هموم
علا سيفبعد قرن ونصف القرن من "الأبيض والأسود"
2021.03.01
مصدر الصورة : الجزيرة
بعد قرن ونصف القرن من "الأبيض والأسود"
ما تاريخ وخريطة التراث الفوتوغرافي في مصر؟
هذا المقال يلقي الضوء على تاريخ الاهتمام بالأرشيف الفوتوغرافي في مصر الذي يتأرجح بين "نوستالجيا" الحنين للماضي والدراسات والمهنية المؤسسية والأبحاث الأكاديمية والتجارة والهواية.
مرحلة الإدراك وبداية الوعي في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين كانت مكتبة لوريونتاليست (المستشرق)، هي المكان الوحيد المتبقي في القاهرة المتخصص في بيع كروت البوستال القديمة، والصور الأبيض والأسود الجيلاتين، والألبومين من تصوير المستشرقين مثل فريث وزنكاجي وبونفيس وبيشار وماكسيم دوشامب وفيوريللو ولكجيان وكثيرين جدًا غيرهما ... ولكن كانت توجد مكتبة أخرى وهي لينرت ولاندروك في القاهرة، و محل قديس للعاديات في الأقصر كلاهما يمارس تجارة تضم إلى جانب صور المستشرقين مجموعة إضافية من الصور الفوتوغرافية كان المصورين لينرت وقديس قد التقطوهما للمواضع السياحية، وتعرف اليوم بمجموعة لينرت ولاندروك ومجموعة قديس. ولكن في الوقت نفسه، خلال هذين العقدين، حدثت مجموعة من المتغيرات بدأت تسلط مزيدًا من الأضواء على أهمية صور مصر الفوتوغرافية. فكان المصور المحترف باري إيفرسون يجري تجارب فنية لإعادة تصوير المناظر التي صورها المصور المستشرق البريطاني فرانسيس فريث من نفس الزوايا ونفس المسافة باستخدام كاميرات ومعدات تصوير كالتي استخدمها فريث لدراسة التقنية التصويرية. وبحكم طبيعة هذه المهمة اهتم إيفرسون بتكوين مجموعة شخصية من الصور التاريخية عن مصر، إذ كان يقتني ما ظهر من آن لآخر في السوق كمرجع لدراسته في مجال تاريخ التصوير الفوتوغرافيا في مصر. ولكونها من أولى المجموعات الخاصة للصور لجأ إليه عدد من دور النشر الناشئة لإصدار كتب تذكارية محتواها الأساسي يعتمد على الصور القديمة، مع قليل من المعلومات الإيضاحية التي لا تتعدى بضعة سطور تعريفية لكل صورة. ولفت نجاح هذه الكتب ورواجها انتباه هواة العاديات وتجار الورقيات والكتب القديمة إلى أهمية الصور القديمة كسلعة للتداول، بخاصة بين النخبة المختارة (الإنتلجينتسيا) والمهتمين بصور أفراد العائلة الملكية وحكايات باشوات ما قبل الثورة ودارسي التاريخ العمراني الحديث للقاهرة. ومما زاد من هذا الشغف للصور القديمة وأسهم في صنع طفرة في الاهتمام بالتراث الفوتوغرافي والبحث عنه هو ظهور موقعين على الويب محورهما القديمات؛ أي ما يتعلق بفترة أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. أحدهما هو Egyptdantan الذي أطلقه رائد المجموعات الخاصة ماكس كركجي؛ وهو مصري هاجر إلى باريس في الستينيات، والثاني هو egy.com الذي أنشأه سمير رأفت، لتتبع حكايات العائلات والبيوت والتاريخ العمراني للقاهرة. ولكن ما يميز الموقعين أنهما لم يكتفيا فقط بنشر صور فوتوغرافية لم تُر من قبل، بل قاما أيضًا بذكر مصدر الصورة بوضوح، احترامًا للملكية الفكرية، سواء كان مؤسسة أو مجموعة خاصة، وهو شيء قلَّ ما يحدث في طوفان الصور التي تظهر على مواقع التواصل الاجتماعي في وقتنا الحاضر. ولكن الأهم أن كل الصور في هذين الموقعين مرفقة بدراسة وافية وربط بسياق تاريخي يعتمد على مستندات أو وثائق أو رجوع إلى مجلات وصحف، أو ربما تاريخ شفهي إذا لزم الأمر، كما يلزم أن يكون البحث عن معان فيما وراء الصورة.
وبموازاة هذه الجهود الفردية، حدثت مبادرتان في التسعينيات لإصدار أقراص مدمجة موضوعها صور قديمة عن مصر؛ معتمدة على جهود فردية، وبالأخص بفضل الأستاذ الجامعي البارز الدكتور فتحي صالح، الذي أهله منصبه الرفيع كمسؤول في موقع حكومي للمضي بخطوات واثقة لنجاح مساعي إصدار الأقراص المدمجة، فصدر الـ CD الأول عندما كان يشغل منصب المستشار الثقافي المصري في باريس، وعثر حينئذ في مكتبة متحف اللوفر على مجموعة من كروت البوستال عن مصر في أوائل القرن العشرين. وأما القرص الثاني فقد صدر عن المركز القومي لتوثيق التراث الذي كان الدكتور صالح رئيسه، ومادته هي المجموعة الكاملة للصور القديمة الخاصة بمكتبة لينرت ولاندروك. وعلى الرغم من رونق التجربتين فإن انتشار هذه الأقراص ظلَّ مقصورًا على السوق السياحي، ربما لأسباب تقنية أو ثقافية أو لعدم كفاية الترويج لبيع الأقراص مثل الكتب. وجاءت الخطوة اللاحقة مع بداية نشاط مكتبة الإسكندرية سنة ٢٠٠١ حين ظهرت المبادرة الرسمية الأولى لتكوين واقتناء مجموعة صور فوتوغرافية وكروت بوستال، لكنها كانت قاصرة على مقتنيات موضوعها متعلق بالتراث السكندري. وفي هذا الصدد أقامت المكتبة معرضًا دائمًا يتضمن مجموعة صور فوتوغرافية من أرشيف المعماري محمد عوض تضم لقطات لمصورين أوروبيين كانوا مقيمين ولهم ستوديوهات في الإسكندرية؛ مثل الإيطالي لويجي فيوريللو الذي وثَّق ضرب الإسكندرية في ١٨٨٢، والمصور الألماني أندرياس رايزر وغيرهم. وإن كانت هذه مبادرة إيجابية تشكر عليها المكتبة لكنها تحتاج إلى زيادة المجموعة والتنشيط المتواصل لمجال الاقتناء، سواء بالشراء أو قبول الإهداء لصور عن الإسكندرية وللشخصيات المؤثرة من مواليدها. وعلى الرغم من انحياز المكتبة للمواضيع ذات الصلة بتاريخ وتراث الإسكندرية فإنها بين الحين والآخر توسع مجالها لقبول أو إقتناء قدر من الصور متعلقة بمواضيع وأماكن أخرى عن مصر، ولكن ربما ليس بالقدر المرجو من جهة بثقل مكتبة الإسكندرية؛ المنعقد عليها الأمل لتلعب دور الريادة في الحفاظ على التراث الفوتوغرافي المصري، وربما الإقليمي أيضًا.
أرشيفات توثيق الآثار
وإن كان تاريخ التصوير الفوتوغرافي منذ نشأته؛ في منتصف القرن التاسع عشر، قد ارتبط بمجيء العديد من المصورين الأوروبيين لمصر بسبب كثافة الإضاءة، فهو مرتبط أيضًا ارتباطًا وثيقًا بتصوير الآثار المصرية، وبخاصة الآثار الفرعونية والإسلامية في فترة الاكتشافات والتنقيب، ولكن للأسف هذه الصور لا يمكن العثور عليها إلا في أرشيفات متفرقة، سواء في مكتبات الجامعات الأوروبية والأمريكية، أو في المتاحف أو المجموعات الخاصة، وقد تتاح في المزادات بأسعار باهظة لندرتها. ويرجع السبب في هذا الشتات أن كل الصور الملتقطة في هذه الفترة ليست نتيجة تكليفات من قبل الحكومة، إذ في ذلك الزمن لم تكن مصلحة أو وزارة الآثار قد أنشئت بعد، بل صورها المصورون الأوروبيون أو الأرمن الذين تدفقوا لتصوير المعالم السياحية، إذ كان تداول هذه الصور تجارة مربحة سواء داخل مصر، أو بعد العودة إلى بلادهم، أو في المحافل الدولية. وما يزيد المشهد تعقيدًا أن الصور كانت تباع بالقطعة كسلعة تجارية للسياح الذين كانوا يعودون بها لبلادهم، وهذا يبرر قلة، أو وندرة، وجودها في مصر، وبالطبع غاب أرشيف كامل يحتوي على صور قديمة للآثار الفرعونية. ولكن المشهد تغيَّر منذ الثلاثينيات إلى المنهجية في الأرشفة، نتيجة لتوافد عدد من البعثات الآثارية على الساحة، وعلى رأسهم المعهد الفرنسي والمعهد الألماني والمعهد السويسري. فقام كل معهد على حدة بتكوين أرشيف صور خاص لتوثيق أعمال بعثاته وإتاحتها للدارسين وجمع الصور المتعلقة بالآثار التي يقومون بترميمها لرصد حالها قبل وبعد الترميم.
أما بالنسبة لمجال لآثار الإسلامية فالوضع مختلف. فما لبث أن تكونت لجنة حفظ الآثار العربية سنة ١٨٨١ حتى ظهرت الحاجة الملحة لتكوين أرشيف لحفظ سلبيات (النيجاتيف الزجاجي) الآثار الإسلامية التي كان يتم تكليف المصورين بالتقاطها. ولكن عبر السنين، ولسبب أو لآخر، أهمل هذا الأرشيف، وتعرضت الكثير من محتوياته للتلف، بل وتضاءلت مكانته لقلة استخدامه بعد التغييرات التي طرأت على تكنولوجيا التصوير وصعوبة طباعة هذه السلبيات. ولكن بسبب الوعي بأهمية المعلومات العلمية التي قد تتيحها هذه السلبيات عادت الأنظار تتجه إليه ثانية في العقدين الأخيرين عندما قامت بعثة المعهد الفرنسي للآثار الشرقية الفرنسية بالمشاركة مع المعهد الألماني في القاهرة بتقديم منحة لترميم السلبيات الزجاجية، ووضع برنامج زمني لتوثيقها. وحاليًا يقوم مركز المعلومات في وزارة الآثار برقمنة هذه السلبيات وإتاحتها للباحثين، ولكن على نطاق ضيق جدًا. وللأسف لا توجد خطة معلنة لإتاحة هذا الأرشيف على الإنترنت كما هو متبع عالميًّا، حتى تتاح هذه الصور رقميًّا لأكبر عدد من الباحثين في مجال الآثار الإسلامية خارج القاهرة، بل وخارج مصر، للإطلاع عليها ودراستها، مع مراعاة الاحتفاظ بها في الظروف الأرشيفية الأمثل، وعدم تعرضها للتلف كلما أتيحت للباحثين.
وفي ظل حجب أرشيف صور لجنة حفظ الآثار، أو صعوبة الاطلاع عليه، تتجه الأنظار للأرشيف الأقرب موضوعًا؛ وهو أرشيف الصور الذي كوَّنه العلامة المستشرق البريطاني أرشيبالد كريزويل، والموجود حاليًا بمكتبة الكتب النادرة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وبدأ تكوينة منذ العشرينيات وحتى وفاته في منتصف السبعينيات، ويحتوي على ما يقرب من ١٤ ألف صورة بالأبيض والأسود بعدسته، التقطت في منتصف القرن العشرين حينما كان يجري دراسة تاريخ العمارة الإسلامية. وتقوم مكتبة الجامعة حاليًا برقمنة هذا الأرشيف بأكمله بفضل منحة من مؤسسة بركات اللندنية التي تموِّل أيضًا رقمنة صور أخرى بعدسة كريزويل كان قد باعها في حياته لمتاحف أو هيئات علمية أو مكتبات جامعية في الغرب، كي يتعرفوا على الآثار الإسلامية في مصر والشرق الأوسط. وتكمن أهمية هذا التعاون في أنه التجربة الأولى لجمع كل الصور التي التقطها كريزويل رقميًّا في موقع واحد على الإنترنت دون استحواذ أي هيئة على أرشيف غيرها، بل يتيح لكل هيئة الاحتفاظ بأرشيفها الخاص وترتيبه وحقوق الطبع وأسلوب الأرشفة. لعل هذه الميزة التي تتيحها الرقمنة يتبعها أوجه تعاون أخرى بين مكتبات الهيئات التعليمية والجامعات الأخرى سواء الوطنية أو الأهلية.
الرعيل الأول من المرممين
في سنة ٢٠١٧ أعلنت جامعة حلوان بالمشاركة مع جامعة كاتانيا تخرج الدفعة الأولى من ماجستير ترميم الصور الفوتوغرافية، وكان معظمهم هؤلاء الخريجين يعملون في مراكز وقطاعات مختلفة من وزارة الآثار. وبتخرجهم حدثت طفرة في عالم الأرشيف الفوتوغرافي.. بخاصة في أجواء وزارة الآثار حيث بدأت كل المتاحف، صغيرة أو كبيرة، في البحث عن مقتنياتها وإيجاد الصور التي تحتاج إلى ترميم، وحدثت نفس الحالة من الوعي في محيط هيئات أخرى أرادت الاستفادة من الخبرات العلمية والأكاديمية التي اكتسبتها، وسرعان ما نجحت في العثور على تجار الورق والصور واقتناء مجموعات والألبومات لإجراء تجارب عليها، وتطبيق ما درسته ولجأ إليها أصحاب المجموعات الخاصة الذين يرغبون في ترميم مقتنياتهم من الصور. وقد أتثبت الأيام نبوءة أنهم سيكونون حلقة الوصل بين الباحثين والتجار وأمناء الأرشيف وأصحاب المجموعات الخاصة.
المشهد الحالي والرؤية المستقبلية
المشهد الآن يتلخص في وجود كم هائل من الصور يحتاج للانتشال والإنقاذ من التدهور؛ سواء كان محفوظًا في أجواء غير مناسبة، أو في حوزة مجموعة من التجار الذين احترفوا بيع وشراء الصور القديمة والكتب، ومعاناة قطاع مثل السينما من غياب أو اندثار أرشيف الصور الذي كانت شركات الإنتاج تتخلص منه عند تصفيتها، ووصول كثير من هذه الأرشيفات إلى يد التجار؛ مثلها مثل ما كانت تحتوي عليه ستوديوهات المصورين التي أُغلقت بوفاتهم. ويواكب هذه العناصر جيل واعد من المرممين يترقبون الفرص لإنقاذ الصور من التلف، كما يوجد أيضًا على الكفة الأخرى غياب لأرشيف وطني للصور الفوتوغرافية. وهذه قضية تحتاج إلى وقفة للتفكير في حلول دون فرض وصاية كيان على آخر، وربما يكون بداية الحل في إدراك أن الحل لا يكمن في تجميع كل شيء وأكبر قدر من الصور تحت سقف واحد، بل بالأحرى الحل في تشجيع المبادرات والمجموعات الشخصية، وتعضيض ومساندة المؤسسات والأفراد الذين لديهم أرشيف فوتوغرافي، وذلك للحفاظ على الصور بالأساليب الأرشيفية المطورة، واحترام حقوق الملكية الفكرية، ووضع كود للحفاظ والتوثيق ومناقشة الاهتمامات المشتركة. وفي ظل هذا الفكر الحديث تكون وزارة الثقافة قد وضعت أهم آلية لتشكيل والحفاظ على الذاكرة الوطنية المصورة، وللحفاظ على التراث الفوتوغرافي ودراسة التاريخ الاجتماعي لمصر. وإذا نجحت في تكوين منصة إلكترونية تصب فيها كل الهيئات والأفراد مجموعاتهم فربما تكون قد صنعت آليه تواكب بنك المعرفة (الفوتوغرافي) المصري. عندئذ يمكن المضي قدمًا بإقامة متحف للفوتوغرافيا المصرية، أو متحف لتاريخ التصوير في مصر، وبداية إعداد دراسات موسوعية ومرجعية عن تاريخ التراث الفوتوغرافي المصري برؤية ونكهة مصرية لا يشوبها الاستشراق ولا التجارة.