المرايا

إبراهيم داود

تاريخ الوحشة

2020.01.01

تاريخ الوحشة

بعد الصلاة على جثمان الأستاذ إبراهيم منصور في المعادي، ركبنا: الأساتذة خيري شلبي، ومحمود الورداني، ومحمد شهدي، وأنا، في سيارة الفنان مصطفى رمزي؛ الإسكودا الخضراء، وتُهنا ونحن في طريقنا إلى المقابر، التي هي في طريق الواحات، تُهنا لأسباب ليس وقتها الآن، في ذاك اليومَ أتذكرُ بكاء الأستاذ صلاح عيسى بدموعٍ غزيرة، الدموع التي كان يهتز جسده معها، وصلنا إلى مقابر الدبلوماسيين بعد نهاية مراسم الدفن، ولكننا لحقنا. أمسك بي الأستاذ توفيق عبد الرحمن وقال لي (وكأنه يحملني المسؤولية): «عاجبك كده؟! نرميه في الصحرا ونرجع بيوتنا ضميرنا مستريح علشان حضرنا دفنته .. ونسيبه لوحده؟»، بعد ذلك دهس سائق ميكروباص توفيق بيه في شارع أحمد عرابي لسبب عبيط، ومع كل رحيل أتذكر وجهه وهو يخاطبني، ويتضاعف إحساسي بالفقد، ولا أعرف كيف أتصرف؟ تاريخي مع الفقد عريق، وليس سببه فقط رحيل الأحبة، تاريخ من الوحدة على الرغم من الزحام، تاريخ من عدم الشعور بالأمان على الرغم من وجود مظاهر للأمان، كل واحد يمضي يأخذ معه قطعة من العمر، يأخذ معه حكاية كبيرة (أوصغيرة لا فرق) كنا نغزلها معًا، حتى لو كان الكلام الذي بيننا قليلاً، الشعر الذي أكتبه «يحرجم» حول هذه المنطقة، حول هذا التاريخ، تاريخ الوحشة.

في حياتي أشخاص خارج دوائر الثقافة والصحافة والسياسة، لم أشعر بقيمتهم إلا بعد فقدانهم، تعودت أن أجدهم في انتظاري إذا ضاقت بي الدنيا، في قايتباي والغورية والجمالية وشبرا وطنطا والإسكندرية ودسوق، وفي قريتي بالطبع، ليس ضروريًّا انتظام اللقاءات، لا توجد عتابات مملة، نستأنف الكلام بابتسامات مشحونة بالعتاب الحلو، في آخر مولد لسيدنا الحسين دعوت عددًا كبيرًا من الأصدقاء الأدباء والفنانين على «خدمة» صديقي القديم الحاج سعيد عبد المقصود (تاجر وصائغ الأحجار الكريمة المعروف) في درب الطبلاوي، حيث الذكر والكلام الطيب والطعام الشهي الوفير، ليلتها كان سمير الحجراتي موجودًا كالعادة، جمعتني به وبصاحب «الخدمة» صداقة تتجاوز الثلاثين عامًا، سنوات من البهجة والأخوة والسهر والسفر، أبو أبنوب واحد من أرق وأجمل خلق الله، لم تؤثر الأحزان الكبيرة والخبطات العنيفة التي تلقاها على ابتسامته، ذاب في نسيج أصدقائي المثقفين وصار واحدًا منهم، يأتي إلى وسط البلد ونذهب إليه في ورشته في الصالحية، وفيما بعد في شارع الجيش، هو أهم صائغ فرعوني في المنطقة، سمِّيع موسيقى من طراز فريد، وبيني وبينه حكايات شجية لا حصر لها، اختفى سمير وأغلق تليفونه بعد ليلة الحسين هذه، ولم يرد على معايدتي له في رأس السنة، لأكتشف أنه رحل فجأة، وفي اليوم نفسه الذي رحل فيه صديقي، وصديقه، المخرج المسرحي العظيم محسن حلمي. أن تعرف أن صديقك رحل بعد رحيله بأسابيع أشد ألمًا من معرفتك ساعتها، لأنك ينبغي أن تكون إلى جواره، حتى لو حمَّلك توفيق عبد الرحمن المسؤولية.

في ليلة الحسين هذه كان كل همّ صديقي الشهم فتحي أن يأخذ الضيوف الذين جاءوا معي واجبهم على أكمل وجه، كأنه شقيقك الصغير وكأنك في بيتك، تعرفتُ إلى فتحي السيسي منذ زمن بعيد، عند سعيد عبد المقصود في «خان جعفر»، شخص يعرف أقدار الناس، وخدوم ومجامل، لم نتحدث كثيرًا طول السنوات التي عرفته فيها، ولكني أفرح عندما ألتقيه، لم نتقابل منذ يناير الماضي، وجاءت الجائحة واعتزل الناس الناس، وفي أول زيارة بعد الحظر ذهبت إلى الحسين كما يحدث كل أسبوع، لأفاجأ برحيله قبل شهور إثر أزمة قلبية، شعرت بالتقصير تجاهه، كان ينبغي أن يعرف وهو حي أنني ممتن له بسبب ابتسامته المرحبة الودودة.

لن أتحدث عن الأحزان القديمة المرتبطة برحيل الأم والأب والأخ وابن العمة وأبناء العم والخال وأصدقاء الطفولة والصبا، ولا أساتذتي وأصدقائي في القاهرة، أولئك الذين ارتبطت بهم وعشت في حمايتهم، لأن الموت الذي حرمني في الشهور الأخيرة من أعز أصدقائي مثل محسن حلمي وفاروق الفيشاوي ومحمود مسعود، جعلني أشعر بغربة اكتملت بفقدان بعض الأحياء الذين غيَّرهم الانحياز الأعمى للباطل، وأصبح البحث عن صديق آمن تفضفض معه في أحوال الدنيا أكثر صعوبة، في هذا الجو الكابوسي يكرمك الله بين الحين والآخر بصداقات تبدد وحشتك، فتقول إن الدنيا لا تزال بخير، وهذا حدث مع الجميلة دينا جميل؛ التي كنت أعرفها معرفة بسيطة لسنوات، وتوطدت علاقتنا في السنوات الثلاث الأخيرة مع صحبتها الجميلة، نوع نادر من البشر، سلام وطمأنينة ونقاء، نادرًا ما تلتقيه في أيامنا هذه، وفجأة تختفي .. ليختفي معها ما تبقى.