سجالات

عمر الشافعي

الهوس بالإسلام بين الغيـرة والرهاب

2021.01.01

الهوس بالإسلام بين الغيـرة والرهاب

في جريمة مروعة، ذبح لاجئ شاب روسي شيشاني الأصل مدرس التاريخ في مدرسة ثانوية في إحدى ضواحي باريس؛ صامويل باتي، 47 عامًا، في وضح النهار وعلى قارعة الطريق، مساء الجمعة 16 أكتوبر الماضي، بينما كان الأخير في طريق عودته لمنزله بعد انتهاء عمله، وذلك «عقابًا» له على استخدام رسوم كارتونية تسخر من نبي الإسلام في قاعة درس ضمن مادة دراسية عن حرية التعبير.

ليست هذه للأسف الجريمة البشعة الأولى ولا الأخيرة التي يرتكبها مسلمون متشددون باسم الدفاع عن الإسلام ونبيه ورفضًا للإساءة إليهما. والمفارقة الكبرى أن مثل هذه الجرائم تُشكِّل أكبر إساءة يمكن إلحاقها بالإسلام وبمكانته في العالم. صحيح أن مرتكبي هذه الجرائم ليسوا سوى أقلية ضئيلة من المسلمين المتعصبين، لكن المأساوي أنها تحظى بقدر كبير من التعاطف، أو على الأقل التحفظ في رفضها، من جانب جزء ليس بالصغير من الرأي العام في بلادنا الحزينة، في تعبير عن مستوى جسيم من الهوس الديني، وتنكُّر كامل لقيمة حرية العقيدة وحرية التعبير، بل لقيمة الإنسان وحقه في الحياة.

لكن هذا الموقف «الغيور على الإسلام» ليس رد الفعل المَرَضي الوحيد على ذبح باتي. ففي خضم مشاعر التعاطف النبيل مع الضحية، ولا سيما خلال تأبينه الجماهيري المهيب في فرنسا، بدا واضحًا أن رد فعل الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون وحكومته يستغل الجريمة النكراء لكي يجعل من مسلمي فرنسا، بل من الإسلام عمومًا، كبش فداء للمشكلات الكبرى التي تعانيها فرنسا، وليس أقلها الموجة الجديدة لفيروس كوفيد-19 التي تعيث فسادًا في هذا البلد على نحو أعنف بكثير منه في أغلب أنحاء العالم.

والحال أن حملة ماكرون ضد الخطر الإسلامي سبقت مأساة اغتيال باتي. ففي 2 أكتوبر، ألقى الرئيس الفرنسي خطبة مهمة في إحدى ضواحي باريس. كانت استطلاعات الرأي آنذاك تشير إلى تدنٍ شديد في شعبية ماكرون، ليس فقط بسبب سجل حكومته السيء في التعامل مع الجائحة، لكن أيضًا في ضوء الغضب الاجتماعي المتنامي إزاء تفاقم اللامساواة في المجتمع الفرنسي. وانعكس هذا الغضب خلال السنتين الأخيرتين في حركة السترات الصفراء اعتبارًا من أواخر عام 2018 ثم حركة الاحتجاج ضد مشروع ماكرون لـ»إصلاح» نظام المعاشات التقاعدية، إلى أن قلصت الجائحة الحشود الاجتجاجية في الشارع بينما عمقت الشعور، من خلال أثرها الشديد الوطأة وغير المتناسب على المحرومين والمهمشين والفقراء، بفداحة الظلم الاجتماعي. 

لم يتناول ماكرون الجائحة في خطبته، بل خصصها لمشكلة رآها أخطر، وهي «الانفصالية الإسلامية»، في مسعى لاستعادة قدر من الشعبية عبر اللعب على غريزة الخوف ودغدغة المشاعر القومية. وبدا واضحًا للمراقبين أن الرجل عينه على انتخابات الرئاسة المزمعة في 2022 وأنه يزايد على الخطاب اليميني المتطرف لمنافسته الأبرز غالبًا على مقعد الرئاسة في تلك الانتخابات، زعيمة ’التجمع القومي‘ (الاسم الجديد لـ’الجبهة القومية‘، أبرز وأكبر أحزاب أقصى اليمين في فرنسا) مارين لوبين. و»الانفصالية» مصطلح مفعم بالإيحاءات السلبية في فرنسا، وهي إيحاءات تسري تحديدًا على مواطنيها المنتسبين إلى الإسلام، سواء بالممارسة الدينية أو بالثقافة أو الأصول، إلى حد أن مجرد ذكر الكلمة، حتى دون أن تقترن بصفة الإسلامية، يوحي إلى الذهن بالمعنى المقصود، وهو أن مسلمي فرنسا الذين يقارب عددهم الستة ملايين يعزلون أنفسهم عمدًا عن عموم المجتمع. وإطلاق هذه الصفة على مسلمي فرنسا ينطوي على اتهامهم «برفض ما يُرفَض لهم» (refuser de ce qui leur est refusé) على حد التعبير البليغ للمفكر والمناضل الماركسي الراحل دانيال بن سعيد، ذي الأصول اليهودية والعربية (الجزائرية) معًا وأحد أهم القيادات الشابة آنذاك لثورة مايو 1968 العتيدة في فرنسا. ذلك أن هؤلاء الملايين الستة يغلب عليهم الأصل المغاربي، ويشكلون جزءًا من ميراث الاستعمار الفرنسي البغيض، لا سيما في الجزائر، ويعيش قطاع ليس بالقليل منهم في بؤس وفقر في ضواحي المدن الكبرى شبه الحضرية نتيجة لعقود من الإهمال والتمييز في سياق التطور المركب واللامتكافئ للرأسمالية الفرنسية. وفي هذا السياق، تُشكِّل تهمة «الانفصالية» جزءًا رئيسيًا من اللغة المستخدمة لتصوير واقع المسلمين الفرنسيين بالمقلوب، واقفًا على رأسه. 

و«الانفصالية» المذكورة، لها وجهان، أحدهما هو «الخطر الداخلي» المتمثل في انكفاء مسلمي فرنسا المفترض على ذاتهم. والآخر هو «الخطر الخارجي»، أي تنامي الإسلام المتشدد واستعداده للانقضاض على فرنسا لا بغرض إلحاق الأذى فحسب، بل الاستيلاء على السلطة وسحق أسلوب الحياة الفرنسي! وهنا مغزى حديث الرئيس الفرنسي عن أن الإسلام «ديانة تعيش اليوم أزمة في كل مكان في العالم». وبهذا البعد الخارجي يتضح الطابع الانزلاقي لمفهوم «الانفصالية». فإذا كان التأكيد على الخطر الداخلي يجعل المسلم مرادفًا للانفصالي، فإن الخطر الخارجي يوسع نطاق الترادفية بحيث تصبح المعادلة هي مسلم = انفصالي = إسلامي = إرهابي، وهي ترادفية ضمنية يرسخها خطاب مناهضة الانفصالية إلى حد يصبح معه سعي ماكرون لاحقًا إلى تلطيف الجو بإعلانه أن المستهدف ليس هو الإسلام وإنما تشويهه المتشدد محض لغة دبلوماسية «مهذبة» يحاول صاحبها أن يبدو بها حريصًا على مشاعر المسلمين!

لكن القارئ قد يعترض بأن ما يسميه كاتب هذه السطور «تصوير واقع المسلمين الفرنسيين بالمقلوب» ليس بعيدًا عن الواقع إلى هذا الحد. ألم يُذبح صامويل باتي بعد أسبوعين فقط من خطبة ماكرون المذكورة؟ الواقع أن كلام ماكرون في هذا الصدد، وخطابه عمومًا إزاء الإسلام، تسري عليه مقولة «النبوءة المصدقة لذاتها». فحينما يجري إقصاء قطاع من السكان عمدًا على مدى عقود عبر التمييز المنهجي في مجالات مثل التوظيف والإسكان وغيرهما، وترسيخ ووصم هويته الإثنية/الدينية باعتباره يمثل «الآخر» المشتبه به والمطلوب منه على الدوام إثبات أنه مماثل بينما يجري التأكيد ليل نهار على أنه لا يمكن إلا أن يكون مختلفًا بحكم موروثه، فإن بعض هؤلاء سيميلون، بحسب حيلة «احتضان الوصمة» التي طالما أثبتت نجاعتها، مثلما يشرح بن سعيد، «فينتصرون بفخر للخصوصية المفروضة عليهم ويخوضون مقاومة تناهض الاندماج» (Bensaid 2015: 41). 

وعلى الرغم من الإدانة الواسعة لجريمة ذبح صامويل باتي من جانب المؤسسات الممثلة لمسلمي فرنسا والشخصيات البارزة في صفوفهم، كثَّف ماكرون حربه ضد «الانفصالية الإسلامية» معلنًا عن إجراءات صارمة لاجتثاثها من المساجد والمراكز والجمعيات الإسلامية ومنابر السوشيال ميديا. وباسم التصدي للخطر الداهم على «قيم الجمهورية»، طالت الإجراءات القمعية ’التجمع ضد الإسلاموفوبيا بفرنسا‘، أبرز جمعية مناهضة للعنصرية ضد المسلمين في البلد، وبات أي صوت يساري يرتفع ضد إجراءات القمع والمنطق الكامن فيها موصومًا بالـ»يسارية الإسلامية»، وهي مرادف في معجم اليمين العنصري الفرنسي للخيانة المفترضة من قِبَل اليسار الجذري لقيم الجمهورية الفرنسية من خلال التواطؤ مع «الخطر الإسلامي» أو على الأقل التخاذل إزاءه. وبلغ هوس ماكرون بتأميم الإسلام الفرنسي من خلال اشتراط التصريح الحكومي للأئمة والمؤسسات والنصوص حدًا دفع معلقًا في جريدة فاينانشال تايمز العريقة إلى القول بأن ماكرون لو نجح في مسعاه الرامي إلى إحكام سيطرته على تشكيل «الإسلام الصحيح» في فرنسا سيجعل بلده الوريث الحقيقي للإمبراطورية العثمانية وأول خلافة في أوروبا الغربية!

لكن في حين أدان أغلب ممثلي مسلمي فرنسا ذبح باتي إدانة واسعة صريحة بينما يتصدون للإسلاموفوبيا في بلدهم، فهذا ليس للأسف، كما سلف الذكر، حال «الغيورين على الإسلام» في بلادنا. وهكذا نجد أنفسنا أمام ردي فعل مَرَضيين على الجريمة. فأوساط الحكم في فرنسا تستغل الجريمة لشيطنة مسلمي فرنسا وترسيخ «أخرنتهم» (تصويرهم كـ»آخر» خطر ومختلف جذريًا) واستخدامهم كبش فداء للأزمات، بينما تنتعش عندنا جبهة فضفاضة من «الغيورين على الإسلام»، ممن لديهم مشاعر دينية «حساسة» من نوع غريب، تخدشها رسوم كارتونية تسيء إلى نبي الإسلام لكن لا يخدشها ذبح مدرس على قارعة الطريق، مدرس مشهود له، مثلما سنرى أدناه، بشغف حقيقي بالعالم العربي وبالإسلام وحساسية حقيقية إزاء مشاعر طلابه من المسلمين.

سؤالان وتدقيق مصطلحي

يثير النوعان المشار إليهما أعلاه من ردود الفعل على جريمة 16 أكتوبر الماضي سؤالًا كبيرًا (يتفرع إلى عدد من الأسئلة) حول الشأن الإسلامي في زمننا، وهما سؤالان يركز المعلقون على هذه الجريمة ومثيلاتها على أحدهما دون الآخر، وذلك على نحو حصري يُعبِّر عن استقطاب حاد متصاعد.

الأول هو سؤال الأزمة. هل يعاني الإسلام كدين، أو المسلمون من حيث هم أناس مؤمنون بهذا الدين، من أزمة تبحث عن مخرج أو حل؟ والسؤال الثاني هو سؤال الاضطهاد أو ما يشيع تسميته الإسلاموفوبيا. هل يعاني الإسلام كدين، أو المسلمون كأفراد أو كمجموع، في بلدان الغرب المتقدم (وربما على الصعيد العالمي) من تمييز مجحف على أساس الدين أو الإثنية أو الثقافة؟ 

برز مصطلح «الإسلاموفوبيا» على ساحة النقاش العام في الغرب المتقدم مع صدور تقرير في عام 1997 عن مركز بحثي بريطاني مرموق معني بقضايا المساواة ومكافحة العنصرية هو ’رانيميد ترَست‘ (Runnymede Trust). وكان هذا المركز قبلها بقليل قد أنشأ داخله لجنة معنية بأحوال المسلمين البريطانيين تولت إصدار تقرير أولي ثم إخضاعه لعملية تشاورية واسعة النطاق في بريطانيا أسفرت عن صدور التقرير المذكور بعنوان «الإسلاموفوبيا: تحدٍ لنا جميعًا»، ثم صدر قبل عامين أو ثلاثة تحديث للتقرير بمناسبة مرور 20 عامًا على صدوره. ومع أن التقريرين الأصلي والمحدَّث اهتما أساسًا بالإسلاموفوبيا في بريطانيا، فإن تناولهما للظاهرة مفيد للغاية لفهم تجلياتها في الغرب عمومًا. ومن المؤسف أن عمل هذا المركز لم يحظ في العالم العربي حتى الآن بما يستحقه من اهتمام. 

أسئلة الإسلاموفوبيا

تسود الغرب الرأسمالي المتقدم اليوم، بل وتتخطى نطاقه، نظرة بالغة السلبية إلى الإسلام. هذا الأمر تؤكده أحدث وأدق استطلاعات الرأي في هذا الشأن. ففي الولايات المتحدة، لدى 55% من السكان آراء سلبية عن الإسلام، بينما يحمل 38 %من الأمريكان آراء سلبية عن المسلمين. والأمر أسوأ من ذلك بكثير في أوروبا الجنوبية والشرقية، حيث ترتفع نسبة من يحملون آراء سلبية عن المسلمين إلى نحو ضعف مثيلتها لدى سكان الولايات المتحدة، فتبلغ 72 %في صفوف المجريين و69 %بين الطلاينة و65 %لدى اليونانيين و50 %بين الإسبان (Green 2019: 2). وقبل الحادث المأساوي الذي كان مناسبة كتابة هذا المقال، كان 60 %من الفرنسيين يرون الإسلام مناقضًا لقيم الجمهورية الفرنسية (تخيَّل معي كم ارتفعت هذه النسبة الآن)، والغريب أن نسبة أكبر من البريطانيين (72 في المائة) ترى الإسلام غير متوافق مع القيم البريطانية، رغم ما يشيع عن كون النموذج البريطاني في استيعاب المهاجرين و»الآخر» أكثر رحابة من نظيره الفرنسي. ومن المرجح جدًا، رغم غياب الإحصاءات والاستطلاعات، أن صورة الإسلام (وأحوال المسمين) أسوأ بما يقاس في البلدين الأكبر في عالمنا، الهند والصين.

(أ) من «الرعب الأحمر» إلى «التهديد الأخضر»

على مدى عقود الحرب الباردة الأربعة من أواخر أربعينيات إلى أواخر ثمانينيات القرن العشرين، لم يكن الإسلام، بل والإسلام السياسي بما في ذلك أشد أشكاله «ظلامية»، موضع نظرة سلبية في الغرب، بل كانت القوة العظمى الأولى في العالم وقائدة المعسكر الغربي تشجعه وتروِّج له. ذلك أنها رأت في الشرق الأوسط، بمحوريته لطرق التجارة والملاحة العالمية ومخزوناته الهائلة والمتنامية من النفط، إحدى أهم حلبات مواجهتها الاستراتيجية مع الاتحاد السوفيتي. وبينما سعى هذا الأخير إلى إقامة تحالفات مع نظم المد القومي العربي الذي بدا آخذًا في التجذر يسارًا، ألقت الولايات المتحدة بثقلها وراء الملكيات المطلقة في المنطقة مثل المملكة العربية السعودية وإيران الشاهنشاهية، وباتت السعودية بالذات أقرب ما تكون إلى المحمية الأمريكية، واتخذت الولايات المتحدة من الإسلام السياسي سلاحًا أيديولوجيًّا قويًّا في مسعاها لكبح النفوذ السوفيتي في المنطقة. 

هكذا أيدت الولايات المتحدة قلبًا وقالبًا المسعى السعودي لنشر الأفكار الإسلامية على امتداد الشرق الأوسط وخارجه. وامتد هذا التأييد ليشمل مساندة وكالة الاستخبارات المركزية لجهود الإخوان المسلمين لتقويض النظام الناصري في مصر. ولم يؤدِ ما أفرزته الثورة الإيرانية (1979) من نظام إسلامي «ثوري» مناهض للولايات المتحدة إلى حد وصفها على لسان زعيمه الخميني بأنها «الشيطان الأكبر» إلى العدول عن هذه السياسة، وإن كان قد عقَّد من الصورة. فالعام نفسه الذي اندلعت فيه الثورة الإيرانية شهد في نهايته الغزو السوفيتي لأفغانستان، وراحت الولايات المتحدة تناصر ’المجاهدين الأفغان‘ بالسلاح والتدريب والمال على مدى عقد كامل واصفةً إياهم، على لسان رئيسها رونالد ريجان، بأنهم «إخوتنا» و»المعادل الأخلاقي لآباء أمريكا المؤسسين». وآتي هذا الدعم أكُله كما هو معروف، إذ انسحب الاتحاد السوفيتي من أفغانستان في 1989 ثم ما لبث أن انهار بعدها بسنتين منهيًا الحرب الباردة، بينما أرست مقاومة المجاهدين للاحتلال السوفيتي الأسس التي قام عليها تنظيم القاعدة.

استمرت بالطبع العلاقة الخاصة الأمريكية السعودية بعد ذلك وإلى اليوم، غير أن تغيرًا ملحوظًا في النظرة السائدة في الولايات المتحددة للإسلام قد طرأ، على استحياء نسبيًا في العقد الأخير من القرن العشرين، ثم على نطاق أوسع بكثير بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، إذ بات يُنظر إلى هذا الدين أساسًا من منظور «صدام الحضارات»، وهي فكرة ليست بالجديدة تمامًا طرحها في ثوبها المعاصر المؤرخ برنارد لويس في مقال شهير له بعنوان «جذور الغضب الإسلامي» ظهر في مجلة أطلنتيك في سبتمبر 1990، أي في الشهر التالي للغزو العراقي للكويت، ثم عمَّمها وروَّج لها المفكر الاستراتيجي العتيد لليمين الأمريكي صامويل هنتِنجتون في مقال حمل اسم «صدام الحضارات؟» نُشر في مجلة فورين أفيرز بالغة التأثير في عام 1993 ثم حوَّلها إلى كتاب بنفس العنوان، مع حذف علامة الاستفهام، صدر بعدها بثلاث سنوات. وجوهر الفكرة هو أن نهاية الحرب الباردة أطلقت مرحلة جديدة في السياسة العالمية بشأن طبيعة الصراع السائد. وبذلك بات هنتنجتون، ومن قبله برنارد لويس، يبشران، حتى قبل الحادي عشر من سبتمبر، بظهور عدو جديد محتمل للغرب بعد زوال «الرعب الأحمر» يتمثل في «التهديد الأخضر»، عدو «ميزته» أن التلويح به أقدر على إثارة غرائز الخوف ورغبات السحق. فالحق أن أحدًا في الغرب، حتى من عتاة المتحمسين للحرب الباردة، لم يعد، على الأقل منذ أوائل الثمانينات، يأخذ «الرعب الأحمر» مأخذ الجد إذ بات واضحًا آنذاك أن ’الكتلة الشرقية‘ تعاني تدهورًا اقتصاديًا بالغًا، حتى أن الانتصار الغربي في الحرب الباردة الذي رمز إليه العام 1989 لم يُستقبل بنشوة كبيرة من جانب المتلهفين على سحق العدو سحقًا، وذلك لأن الانتصار المذكور لم يتحقق بفضل شجاعة المقاتلين ولا حتى براعة السياسيين بل لأن الاتحاد السوفيتي انهزم في معركة اقتصادية وتكنولوجية أعلن بنفسه الانسحاب منها. وتمثلت جاذبية أطروحة «صدام الحضارات» تحديدًا في تبشيرها بعدو يتيح الفرصة للقتال الحقيقي، حيث الدم والتضحية والحديد والنار. ومن اليسير أن نتبين في تلك الأطروحة ملامح الإسلاموفوبيا بالمعنى الذي أشار إليه تقرير ’رانيميد ترَست‘ السالف الذكر. لكن الاقتناع الواسع بمثل تلك الأطروحة على ما فيها من ضعف وسطحية، وهو كثير، كان عليه الانتظار لبضع سنوات. ومع وقوع هجمات ذلك اليوم المشؤوم من سبتمبر 2001، اكتسبت فكرة «صدام الحضارات» هالة من المصداقية وراحت تترتب عليها، كما سنرى ممارسات تمييزية ضد الإسلام والمسلمين على نحو يجعلنا نميل، ولو بصورة أولية للجواب عن السؤال «هل»، أي السؤال عن وجود الإسلاموفوبيا من عدمه، بالإيجاب، ويدفعنا إلى طرح أسئلة أخرى بشأن تلك الإسلاموفوبيا تساعد في تأكيد أو نفي وجودها وفي تبيُّن جذورها وتجلياتها وطبيعتها المتطورة.

(ب) عن الاستشراق منبعًا للإسلاموفوبيا

تعود بدايات الاستشراق على الصعيد الأكاديمي إلى نشأة النظام الجامعي الحديث في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية بالأساس في أواخر القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر. فقد ارتُئي آنذاك أن التخصصات الأربعة في مجال العلوم الاجتماعية حديثة النشأة، وهي التاريخ والاقتصاد وعلم الاجتماع والعلوم السياسية، ملائمة لدراسة المجتمعات الحديثة التي أفرزت تلك العلوم فحسب، وليس بقية العالم. وأفرز هذا التصور تخصصين علميين جديدين، الأنثروبولوجيا والاستشراق. اختصت الأنثروبولوجيا بدراسة ما سمي بلغة ذلك العصر «الشعوب البدائية»، تلك التي وُصفت بأنها «بلا تاريخ»، تعيش في مجموعات صغيرة (من حيث عدد السكان والمساحة المأهولة) وفقًا لأعراف مشتركة ولغة مشتركة، لكنها تفتقر إلى نظم الكتابة وإلى الأديان التي تتخطى نطاق كل مجموعة صغيرة. وكانت الوسيلة الرئيسية لدراسة تلك الشعوب هي نوع خاص من «العمل الميداني» حيث يعيش الباحث (لم تكن هناك باحثات في حقل الأنثروبولوجيا في ذلك الوقت المبكر) لفترة ممتدة بين صفوف المجموعة التي يدرسها ممارسًا «الملاحظة القائمة على المشاركة». لكن العالم لم يكن مقتصرًا على الدول الحديثة التي أنشأت النظام الجامعي الحديث و»الشعوب البدائية»، بل كانت هناك مناطق واسعة خارج المنطقة الأوروبية وملحقاتها نشأت بها في الماضي حضارات كبرى عفا عليها الزمن، مثل الصين والهند وفارس والعالم العربي. وعلى خلاف الشعوب البدائية، امتلكت تلك المناطق لغة سائدة مستخدمة على نطاق واسع، ونظام لكتابة تلك اللغة، وديانة «عالمية» مهيمنة غير المسيحية. وبسبب هذه القواسم المشتركة، لم يكن بالإمكان النظر إلى سكان تلك المناطق كشعوب بدائية، لكن حضاراتهم المجيدة ذات يوم لم تعد كذلك اليوم، فكانوا من ثم خارج نطاق «الحداثة». كيف يمكن دراستهم إذن؟ هكذا تساءل الباحثون الأوروبيون، وبدت لهم الإجابة بديهية: حيث إن أصحاب الحضارات الغابرة تلك مختلفون ثقافيًا للغاية عن الأوروبيين، وحيث إنهم يملكون نصوصًا مكتوبة بلغات مختلفة عن لغات الباحثين الأوروبيين، وحيث إن دياناتهم مختلفة عن المسيحية، فقد بدا أن أولئك الراغبين في دراستهم عليهم التحلي بالصبر في تزويد أنفسهم بالمهارات الخاصة، وأولها المهارات اللغوية، اللازمة لفهم تلك النصوص. وانطلاقًا من التمييز الكلاسيكي بين الشرق والغرب في التقليد الثقافي الأوروبي، فقط أُطلق اسم «المستشرقين» على أولئك الذين اكتسبوا المهارات المطلوبة، واسم «الاستشراق» على التخصص أو الحقل العلمي الذي أنشأوه (للاطلاع على شرح وافٍ لنشأة الأنثروبولوجيا والاستشراق ضمن ظهور النظام الجامعي الحديث، انظر الفصل الأول من Wallerstein 2004).

وتمثلت جاذبية أطروحة «صدام الحضارات» تحديدًا في تبشيرها بعدو يتيح الفرصة للقتال الحقيقي، حيث الدم والتضحية والحديد والنار.ولا تزال تُشكِّل على نحو منتظم، خطابات وممارسات لا المستعمِرين والمستعمَرين بالأمس فقط، لكن أيضًا المستعمِرين السابقين والمستعمَرين السابقين في شمال العالم وجنوبه اليوم» (Callinicos 2008: 148)، وهذا أمر وثيق الصلة بردود الفعل المَرَضية على ذبح صامويل باتي التي يبحث هذا المقال في دلالاتها. وبالطبع أثار كتاب إدوارد سعيد جدلًا لم ينقطع حتى اليوم، ولاقى حفاوة كبيرة ونقدًا كبيرًا في نفس الوقت، وهو نقد كثير منه مشروع وأقر بمشروعيته لاحقًا سعيد نفسه، لكن لا مجال للخوض في هذا كله في مقالنا هذا. لكن ما دمنا بصدد طرح أسئلة عن الإسلاموفوبيا، فمن المفيد إبداء ملاحظتين مهمتين قبل العودة إلى سياق حديثنا عن القاسم المشترك بين موقف الولايات المتحدة من الإسلام، والإسلام السياسي، أثناء الحرب الباردة وبعدها. 

أولًا، لم يكن الاستشراق، كما رأينا، مقتصرًا على التعامل الغربي مع الإسلام والعالم الإسلامي، بل شمل الهند والصين أيضًا. وبقدر تناوله للإسلام، ليس من الإنصاف ألا نعترف بما للاستشراق والمستشرقين من أفضال علمية عديدة في الكشف عن كنوز التراث الإسلامي، كما أنه من الظلم اختزال الاستشراق في خانة العداء للإسلام. فبعض المستشرقين كان لديهم افتتان حقيقي واحترام كبير للشرق عمومًا والإسلام خصوصًا. ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر توماس كارلايل، الكاتب البريطاني البارز في أواسط القرن التاسع عشر، والذي ألقى محاضرة شهيرة في 1840 عن نبي الإسلام محمد تناوله فيها بكثير من الثناء والتمجيد، واصفًا إياه بأنه نبي مشروع بل وبطل وصاحب رؤية عظيمة ألهمت الملايين على نحو يضعه في موضع مجيد ضمن عظماء الإنسانية قبله وبعده. كما أن بعض المستشرقين، خصوصًا في القرن العشرين، رفضوا الجوهرانية التي أفاض سعيد في تحليلها في كتابه. بل إن بعضهم، مثل المستشرق الماركسي الفرنسي مكسيم رودنسون، كان من بين أهم المصادر التي استقى منها إدوارد سعيد نقده للاستشراق بالمعنى الجوهراني اللاتاريخي والاستعلائي الاستعماري الذي ركَّز عليه كتابه. لكن بالطبع يظل صحيحًا أن الاستشراق مال في مجمله إلى تصوُّر المسلمين باعتبارهم «آخرين» لهم جوهر خاص، وأن الكثير من المستشرقين، وربما غالبيتهم، كانت نظرتهم للإسلام والمسلمين بالغة السلبية، ويسري ذلك بالتأكيد على المفكر الفرنسي الشهير إرنست رينان، الذي زاع صيته في العالم العربي بسبب محاوراته الشهيرة مع الشيخ محمد عبده.

ثانيًا، هل النظرة السلبية للإسلام والمسلمين التي غلبت على «الاستشراق»، خصوصًا بالمعنى الذي طرحه إدوارد سعيد، متجذرة في «العداء المتأصل» بين «دار الإسلام» و»العالم المسيحي» منذ نشأة الإسلام؟ كثير من «الغيورين على الإسلام» يعتقدون ذلك، لكن الحد الأدنى من النظرة التاريخية كفيل بتفنيد اعتقادهم هذا. صحيح أنه على مدى ألف عام منذ الغزوات/الفتوحات العربية الأولى في أواسط القرن السابع الميلادي حتى حصار فيينا الفاشل من قِبَل العثمانيين في أواخر القرن السابع عشر، غلب الطابع السلبي على التفاعلات بين هذين العالمين؛ وصحيح أن النظرة الأوروبية المسيحية للإسلام طوال تلك القرون غلبت عليها تصورات لاهوتية سلبية عن الإسلام والمسلمين، تراوحت بين نظر كتُّاب مسيحيين إلى المسلمين كعذاب أرسله الله إلى المسيحيين عقابًا لهم على خطاياهم، واعتبار المسلمين وثنيين على شاكلة عبدة الأصنام الرومان القدامى الذين ناضل ضدهم المسيحيون الأوائل، وأخيرًا النظر إلى الإسلام، وهي النظرة التي سادت طوال القرون الوسطى، كنوع من الهرطقة المسيحية؛ غير أن أوروبا الحديثة تجاوزت مثل تلك الهواجس اللاهوتية على الأقل منذ أمد ليس بالقصير! واعتبار النظرة الاستشراقية الاستعلائية تجاه الإسلام وما اقترن بها أو ترتب عليها خلال العقود الأخيرة من إسلاموفوبيا مجرد امتداد للعداء اللاهوتي للإسلام من جانب مسيحية العصور الوسطى لا يقل سذاجة عن اعتبار بعض الإخوان المسلمين، وهم بالتأكيد من «الغيورين على الإسلام»، أن محنتهم في مصر اليوم «تبدأ بقصة النبي يوسف في سجون فرعون»! وهو لا يقل سذاجة كذلك عن اعتبار بعض أنصار النظام الراهن، وكثير منهم أيضًا من «الغيورين على الإسلام» أن «قمع النظام للإخوان المسلمين يشبه طرد أحمس للهكسوس» (فهمي 2019). والواقع أن عصر التنوير الأوروبي أفرز تصورات أكثر إيجابية وتوازنًا وعقلانية بكثير عن الإسلام، وهذا موضوع جدير بالدراسة. كما أن الرؤى القروسطية المسيحية للإسلام، مهما كانت عدائية، لم تكن تتسم بالنظرة الاستعلائية الحديثة التي هي بنت الاستعمار بامتياز.

لكن التأكيد على الاستمرارية في موقف الولايات المتحدة حيال الإسلام طوال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية لا ينبغي أن يكون على حساب رؤية الانقطاع. وإذا كان انتهاء الحرب الباردة ومسعى الولايات المتحدة إلى تدشين نظام عالمي جديد تدين لها فيه السيطرة على مقاليد العالم أفرز ظهور مفهوم صدام الحضارات بصبغته الاستشراقية العدائية تجاه الإسلام والمسلمين، فإن عواقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر كانت نقطة تحول كيفية في التصاعد الهائل للإسلاموفوبيا، لا في الولايات المتحدة فحسب، بل لا في الغرب وحده، لكن على الصعيد العالمي.

(جـ) الحادي عشر من سبتمبر

نقطة تحوُّل

لا نقول جديدًا حين نشير إلى أن ما بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر ليس كمثل ما قبلها. فقد جرى تعميم خطاب «الحرب على الإرهاب» على نحو لم يكن من المتصور فعله قبل ذلك. لكن عواقب هذه الهجمات، بحسب الطريقة «غير العفوية» التي جرى فهمها بها وانتزاعها من أي سياق معقول يحاول فهمها لا تبريرها، كانت أعمق بكثير من مجرد تعميم الخطاب المذكور. فالحاصل أن تغييرًا حادًا طرأ على الذاكرة الجماعية التي صاغت الحياة السياسية والوجدان العام في الغرب طوال عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية. فحتى انتهاء القرن العشرين، ظل إرث هذه الحرب الأخيرة ماثلًا في الأذهان والقلوب بوصفها انتصارًا تاريخيًا على ويلات الفاشية والنازية. وبغض النظر عن مدى الدقة التاريخية لهذا الفهم للحرب العالمية الثانية، فإنه ظل يُشكِّل متراسًا يحول بقوة دون إعادة بزوغ أقصى اليمين وخروجه من الهامش الضيق إلى قلب الحياة السياسية.

وبشيء من التبسيط يمكن فهم التغيير الحادث في الذاكرة التاريخية الغربية بإحدى طريقتين، وثانيهما في تقديري أدق. الأولى هي ببساطة حلول ذكرى الحادي عشر من سبتمبر محل ذكرى الحرب العالمية الثانية كحدث عملاق يصيغ الذاكرة ويُشكِّل الوجدان العام. أما الطريقة الثانية، فهي اندماج الذاكرتين من خلال عملية انتزاع عميق وعنيف لهجمات 11 سبتمبر 2001 من سياقها، على نحو يقترن معه ضحايا تلك الهجمات بضحايا المحرقة النازية، ومن ثم تنشأ في الوجدان مقارنة بين النازية وعدو الغرب الجديد الإسلامي، أو حتى المسلم، هذه المرة. وسوف نستطرد في القسم أدناه بشأن أثر ذلك على تيسير صعود أقصى اليمين في أوروبا بالذات، لكن في الغرب عمومًا وعلى نطاق أوسع من الغرب.

كانت فرنسا هي الدولة الرأسمالية المتقدمة التي ذهبت إلى أبعد مدى في مقاومة منطق «الحرب على الإرهاب» الذي دفعت الولايات المتحدة بقوة باتجاهه بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر. لا بد أن هذه الجملة الأخيرة ستبدو مدهشة لأغلب القراء على خلفية الأحداث الجارية، لكن هذا هو ما جرى بالفعل، وهو الوجه الأول للاستثناء الفرنسي فيما يتعلق بالإسلاموفوبيا التالية لضرب برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك والبنتاجون والسابقة على اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية. وتجلت المقاومة المذكورة في رفض الغزو الأمريكي للعراق. فقد عارض الرئيس جاك شيراك الحرب بقوة ورفض إرسال قوات فرنسية إلى العراق. ولم يكن هذا موقفًا منفردًا لشيراك، بل أيده فيه كلٌ من يمين الوسط ويسار الوسط في فرنسا. بل بدا لعدة سنوات بعدها أن الرأي العام الفرنسي يؤمن بقوة بضرورة أن تنأى فرنسا بنفسها عن مغامرات الولايات المتحدة العسكرية في الشرق الأوسط. وأضفى هذا الموقف المناوء للإمبريالية الأمريكية مزيدًا من المشروعية على الوضع السياسي في فرنسا، وهو ما تجلى في انخفاض الأصوات التي حصدتها ’الجبهة القومية‘ اليمينية المتطرفة في الانتخابات الرئاسية لعام 2007 إلى 10 %فقط مقابل 17 %في الانتخابات السابقة عليها. ومثل هذا أول تراجع تتعرض له ’الجبهة‘ منذ أوائل التسعينات، حيث راحت الحياة السياسية «المعتدلة» ترسخ نفسها بحصول يمين الوسط ويسار الوسط معًا على نحو ثلثي الأصوات. وانتشرت في النقاش السياسي الفرنسي رؤى هادئة وحكيمة تؤكد ضرورة وضع هجمات الحادي عشر من سبتمبر في سياقها التاريخي وفهم العوامل السياسية التي جعلتها ممكنة (دون أن تبررها بالطبع)، بعيدًا عن الهوس السائد في الغرب عمومًا والذي جعل من الإرهاب غولًا وجوديًا لا سبيل لفهمه أو تفسيره سوى بكونه متأصلًا في العنف الكامن في الإسلام، والذي تناولنا جانبًا منه أعلاه.

لكن هذا «الاستثناء الفرنسي» المحمود قابله في الفترة ذاتها استثناء آخر مضاد له في الاتجاه ومعادل له في القوة على أرضية محفز آخر من محفزات الإسلاموفوبيا، وهو الحجاب الإسلامي. وكانت توترات غير هينة قد أثيرت بشأن الحجاب (غطاء الرأس) في فرنسا في مناسبتين سابقتين على الألفية الجديدة. حدث ذلك لأول مرة في أواخر الثمانينات حينما نشأ جدال بشأن ما إذا كان ينبغي السماح للفتيات المسلمات بارتداء الحجاب في المدارس العامة، وذلك على خلفية قرار ناظر إحدى المدارس الإعدادية بفصل ثلاث فتيات مسلمات رفضن نزع الحجاب. وقد احتج الناظر وقتها بأن الحجاب مظهر ديني ينتهك العلمانية، التي رأى أنها تستوجب إبقاء الدين خارج نطاق الفضاء العام، بما في ذلك المدارس العامة. وقد أبطل القضاء قرار الفصل في النهاية في تلك المناسبة. وأثيرت المسألة مرة أخرى في 1994 على مستوى مختلف، حينما أضرب عدد من المعلمين في إحدى المدارس اعتراضًا على رفض بعض الفتيات خلع الحجاب أثناء حصة الألعاب. ومرة أخرى، انتهت المشكلة وقتها «دون حسم». أما في عام 2003، فقد تجدد التوتر على نحو حمل مزيجًا مما جرى في المرتين السابقتين، حين حُرمت أختان من حصة الألعاب بسبب إصرارهن على الاحتفاظ بالحجاب خلالها... وامتد حبل الدردشة والتعليقات! غير أن الأمور لم تقف هذه المرة عند حد الجعجعة بلا طحن، إذ تصاعد الموقف سريعًا حينما أنشأ الرئيس شيراك في يوليو 2003 لجنة لبحث إمكانية سن قانون للتعامل مع «مشكلة» الحجاب في المدارس العامة. وأصدرت اللجنة تقريرها في ديسمبر، وأوصت فيه بحظر الرموز الدينية الجلية. وتزامن صدور التقرير مع استطلاع رأي كشف عن تنامي تأييد الرأي العام لإصدار قانون، حيث أعرب 72 %ممن استُطلعت آراؤهم عن تأييد حظر الرموز المرئية للانتماء الديني في المدارس العامة. وبالفعل سن البرلمان الفرنسي القانون في مارس 2004، ونص على حظر «ارتداء رموز أو ملابس تكشف على نحو ظاهر الانتماء الديني». ولم يقتصر حظر القانون للرموز الجلية على الحجاب، بل شمل أيضًا الصلبان الكبيرة والطاقية اليهودية، وذلك في محاولة، ناجحة، لقطع الطريق على اتهامه بالتمييز من خلال الاستهداف الحصري للمسلمين، أو بالأحرى في هذه الحالة المسلمات. غير أن السجالات التي سبقت صدور القانون ومداولات اللجنة الحكومية التي أوصت به، بل والمناسبة التي أطلقت الجدال أصلًا، لم تدع مجالًا للشك في أن الشاغل الحقيقي كان هو ارتداء بعض الفتيات المسلمات للحجاب (Green 2019: 307-309). 

لكن لننظر إلى جوهر المسألة. لقد استند تبرير القانون إلى مزيج من حجتين، نسوية وعلمانية. ذهبت الحجة النسوية إلى كون الحجاب يرمز إلى قهر المرأة وخضوعها، ويتعارض بالتالي مع الالتزام الفرنسي بالمساواة بين الجنسين. أما الحجة العلمانية، فهي كما سبق التنويه ضرورة «إبقاء الدين خارج نطاق الفضاء العام». غير أن النظرة الفاحصة تكشف عن أننا هنا إزاء تشويه للنسوية والعلمانية معًا. فالحجة النسوية تتناسى أن الحجاب مسألة مركبة وأن دوافع ارتدائه متعددة ولا يمكن اختزالها في إجبار الرجل للمرأة على لبسه أو حتى القهر الذاتي للمرأة نتيجة لتبنيها لمنظور ذكوري كاره لجنسها. بل إن المناسبة التي أطلقت جدال الحجاب في 2003 كانت تؤكد ذلك. فالأختان بطلتا واقعة رفض خلع الحجاب في حصة الألعاب على عكس إرادة الأسرة. وقد أكد والد الفتاتين، الذي وصف نفسه بأنه «ملحد يهودي»، أنه يعارض شخصيًا اختيار ابنتيه لكنه يؤيد حقهما في الاختيار. وجدير بالذكر هنا أن حظر الحجاب باسم تحرير المرأة هو الوجه الآخر لفرض الحجاب باسم العفة، إذ تصبح المرأة في الحالتين كرة يركلها هذا في اتجاه باسم المساواة ويركلها ذاك في اتجاه مضاد باسم العفة بينما تضيع حريتها في الحالتين، وهو ما يعبر عنه جلبير الأشقر في تعليقه التالي: «والحال أنّ حظر الحجاب يضفي المزيد من الشرعيّة على فرضه في نظر مَن يعتبرونه ركنًا من أركان الإيمان. فلا تُمْكن مواجهةُ الإكراه الدينيّ بصورةٍ مشروعةٍ وفعّالةٍ سوى بالتسلّح بمبدأ حريّة الاعتقاد والممارسة الدينيّة، الفرديّة حصرًا، سواء تجلّت الممارسةُ باللباس أو بغيره، ومع احترام الحكومات العلمانيّة لهذا المبدأ» (الأشقر 2011). ويقودنا هذا الذكر للعلمانية إلى الحجة الثانية التي قام ويقوم عليها حظر الحجاب.

العلمانية في فرنسا مبدأ دستوري ينص على عدم قيام الدولة بتعليم أي دين وعدم سماحها لأي دين بالتدخل في تنظيم التعليم العام. ربما بدا هذا الربط الوثيق بين العلمانية والتعليم بالذات تعسفيًا أو ضيق الأفق، لكن معرفة الملابسات التاريخية التي أفرزت المبدأ الدستوري المذكور تجلي المسألة. فعلى العكس مما هو شائع، ليست العلمانية متأصلة في جوهر ما للجمهورية في فرنسا. فقد فرضتها الجمهورية الثالثة تحديدًا من أجل وضع نهاية للسيطرة على التعليم العام من قِبَل الكنيسة الكاثوليكية التي أسس لها قانون صادر عن... الجمهورية الثانية! فالمعنى القانوني، والمعقول جدًا من وجهة نظر إنسانية، للعلمانية في فرنسا هو حياد الدولة في الشأن الديني، وهي بهذا المعنى لازمة من لوازم الديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان. غير أن «أيديولوجيي العلمانية الجدد»، على حد تعبير المفكر اليساري الفرنسي جاك رونسيار، غيروا بالكلية معنى المفهوم، إذ حولوه من التزام واقع على الدولة بالحياد الديني إلى قاعدة للسلوك يتعين على الدولة فرضها على الطلاب والطالبات، وعلى أمهاتهم، ثم على النساء جميعًا في المجتمع كله في نهاية المطاف (Ranciére 2020). ينبغي باختصار إذن الدفاع عن العلمانية الفرنسية بمعنى فصل الدين عن الدولة، بشرط عدم الخلط بين الفصل والحظر، بين احترام الدولة للحرية الدينية وتحولها إلى شرطي يجبر الدين على التخفي ويلزمه بأن يكون «غير مرئي».

على أي حال، جاءت الأزمة الاقتصادية العالمية لكي تتزامن كما سنرى مع تخلي فرنسا عن مقاومتها لمنطق الحرب على الإرهاب، بينما راح الوجه الآخر، الكريه، للاستثناء الفرنسي بشأن الإسلاموفوبيا، يزداد تصلبًا!

(د) التلاقي اليميني وترسيخ الإسلاموفوبيا في سياق الأزمة الاقتصادية العالمية

كانت الإسلاموفوبيا بما تنطوي عليه من تنميط للإسلام يجعله قرينًا للإرهاب غطاءً أيديولوجيًّا لـ»الحرب على الإرهاب». لكن من خلال إعادة تشكيل ذاكرة الحرب العالمية الثانية في الغرب، مهدت هجمات الحادي عشر من سبتمبر أيضًا لإعادة تشكيل الخريطة السياسية لليمين الغربي والعالمي، وهو ما لم يتكرس فعلًا سوى مع الأزمة الاقتصادية العالمية.

دعونا نرصد التحولات في الخريطة السياسية خلال السنوات الأخيرة، مع تلمُّس موضع الإسلاموفوبيا في تلك التحولات، قبل أن نحلِّل دلالتها. بدا جليًا مؤخرًا أن اليمين المحافظ (سنسميه أحيانًا ’يمين التيار الرئيسي‘ أو ’يمين الوسط‘، وسنشرح باختصار أسباب هذه التسمية الأخيرة أدناه) في الولايات المتحدة وأوروبا أخذ ينفتح على تخومه الخارجية في أقصى اليمين، سواء على صعيد الأفكار أو على صعيد إقامة التحالفات السياسية، فيما أسماه المؤرخ البريطاني الماركسي ديفيد رونتون ’التلاقي اليميني‘ (convergence on the right). وتحديدًا خلال السنة الممتدة بين يونيو 2016 ومايو 2017 حقق هذا التلاقي اليميني انتصارات سياسية مهمة تمثلت في استفتاء البركسيت في المملكة المتحدة، وانتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة، وبلوغ مارين لوبين المرحلة الثانية للانتخاباب الرئاسية الفرنسية (Renton 2019). وسوف نطيل الوقوف عند البركسيت بالذات لدلالته بالنسبة لموضوعنا، ويعتمد التحليل أدناه اعتمادًا كبيرًا على قراءة رونتون للأحداث.

بدأت حملة إخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في سنوات مارجريت تاتشر الأخيرة في الحكم واكتسبت زخمًا إضافيًا مع خروجها من السلطة، وذلك في صفوف أشد أنصارها حماسةً سواء داخل حزب المحافظين أو خارجه. وعلى عكس ما يُشاع، لم يكن لدى اليمين المحافظ في المملكة المتحدة تاريخيًا موقفًا معاديًا للمشروع الأوروبي، بل كان المحافظون في زمن رئاسة هارولد ماكميلان للوزارة أول من سعى إلى الانضمام إلى السوق الأوروبية المشتركة (التي ستصبح لاحقًا الاتحاد الأوروبي) في 1963، ثم كان المحافظون في الحكم أيضًا حينما انضمت المملكة المتحدة فعلًا في 1973. وصدر القانون الذي شرَّع خضوع المملكة المتحدة للقانون الأوروبي في وزارة تيد هيث المحافظة سنة 1972 بتأييد أهم أقطاب يمين الحزب من أعضاء البرلمان الذين سيُطلق عليهم لاحقًا اسم التاتشريين، بمن فيهم مارجريت تاتشر نفسها (Renton 2019: 64-65). غير أن تاتشر في أواخر سنواتها العشر في السلطة باتت معادية بشكل متزايد للاتحاد الأوروبي، الذي أصبحت ترى في قادته المعادل لـ’المحافظين‘ المعتدلين، ممن لا يمتلكون في رأيها الإرادة الكافية لخوض معركة انتصار الرأسمال الحاسم على العمال. 

رأينا إذن أن مشروع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان منذ أواخر الثمانينات إلى أوائل الألفية الجديدة مشروعًا يمينيًا محافظًا من النوع المألوف، لكنه اكتسب بعد ذلك طابعًا عنصريًا شديد الرجعية وبات يندرج في أقصى اليمين على أرضية العداء للمهاجرين والمسلمين. ومع اختلاف الملابسات بالطبع، يمكن أن يقال شيءٌ مشابه عن دونالد ترامب في الولايات المتحدة. لن ندخل هنا في التفاصيل، لكن من المهم الإشارة إلى أن ترامب حين دخل حلبة المنافسة على الرئاسة لأول مرة في شتاء 1999-2000، فعل ذلك على أرضية وسطية مناهضة للعنصرية! وقتها كان ترامب يتنافس على الترشح عن ’حزب الإصلاح’ مع ’الجمهوري‘ السابق بات بوكانان، وقامت حملة ترامب على فضح توجهات بوكانان الرجعية المناهضة بوجه خاص لليهود والنساء والمثليين جنسيًا. أما ترامب «كما نعرفه»، فظهر مع محاولته الثانية للوصول إلى البيت الأبيض في أواخر مدة رئاسة أوباما الأولى. وقتها كان المدخل الرئيسي الذي سعى ترامب لجذب الأضواء عبره هو زعمه أن أوباما كيني الجنسية مسلم الديانة! وكان هذا هو الأساس لشعبية ترامب في صفوف أقصى اليمين خارج وداخل صفوف ’الجمهوريين‘ على السواء، والتي دفعت قيادة الحزب لتبنيه مرشحًا له، وبقية القصة المؤسفة معروفة وهي لم تنته بخسارة ترامب للانتخابات مؤخرًا.

وتوفر فرنسا نموذجًا آخر مختلفًا للتلاقي اليميني. فقد أعطى التصويت لصالح البركسيت ثم وصول ترامب إلى البيت الأبيض دفعة قوية لمارين لوبين، زعيمة ’الجبهة القومية‘ (’التجمع القومي‘ الآن) العنصرية وذات الجذور الفاشية. والحال أن ’الجبهة القومية‘ حققت صعودًا شبه متواصل على مر العقود الثلاثة الأخيرة وباتت قوة كبيرة على المسرح السياسي، بينما تمثَّلت استجابة يمين الوسط ويسار الوسط على السواء في الحرص على إبقاء ’الجبهة‘ خارج الرئاسة والبرلمان من خلال استعارة توجهاتها السياسية مع مطالبة الناخبين بعدم التصويت لها! كان هذا شكلًا بالغ البؤس من «حراسة البوابة» لم يؤدِ سوى إلى منح المصداقية لخطاب أقصى اليمين المناهض للمسلمين والمهاجرين والمطالب برئاسة سلطوية. وقد تجلى إفلاس «حراسة البوابة» على الطريقة الفرنسية هذه مع حصول مارين لوبين على المركز الثاني في الجولة الأولى ووصولها للجولة الثانية من انتخابات الرئاسة. قارن رد الفعل بما جرى قبل 15 عامًا حينما كان والدها في نفس الموقع. وقتها انتفضت فرنسا كلها لقطع الطريق على أقصى اليمين. أما هذه المرة، فإن الإحباط كان سيد الموقف. وراح أحد مرشحي يمين الوسط الخاسرين يعلن تأييده للوبين الابنة في الجولة الثانية في شكل من أشكال التلاقي اليميني. 

والحال أن الناخب الفرنسي كان في الجولة الثانية أمام مرشحين يرفعان شعار «لا يمين ولا يسار»، لكن بمحتوى مختلف. فبينما كانت لوبين ترفض اليمين واليسار من موقع أقصى اليمين العنصري، بدا ماكرون متمرسًا فيما يسمى تهكمًا «الوسط المتطرف». وفاز ماكرون بمقعد الرئاسة لكنه بدا أضعف رئيس في تاريخ الجمهورية الخامسة كلها من حيث عجزه عن الإقناع والهيمنة. غير أن هذا الرئيس الضعيف استغل إفلاس المؤسسة السياسية في فرنسا حيث انهيار الحزب الاشتراكي تحت وطأة انزلاقه الدائم لليمين بينما عانى يمين الوسط من التفتت والانقسامات وفضائح الفساد. واستطاع ماكرون ببراعة أن يستغل هذا الفراغ في توطيد رئاسة سلطوية مهووسة بتقوية الأجهزة الأمنية وإضعاف البرلمان في استعارة لجانب ليس بالصغير من برنامج لوبين. ومع تراجع شعبيته الذي أشرنا إليه في مقدمة هذا المقال، راح يستعير جانبًا آخر من سياسة من بات يصعب أن نسميها غريمته، وهو تسخير الإسلاموفوبيا في اكتساب شعبية رخيصة وإيجاد كبش فداء للأزمات المزمنة للرأسمالية الفرنسية.

ونظرًا إلى ثقل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، القوة العظمى الحالية والقوتان العظميان الرئيسيتان اللتان ورثت منهما هذا الموقع، لم يكن من المفاجئ أن يكون للتلاقي اليميني بعد 2016-2017 إشعاع عالمي ملحوظ. ولا يتسع المجال هنا سوى للإشارة بسرعة إلى حدوث أشكال مختلفة لذلك التلاقي في قمة السلطة في عدد متزايد من البلدان، لا سيما في أوروبا الشرقية والجنوبية، لكن أيضًا في الهند وروسيا، في ظل جرعة شبه ثابتة من الإسلاموفوبيا تغذي ذلك التحالف غير المقدس بين يمين الوسط وأقصى اليمين. وثمة حالة بارزة على الأقل لا تلعب فيها الإسلاموفوبيا، بحكم السياق البعيد، دورًا يُذكر وهي حالة رئاسة بولسونارو في البرازيل، كما توجد حالة بارزة على الأقل يستند فيها هذا التلاقي اليميني الجديد إلى الإسلام السياسي لا إلى الإسلاموفوبيا، وهي حالة تركيا أردوغان في السنوات الأخيرة حيث السلطوية المتزايدة على خلفية تحالف حزب العدالة والتنمية الحاكم مع قوى من أقصى اليمين أبرزها حزب ’العمل القومي‘.

لكن غالبية حالات التلاقي اليميني تستند أيديولوجيًا -لحدٍ يزيد أو يقل- إلى الإسلاموفوبيا. وليس معنى ذلك أن الإسلاموفوبيا تقتصر على أطراف التلاقي اليميني. فالواقع أنها أوسع انتشارًا من ذلك بكثير، لكنها تتجلى في أكثر صورها اتساقًا وحدة لدى أقصى اليمين الغربي بالذات. ولا تقتصر الصلة الوثيقة بين التلاقي اليميني والإسلاموفوبيا على كون هذه الأخيرة جزءًا من الأساس الأيديولوجي للتلاقي المذكور، بل لكونها أصلًا فتحت الباب للقبول بأقصى اليمين في الحياة السياسية واستعادته «الاحترام» من خلال ما أشرنا إليه أعلاه بشأن إعادة تشكيل الذاكرة الجماعية السياسية للغرب تحت تأثير هجمات الحادي عشر من سبتمبر. فقد فتح ذلك الباب لنزع الحظر، الأخلاقي في المقام الأول، عن أقصى اليمين، وتزامن ذلك مع «تلطيف» هذا الأخير لعنصريته بتغليفها برداء أكثر قبولًا، بجعلها تقوم على «الاختلاف الثقافي» عوضًا عن لون البشرة أو العرق (لاحظ صلة ذلك بخطاب «صدام الحضارات»).

ومن نافل القول إنه إذا كانت الإسلاموفوبيا شكَّلت أساسًا لأغلب حالات التلاقي اليميني خلال السنوات الأخيرة، فإن هذا التلاقي نفسه أسهم في مفاقمة الإسلاموفوبيا، ومفاقمة كل شكل آخر من أشكال العنصرية معها. وقد تمثَّل مظهر مهم من مظاهر هذا التفاقم في ترسيخ الصورة النمطية عن «الإرهاب الإسلامي» إلى حد بلغ حد «أرهبة الإسلام» و»أسلمة الإرهاب» على نحو بات معه الإرهاب غير الإسلامي، رغم أنه أمر واقع، أقرب إلى الاستحالة المنطقية! وقد شهدنا أحد الأمثلة الصارخة على ذلك حتى قبل تشكُّل حالات التلاقي اليميني المذكورة عند وقوع هجومَيْ النرويج المأساويين في يوليو 2011، أي في عز ’الربيع العربي‘. وسنختتم هذا القسم بالتأمل في ذلك الحدث نظرًا لدلالته ورمزيته القويتين.

في مساء يوم جمعة من ذلك الشهر الصيفي، شن أنديرز بريفيك، وهو يميني متطرف من النرويج، هجومًا إرهابيًا مزدوجًا أسفر عن مقتل 77 شخصًا في ذلك البلد الهادئ عادة. الهجوم الأول كان بسيارة مفخخة انفجرت في الحي الحكومي من العاصمة أوسلو، وأدى إلى مقتل ثمانية أشخاص. أما الهجوم الثاني، فشمل إطلاق مسعور للنيران على جزيرة تقع خارج أوسلو كان تستضيف معسكرًا صيفيًا من تنظيم ’رابطة الشبيبة العمالية‘، وهي منظمة شبابية تابعة لحزب العمال النرويجي. وكان بريفيك قد استقل قاربًا إلى الجزيرة بعد تفجير السيارة المفخخة، وقد ارتدى زي الشرطة، وقام بجمع رواد المعسكر حوله بدعوى تأمينهم، ثم أطلق النيران مرديًا 69 قتيلًا قبل أن يُسلِّم نفسه للشرطة.

وفي غياب أي معلومات عن هوية الجاني، راحت كبريات الصحف العالمية، ومنها نيويورك تايمز وواشنطن بوسط ووول ستريت جورنال، تشير بأصبع الاتهام إلى المسلمين و»الإرهاب الإسلامي». والعجيب أنه مع اتضاح هوية الجاني، وهو مسيحي ويميني متطرف، توقف تمامًا استخدام وصف «الهجوم الإرهابي» في تأكيد لكون الإرهاب لا يمكن أن يصدر عن رجل أبيض. وجدير بالذكر أن الإسلاموفوبيا كانت هي الدافع الرئيسي وراء جريمة بريفيك، وإن كان لم يستهدف بجريمته مسلمين، بل سياسيين يساريين «خونة» من منظوره لأن أدمغتهم ملوثة بأشياء من قبيل «الماركسية الثقافية» والتعددية الثقافية. وقد تبيَّن فيما بعد أن بريفيك كان قد كتب ’مانيفستو‘ من ألف وخمسمائة صفحة يعلن فيه كراهيته «للماركسية والتعددية الثقافية والمسلمين»، في تعبير بليغ عن مشروع التلاقي اليميني الجاثم اليوم على صدر العالم كوباء لا يقل خطورة، إن لم يزد، عن جائحة كوفيد-19.

بدلاً من خاتمة أو فتح نقاش بشأن أزمة الإسلام

حاول هذا المقال أن يجيب عن عدة أسئلة بشأن الإسلاموفوبيا: هل هي قائمة؟ وما طبيعتها وجذورها وتجلياتها؟ وأيًا كان نصيبها من الصحة، فلا شك أن هذه الإجابات ناقصة، وسيكون كاتب هذه السطور في غاية الرضا لو أنها أثارت مزيدًا من الأسئلة وحفزت نقاشًا ثريًا مطلوبًا بإلحاح.

وقد أكد المقال وجود الإسلاموفوبيا في الغرب وخارجه كشكل من أشكال العنصرية ورأى أنها اليوم في صميم المشروع السياسي لأقصى اليمين وأنها تُشكِّل جانبًا من الأساس الأيديولوجي لعدة تحالفات بين يمين الوسط وأقصى اليمين وصلت إلى قمة السلطة في عدد من الدول الهامة. وهذا كله إن صح يطرح بالتأكيد أسئلة إضافية عن مدى التغذية المتبادلة بين الإسلاموفوبيا وحالات التلاقي اليميني، خصوصًا في الغرب الأوروبي والأمريكي، وعن سبل مقاومة هذا التلاقي اليميني نفسه، والدور المطلوب من المسلمين أنفسهم في هذا الصدد، وعن طبيعة أقصى اليمين نفسه اليوم، وأسئلة أخرى عديدة معقدة.

لكن ربما كانت أسئلة أعقد تثور بشأن الجانب الآخر مما أسماه عنوان هذا المقال «الهوس بالإسلام»، وهو هذه المرة لا هوس كارهي الإسلام بل هوس محبيه، أو من أسميناهم «الغيورين على الإسلام». وقد انطلق هذا المقال من أن رد فعل هؤلاء «الغيورين على الإسلام» على ذبح المدرس الفرنسي هو رد فعل مَرَضي، على نحو ربما كان حريًا معه، بقدر كون هذا المعسكر الفضفاض معبرًا عن واقع الإسلام خصوصًا في الشرق الأوسط اليوم، أن نطرح أيضًا سؤالًا أو مجموعة من الأسئلة عن أزمة الإسلام، بالتوازي مع اشنغالنا بالإسلاموفوبيا. وكثيرًا ما يثور هنا اعتراض مفاده: «هناك أزمة في المسلمين ربما، لكن ليس في الإسلام». غير أن التمييز الكامل بين الإسلام والمسلمين له حدود. ففي التحليل الأخير ما هو الإسلام بمعزل عن تجسُّده في بشر هم المسلمون؟ إن الإنسان هو الذي يصنع الدينَ، وليس الدينُ هو الذي يصنع الإنسانَ، كما أن الدين لا يمكن اختزاله في بعض النصوص التي يراها المؤمنون به مقدسة. الدين حياة، ومن ثم فهو يتجلى لا في نصوص فقط لكن في طقوس وعبادات وممارسات ومؤسسات ورؤى هي كلها من صنع الإنسان. وهناك على أي حال محورية لفكرة الأمة في التصور التقليلدي للمسلمين عن دينهم.

ولا تسعى هذه الخاتمة للجواب عن سؤال أو أسئلة بمثل تعقيد واتساع قضية مثل «أزمة الإسلام»، لكنها تسعى فقط للدفاع عن وجاهة طرح السؤال والدعوة إلى الانشغال به عوضًا عن تنحيته جانبًا دون تفكير. فلنتناول إذن أهم الاعتراضات المحتملة على طرح سؤال أو أسئلة عن مدى وجود أزمة للإسلام اليوم وعن طبيعة مثل تلك الأزمة وسبل مواجهتها.

وفي تقديري أنه من وجهة نظر من يقر بوجود الإسلاموفوبيا، قد يثور وجهان رئيسيان للاعتراض على طرح أسئلة جادة بشأن أزمة الإسلام. الأول، هو أنه ما دام الإسلام والمسلمون ضحية للإسلاموفوبيا، فإن التساؤل عن أزمة الإسلام في هذا السياق سيكون من قبيل إلقاء اللوم على الضحية، وهو أمر مرفوض. والاعتراض الثاني هو أن خطاب «أزمة الإسلام» نفسه جزء من الإسلاموفوبيا لا بد من التصدي له كجزء من التصدي لها. 

والواقع أنني غير مقتنع بوجاهة كلا الاعتراضين. لنبدأ بتناول الاعتراض الأول. الإسلام والمسلمون ضحايا للإسلاموفوبيا. هذا صحيح. لكن «أزمة الإسلام» ربما تكمن تحديدًا في كون المواقف التي تبدو سائدة بين هذه الكتلة الفضفاضة من «الغيورين على الإسلام»، خصوصًا في بلادنا، لا تُشكِّل تصديًا فعالًا ومبدئيًا للإسلاموفوبيا على الإطلاق، بل تُسهِّل مهمة الإسلاموفيين في شيطنة الإسلام. لنأخذ مثلًا مسألة الحجاب الإسلامي. رأينا في هذا المقال أن أحد مظاهر الإسلاموفوبيا هو حظر الحجاب باسم حرية المرأة ومساواتها بالرجل. وبالطبع سيشاطرنا «الغيورون على الإسلام» رفض هذا الحظر. لكن المشكلة أن موقفهم هنا يصعب وصفه بالمبدئية ما داموا هم أنفسهم ميالين بقوة لفرض الحجاب على المرأة باعتباره فريضة. والواقع أن الرد المبدئي الوحيد على حظر الحجاب هو الدفاع عن حرية المرأة في اختيار ملابسها، وهو موقف بعيد جدًا عن تصورات «الغيورين على الإسلام» اليوم. ولننظر أيضًا في الموقف الغالب في صفوف المسلمين المتدينين اليوم من مسألة حرية العقيدة والفكر الديني، وبالتحديد حرية نقد الإسلام. هنا أيضًا تبدو المواقف والممارسات السائدة في صفوفهم مكرسة لأسواء الصور النمطية عن الإسلام كدين كاره للحرية. قد يقول قائل إن وجه الاعتراض ليس على نقد الإسلام، بل على السخرية منه على نحو ينطوي على إزدراء، كما في الرسوم الكاريكاتورية التي كانت أصل الجدال الذي أفضى إلى مأساة ذبح المدرس الفرنسي. ولكن صامويل باتي كان أبعد ما يكون عن السخرية من الإسلام، بل كان ببساطة مدرسًا يؤدي عمله. وقد رأى أنه وهو يُدرِّس لطلابه بشأن موضوع حرية التعبير لا يمكنه أن يتجنب «الفيل الذي في الغرفة»، وهو تلك الرسوم التي اشتد الجدل حولها في المجتمع الفرنسي. ثم إن احترامه لمشاعر طلابه من المسلمين جعله يعطيهم الاختيار بين حضور هذه الحصة بالذات أو الغياب عنها. لكن على أي حال، يستطيع المتابع للشأن العام في بلادنا أن يجد مائة مثال ومثال على رفض «الغيورين للإسلام» لتوجيه أي نقد للإسلام أو للتصورات السائدة عن الإسلام مهما كان جادًا ومهذبًا! وليس مثال نصر حامد أبو زيد ببعيد.

ولنتناول الآن الاعتراض الثاني. صحيح أن الإسلاموفوبيين يقولون إن الإسلام دين مأزوم. لكننا من الممكن أن نتفق معهم في هذا القول دون أن نقع في الإسلاموفوبيا، بالضبط مثلما يمكننا الاتفاق مع «الغيورين على الإسلام» في وجود الإسلاموفوبيا وفي رفضها دون أن نقع في «الغيرة على الإسلام» على طريقة الدب الذي قتل صاحبه! و»أزمة الإسلام» من منظورنا ربما تكمن تحديدًا في ضعف (أو تقريبًا غياب) إسهام المسلمين في النضال الحقيقي ضد الإسلاموفوبيا. فنحن هنا بتحليلنا لهذه الأزمة، لا نقع في فخ الإسلاموفوبيا بل نحاول الإسهام في إيجاد الشروط التي تزيد من فعالية النضال ضدها. والواقع أن حديث الإسلاموفوبيين عن أزمة الإسلام، مثل أغلب صورهم النمطية عن الإسلام، هو حديث لا تاريخي هدفه شيطنة الإسلام والمسلمين وتبرير المواقع العنصرية ضد الاثنين. والمطلوب هو قلب خطاب «أزمة الإسلام» ضد أصحابه الإسلاموفوبيين. فأزمة الإسلام من هذا المنظور، والتي يتعين أن نتناولها تاريخيًا، تكمن تحديدًا في كون التجليات الراهنة للإسلام على الساحة السياسية، وخصوصًا في الشرق الأوسط، 1) تُسهِّل مهمة الإسلاموفيين في شيطنة الإسلام؛ 2) تحول دون أن يكون المسلمون في موضع القلب من النضال ضد المشروع اليميني التي تُشكِّل الإسلاموفوبيا غطاءه الأيديولوجي.

وما دمنا أشرنا إلى الحاجة إلى تناول «أزمة الإسلام» تاريخيًا، فلنؤكد ضرورة دراسة تاريخ الإسلام نفسه دراسة نقدية فاحصة لا تخشى طرح الأسئلة المهمة. فالمطلوب ليس هو تجنُّب الحديث في التاريخ القديم عبر تعميمات صحيحة لكنها فارغة من المضمون عن تنوع ومرونة كل تراث ديني، بل «بالأحرى تفسير التاريخ الديني بل والدين نفسه تفسيرًا تاريخيًا عوضًا عن التفسير الديني للتاريخ» (الأشقر 2020). والواقع أن التفسير الديني للتاريخ سائد لدينا على نحو ربما يفوق ما يتصوره أغلبنا وعلى نحو يُشكِّل عقبة حقيقية أمام فهم تاريخنا والتعامل الصحي معه.

وإذا صح التحليل القائل بأن الإسلاموفوبيا هي في المقام الأول اليوم الغطاء الأيديولوجي لتلاقي سلطوي وعنصري بين يمين الوسط وأقصى اليمين، فهذا بالتأكيد يعني أن اليسار الجذري عليه أن يكون في طليعة النضال ضد هذا التلاقي اليميني الجديد، وضد الإسلاموفوبيا التي يقوم عليها. لكن هذا ليس معناه تجنُّب توجيه النقد إلى الإسلام أو تناول أزمته المحتملة بالتحليل. والمطلوب هو فهم الأسباب التاريخية (سواء اتصلت بالتاريخ القديم أو الحديث) التي يبدو معها هذا الدين وأنصاره، بشكل متزايد، خارج التاريخ وخارج قيم عصرنا الأساسية المتمثلة في العقلانية والحرية والحداثة والإعلاء من شأن حقوق الإنسان بما فيها حرية العقيدة. وإذا كان هناك محور رئيسي تدور حوله الأسئلة المطلوب طرحها في هذا السياق، فهو مسألة «خصوصية» الإسلام. هذه الخصوصية، يتناولها البعض خارج التاريخ من منظور إسلامي أو إسلاموفوبي يتناقضان عقائديًا لكنهما يتفقان منهجيًا. في مقابل ذلك، يميل اليسار الرافض للعنصرية ضد الإسلام إلى الهرب من السؤال بنفي أي خصوصية للإسلام. وربما كان المطلوب هو أن نتناول بجدية سؤال خصوصية الإسلام هذا لكن داخل التاريخ بحثًا عن الأسس والبدائل التي يمكن أن تجعل المسلمين، من داخل المنظور الإسلامي أو من خارجه، جزءًا أكثر فعالية من النضال الإنساني التحرري.