مراجعات

يحيى وجدي

باب الخيمة لمحمود الورداني.. جيل السبعينيات عاريًا!

2018.10.01

باب الخيمة  لمحمود الورداني..  جيل السبعينيات عاريًا!

عند أكثر من موضع في رواية «باب الخيمة» لمحمود الورداني الصادرة حديثًا عن «دار العين»، وجدتني أستعيد قصيدة آلن جينسبرج الشهيرة «عواء» وأبياتها “رأيتُ أفضلَ العقولِ في جيلي وقد دمرها الجنونُ/ يتضوّرون/ عراةَ ومُهَسْترين. يجرجرون َ أنفسهم عبر شوارع زنجيةٍ في الفجر باحثينَ عن إبرةِ مخدّرِ ساخطة/ هَبائيون برؤوس ملائكةٍ؛ يتحرقون للوصال السماويّ العتيق/ بالدينمو النجوميّ في مكننة الليل/ الذين بفقْرٍ وفي خرقٍ وبعيون مجوّفةٍ ومسطولينّ/ جلسوا يدخنون في الظلام العجائبي لشققٍ بلا ماء حارّ يطفو في أعلى المدن/ يتأملون في الجاز».

 وإن كان آلن جينسبرج في قصيدته الشهيرة يرثي جيل الخمسينيات في أمريكا، فإن الورداني في «باب الخيمة» يعري بجلاء جيل السبعينيات العربي، جيل ما بعد الهزيمة أمام إسرائيل، ليس في المعركة كما حدث في 1967 وإنما على موائد المفاوضات، وأمام المد الإسلامي المتطرف، ويكشف أزماته التي تفاقمت مع سقوط نماذج الدول المسماة بالجمهوريات الاشتراكية، وجنون أنظمة دول الرفض العربي، والأحلام القومية الصارخة. أبناء الهزيمة الداخلية قبل الهزائم الخارجية والظروف الموضوعية، الذين لا يجدون ذواتهم الهاربة منهم بين الخلافات النصوصية حول الطليعة والجماهير ومركزية التنظيم، وبين أنظمة عربية ترفع شعارات المقاومة والصمود بينما هي غارقة في قمع شعوبها واستلاب إرادة الجماهير.

تبدأ الرواية ببطلها جمال الصاوي وهو يكاد يرفض. أقول «يكاد» لأنه فيما سنعرف لم يسبق له ممارسة فعل الرفض ولا أي فعل مشابه، يكاد يرفض رحلة سفر لليبيا قبل أن يعود ويقبلها بدافع الهرب؛ الهرب من المنزل ومن مواجهة زوجته ورؤسائه. اختصارًا؛ من مواجهة حياته الغارقة في الفوضى والهزائم، ولا يشده إلى الرحلة سوى البحث عن المتعة ولو لأيام قليلة مع عبد الرحمن سبعاوي الشاعر الشهير. يمضي بنا الراوي قبل أن يسافر فعليًّا إلى عالم الصحافة في التسعينيات؛ عالم من الفساد والانحطاط والازدواجية، مليء بالمصالح الفردية التافهة، والاستغلال والخيانات والاحتيال وغياب القيمة. كابوس يعيشه الراوي يوميًّا في تنقلاته بين صحيفة حكومية وأخرى خاصة، يعمل فيهما على الرغم من البعد النوعي، فالأولى خاصة بالثقافة والثانية متخصصة في المال والاقتصاد، وكعادته في الجميع بين المتناقضات يلهث بين الاثنين بلا كرامة ولا حب لما يفعله ولا احترام للمكانين أوللقائمين عليهما ولا لنفسه ولا لمهنة فقدت هي نفسها احترامها.

وجمال الصاوي هو ابن الكادر اليساري كمال الصاوي الذي يخجل جمال من أبوته له، لما يراه خيانة ارتكبها، بينما يتمتع الأب نفسه باحترام بين أقرانه؛ احترام لا يقتنع به الابن الغارق في محاولات قتل الأب بلا فائدة، فالأب واقعيًّا صاحب كل الفضل عليه، وهو من تسبب في تعيينه في الصحيفة الحكومية، جالبًا له الراحة بعد سنوات من الشقاء، وكل محاولات الابن في التمرد عليه والتهرب من سيرته ليست سوى محاولات نفسية عاجزة، تفسر رؤية هذا الجيل للأجيال السابقة عليه.

 يذهب الراوي إذًا إلى ليبيا القذافي بالمصادفة، كما ذهب من قبل إلى عراق صدام حسين؛ وهما دولتان يمثلان جناحين للقمع العربي باسم مجابهة الإمبريالية وقوى الشر الاستعمارية، ولاختيار الحكي عن تجربتي السفر إلى الدولتين أمر لا يخلو من دلالات في الرواية. يسافر إلى ليبيا متعثرًا في إفلاسه وفي ضعفه أمام زوجته وهزيمته أمام الإسلاميين الذين أهانوها في المستوصف العلاجي ولم يكن بوسعه أن يفعل لها شيئًا، تمامًا مثلما انهزم جيله أمام المد الأصولي، وانسحق أمام تجربة الثورة الإسلامية في إيران فيما لم يستطع –الجيل- وهو ابن أفكار الثورة والتحرر أن يقوم بثورته الخاصة، فانكفأ على نفسه مثخنا بالهزيمة، ومن احترم نفسه انتحر، ومن تمادى في الإنكار جُن، والقليلون ساروا مع التيار.

 يوزع الراوي في رحلته الأحكام الأخلاقية، إذ يتناص هذا الجزء من السرد مع كتاب «مجتمع القاهرة السري» للمؤرخ عبد الوهاب بكر، الذي يؤرخ لتاريخ الدعارة في القاهرة خلال النصف الأول من القرن العشرين، ويجد جمال الصاوي نفسه –كالعادة- مجبرًا على إعداد ملف صحفي عنه قبيل سفره إلى ليبيا بساعات.

يصل إلى ليبيا ليبدأ فصلاً جديدًا من التضاؤل أمام الجيل الذي يكرهه، غارقًا في عدم قدرته على اتخاذ موقف رافض لأي شيء، فيجد نفسه في حفل لا يريده، وفي مكتب مسؤول أمني لم يكن يود أن يذهب إليه. ولا يرتاح إلا بسجائر الحشيش التي تدخله في نوبات من الفوبيا تجعله يشك في أقرب الناس إليه في هذه الرحلة.

في هذا الجزء من الرواية «البهجة مع سبعاوي» يبدع محمود الورداني المخلص للسرد وللرواية والقصة القصيرة، ويمضي بالقارئ إلى مشاهد بديعة وفانتازيا ابنة مخيلة روائية شديدة الخصوصية، فنجد أنفسنا نعيش مع الراوي حلمًا تظهر فيه فتيات يسبحن في حمام سباحة بلا ماء، ويرششن بعضهن البعض بالماء الوهمي، بينما يقدم له القذافي السجائر المحشوة الحشيش!

جنون مناسب لجنون البلد التي وجد نفسه فيها، وسط واقع لا يبتعد قليلا عن الكوابيس!

تتقاطع حكايات الراوي مع شخصيات كثيرة في الواقع، شخصيات حقيقية قد تلمسها في مواقف عدة، وعلى الرغم من ذلك لا أحسب رواية الورداني تنتمي إلى ما أطلق عليه الناقد الراحل فاروق عبد القادر «أدب التلسين.. أو إياك أعني» فالأمر مرتبط بالهدف، لا بطبيعة المحتوى، والشخصيات الروائية في «باب الخيمة» وإن تقاطعت مع شخصيات في الواقع فليس المقصود منها التعريض بهذه الشخصيات أو فضح فلان وعلان؛ وإنما جاء استلهامها في هدف فني محدد وحاسم، محاكمة روائية لجيل السبعينيات وما آل إليه بفعل الظروف الموضوعية والتكوين الذاتي.

على الرغم من براعته في رسم الشخصيات واجتراح المشاهد بخيال مدهش، لم يُلق محمود الورداني بالاً للغة، فجاءت صحفية، هدفها السرد وفقط، وإيصال الفكرة دون أن تكون عنصرًا فنيًّا وجماليًّا على عكس إعمال أخرى له مثل «أوان القطاف»؛ التي بنى فيها لغة بينها وبين فكرة النص علاقة جدلية فصارت مكونًا أساسيًّا من جماليات النص في العمال المشار إليه.

وعلى الرغم من كل الهزائم والضياع التام والانسحاق أمام الواقع، لا يجد الراوي في «باب الخيمة» شرفه إلا في تجنب لقاء القذافي والهروب؛ وليس المواجهة من هذا الكابوس مهما كانت الكلفة، لتأتي نهاية الرواية مفتوحة، فالبطل يرى، على الرغم من كل ما مر ويمر به، أن أموره تسير على ما يرام حينما تقلع طائرته قبل موعد اللقاء في خيمة القذافي، وهو أمر لم تحسمه الرواية؛ فهل سافر حقًا، هل سارت الأمور كما يتمناها ابن الجيل المهزوم الذي رأيناه عبر عمل روائي عاريًا إلا من ورقة توت يائسة؟!