هموم

عبير علي حزين

المسرح في مصر.. تأملات في الأزمة والحل

2021.04.01

المسرح في مصر.. تأملات في الأزمة والحل

المسرح هذا العالم السحري، مصدر المتعة الذي يعيد رؤيتنا لذواتنا وعالمنا.

يفكك يومياتنا ويعيد تركيبها، يضحكنا ويبكينا، يستفز فينا ملكات التأمل والرفض والثورة على التابوهات، يأخذنا في رحلات عوالم أسطورية حيث تتجلى نشوة الكشف والاكتشاف. هذا العظيم لا يزال في مجتمعنا ترف وليس ضرورة.

حتى الآن، الثقافة، وبالتبعية المسرح، ممارسات ثانوية وليست ضرورية، بل يذهب البعض بشكل معلن أو ضمني بأنه حرام أو مهنة دونية في مرتبة اجتماعية أدنى.

لماذا؟ ولماذا هذا التصنيف أقل بالنسبة للسينما ونجومها؟ هل الإجابة أن الشهرة والثراء هم الذين يرفعون الممثل في السينما طبقيًّا إلى درجة لائق اجتماعيًّا!

المسرح هذا العملاق المسكين، الحرام، غير الضروري، الأدنى اجتماعيًّا الاكثر إزعاجًا لرجال الدين والسياسة والمجتمع المتزمت، لأنه اللقاء الحي المباشر مع المتلقي. هو رحلة ليست سلطوية؛ المتلقي شريك يسمع أنفاس الممثل ويشم رائحته، فهم في مركب واحد، في طريقهم إلى مصير واحد، سواء كانت رحلة المسرحية أو الوجود في الحيز المكاني والزماني نفسه.

هذا العملاق يعاني الكثير من الإشكاليات التي كثيرًا ما هددته بالانزواء.

أولاً: نتيجة للجمود الفكري والنمطية أصبح المسرح فن غير جاذب للجمهور منذ أواخر السبعينيات وحتى أوائل التسعينيات، وعندما بدأت انفراجة مع دورات المهرجان التجريبي وولادة المسرح الحر اللذين يحملان طزاجة الرؤية والتحرر من القوالب والبحث عن الجديد تقنيًّا وفكريًّا والتعامل مع المسرح كمحتوى فكري وبحثي وتقني، كانت هناك هجمة من نوع جديد؛ فهو تيار يخالف ما وجدنا عليه أباءنا، هو إذن اتجاه مارق، ولأنه لم يكن تابعًا للمسرح الرسمي ويطرح أنماطًا مخالفة في الإنتاج حاربه المسرحيون التقليديون والرسميون، وهمشوه وحرموه من أي دعم يطوره وينميه. وعلى الجانب الآخر كان محاصرًا بالرقابة المجتمعية التي تحد من تحليقه في أغلب القضايا والمشكلات الفكرية خصوصًا بعد تراجع مستوى الوعي نتيجة لتمدد الأفكار الوهابية في مجتمعاتنا العربية، وتدهور التعليم وسيطرة المركزية والاحتكار والجمود الفكري والنمطية؛ مما حرم الثقافة والمسرح من تعدد الرؤى والتنوع وتقبل الجديد.

أصبح هذا المسكين محاصرًا بالرقابة المجتمعية والرقابة الرسمية. وبالطبع السينما أكثر حرية نسبيًّا بحكم عدم وجود التحام حي ومباشر مع الجمهور، ولأنها قوية اقتصاديًّا نسبيًّا بحكم تحقيقها لعائد أعلى كثيرًا من المسرح. هل آن الأوان لتحويل الرقابة إلى رقابة عمرية فقط؟ هل هناك مانع من وجود قانون يحمى المبدع من الإرهاب الفكري، ويعاقب كل من يجرم الأفكار المغايرة موزعًا الاتهامات بالخيانة والكفر والانحراف الأخلاقي؟

ثانيًا: وفي منحى آخر تتجلى إشكالية انعكاس سوء الأحوال الاقتصادية على المسرح في

١- انخفاض المخصص المالي للإنتاج الثقافي مما يقلل من حجم الإنتاج وكمه وقلة دور العرض.

٢- انخفاض مستوى دخل الطبقة الوسطى التي تشكل عصب جمهور المسرح، مما يجعل لا فائض لديها من الوقت لمتابعة الحركة المسرحية لطول ساعات العمل، أو لكي يدفع رب أسرة مكونة من أربع أفراد ثلث مرتبه تكاليف التذاكر والمواصلات للذهاب لمسرح مدعم كمسرح الدولة أو المستقل.. وطبعًا لا يمكن أن يذهب لمسرح قطاع خاص لتذكرته الغالية.

٣- انخفاض أجور المبدعين في المسرح مقارنة بأجورهم في الدراما التليفزيونية والسينما، مما يجعلهم يهجرون المسرح بحثًا عن دخل أكبر، وشهرة أوسع بالطبع لا يحققها المسرح لقلة عدد جمهوره.

٤- الإشكالية الكبرى: عدم تحقيق العائد الذي يضمن استمرارية ويحقق دورة الإنتاج

• المسرح صناعة ثقافية ثقيلة مثل التعليم والبحث العلمي فهو استثمار في الإنسان وبنائه الفكري والنفسي، ومن ثَم هو يحتاج إلى دعم دائم من الدولة، والدولة تعاني من أزمات اقتصادية ومتطلبات أكثر إلحاحًا فليبقى المسرح جانبًا الآن.

• طبيعة المسرح في أنجح المسرحيات يشاهدها ٥٠٠٠٠٠ متفرج على أكثر تقدير، بينما أقل الأفلام نجاحًا يشاهدها ملايين في السينما والتليفزيون، والآن على المنصات، وبالطبع المسرحيات التي تصور هي نوع من المسرح التليفزيوني لا يؤثر عرضه مصورًا على الرؤية الفنية، بعكس الكثير من العروض التي لا يمكن أن تشاهد إلا حية. تلك الطبيعة المختلفة التي تحتاج أيضًا إلى وقت كبير للتحضير والبروفات وتتطلب حضور الممثل طول فترة العروض. لا تحقق عائدًا اقتصاديًّا يغطى تكاليف الأجور والإنتاج ليضمن استمرار دورة الإنتاج، مما يجعله استثمارًا مستبعدًا لدى رجال الأعمال والمستثمرين.

٥- إشكاليات تسويقية

- قلة دور العرض

• عدم وجود كوادر تسويقية مدربة.

• عدم وجود كوادر تصور المسرح بشكل محترف.

• عدم وجود دعاية حقيقية وتسويق للمنتج المسرحي.

• عدم التعاون على سبيل المثال بين الإعلام والثقافة في وجود قوانين ولوائح منظمة وحلول لمشكلات تصوير ونقل المنتج المسرحي على قنوات التليفزيون والمنصات، ومشكلات حقوق الملكية الفكرية وغيرها.

٦- أضف إلى ذلك الإشكالية الثقافية الأم فيما يخص إشكاليات إدارية ومنهجية متمثلة في:

• اختيار كوادر غير مؤهلة.

• عدم وجود كوادر مدربة بسبب غياب مفهوم البناء والتطوير الدوري لقدرات المبدعين والقيادات الثقافية المسرحية.

• عدم التخطيط المركزي في إطار رؤية وسياسة ثقافية.

• غياب التنسيق بين الجهات الاستشارية مثال لجنة المسرح بالمجلس الأعلى للثقافة، والجهات التنفيذية بقطاع الإنتاج الثقافي، وممثلين لقطاعات المسرح الأهلي وبقية أطياف المسرح وعدم الاقتصار على المسرح الحكومي.

• غياب الشفافية والمعيارية.

• غياب تقييم الجودة في الإدارة الثقافية.

• غياب حركة نقدية قوية؛ فعلى الرغم من وجود معهد النقد الفني فإن الغالبية العظمى ممن يكتبن عن المسرح هما نوعان، الأول يردد النظريات كما حفظها، والثاني يقدم خبرًا صحفيًّا وليست دراسة نقدية، ويختصر دور الناقد بعد عرض المسرحية، وغاب تمامًا مفهوم وجود الناقد في مراحل الإعداد، وغياب هذا المفهوم البنائي التراكمي وعدم وجود مقابل مادي مخصص لهذا الدور، وهو إحدى وظائف الدراماتورج.

• الغياب التام لبرنامج تعليمي لتخصص الإدارة الثقافية؛ باستثناء دبلومة التنمية الثقافية بجامعة القاهرة التي ظهرت حديثًا.

• عدم وجود مدارس متخصصة لتخريج كوادر باك ستيج، من تقنيي ومنفذي وصنايعية الإضاءة والصوت والديكور والخدع والعرائس والماسكات، سوى هذا العام في مدرسة ثانوية فنية تابعة لأكاديمية الفنون.

• التعثر الكامل لفن العرائس، فلا يزال في مصر متوقفًا على مسرح الطفل بإشكاله القديمة، دون أدنى تطوير ولا تدريب منهجي، على الرغم من أنه من أكثر المسارح تحقيقًا للعائد المالي الجيد.

• التهميش والتجاهل الضمني للمؤسسات المسرحية الأهلية وعدم تمثيلها في جماعات اتخاذ القرار والتخطيط للمسرح المصري.

• انتشار التدريب المسرحي على الورش الشكلية غير التراكمية بلا رؤية ولا منهج.

• غياب مفهوم التنسيق التكاملي بين الجهات والمؤسسات الحكومية وبعضها والحكومية والأهلية، وانتشار مفهوم التوازي في المهام وما يعقبه من تنافسية غير بناءة.

• غياب التوزيع العادل لميزانية المسرح السنوية بين أطياف المسرح (حكومي وأهلي) وبين المركز والفروع بما قد يسهم في اتساع وتنوع رقعة المسرح المصري وتنوعه.

لدي سؤال يطرح نفسه؛ أغلب ما قيل ينطبق على المسرح في كل العالم، فلماذا التعثر هنا، هل لأننا دولة فقيرة على سبيل المثال؟ أم لضيق الأفق والجمود الفكري وعدم قبول التجديد والتفكير خارج الصندوق؟ هل لأن الدولة تنتج مسرحها الخاص ولا تكتفي بدور الداعم مما يحرم الكيانات المسرحية الأهلية من دورها والاستمرار لضيق ذات اليد؟ أم الهجمة الوهابية على العقول؟ أم لعدم التخطيط وعدم وجود رؤية وسياسة ثقافية ومتابعة وتقييم دوري للأداء؟ أم كل ذلك بسبب المجتمع!

استطراد لا بد منه:

على الرغم كل الإشكاليات السابق ذكرها، استطاع المسرح الحر أن يفرض وجوده وازداد عدد الفرق والكيانات المسرحية الأهلية، وتخرج جيل جديد من الأكاديمية هو ابن شرعي للدراسة الأكاديمية الرصينة وجموح المسرح الحر ومشاريعه البحثية وتجارب نوادي المسرح بالثقافة الجماهيرية، وكونوا فرق وتجارب مسرحية حققت انتشارًا، واتساع رقعة المسرح في القاهرة والإسكندرية وبعض الأقاليم مما جعلته يستعيد بدرجة جزءًا من جمهوره، كما عاود نجوم السينما الحنين إلى المسرح، مع رجوع مسرح الشارع مع ثورات الربيع العربي، واتساع تجارب شبه مسرحية على الإنترنت، وفتح الكثير من الفضاءات المسرحية للتدريب والبروفات بالتوازي مع توجه الرأس المال الخليجي إلى إنتاج المسرح، وأيضًا ظهور مسرح مصر على الرغم من كل التحفظات هو أعاد قطاع كبير من الجمهور لمشاهدة المسرح كل ذلك مُجتَمِع سيحدث ثراءً على مستوى الكم في الحركة المسرحية، أما على مستوى الكيف والمحتوى فهذا سابق لأوانه الآن دون التأمل في إشكاليات المشهد الآني والسابق.