ومن تبعه من الماركسيين،التأريخ الليبرالي النخبوي الذي قال بخرافات عدة، مثل تصدي الرأسماليين لقيادة الثورة البرجوازية في فرنسا(وبريطانيا) دون صراع مع الطبقات العاملة ولا إخضاع لها. نرى هذه السردية أيضًا، وفقًا لهؤلاء المفكرين الهنود، في التأريخ الهندي، حيث أنها تدعي تسيد نخب رأس المال القومية في الهند في التعاطي مع الاستعمار البريطاني.
إن تحرير الديالكتيك الماركسي من إرث المركزية الأوروبية هو تحرير لماركس من الفكرة ذاتها. فلو نظرنا إلى الفكرة التي يرتكز عليها رانجيت جوها، وإلىالأفكار المنتجة في فترة نضجدراسات التابع في منتصف التسعينات، سنجد أن جوها ورفاقه يرتكزونفي نقدهم الصارم لفكرة عولمة رأس المال حول نقطةالفشل الذريعلمشاريع البرجوازيات (في الهند مثلًا)في تكرار النجاح الذي حققته في الغرب حينما تصدرت ثوراتها وقادت الرأسمالية إلى مرحلة التبلور.
هذا الفشل، بحسب جوها، هو فشل للأمة في التعبير عن ذاتها، وبالتالي فشل في تحقيق تطور يصاحبه دمقرطة برجوازية على غرار الديموقراطيات البرجوازية في الغرب في القرن التاسع عشر. ودليل جوها على هذا الفشل هو أن الرأسمالية في بلدان الجنوب العالمي لم تغير في النظم الاجتماعية ولا السياسية.
هذا الافتراض يوقعنا في فخ المركزية الأوروبية بالضرورة. فالقول بمسيرة واحدة للتاريخ تنبع من تجارب بريطانيا وفرنسا، لهو افتراض واضح تأثره بالمركزية الأوروبية. ولكن، هل هذا ما ينطوي عليه الجدل الماركسي حقًا؟
سأناقش هذا المأخذ من محورين، أولهما نقد رؤية دراسات التابع للجدل الماركسي بشأن مسار التطور التاريخي وسوء فهمها لعولمة رأس المال، وثانيهما براءة ماركس وإنجلز من النقد الذي ينالهما بخصوص تضخم مكانة أوروبا في أطروحاتهم.
نقد رؤية دراسات التابع للجدل الماركسي وسوء فهمها للعولمة
إن افتراض جوها كما أسلفت يوقعنا في شَرَك المركزية الأوروبية، لأنه حصر ذاته هو الآخر في سردية «التأريخ الليبرالي». فكرة جوها التي أسست لقاعدة فكرية في «دراسات التابع» هي كالتالي: فشلت الرأسمالية في عولمة ذاتها، على الأقل بشكلها الأوروبي الذي يعتمد على مسار محدد تطيح فيه البرجوازية بالقوى الإقطاعية، ثم تُنشئ بعد ذلك نظاماً توافقياً تحديثيًا هادمًا للبُنى التقليدية السابقة للرسملة،بصبغة ليبرالية تضمن مشاركة جميع الأطياف والطبقات، ومن بينها الفلاحون والعمال. وما أن تفعل البرجوازية ذلك فهي تتصدر هذا التوافق المجتمعي والطبقي ولا تعود بحاجة إلى العنف السياسي من أجل تصدر مجالات السلطة والحديث باسم الأمة.
هذا هو النموذج الأوروبي. لكن الحال لم يكن كذلك في المستعمرات والجنوب العالمي. فالبرجوازيات في هذه المناطق فشلت في تحقيق المشاريع الآنف ذكرها، وفشلت في بسط هيمنتها على النظام الجديد لمصلحة الانخراط في مخلفات العملية الكولونيالية، التي رعتها وأنتجتها في المقام الأول.فلم يحدث تغيير في البنى الاجتماعية والسياسية، ولم تنجز البرجوازيات مشروعها الليبرالي التوافقي، بل اعتمدت على القهر والعنف لتحد من المشاركة السياسية، ولذلك لم تستطع الحديث والتعبير عن الأمة، وبالتالي قادت مجتمعاتها للتخلف.
من تمظهرات هذا ما ينقله فيفيك تشيبر مثلًا عن تردد البرجوازية الهندية في مجابهة الإقطاع والإقطاعيين، ورفضها ضم الطبقات العاملة والفلاحية تحت مظلتها، وذلك لكونها رفضت تحقيق أبسط مطالب تلك الطبقات فيما يتعلق بمسائل تخفيض الإيجارات،وهو الأمر الذي جعل من الصعب انخراط هذه البرجوازيات في مهمة عابرة للطبقات لتمثيل الأمة.يقول جوها إن «البرجوازية المحلية التي تربت في كنف الاستعمار، تبنت دورها التاريخي الذي ميزهعجزها عن مجاراة بطولات البرجوازية الأوروبية في فترات صعودها». في هذا الاقتباس يقع جوها في مزالق التأريخ الليبرالي وفي منطقه المتهافت الذي يحصر نجاح البرجوازية وفشلها في لغة أركانها الليبرالية وفي قدرتها على خلق وسائل التمثيلالديمقراطي.
الإشكال الأول في هذا النقد هو افتراضه أن هناك مسار تغيير واحد ومُلزم للرأسمالية. فبحسب جوها معيار نجاح رأس المال في مشروعه هو التحول بشكل ميكانيكي في المجالين الاجتماعي والسياسي نتيجة للتحول في المجال الاقتصادي. وهذا أمر صحيح بمعنى ما. لكن الإشكال هو في تحديد تغير معين يطرأ على مؤسسة معينة أو ثقافة معينة كمعيار للتغير الاقتصادي. ومثال ذلك وضع جوها مسألة عدم تحويل الرأسمالية ثقافة التابعين إلى ثقافة قومية كمعيار لفشل المشروع البرجوازي في الهند.
يرى تشيبر أن جوها يتجاهل احتمال أن توسع رأس المال قد لا يحتاج إلى هذا التغيير الثقافي العميق الذي يعتقد، وأنه قادر على الاعتماد على البنى الثقافية المدموجة في الثقافة المحلية التقليدية التي لا يظنها جوها نافعة.فجوها يغض النظر عن التصاعد النهم لزيادة الأرباح وعن التمظهرات الاقتصادية لتوسع رأس المال،فقط بسبب عدم تطابقها مع تصورات سياسية معينة أو حالات ثقافية محددة.
الإشكال الثاني هو تسليم جوها بأن الثورات البرجوازية في أوروبا،وتحديدًا في فرنسا في 1789 وبريطانيا في أربعينات القرن السابع عشر، أنتجت بالفعل، كما يصفها «التاريخ الليبرالي»، توافقًا ليبراليا ضمّنت فيه أطياف الطبقات الأخرى، أي تسليمه بأنها حققت الهيمنة التي لم تتحقق في المشروع البرجوازي في المستعمرات والجنوب العالمي. وهنا «الهيمنة» عند جوهاتأتي بمعنى غلبة الإقناع على القمع. لا يعني ذلك اضمحلال القمع وإنما ضآلة مساحة استخدامه.
ولكن ما مدى صحة الادعاء القائل إن الثورات الأوروبية أنتجت هيمنة ناجحة؟
إن الثورات البرجوازية الأوروبية،برغم أهميتها الاجتماعية ومكانتها في التاريخ، محاطة بالخرافات وبإرث ثقافي كرسه المثقفون والمؤرخون في مراحل التنوير، وتبعهم الليبراليون بعد ذلك. إرث ثقافي سلّم أن هذه الثورات كانت مرحلة أداتية مهمة لصعود الأنظمة الليبرالية ولتأسيس البنى اللازمة لصعود الرأسمالية. وبحسب تشيبر في دراسته لتأريخ هذه الثورات أن هذه التسليمات التاريخية ليست خاطئة تمامًا، ولكنها لم تحدث بهذا الشكل الدرامي المتسلسل.فبالتطرق للحالة الاقتصادية التي صنعتها هذه الثورات،سنرى في حالة الثورة البريطانية (إن لم نسمها حربًا أهلية بالأساس) أن النظام الزراعي والبنى الخاصة به كانت في مرحلة تَرسمُلٍ متقدمة، وليس كما ينتشر في المؤلفات التاريخية عن كونها نجاحًا للبرلمان البريطاني ضد النظام الإقطاعي القائم، أي نصرٌ للبرجوازية ضد الإقطاع.فبحلول عام 1640 كانت طبقة الإقطاعيين قد اضمحلت، وأصبح الصراع بين طغمة رأسمالية صاعدة وطبقة نبلاء أسسها الإقطاع، ليتحول الريف الإنجليزي بشكل كبير إلى حالة أخرىاضمحلت فيها علاقات الاقطاع تقريبًا في أرجاء المملكة، مما يعني أن تصوير الثورة البريطانية كثورة معادية للإقطاع ليس دقيقًا، فلم تكن هناك حالة إقطاعية لتعاديها الثورة.
أما في الحالة الفرنسية التي أصاب جوها بوصفها كمعادية للإقطاع، فقد أنهت بالفعل عقودًا طويلة من حكم طبقة النبلاءوأضعفت امتيازاتهم،ومنحت التراكم الريفي وقتًا وفرصة لتأسيس قواعد اقتصاد رأسمالي يقوم على الزراعة (على الأقل حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر). لكن التوجيه التأريخي من قِبل مثقفي الثورة الفرنسية ونخبها بخصوص أن الطبقة الرأسمالية التي تصدّرت الثورة الفرنسية بدأت هذا الصراع من أجل إقامة هذا النظام الليبرالي العام من خلال عمل توافقي مع الفلاحين ليس صحيحًا. إذ أن الحقيقة أن هذه البرجوازية الصاعدة سرعان ما انقلبت ودعمت إنشاء دولة أوليجاركيةأوتوقراطية تسيطر عليها النخب وجزء ليس يسيرًا من الطبقة الحاكمة السابقة للثورة.
هذا بالضبط هو ما استنتجه ماركس في عدة مواضع من كتاباته، وهو أمر يتجاهله أو يسيء فهمه ما بعد الكولونياليون. فماركس كان حذرًا في إجلاله للبرجوازية الأوروبية وكان واعيًا أن اهتمامها الأول انصب على تقوية أجهزة الدولة القمعية وليس علِى ترسية قواعد الحريات الفردية.وقد كتب بشأن كومونةباريس أن الثورة في إنشائها للبرلمان الذي تسيطر عليه البرجوازية، قد أعطت الدولة «قوة عامة منظمة، مهيأة لاستعباد المجتمع، وأداة قوة طبقية متعسفة».
تضخم مكانة أوروبا في أطروحات ماركس وأنجلز
من الدعاوى التي تُساق ضد الجدل الماركسي في أدبيات ما بعد الكولونيالية وما بعد الحداثة القول بمركزية أوروبا في التأريخ عند ماركس وإنجلز. هذه الدعاوى أصبحت من المسلّمات منذ نقد إدوارد سعيد لكتابات ماركس حول الهند. والطرح هنا أن ماركس وإنجلزقد تأثرا بالثورات الأوروبية في منتصف القرن التاسع عشر، مما أثر عليهما، بحسب أستاذ الدراسات الأمريكية الأفريقية والافريقية أوغست نيمتز، بأن وجه أفكارهما نحو فكرٍ رغبويّ يبدو للقارئ في بعض النصوص أنه يجعل من أوروبا مثالًا ثوريًا يحتذى به.
لكن الحقيقة هي أن هذا الميللدى ماركس وإنجلزسرعان ما تغير مع خبوت الحماسة في فكرهما واطلاعهما على المزيد من الأحداث التي مارسها الاستعمار البريطاني في أفريقيا وغيرها. فمثلًا بعد أحداث النزاع الروسي الصيني في عام 1858، اعتبر ماركس في رسالة لإنجلز أن الرأسمالية في حالة انتشاء وصعود وأن عليهما الحذر بشأن تحليل الأمور، فأي تصعيد لها قد «يُسحق في هذه الزاوية الصغيرة من الأرض.»
يظهر ذلك أيضًا في مؤلفات مثل «الأيديولوجيا الألمانية» حين اعتبر ماركس أنه فقط مع «تطور عالمي لقوى الإنتاج» سيكون من الممكن «تلاقح على مستوى عالمي بين الإنسان الجديد (الذي سيكون) في كل مكان، جاعلًا من ثورة كل أمة تعتمد على ثورات الأمم الأُخر.» والحق أن ماركس وإنجلز كانا قد استوعبا بحلول نهاية خمسينات القرن التاسع عشر أن مركز الثقل الاقتصادي العالمي قد انتقل من غربيّ أوروبا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، معتبرين أن اكتشاف مناجم الذهب في كاليفورنيا حدث مفصلي في هذه العملية.
أيضًا، كان ماركس مهتمًا بالثورات البرجوازية الديموقراطية في العالم ضد الهيمنة الغربية. ومن ضمن الأمثلة على هذه الثورات، تمرد تايبينج ضد التدخلات البريطانية والفرنسية.وقد وصف ماركس نتائج نجاح هذ التمرد (الذي فشل فيما بعد) بـ»الذي سيحمل أثرًا مهما على الحضارة البشرية».وحتى ما يقال عن مركزية بريطانيا في نقد ماركس ليسصحيحًا،بالنظر إلى تضخيمه الدور الأيرلندي في وجه القوة السياسية والاقتصادية البريطانية.
أما عن آرائه بشأن الجنوب العالمي -الهند، والجزائر، والمكسيك- فكثير من النقاد الماركسيين مثلالباكستاني إعجاز أحمد وغيره بيّنوا أن هذه الآراء كُوّنت من خلال ما كان يصله من معلومات حفزته إلى مقاربة رغبوية مع ماديته التاريخية،وأنه تخلى عنها جميعًامثل ما فعل مع الحالة الجزائرية التيكان قد وصف التدخل الفرنسي فيها بأنه «عمل مهم للتقدم الحضاري».فقد غير ماركس رأيه تمامًابعد تسع سنوات من جملته الآنف ذكرها واصفاً، في أحد رسالاته إلى ابنته لورا، «إخوته» الثوار بأنهم سيتخلفون لو لم يقوموا بثورة ضد الاستعمار الفرنسي.
ما بعد الكولونيالية بين التقدم والعدمية
ما أن تهدأ الأسئلة «التقنية» بخصوص أفكار وأدبيات ما بعد الكولونيالية فيما يخص المركزية الأوروبية، حتى يظهر على السطح سؤالٌ مهم: ماذا بعد المركزية الأوروبية- هذا الكيان الجاثم على النظريات المهتمة بالتقدم والنقد؟ ثم يظهر سؤال آخر: هل من طريق خارج هذا النقد العدمي ما بعد الكولونيالي؟
سأقارب في هذا الجزء أفكار جوزيف مسعد، الأستاذ في جامعة كولومبيا وأحد تلاميذ إدوارد سعيد، والذي يُعتبر من أهم ما بعد الكولونياليين العرب في أيامنا،وكذلكسأقارب ورقة كتبها الناقد الأدبي وفيلسوف السياسة الأمريكي مايكل هارت،وهي قراءة نقدية لكتاب ديبيشتشكربارتيالمعنون «المركزية الأوروبية للتاريخ».
اخترت جوزيف مسعد هنا باعتباره نموذجًا نقديًا يؤدي بالنقد العربي ضد الهيمنة الفكرية لليبرالية إلى مرحلة عدمية،يصبح فيها الخيار هو «إما» التواطؤ معرفيًامع الاستعمار والإمبريالية «أو» عدم التواطؤ معه!ينطلق مسعد في رؤيته من تبنيهلإنكار إدوارد سعيد لكل ما تولد أساسه المعرفي في الغرب. يعد هذا الإنكار بمثابة لوجوس في فكر سعيد متعدٍّ في التاريخ بشكل مثالي، من اليونان القديمة وحتى الفلسفات الغربية المعاصرة.
مسعد يتهم جميع الأفكار النقدية المعاصرة التي تستلهم المعارف الأوروبية كأسسٍ لهابالتماهي والتواطؤ على المستوى الإبستمولوجي والأنطولوجي مع الغرب،عبر مفاهيم مُعولمة تدعمها القنوات الخطابية الاستعمارية. فأي تصورٍ مُعولم،أو يؤسس لقيمٍ مثل الحضارة والتقدموالنهضةوالانحطاط والجنسانية، يحمِل فيجوهره أسسًا ومفاهيم صنعها الاستعمار ولغته، حتى لو كان من يقدم هذا الخطاب جهات أو أيديولوجيات قد تعادي الاستعمار في خطابها السياسي بصراحة وبشكل مباشر. يضرب مسعد مثالًا على ذلك بالخطاب القومي العربي في استلهامه لمفاهيم استعمارية عن الحضارة والتقدم والحرية ومفهوم الأمة، ويضرب أيضًا مثالًا بالحركة المثلية في العالم العربي واستجلابها لمفاهيم معولمة عن الهويات الجنسية، تستخدمها الإمبرياليات استخدامًا مباشرًا في كثير من الأحيان، ويسوق مثالًا آخر عن شيوخ النهضة الإسلامية مثل الأفغاني وعبده ونظرتهم للإسلام والانفتاح.
تصوير مسعد للاستخدام العربي لهذه المفاهيم على أنه تعبير حتميعن الحالةالكولونيالية يجعل المفاهيم المعرفية التي يرتكز عليها أي تيار فكري نتيجة حتمية للاستعمار. وبالنسبة له، فهذا ينطبق أيضًا على الماركسية، حيث تُعاد تلك الأخيرة، وهي المدرسة الأهم لمقاومة الهيمنة المعرفية الغربية، إلى مركز ذلك النموذج المعرفي بشكل فج.
هذا الانزلاق إلى منظورتُفسر فيه الصراعات على أساس هويّاتي جوهراني، تتحول فيه ما بعد الكولونيالية إلى مجرد مبحثٍ في الاختلاف كما يُعنون كايوار كتابه،له أسباب وجذور متعددة، بدأها فوكو عندما همّش ماركس ضمن سياق ابتعادِ اليسارِ الأوروبي عن الاقتصادوية بسبب ثقل الستالينية الثقافي عليها. والغريب أن إدوارد سعيد نفسه قد انتقدفوكوقائلًا: «إن توْق فوكو لئلا يقع في شراك الاقتصادوية الماركسية، إنَّما يسوقه إلى طمس دور الطبقات، ودور الاقتصاد، ودور التمرد والثورة في المجتمعات التي يتناولها».
صحيح أن معظم ما نراه اليوم من أفكارينطوي على اجترار جلي لمفاهيم التاريخ الأوروبي ورأس المالالمعولم،وهو ما يظهر بقوة في الأنماط الأكاديمية المهيمنةالتي تتحدث عبر فم المركزية الأوروبية. فمثلما يقول هارت: «فما نسمّيه بالتاريخ الصيني، أو الهندي، أو البرازيلي، لا يمكن تصوّره إلا من خلال مَوقعته في قلب تاريخ أوروبا وتوابعه». لكن،ورغم ذلك، هل يصحّ أن يدفعنا هذا إلى التسليم بوجود تلازم حتميبين البنى المعرفية والرأسمالية المعولمة؟ هل يصح إقامة رابطة غير جدلية بين مشروع المركزية الأوروبية المدفوع برأس المال والأنساق المعرفية المُؤسِّسة للمشاريع الفكرية؟
إن ما يغيب عن هذا التّسليم هو أن توسع تاريخ أوروبا، ورأس المال، وبنيته المعرفية المضمّنة، لم يصحبه تصفية للاختلاف في البنى الاجتماعية والمعرفية، بل مزيدٌ من التناقض في القوى الثقافيّة. فتلك المشاريع الكونية لا تعمل بطريقة تكراريّة،بمعنى أنها تصنع المثل والشبيه بهذه البداهة، هذا فهم قاصر نراه بوضوح عند مسعد وبشكل أقل بكثير عند تشكربارتي.
هذا الفهم يظهر عندما يُباعد مفهوم الاختلاف (Difference) عن التّغاير (Heterogeneity). فكما يذكر كايوار في كتابه: «إن التغاير بحد ذاته دليل على توجّه رأس المال وديناميكيته، فهو وإن كان يضمّن كل ما يقابل في طريقه، إلا أنه أيضًا يُفرّق، يُفتت، يُجزئ لأجزاءٍ مستقلة، ما كان يوماً مرتبطاً ببعض رمزيًا.»وهذا ما يصنع وعيًا متباينا بين المركز والطرف، وداخل المجتمع الطرفي ذاته بالتقسيم الاجتماعي-الطبقي. وتجاهل هذا سيوقعنا في موقع ينكر توسط التاريخ الأوروبي مما يجعله آخرًا دائما، مما يجعلنا نفهم الوقائع المتعلقة بتاريخ أوروبا عبر التشبيهات والاختلاف، أي نقع في مفارقة «إما أو» في قربنا أو اختلافنا عن التاريخ الأوروبي. يقول هارت: «إذا ما رفضنا توسط كل التاريخ من خلال التاريخ الأوروبي، ونبذنا حتى نموذج الفهم التاريخي بأكمله عبر التوسط المفاهيمي، فإن ما يبقى لنا إذن هو تاريخ للاختلاف المحض يجب أن يُدرك فيه كل حدثٍ في فرادته... ويكمن الخطر في ذلك أن المرء يخلص إلى تاريخٍ ليس سوى سلسة من الخصوصيات غير المتمفصلة وغير القادرة على إدراك القرابة والقواسم المشتركة التي تتيح لنا أن نبني الافكار المشتركة.»
من أين تنبُع هذه الفكرة الميكانيكية التي تقول بالهيمنة الإبستمولوجيةالمطلقةللإمبريالية؟ هي تنبع من فكرة التفاوت بين المركز والطرف.فما ناقشناه وانتقدناهسابقًا بخصوص فشل مشروعٍ برجوازي يزيل البنى الاجتماعية والسياسية ما قبل الحديثة في الجنوب العالمي، ولّد لدى القوى الاستعمارية رغبة في بدء العملية التكرارية التي ذكرت آنفًا من أجل إكمالٍ مفترض لهذه المشروع البرجوازي المتأخر الفاشل.
هنا يغفل مسعد وغيره تلازم الاختلاف والمغايرة مع الرأسمالية، بصفتهما «حليف مبهج»لها. فالاختلاف جزء لا يتجزأ من روح الرأسمالية المعاصرة، وما يُطرح من أفكارفوكوية عن المراقبة والسلطة، مثل السلطة الحيوية وإدارتها، وموضعة الأجساد وتحييدها، لا يجب أن يُفهم منه إزالة حدودٍ فاصلة ما كانت قد شكّلت معالمَ للاختلاف من أجل استخراج فائض القيمة، بل، بالعكس تمامًا:فما حدث هو إعادة موضعة كل الفروقات الإمبريقية والحسية التي نعيشها كعلاقات اجتماعية حول رأس المال.
بالإمكان العودة إلى كتاب فيفيك تشيبر «النظرية الما بعد كولونيالية وشبح رأس المال» الذي يناقش بالتفصيل ماذا يُقصد بدافع رأس المال كمحرك في مشروع كوننة الرأسمالية، وكيف أن الرأسمالية وإن كانت فعلًا هي الدافع الاستعماري في كل مكان، إلا أنها لا تنتقل بذات الشكل والتفاصيل.وبمقدورنا هنا إعطاء أمثلة تاريخية واضحة كان الاستعمار فيهاجدار صدّ أمام أي محاولة لإنتاج بنى معرفية قائمة على المفهوم الأوروبي للحضارة. ولا أعرف كيف يرد متبنو هذه الرؤية المطلقة الميكانيكية على حقيقة دعم الاستعمار للجماعات الجهادية المتطرفة التي تناقض كل البنى الفكرية «الأوروبية». مسعد ذاته يفصّل الأدوار الكبيرة التي لعبها الاستعمار في نشر التخلف والتطرف لمحاربة الاتحاد السوفييتي مثلًا.
هذه الورقة،بلا أدنى شك،ليست دفاعًا عن الأفكار التي تبرر الأوروبوية أو المركزية الأوروبية. وهي أيضًالا تسعىإلى التقليل من الدور الهام الذي لعبته ما بعد الكولونيالية ودراسات التابع في كشف ما ينطوي عليهالتمركز حول الثقافة الغربية البيضاء من مثالب.ولكن الهدف هناهو فتح مجالاتٍ جديدة لنقد الهيمنة الغربية دون اضطرارٍ للوقوف في مأزقٍ يستدعي أن نسير على خطٍ دقيقٍ بين «الإما»و»الأو»، ودون أن نضع نفسنا في موضع خشي إدوارد سعيدنفسه من آثاره، وحاول النأي بنا عنه من خلال انعطافتهالإنسانوية بعد كتاب الاستشراق وبعد أن استوعب ضيق الفُسح النقدية التي قد يولّدها التضخيم الخطير لفكرة المركزية الأوروبية. السعة الفكرية المهملة لدى مفكري ما بعد الكولونيالية ودراسات التابع لا يجب أن تضعنا في زاوية ضيقة من النقد، بل يجب أن تجعلنا نتسامى فوقها ليصبح المجال أكبر وأكثر سعة. فكما يقول هارت: «كتاب تشكربارتي يثبت بروعةٍ أنّ حقيقة كون أنّه لا مخرج عن المركزيّة الأوروبيّة أو عن رأس المال لا تعني أننا مُتروكَون في الداخل مع وحدةٍ متجانسة، كما لو أنّ على الجميع أن يقبلوا بهيمنتهم لا محالة.»