عدد 2-إسرائيل والعرب: الوعد، الدولة، المقاومة، السلام

محمد حسني

بلفور: أكثر من وعد

2017.11.01

مصدر الصورة : ويكيبيديا

بلفور: أكثر من وعد

حتى لو كان "وعد من لا يملك لمن لا يستحق" فهل يمكن لورقة أن تغير التاريخ؟ هل يمكن أن تمحو شعبًا وتخلق شعبًا ودولة؟ لكن هل كان حقًا مجرد ورقة؟

تصريح بلفور، المعروف عربيًا بوعد بلفور، هو الاسم الشائع للوثيقة التي وقّعها وزير خارجية بريطانيا، اللورد آرثر جيمس بَلفور في الثاني من نوفمبر 1917، والذي يتضمن إعلان بريطانيا تأييدها لإنشاء "وطن قومي1 للشعب اليهودي» بنص التصريح. وقد اعتُبر إصدار التصريح إنجازًا سياسيًا غير مسبوق للحركة الصهيونية. فقد أصبحت بريطانيا العظمى راعية للمشروع الصهيوني.

تمثّل التصريح في خطاب موجه من وزير الخارجية البريطانية اللورد بلفور إلى اللورد ليونيل وولتر روتشيلد2، كرد على مراسلات سابقة، مع الإشارة بنقل الرد إلى المنظمة الصهيونية. وقد جاء الخطاب بعد سعي محموم من قِبل د. حاييم وايزمان3 والقيادة الصهيونية  في بريطانيا، يطالب بالاعتراف بحق «الشعب اليهودي» على «أرض إسرائيل» -حسب قوله- وبحق اليهود في الهجرة إليها، والاعتراف بالمؤسسات الصهيونية فيها. إلا أن الصيغة النهائية، التي صدرت عن المجلس الوزاري المصغر في 31 أكتوبر1917، كانت أكثر تحفظًا واقتضابًا من مسودات وايزمان، التي قدمها في يوليو من العام نفسه. ومع ذلك كان الإنجاز  في الاعتراف بمفهوم «الشعب اليهودي» وبالمنظمة الصهيونية كممثلة له وبحق إقامة «بيت وطني». ليس هذا فحسب، بل إن هذا التصريح كان توطئة لقرارات دولية خطيرة، ولا مبالغة في القول  لمرحلة تاريخية برمتها.

الوضع قبل التصريح

بعد موت هرتزل (1904) كانت هناك ثلاث هيئات أساسية للحركة الصهيونية:

- المنظمة الصهيونية.

- خزانة الاستيطان اليهودي.

- الصندوق التأسيسي.

اعترف هرتزل أن الحركة الصهيونية لم تكن حركة جماهيرية، ومن ثم هيمنت على قيادة الحركة فكرة مفادها حتمية الارتكان إلى قوة عظمى، إن لم يكن أكثر. بدأ الأمر باللجوء الى تركيا، ثم إلى ألمانيا لإغراءها بتوسيع الإمبريالية الألمانية بمساعدة اليهود، ثم بالسعي لديها للتوسط لدى حليفها السلطان العثماني. وقد توسطت ألمانيا بالفعل عام 1916، لكن نتيجة الحرب قلبت الموازين. أما اللجوء إلى بريطانيا فقد بدأ منذ 1902.

من المهم أن نلاحظ هنا أن مشروع الاستيطان الصهيوني هذا لم يكن مرتبطًا بالضرورة بفلسطين. فقد كتب وايزمان في مذكراته أن دوائر الأعمال لا يهمها مطلقًا ربط "الوطن اليهودي بأرض أجدادنا"4. هنا كان من ضمن الأفكار توطين اليهود في سيناء، لكن هذا المشروع فشل بسبب معارضة تركيا.

ومن أهم التطورات قبل تصريح بلفور ما أطلق عليه الهجرة اليهودية الثانية (1904-1914)5. بلغ تعداد الهجرة الثانية 35.000 مهاجر من الامبرطورية الروسية بعد مذابح كشنييڤ 1903. وبينما اتجهت النسبة الأكبر إلى أوروبا الغربية والولايات المتحدة، قررت نسبة أخرى الهجرة الى فلسطين.

حملت هذه الهجرة شبانًا محبطين من أوضاعهم في بيئتهم القديمة ومشحونين بخليط متناقض: الروح الثورية من ناحية، والدعاية الصهيونية والحلم الطلائعي لخلق اليهودي الجديد العامل والمزارع، النقيض لنمط يهودي الشتات، من ناحية ثانية. كل ذلك علي خلفية الآثار التي أحدثتها هزيمة الثورة الروسية في عام 1905.

لم يواجه هؤلاء مشكلة في الحصول على العمل في المستوطنات القديمة. ولكن بعد أقل من سنة ظهرت أزمة المفاضلة بينهم وبين الفلاحين العرب الأكثر مهارةً وإنتاجيةً وتكيفًا مع الحياة، والأقل أجرًا في الوقت نفسه. هذا إلى جانب أزمة كون المستوطنين القدامى هم من اليهود التقليديين، سواء في تفكيرهم الحياتي، أو في تمسكهم الديني، مما جعل أفكار المهاجرين العلمانيين الجدد غريبة بالنسبة لهم.

ومن الزعامات الفكرية لتلك الهجرة الهجرة: أهرون دافيد جوردون (1856-1922)، ويوسف حاييم برينر (1881-1921)، وهو من الداعين لفكرة «احتلال العمل»، بمعنى إجبار المزارعين اليهود على طرد العمالة العربية وإحلال الصهاينة محلهم بالقوة، إذ هيمنت علي هؤلاء المهاجرين الفكرة التي سميت «العمل العبري» و»دين العمل».

كما شهدت الهجرة الثانية أيضًا تأسيس أول حزبين صهيونيين «العامل الفَتَى» و»عمال صهيون» تحقيقًا للوعي السياسي بالعمل الحزبي وتنظيم العمال الذي حمله المهاجرون من روسيا، وبسبب سوء أحوالهم اقتصاديًا وصدامهم مع المهاجرين القدامى، مما دعاهم إلى تنظيم صفوفهم، ثم السيطرة على الاستيطان و»احتلال العمل» وتأسيس مستوطنات تحمل طابع جماعي وأيديولوجي.

ومن أهم جوانب التحول الذي حدث في تلك الفترة الانعزال (الاستقلال بالمفهوم الصهيوني) عن المحيط العربي ومنع أي نوع من التواصل يمكن التخلي عنه، وإنشاء قوة مسلحة للمستوطنات باسم «بر-جيورا»، ثم «هاشومير-الحارس»6.

شجع هذا التحول على فتح مكاتب للمنظمة الصهيونية لمتابعة وتنظيم نشاط الاستيطان الزراعي والصناعي. وقد ارتفعت المستوطنات الزراعية بين 1900 و1914 من 22 إلى 47 مستوطنة، هذا علاوة على الاستيطان في المدن، حيفا والقدس ويافا، وعلى تأسيس تل أبيب.

لكن قدرة المستوطن اليهودي الأوروبي على منافسة العامل الزراعي العربي لم تُحسَم، برغم تحميل المنافسة شحنة أيديولوجية واستخدام السلاح. لذا لجأ الصهاينة إلى شحن مهاجرين من اليمن قادرين على منافسة العمالة الفلسطينية في التحمل وقلة الأجر. وقد عانى هؤلاء من مشكلات العمل والسكن، علاوة على المعاملة المهينة من جانب المستوطن اليهودي-الأوروبي.

ظل عدد المهاجرين قليلاً خلال موجتي الهجرة الأولى(1882-1904) والثانية (1904-1914). فلم يتجاوز تعداد اليهود في فلسطين 85 ألف نسمة، وفق التعداد الصهيوني. ثم انخفض هذا العدد خلال الحرب العالمية الأولي إلي أقل من 56 ألف نسمة، وفقد المهاجرون أية حماية أوروبية، وكان عليهم مواجهة السلطات العثمانية، أو ممالئتها بالرشوة، واضطروا للحصول على المواطنة العثمانية، وهو ما يعني التجنيد في الجيش التركي، كما صدرت عدة قرارات منها طرد بعض زعامات المستوطنين، وحظر منظمة «هاشومير-الحارس»، وحظر تسليح المستوطنات أو رفع العلم الصهيوني، وكذا بيع الأراضي لليهود.7

التوجهات في الحركة الصهيونية

حسب «داني جوتوين»، كان الاتجاه الإصلاحي في الإدارة البريطانية يميل إلى اتفاقية تسمح للدولة العثمانية بالبقاء، عبر عملية التحديث التي بدأها النظام الحاكم -وقد انتمى اللورد بَلفور في الواقع لهذا الجناح- بينما كان الجناح المقابل -ويمثله لويد چورچ ومارك سايكس- يميل لسيطرة الإمبريالية البريطانية وتكوين دويلات تابعة لها (يهودية،عربية، أرمينية). وقد اعتلى هذا الجناح السلطة في ديسمبر 1916، وظل الصراع بين الجناحين حول المبادرة الصهيونية خلال ربيع وصيف 1917، حتى تم حسمه وصدور التصريح باسم بلفور نفسه. ولذلك فكما كان التصريح ضمانًا بريطانيًا لليهود بتحقيق مطامحهم، فقد كان قبل ذلك، تحقيقًا لمشروع بريطانيا في السيطرة على الشرق الأوسط والحصول على الحظ الأوفر في تركة الرجل المريض8.

كان الخلاف داخل المنظمة الصهيونية قد نشأ في العام الأول للحرب، 1914، حول السياسة التي يجب أن تنتهجها الحركة الصهيونية، وبالأدق حول القوى الراعية التي يجب أن تضع الحركة عليها رهانها. في مقابل القوى التي كانت لا تزال تعمل على كسب رعاية الدولة العثمانية، كان هناك معسكر مقابل. بإيعاز من البارون روتشيلد، تبنى حاييم وايزمان الاتجاه نحو السعي لدى لقوى الاستعمارية (بريطانيا على الأخص)، مستغلًا وضعه المزدوج باعتباره يهودي صهيوني وبريطاني مقرب للسلطة.

واجهت الحركة الصهيونية مشكلة حقيقية. فمركز الحركة كان في برلين، في الوقت الذي انقسمت فيه القوى الكبري لمعسكري حرب، بينما شملت كل دولة طوائف يهودية كبيرة، بل إن اليهود تم تجنيدهم في جبهات متحاربة في الوقت نفسه. فاتخذت الحركة الصهيونية قرارًا بعدم الانحياز  لأي معسكر انتظارًا لما ستتمخض عنه الحرب. لكن معسكر  وايزمان آمن أن تركيا لن تقوم لها قائمة بعد الحرب، ومن ثم فالأمل معقود على بريطانيا لتحتل فلسطين، ولهذا سعى منذ بداية الحرب للحصول على التصريح المذكور.

التمهيد للتصريح

المؤيدون

كان "آرثر جيمس بَلفور" من المتبنين دينيًا لفكرة "إعادة اليهود" لفلسطين، يشاركه في ذلك رئيس حكومته "ديفيد لويد چورچ"،  المحامي الممثل للمنظمة الصهيونية في مطلع القرن. وقد أيد التصريح عدد من الساسة بينهم "مارك سايكس"، صاحب خارطة تقطيع أوصال البلاد العربية، وصديق "هربرت صموئيل"، اليهودي البريطاني الذي تولى وزارة البريد ثم الداخلية، وأول مندوب سامٍ في فلسطين 1920.

المعارضون

في المقابل كانت هناك قوى تعارض الصهيونية، منها ساسة بريطانيون قلقون من إفساد العلاقة بالعرب، أو من اعتبروا إقامة دولة لليهود خيالًا جامحًا، من بين هؤلاء أيًضا يهود من الطبقة العليا اعتبروا أنفسهم "بريطانيون من أتباع الديانة الموسوية"، شعروا بالقلق على وضعهم مستقبلًا، ومن أشهرهم اللورد "إدوين مونتجيو" -ابن عم “هربرت صمويل”- وهو يهودي بريطاني تولى عضوية البرلمان وملف وزارة شئون الهند، وقد برر معارضته بالخوف من خلق حالة من الولاء المزدوج لدى اليهود في العالم، بل وحتى إلحاق الضرر بهم9- إذ قد يعتبر إنشاء الدولة اليهودية مبررًا لطرد اليهود من بلادهم. هذا إضافة إلى قيام جماعات يهودية بإعلان معارضتها للقرار وللصهيونية عامة، سواء من منطلق سياسي أو ديني، باعتبار "الشتات" عقاب إلهي لن ينتهي إلا بقدوم المسيح المخَلّص.

من بين من أعلنوا معارضتهم للتصريح كذلك كان عضو البرلمان البريطاني السير "فيليب ماجنوس"، أحد القيادات اليهودية التي طلبت منهم الحكومة لبريطانية إبداء رأيهم في مسودة تصريح بلفور قبل أسابيع من صدوره. اعتبر "ماجنوس" نفسه يهودي بريطاني، وأعرب في مراسلاته المحفوظة بالمكتبة الوطنية بالقدس عن معارضته للتصريح. وقد أرسل مذكرة للحكومة في 23 أغسطس 1917 لمنع صدور التصريح باعتباره وثيقة معادية للسامية تضر باليهود والمسلمين على السواء10.

كل هذا في الوقت الذي كانت فيه قضية فلسطين تعد هامشية أو جزئية في سياسة الإمبرطورية البريطانية مترامية الأطراف، خصوصًا في وقت الحرب. ولأن التاريخ يكتبه المنتصرون، فقد محت المؤسسة الصهيونية تاريخ معارضتها، كما أن الأنظمة  لم ترعَ تلك الجماعات بل قمعتها أحيانًا لصالح الصهاينة، مثلما حدث في مصر في الأربعينات.

النص والتحليل

صدر التصريح مطبوعًا وممهورًا بتوقيع آرثر بَلفور بخط يده، وقد حرص ليونيل والتر روتشيلد على حفظ النسخة الأصلية في المتحف البريطاني.

وزارة الخارجية، 2 نوفمبر 1917

عزيزي اللورد روتشيلد،

إنه من دواعي سروري أن أنقل لك، باسم حكومة جلالتها، التصريح التالي بالتعاطف مع المطامح اليهودية، التي تم تقديمها إلى المجلس الوزاري المصغر، والتصديق عليها من قِبَلِه:

تنظر حكومة جلالتها بالعطف إلى إقامة بيت وطني للشعب اليهودي في فلسطين، وسوف تبذل قصارى جهدها لتسهيل تحقيق هذا الهدف، ويجب أن يُفهم بوضوح أن لا شيء سوف يحدث مما قد يضر بالحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية في فلسطين، أو بالحقوق والوضع السياسي التي يتمتع بها اليهود في اي بلد آخر".

وسوف أكون ممتنًا إذا نقلت هذا التصريح إلى علم المنظمة الصهيونية.

مع وافر احترامي،

آرثر جيمس بَلفور،

بلغ عدد المسودات التي سبقت إصدار التصريح اثنتا عشرة مسودة قدمتها الحركة الصهيونية لحكومة بريطانيا وحدها -خلاف سعيها لدى حكومات استعمارية أخرى- وقد كانت آخر مسودة في شكل خطاب من اللورد بَلفور، وجاء التصريح كرد على خطابه، لكن لم يتم التصديق على التصريح إلا بعد عدد من التعديلات.

مقارنة التصريح مع المسودة الأخيرة

*الجُمل التي تم تعديلها مميزة بخط سفلي، والجمل المضافة منفصلة وبخط سميك.

يتضح من مقارنة الصيغتين عدد من الملاحظات:

- رغبة حكومة بريطانيا في الامتناع عن أي التزام قاطع، حسبما يقول المؤرخ "نير  مان" ومصادر أخرى، لذا رفضت تعبير "تقبل" واستخدمت بدلًا منه "تنظر بالعطف". ويرى "نير مان" أن الصيغة النهائية تعمدت استخدام تعبير   in Palestineوتم ترجمتها للعبرية “في أرض اسرائيل”  لتترك مساحة أمام بريطانيا في التحكم في حدود وطبيعة تلك الدولة، ولإمكانية قيام كيانات قومية أخرى بالتوازي.

ويرى مان أن بريطانيا فعلت الأمر نفسه بالنسبة للاعتراف بالمنظمة الصهيونية. حيث لا يتضمن التصريح الاعتراف بها ككيان سيادي، ولذا تعمدت إرسال الخطاب إلى اللورد روتشيلد. ولم يكن اللورد “روتشيلد” متوليًا لمنصب رسمي في المنظمة الصهيونية16، وإن كان "حاييم راينهولتس" كاتب السيرة الشخصية لـ"حاييم وايزمان" يرى أنه بما أن الصيغة الأخيرة كانت موقعة من اللورد "روتشيلد"، فإن الرد كان موجهًا له. ولكن ذلك لا ينفي رأي "مان" أن الإدارة البريطانية تعمدت توجيه التصريح إلى شخص، حتى دون وصفه، وليس إلى المنظمة الصهيونية.

 - حرصت بريطانيا، وكذا الحركة الصهيونية، على طمأنة اليهود المعارضين للصهيونية بدوافع القلق على وضعهم، بضمان احتفاظهم بحقوقهم الحالية وعدم إجبارهم/دفعهم للتنازل عنها والهجرة إلى كيان في علم الغيب وقتها.

- لم يكن مصطلح بيت وطني National home مصطلحا متعارفًا عليه في العلوم السياسية، فهو لا يعطي تعريفًا واضحًا بشأن طبيعة الكيان السياسي اليهودي المزمع تأسيسه، حيث تجنب التصريح مصطلحات (دولة State) و(وطن Homeland)، المستخدم أحيانًا للإشارة إلى الحكم الذاتي، و(كومنولث Commonwealth).

- ومن جانب آخر، لم يحدث في التاريخ أن تم الاعتراف بوطن لشعب لم يوجد  بعد.  وينما يرى باحثون أن التصريح تعمد تعويم الدلالة، يرى آخرون أن التصريح كان حريصًا على كلمة National وطني/قومي لربط المسألة بحق تقرير المصير الذي بات مبدأ حاكمًا في السياسة الدولية وقتها، وذلك في إطار التمهيد مع الوقت لتأسيس دولة17. بينما استخدم الصهاينة في المسودة المقدمة مصطلح دولة، وقد أعقبوا  بشرح أن المقصود ليس دولة لليهود ولكن دولة الطابع القومي المهيمن عليها (it’s dominant national character) يهودي، مثلما أن الطابع القومي المهيمن في إنجلترا إنجليزي وفي كندا كندي18. إلا أن التشبيه غير المقنع لم يقنع البريطانيين بالفعل.

- أما عن مصطلح "العِرق اليهودي" الذي ورد في المسودة، فقد استبدل به "الشعب اليهودي" تجنبًا للدلالة السلبية. ويقول بروفيسور "شلوموه أفنيري"، أستاذ العلوم السياسية، أن كلمة عِرق لم تكن تحمل أية دلالات سلبية في ذلك الوقت، ولعل السبب هو تمسك أصحاب الاتجاهات الليبرالية من يهود أو غير يهود بتحاشي أية شبهة في المصطلحات19.

- كان الاسم Palestine فلسطين معروفًا في العربية وفي اللغات الأوروبية على حد سواء، لكن حدوده لم تكن معروفة بدقة. حيث أن اتفاقية سايكس-بيكو التي قسمت تركة الدولة العثمانية بين بريطانيا وفرنسا كانت سرية. بينما كانت إنجلترا تطمح في بعض التغيير لصالحها.

تعامل التصريح مع العرب

- تشير بروفيسير "افيفا حلميش" إلى التباين في التصريح بخصوص التعامل مع كل من اليهود والعرب: فبالنسبة لليهود تتحدث الصيغة بفاعلية مستقبلية، بينما بشأن العرب فالصيغة هي "الحفاظ على حقوق" قائمة بالفعل. كما أن التصريح يُعرّف العرب ليس بأنهم "عرب" ولكن بأنهم "غير اليهود"  مقابل "الشعب اليهودي"، وهو ما لا يتناسب إطلاقًا مع أن ما سماه التصريح بـ"شعب" لا يصل إلى عُشر السكان، هذا إن تجاوزنا عن قضية تعريف الشعب أو الأمة. علاوة على أن مصطلح "شعب" هو مصطلح قومي بينما مصطلح الطوائف"غير اليهود" مصطلح ديني طائفي.

- وفي مقابل الاعتراف ببيت وطني/وطن قومي لليهود (وهم 10 % من السكان)، فالاعتراف بـ”الحقوق المدنية والدينية” يتعلق بالمستوى الفردي20 وليس القومي للـ(90% الآخرين).

دوافع إصدار التصريح

من وجهة النظر بعض الكتاب الصهاينة، كان هناك تشديد علي العامل الأخلاقي والديني. حيث تزعم "بربارة توخمان" أن بلفور كان يشعر أن العالم مدين لليهود دَينًا أخلاقيًا، وأن على المسيحيين مساعدة اليهود لإقامة دولة. وإلى جانب ذلك، كانت تركيبة الحكومة البريطانية التي تشّكلت في 1916 برئاسة "لويد چورچ" ، مع "آلفرد ميلنر" و”آرثر فورد” و”مارك سايكس”، تميل للحركة الصهيونية لأسباب عقائدية، خلاف الأسباب السياسية21. ويرى "مئير ڤرتر" أن القناعات العقائدية لدى الأوساط الألفية22 هي الدافع الأساسي  للتصريح23.

كذلك أشار البعض إلى الجهود الحثيثة لحاييم وايزمان شخصيًا، ومكانته لدى حكومة بريطانيا، بسبب انجازه العلمي عقب تمكنه –بالمصادفة خلال محاولة فاشلة لإنتاج المطاط معمليًا- من اكتشاف طريقة لإنتاج الآسيتون، الذي أفادت منه  بريطانيا خلال الحرب24. هذا تفسير ذكره أيضًا "لويد چورچ" في مذكراته باعتباره السبب المركزي لمنح التصريح. لكن بربارة توخمان تنفي هذا وتطرح أن أسبابًا اقتصادية واستراتيجية دفعت لإصدار التصريح25.

ويرى "چوناثان شنير"  أن الصورة الأسطورية عن اليهود هي ما دفعت بريطانيا بعد استطالة أمد الحرب للاعتقاد أن اليهود قادرين على فعل ما قد يبدو مستحيلًا. فهم قادرون على دفع الإدارة الامريكية إلى مساندة بريطانيا، وكذلك قادرون على حث "لينين" البلشفي على عدم الانسحاب من الحرب26.

على أن المصالح الاستراتيجية بالطبع كانت هي السبب الأساسي وراء إصدار التصريح. فقد ارتبط الاهتمام البريطاني بفلسطين بقناة السويس. إذ نظر الإنجليز، بعد احتلالهم لمصر وسيطرتهم على القناة، إلى فلسطين باعتبارها ظهيرًا يحمي مصالحهم في الدولة المصرية27.

ومن ناحية المصالح البترولية، كانت بريطانيا تسعى لضمان احتكار منابع البترول في المنطقة، خاصة بعد أن سبقتها الولايات المتحدة ومدت يدها. ففي 1908، في عهد روزفلت، جرت مباحثات مع السلطان العثماني لمنح امتياز التعدين والسكك الحديدية للولايات المتحدة. وحتى قبيل الحرب كانت الولايات المتحدة قد حصلت على سبعة امتيازات بترولية في النقب وحدها، بخلاف العراق، وبالتالي أصبح من مصلحة الولايات المتحدة قيام وطن لليهود يقلل مستقبليًا وفقًا لحساباتها من السيطرة البريطانية، فأعربت عن تأييدها في أكتوبر 1917، قبل إصدار تصريح بلفور 28. وهو الأمر الذي دفع بريطانيا إلى تمتين علاقاتها بالحركة الصهيونية من خلال وعد بلفور في إطار منافستها مع الولايات المتحدة.

كذلك اعترف سياسيون بريطانيون أن تصريح بلفور أملَته بالدرجة الأولى مصالح بريطانيا في مساعدة أصحاب البنوك اليهود، وخاصة الأمريكيين منهم، ثم حثهم للضغط على الإدارة الأمريكية لمساعدة بريطانيا في الحرب العالمية الأولى29. وقد اعترف بلفور أمام مجلس العموم أن بريطانيا لم تُعلم دول الحلفاء بالأمر30.

وفوق ذلك كان التصريح وثيقة معدة لتستخدمها بريطانيا في سعيها للحصول من عصبة الأمم على حق الانتداب على فلسطين، وقد أصبح أساسًا لقرار الانتداب بالفعل31. كانت عصبة الأمم معنية بإقامة كيانات قومية بزعم القضاء على جذور أية صراعات طائفية، بينما السبب الرئيسي هو تقسيم تركة الدولة العثمانية -رجل أوروبا المريض- بين القوى العظمى، وخلق كيانات تكرس من خلالها حالة الطائفية التي تبرر وجودها.

وفي مايو 1916 وقعت بريطانيا وفرنسا اتفاق سايكس-بيكو لتقسيم الوطن العربي، الذي تضَمَّن إقامة مملكة في الجزيرة العربية ومنطقتين في سوريا والعراق، أما فلسطين فقسمت لثلاثة مناطق؛ الأولى تحت سيطرة بريطانيا، والثانية تحت سيطرة فرنسا، والثالثة تحت إشراف دولي. وقد رمى التصريح إلى خلق مُعامل جديد يسمح لبريطانيا بالسيطرة المطلقة، وهو ما حدث عندما منحت عصبة الأمم في 1920 حق الوصاية على فلسطين لبريطانيا.

من جانب آخر مثل التصريح تنصلًا من الوعد الممنوح لشريف مكة عبر مراسلات الحسين-مكماهون، الذي لم تسمح بريطانيا بتحويله إلى اتفاق رسمي، ومن ثمّ حالت دون قيام سوريا الكبرى حسبما ترى آ»نيتا شپيرا» 32، بينما كان من المفترض أن تمنح للعرب الاستقلال مقابل دعم بريطانيا في الحرب.

وبشأن يهود بريطانيا، خفف التصريح من تبعات «قانون الأجانب»، الذي يقيد دخول اليهود والمهاجرين عامة لأراضيها بعدد محدد مسبقًا.

وفيما يتعلق بالتطورات في روسيا، فبعد الثورة التي اندلعت في مارس 1917، لم يكن واضحًا موقف السلطة الجديدة من الحرب، ومن ثم كان على البريطانيين التعجيل بفرض أمر واقع جديد، علاوة على جذب يهود الإمبراطورية الروسية، أو على الأقل تحييدهم، وطرح نفسها، ليس كقوة إمبريالية وإنما كقوة داعمة لـ»حق تقرير المصير».

وفي المقابل، كان هناك قلق بريطاني من السعي الموازي من جانب فرنسا. حيث حصل «ناحوم سوكلوڤ»33 في 4 يونيو 1917 على خطاب من «چيل كمبو»  رئيس المكتب السياسي في الخارجية الفرنسية، يتضمن وعدًا بدعم الحكومة الفرنسية للمشروع الصهيوني:

«لقد عُرضت علي المبادرة  التي تبذلون فيها جهودًا كثيرة، والتي تهدف إلى تطوير الاستيطان اليهودي في فلسطين. أنتم تقدرون أنه إن سمحت الظروف، وأقيمت حماية للأماكن المقدسة، فسيكون من العدل والتعويض، أن ندعم، بمساعدة الدول العظمى، إحياء الأمة اليهودية على الأرض نفسها التي طُردوا منها قبل قرون. وحكومة فرنسا التي دخلت الحرب الخيرة من أجل الذود عن شعب هوجم ظلمًا، وحاربت من أجل نصرة العدل على القوة، ليس لها إلا أن تدعم نصركم، الذي يتوافق مع انتصار دول الحلفاء. وأنا سعيد بأن أتعهد لكم بذلك في خطابي هذا.»34

وقد اعتبر الفرنسيون هذا الخطاب إرهاصة لتصريح بَلفور35.

نتائج

يعد تصريح بَلفور أول إنجاز سياسي هام للحركة الصهيونية، وبالأدق الصهيونية السياسية. حيث أنه دعم الحركة الصهيونية بين جماهير اليهود، ودعم موقف معسكر وايزمان الأكثر يمينية داخل الحركة. ولم تتأثر آمال الصهاينة المتعلقة ببريطانيا سوى بصدور الكُتب البيضاء36. فقد أعطى التصريح الحركة الصهيونية مكانة كبيرة، وشجع زيادة الهجرة، واعتبرته الصهوينة الدينية «بداية الخلاص... وأن يد الرب تقود التاريخ» على حد تعبير الحاخام أفراهام يتسحق كوك37. كما شبّه البعض تصريح بالفور بإعلان قورش الملك الفارسي الذي دعا يهود بابل بالعودة إلى فلسطين في القرن السادس ق.م.

أُطلق اسم الثاني من نوفمبر على الكثير من الشوارع في إسرائيل وعلى مستوطنة "بلفوريا". كما اعتبره البعض بداية للتأريخ الحديث لليهود، إلى حد أنه تم تحديد تاريخ وفاة إليعزر بن يهودا -أهم من عملوا على تحديث اللغة العبرية- في عام 1922، بأنه "في العام السادس لتصريح بَلفور". وقد أقامت المنظمة الصهيونية احتفالات سنوية رسمية في فلسطين وفي العالم لإحياء ذكرى التصريح. واستمر الاحتفال باليوبيل الفضي، سنة 1942، شهرًا كاملاً. وأقيمت احتفالات رسمية باليوبيل الذهبي في 196738. وقد نقل الصهاينة المكتب الذي كتب عليه بلفور تصريحه إلى متحف في تل أبيب39.

وعلى الجانب العربي، رحب الملك "فيصل بن الحسين" بالقرار، طامعًا في وفاء البريطانيين بوعدهم له بناء على مراسلات الحسين-مكماهون سالفة الذكر.

لكن التصريح طبعًا أثار على الصعيد الفلسطيني موجة من الغضب الشعبي.  فمثلًا في ذكراه السنوية الأولى -2 نوفمبر 1918- أضربت المحال والورش العربية وخرجت المظاهرات المنددة.

غير أن حقيقة احتكار كبار الملاك قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية أدت إلى إضعاف تلك الحركة. إذ واصل هؤلاء القادة لعب دور الوسيط كما اعتادوا تحت الحكم العثماني، واتجهوا إلى بريطانيا باعتبارها ظهيرًا لهم، ونظروا لليهود من منطلق عقائدي. وقد لجأ قادة الحركة الفلسطينية إلى أساليب إرسال الخطابات والوفود للمندوب السامي البريطاني في القدس، مع كبت حركة الجماهير أو توجيهها اتجاهًا طائفيًا40.

كانت التنظيمات السياسية تحت قيادة تلك الطبقة تتسم بالهزال والتخلف والطائفية. وقد رجح بعض المؤرخين أن التسمية الطائفية لتلك الجماعات السياسية -تسميات إسلامية ومسيحية- من اقتراح مسؤولين بريطانيين41. هذا علاوة على تشكيل «الحزب العربي الموالي لبريطانيا» و»الحزب العربي الموالي لفرنسا» عام 1918، ولعل اسمي الحزبين يغنيان عن أي تعليق. وفي مواجهة هذا كله لم يكن هناك سوى «الجمعية الفدائية»، والحزب الشيوعي الفلسطيني، ببرنامجه التقدمي الذي يربط الصهيونية بالاستعمار42.

خلاصة القول إن التصريح، ثم تطورات ما بعد الحرب العالمية الأولى، غيرا الكثير في وضع الحركة الصهيونية والوجود اليهودي في فلسطين. ففي أكتوبر 1917 بدأ الجيش البريطاني في احتلال فلسطين. وفي سبتمبر 1918، أي اقل من عام، انهى أي وجود تركي. وفي 1920 وصل البريطاني اليهودي «هربرت صمويل»، أول مندوب سامي بريطاني، إلى القدس. وقد تضمن إعلان الانتداب البريطاني على فلسطين، الصادر عن عصبة الأمم في 1922، والمُصدَق عليه في مؤتمر سان-ريمو 43، نص الاعتراف الوارد في تصريح بلفور، فاكتسب هذا الأخير بذلك قوة قانونية دولية44، فأصبح بمثابة توطئة لبيان إعلان دولة إسرائيل45 في 15 مايو 1948.

الوضع على الأرض

كانت الطبقة السائدة في المجتمع الفلسطيني هي طبقة كبار المُلاك، وهي طبقة متحالفة مع السلطة، ومنها تتفرع طبقة الوجهاء المتحكمين في المناصب الإدارية والدينية والعسكرية المتوسطة. وقد كونت تلك الطبقة أملاكها من توليها التزام جمع الضرائب، علاوة على تسجيل فقراء الفلاحين لأراضيهم بأسماء الأعيان تخوفًا من الضرائب.

في المقابل كانت هناك طبقة الفلاحين التي مثلت  حوالي من 60% إلى 70% من السكان. وقد تحولت نسبة هائلة من هؤلاء إلى عمال زراعيين أُجراء بفعل الإفقار. وبالإضافة إلى ذلك لم تتجاوز طبقة العمال حواب 10%، أغلبهم يعملون في الحرف اليدوية46.

اتسم الانتاج في فلسطين العثمانية بالتخلف، ودفع الفقر والطرد آلاف الفلاحين نحو المدن. وقد تأخر نمو طبقة عاملة فلسطينية إلى دخول الاستعمار البريطاني الذي عمل، كما هي العادة، على تطوير الإنتاج ورسملته وعلى تطوير جهاز إداري لخدمة مصالحه.

أفرز الاحتلال شريحة قوامها رأسمالية زراعية بالريف ورأسمالية تجارية بالمدن. وفي الوقت نفسه ظهرت شرائح العمالة الزراعية بالريف والعمالة المأجورة في المدن في مشروعات الطرق والمرافق وفي الموانئ47. وقد زاحم المستوطنون اليهود الأوروبيون العرب في احتلال الوظائف في الجهاز الإداري، إلى جانب تدفق الدعم المادي والفني للمشروعات الإنتاجية لدى المؤسسة الصهيونية الناشئة48.

ومن أهم نتائج التصريح كانت الهجرة اليهودية الثالثة (1919- 1923)49. كان تصريح بَلفور، وما أعقبه من احتلال بريطانيا لفلسطين بالكامل، بمثابة نقطة تحول ألقت بظلالها من بين ما ألقت على الاستيطان الصهيوني. فبينما توالت نتائج الحرب في أوروبا -وفي بقايا الدولة العثمانية- من سقوط أنظمة وقيام أخرى، ومن تنشيط دورة جديدة للرأسمالية لبناء ما دمرته الحرب، تأثر اليهود في كل مكان بهذه العملية

في الاتحاد السوفيتي الجديد شهد جمهور اليهود وضعًا استثنائيًا. فمن ناحية فتحت الدولة الجديدة لهم الفرصة لازدهار ثقافتهم الخاصة، ومن ناحية أخرى تمتعوا بوضع المساواة الحقيقية مع سائر المواطنين في الحقوق والواجبات، وهو -للملاحظة- وضع لم يكن مكفولًا لليهود من كل الطبقات في أوروب كلها.

لكن طول أمد الحرب الثورية البلشفية ضد الثورة المضادة المدعومة من الأنظمة الرأسمالية الأوروبية، مع الأخذ في الحسبان أن عملية تثوير الجماهير اليهودية الفقيرة لم تكن غاية الكمال بالضرورة، إلى جانب التشوهات التي نشأت عن وجود تيارات يهودية تتبني أفكار  ثورية وأفكار صهيونية في آن، مثل منظمة «البوند»50،  كل هذا دفع بموجة هجرة كبيرة من روسيا وشرق أوروبا إلى الولايات المتحدة، اتجه جزء منها إلى فلسطين.

خلال موجة الهجرة الثالثة تلك، كان هناك ستة آلاف شاب من حركة «حالوتس- الرائد/ الطلائعي» خضع بعضهم لعملية تأهيل للعمل الزراعي قبل هجرتهم. هؤلاء كانت لديهم القيم نفسها التي حملتها عناصر الهجرة الثانية من تعظيم العمل اليدوي وحمل السلاح.

ومن أهم شخصيات الهجرة الثالثة يوسف ترومبلدور. كان ترومبلدور الأب ضابط روسي، آل به المآل للنفي في الأسكندرية قبيل الحرب العالمية الأولى. حيث عمل على جمع شبان يهود للتجنيد في صفوف الجيش البريطاني. وبعد الحرب عاد لروسيا وعمل على تجنيد الشبان اليهود وتأهيلهم في منظمة «حالوتس».

كان المهاجرون من روسيا من شبان الطبقات الفقيرة، التي مثلت تربة خصبة للأفكار الصهيونية، في حين كان يهود أمريكا الأثرياء أبعد ما يكونوا عن الانخراط في الحركة الصهيونية، التي كانت هي نفسها تعاني من أزمة مالية. حينما انتوت حكومة الانتداب القيام بعمليات أشغال عامة، كان من المنطقي إسنادها إلى مقاولين عرب. لكن حزبي «العامل الفتى» و»عمال صهيون» قاما بدور مقاول العمال وفرضا نفسيهما على حكومة الانتداب وفازوا بمقاولات شق الطرق التي وفرت لهم، إلى جانب إنقاذهم من الأزمة الاقتصادية التي كادت تودي بأعمالهم، التجميع الكثيف للمستوطنين والتقارب في مواقع العمل ومخيمات المعيشة التي تحول معظمها إلى بؤر استيطان. وقد أفرز هذا المزيج بين إعلاء شأن العمل اليدوي والروح العسكرية والنزعة الاستيطانية الإحلالية منظمات على شاكلة «كتائب العمل العبري»، وهي منظمة عمال مسلحة آلت على نفسها عملية «احتلال العمل والحراسة» الذي بدأ في موجة الهجرة الثانية، ولكن هذه المرة بشكل أكثر قوة.

من هنا حدث تطور في المستوطنات من حيث مساحتها وعدد المستوطنين وتطور وتنوع الأنشطة الإنتاجية ومن حيث للاستقلال والاكتفاء الذاتي. كما تطورت مكاتب المنظمة الصهيونية إلى مؤسسات إدارة خاصة لالمستوطنات تشكل نواة لما يشبه حكومة صهيونية منفصلة عن البلاد، بالإضافة لمجلس منتخب من ممثلين للمستوطنين، تشكل عام 1918، ومحكمة دينية وحاخامية. وبعدما كان لكل حزب صهيوني مؤسساته التابعة التي ترعى الهجرة والاستيطان والتشغيل والحراسة وحتى الخدمات الصحية، تمخضت الهجرة الثالثة عن إنشاء «الهستدروت-اتحاد العمال»، في ديسمبر 1920، ليحشد كل الأنشطة في مسار موحد. والجدير بالذكر أن ماحدث في الهجرة الثانية قد تكرر.  حيث أن منافسة العمالة العربية الأكثر مهارة وإنتاجية وأقل أجرًا تطلبت، رغم كل ما بذله الصهاينة، تهجير أكثر من 25 ألف يهودي يمني، 2200 منهم من كردستان والعراق 1000 من شمال أفريقيا، فوصل عدد اليهود في 1923 إلى 90 ألف نسمة (12% من السكان).

الصهيونية والعرب وبريطانيا

في مارس 1918 نشرت صحيفة القِبلة (الصحيفة الرسمية للملك حسين بمكة) تصريحه عن استعداده للترحيب بالإخوة اليهود العائدين لفلسطين. وفي يونيو 1918 التقى "حاييم وايزمان" بـ"الأمير فيصل"، ثم تكررت اللقاءات وتمخضت المتكررة عن اتفاق "فيصل- وايزمان" في 3 يناير 1919، الذى رمى إلى تنسيق العلاقات بين الحركة الصهيونية وبين المملكة الحجازية المزمع إعلانها بقيادة فيصل. تضمن الاتفاق بنودًا عن العلاقة بين الطرفين في ظل الانتداب واستنادًا إلى تصريح بلفور، وعن فتح باب الهجرة الموسعة السريعة لليهود، وذكر أنه في حالة أي خلاف بين الطرفين يتم الرجوع إلى بريطانيا. لكن الاتفاق لم تكن له جدوى لأن المملكة الحجازية لم تَقُم51.

وللتعرف على السياسة البريطانية تجاه فلسطين يمكننا إلقاء نظرة على الكتب البيضاء التي أصدرتها الحكومة البريطانية. والكتاب الأبيض White paper هو تقرير رسمي يتعلق بقضية معينة ويعبر عن سياسة الحكومة البريطانية إزاء هذه القضية. وقد صدرت ثلاث كُتب بيضاء تحدد سياسة بريطانيا تجاه فلسطين في أعوام 1922 و1930 و1939.

الكتاب الأبيض الأول (كتاب تشرشل1922 )

قدمه وزير المستعمرات وينستون تشرشل إلى عصبة الأمم في يونيو 1922. وهو يضع الخطوط العريضة لسياسة الانتداب البريطاني على فلسطين. والسبب وراء صدور هذه الوثيقة كان تصاعد المقاومة العربية لسياسات الهجرة والاستيطان الصهيوني برعاية الانتداب البريطاني، التي بلغت ذروتها في انتفاضة مايو 1921 بعد زيارة تشرشل للمنطقة حين طالب العرب بالغاء تصريح بلفور ووقف هجرة اليهود لفلسطين. كانت الوثيقة جزءًا من سياسة تشرتشل لإقرار وضع جديد في المنطقة، يشمل أيضًا إعلان مملكة شرق الأردن. لم يتراجع تشرتشل عن أي مما ورد في تصريح بلفور، بل أكد أن وجود اليهود "حقًا وليس إحسانًا". لكنه بسبب ضغوط المقاومة العربية ضّمن الكتاب تقييد هجرة اليهود بما يتناسب مع ظروف البلاد (دون عدد محدد). وقد وافقت القيادة الصهيونية اضطرارًا على الوثيقة قبل إعلانها. لكن قيادة الاستيطان قررت توسيع منظمة "الهجاناة" وجعل نشاطها معلنًا ويتضمن الحصول على أسلحة والتدريب  كنواة لجيش52.

الكتاب الأبيض الثاني (كتاب باسفيلد 1930)

جاء كنتاج لعمل لجنة "سيمبسون" التي تقصت أسباب هَبة البراق 1929. وقد أعلن تقييد نقل الأراضي لليهود، وتقييد الهجرة وفقًا لقدرة البلاد على الاستيعاب، في ظل وجود بطالة بين العرب. كما عبر عن التزام بريطانيا تجاه الطرفين وضرورة قيام مجلس تشريعي. وكرد على الكتاب أعلن "وايزمان" استقالته من رئاسة المنظمة الصهيونية. كذلك واجه الكتاب معارضة شديدة من جانب المناصرين للصهيونية في البرلمان البريطاني، ومن جانب ممثلين مناصرين للصهيونية في عصبة الأمم باعتباره خرقًا لتصريح بلفور53. وقد عكست قوة ردود الأفعال هذه تنامي قوة الصهيونية على الأرض.

الكتاب الأبيض الثالث (ماكدونالد  1939)

صدر بعد فشل مؤتمر المائدة المستديرة في التوصل إلى تسوية عقب ثورة 1936 الفلسطينية التي امتدت لـ1939. فحوى الكتاب أن فلسطين لا يمكن أن تصبح ملكًا للعرب أو لليهود، وأنه خلال عشر سنوات يجب أن تقوم دولة ثنائية القومية، وكذلك يجب تحديد الهجرة اليهودية بـ75 ألف نسمة وتقيد انتقال الأراضي لليهود. وقد أعطى الكتاب تفسيرًا لمصطلح "البيت الوطني" -المذكور في تصريح بلفور- باعتباره لا يعني دولة يهودية، ولكن حكم ذاتي يتمتع به الاستيطان اليهودي ومؤسساته في فلسطين وقت نشر الكتاب، وعلى اليهود ألا ينتظروا أكثر من ذلك. اعتبر الصهاينة هذا الكتاب انكارًا لتصريح بلفور، ومن هنا أعلنوا الإضراب وخرجت المظاهرات منددة به.54

خاتمة

إن وعد بلفور، على أهميته، لا يعدو أن يكون "ورقة" اكتسبت قوتها من الوضع القائم بالفعل. و"الوضع القائم بالفعل" هو التقاء وتفاعل ثلاث عوامل: 1. قوة الاستعمار البريطاني وأطماعة في التركة العثمانية؛ 2. الصراع الدولي على الشرق الأوسط (خاصة من جانب فرنسا والولايات المتحدة الصاعدة) عشية وبعد الحرب العالمية الأولى؛ 3. مصالح البرجوازية الصهيونية التي ترائى لها تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية برعاية "قوة عظمى ما"، خاصة في ظل حاجة البرجوازية الأوروبية -يهود وغير يهود- للتخلص من صداع "المسألة اليهودية".

ولكن كذلك، وعد بلفور لم يكن من الممكن أن يتحول إلى دولة لولا الدور الذي لعبته الطبقات المسيطرة في فلسطين والبلدان العربية. فهذه هي التي أفشلت أولى موجات المقاومة في فلسطين وصنعت الهزيمة في حرب 1948. ومن ثم تأسست الدولة ورسخت، وبدأت حرب طويلة لم تنته حتى يومنا هذا.

الهوامش

1 - يعد التعبير  National Home، الذي يترجم حرفيا “بيت وطني”/وليس بالضرورة “وطن قومي”، أحد التعبيرات المطاطة في صياغة التصريح، وهو ما يتناوله المقال.

2 - اللورد والتر روتشيلد الثاني (1868 - 1937): عالم حيوان وعضو برلمان يهودي-بريطاني. من عائلة روتشيلد الرأسمالية. فشل في الانخراط في نشاط عائلته المصرفي، وأحب علم الحيوان منذ صغره، امتلك متحفًا للحشرات والطيور المحنطة، وحديقة حيوان خاصة. انخرط في النشاط الصهيوني واقترن اسمه بتصريح بَلفور. يُخلط أحيانًا بينه وبين ابن عمه البارون أدموند جيمس دي روتشيلد (1845–1934) من الفرع الفرنسي للعائلة نفسها.

3 - حاييم وايزمان (1874- 1952): أول رئيس لإسرائيل. ولد في روسيا. كان والده تاجر أخشاب ثري، أرسله للدراسة في المانيا، حيث حصل على الدكتوراه وعمل مدرسًا للكيمياء في جامعة مانشستر. وأصبح فعالا في الحركة الصهيونية منذ المؤتمر الثاني. كان من معارضي أي مشروع لتوطين اليهود خارج فلسطين. منذ 1907 هيمن اتجاهه المسمى بالصهيونية التوفيقية الرامية للسير في مسارين، الأول الاستيطان العملي، والثاني العمل الديبلوماسي للحصول على اعتراف ورعاية القوى العظمى.

4 - جالينا نيكيتينا: دولة إسرائيل، خصائص التطور السياسي والاقتصادي، دار الهلال (ب. ت.ن)، ص20- 22.

5 - البيانات الأساسية: העלייה השנייה ותרומתה לישוב הלאומי, הסוכנות היהודית. המחלקה לחינוך יהודי ציוני. המרכז לתכנים ותקשוב  http://lib.cet.ac.il/pages/item.asp?item=5465        

6 - محمد حسني: قراءة في إعلان إقامة دولة إسرائيل، مجلة أوراق اشتراكية، ربيع 2009، ص95. نسخة الكترونية http://revsoc.me/theory/qr-fy-ln-qm-dwl-sryyl/

7 - הצהרת בלפור : נקודת מפנה בהיסטוריה של התנועה הציונית , הסוכנות היהודית. המחלקה לחינוך יהודי ציוני. המרכז לתכנים ותקשוב     http://lib.cet.ac.il/pages/item.asp?item=5467

8 - דני גוטוויין, הגורמים לפרסום הצהרת בלפור: חיים ויצמן, התנועה הציונית והאימפריאליזם הבריטי, ישראל (כתב עת), 24, המכון לחקר הציונות וישראל ע”ש חיים ויצמן, 2016 עמ‘ 63 - بتصرف.

9 - ליאונרד שטיין, מסד למדינת ישראל, ירושלים ותל אביב: הוצאת שוקן, 1962, עמ’ 404.

10 - דני גוטוויין, הגורמים לפרסום הצהרת בלפור:  עמ‘ 129-130.

11 - עופר אדרת: 99  שנה להצהרת בלפור:  המאבקים מאחורי הקלעים מתגלים מחדש

https://www.haaretz.co.il/1.3112276    04.11.2016

12 - עופר אדרת: 99  שנה להצהרת בלפור:

13     הצהרת בלפור: נקודת מפנה בהיסטוריה של התנועה הציונית (נ”ל)

14 - المكاتبات محفوظة في المكتبة الوطنية الإسرائيلية  

ד”ר חזי עמיאור, אוצר אוסף ישראל בספרייה.

http://web.nli.org.il/sites/NLI/hebrew/library/reading_corner/Pages/balfour.aspx

15صورة من مسودة روتشيلد:

https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/2/2f/Lord_Rothschild_initial_Balfour_Declaration_draft_and_Balfour_draft_reply%2C_July_and_August_1917.jpg

16 - איתי נבו: הרקע המדעי של הצהרת בלפור, 2 בנובמבר, 2016  http://davidson.weizmann.ac.il/online/sciencehistory

17 - קציעה אביאלי-טביביאן, (ייעוץ מדעי: אביבה חלמיש ורפי ואגו), לאומיות במבחן, הוצאת מט”ח - ירושלים, 2009, עמ’  ,136

18 - עופר אדרת: 99  שנה להצהרת בלפור: (נ”ל)

19 - “المكاتبات”، المكتبة الوطنية الإسرائيلية، مصدر سبق ذكره  

20 - קציעה אביאלי-טביביאן, עמ’  138-137

21 - מנחם קדם: תפיסות הגאולה של עם ישראל וארץ-ישראל  באסכאטולוגיה הפרוטסטאנטית האנגלית באמצע המאה הי”ט

קתדרה 19, ניסן תשמ”א * אפריל 1981, עורכים: יעקב שביט, יורם צפריר, ישראל ברטל עמ 55-  

22 - أوساط مسيحية تؤمن بمجيئ المسيح في آخر الأيام ليحكم الأرض ألف عام، وهي تتشارك في نقاط كثيرة مع عقيدة المُخلِص لدى اليهود.

23 - ד”ר קציעה אביאלי-טביביאן, עמ’  139

24 - איתי נבו: הרקע המדעי של הצהרת בלפור,

25 - אביבה חלמיש, מבית לאומי למדינה בדרך: היישוב היהודי בארץ-ישראל בין מלחמות העולם, האוניברסיטה הפתוחה, 2004, כרך א’, עמ’ 86–88.

26     -אלי שאלתיאל היסטוריה | בלפור פינת רוטשילד, تعليق  على كتاب: The Balfour Declaration: The Origins of the Arab Israeli Conflict  Jonathan Schneer. Random House.    13.10.2010  تحديث -02.09.2011    https://www.haaretz.co.il/1.1224947

27 - جالينا نيكيتينا: دولة إسرائيل، خصائص التطور السياسي والاقتصادي، دار الهلال (ب. ت.ن)، ص 19.

28 - جالينا نيكتينا، مصدر سبق ذكره، ص 27، 28.

29 - קציעה אביאלי-טביביאן,139.

30 - لويد جورج، حقيقة مباحثات السلام، ج2، موسكو 1957، ص286. نقلا عن جالينا نيكتينا، مصدر سبق ذكره، ص 24، 25.

31 - نص الانتداب

The Palestine Mandate, The Council of the League of Nations 

http://avalon.law.yale.edu/20th_century/palmanda.asp

32 - קציעה אביאלי-טביביאן,139

33 - ناحوم سوكلوڤ (1859- 1936): زعيم صهيوني وشاعر ومترجم ومن رواد الصحافة بالعبرية. الرئيس الخامس للمنظمة الصهيونية العالمية. ولد في بلدة بولندية،تحت حكم الامبراطورية الروسية لعائلة حاخامات.

34 - صورة من الوثيقة (http://www.diplomatie.gouv.fr/IMG/jpg/20-35.jpg )

35 - تعليق على الوثيقة

( France-Diplomatie   http://www.diplomatie.gouv.fr/en/article_imprim.php3?id_article=10932

36 - الكتاب الأبيض  White paper هو تقرير رسمي يتعلق بقضية معينة ، وقد صدرت ثلاثة كُتب بيضاء تحدد سياسة بريطانيا تجاه فلسطين .

37 - אגרות הראי”ה, ג’ קנה

38 - אלי פודה, שונּות בתוך מפגן של אחדות: חגיגות יובל הזהב להצהרת בלפור (1967) בישראל, ישראל 17 - 2010 ,59)

39 - صورة

https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/1/1a/%D7%A9%D7%95%D7%9C%D7%97%D7%A0%D7%95_%D7%A9%D7%9C_%D7%91%D7%9C%D7%A4%D7%95%D7%A8.jpg

40 - عبدالقادر ياسين، محطات في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، القاهرة، دار الكلمة، 2000، ص7.

41 - عبد الوهاب الكيالي،تاريخ فلسطين الحديث، بيروت، المؤسسة العربية للدرسات والنشر، ط1، 1975، ص85.

42 - أحمد صادق سعد، فلسطين بين مخالب الأستعمار،القاهرة، 1947،ص17.

43 - مؤتمر السلم المنعقد في سان ريمو بإيطاليا في 25 أبريل 1920، وكانت قراراته:

44 - ד”ר קציעה אביאלי-טביביאן, עמ‘ 139.

45 - محمد حسني: قراءة في إعلان إقامة دولة إسرائيل، مصدر سبق ذكره، ص 93.

46 - كامل محمود خلة، فلسطين والأنتداب البريطاني 1922-1939، بيروت، م.ت.ف، مركز الأبحاث، ط1، 1974،ص27: 28.

47 - موسى البديري، تطور الحركة العمالية في فلسطين (1919-1948)، ط1 دار ابن خلدون، بيروت، 1981، ص5.

48 - عبد القادر ياسين، شهات حول الثورة الفلسطينية، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، 1977، ص 21.

49 - البيانات الأساسية مصدرها :

 העלייה השלישית (1919-1923) : חיזוק התשתית של הבית הלאומי, הסוכנות היהודית לארץ-ישראל. המחלקה לחינוך יהודי ציוני. המרכז לתכנים ותקשוב  http://lib.cet.ac.il/pages/item.asp?item=5468        

50 - البوند (الرابطة العامة للعمال اليهود في روسيا وليتوانيا وبولندا): حزب يهودي ينادي بتحقيق الاشتراكية والحكم الذاتي لليهود في المناطق الناطقة بالييديش. تأسس في 1897. انقسم جغرافيًا بعد الحرب العالمية الأولى. واجه صعوبات في القسم السوفييتي بسبب توجهاته اليمينية، واحتفظ بقوته في بولندا، حيث حصل في انتخابات 1928 على مئة ألف صوت، لكن النازيين قضوا عليه.

51 - יעקב שמעוני, ערביי ארץ ישראל,  תל אביב: עם עובד (סדרת ‘מכורה’), תש”ז.עמ’ 270.

52 - יגאל עילם, היסטוריה מדינית, 1922-1918, בתוך: תולדות היישוב היהודי בארץ-ישראל מאז העלייה הראשונה, (עורך: משה ליסק), תקופת המנדט הבריטי, חלק ראשון, הוצאת האקדמיה הלאומית הישראלית למדעים ומוסד ביאליק: ירושלים, תשנ”ד-1994, עמ’ 222-139.

53 - פנחס עופר, התגבשות משטר המנדט והנחת היסודות לבית לאומי יהודי 1931-1921, בתוך: תולדות היישוב היהודי בא”י (הנ”ל) עמ’ 328-223.

54 - משה ליסק (עורך), תולדות היישוב..., תקופת המנדט הבריטי, ג, ירושלים, תשס”ח-2008.