هموم

يسري حسان

ثلاثة آلاف عرض سنويًّا ولا أحد يشاهد أغلبها!

2021.04.01

تصوير آخرون

ثلاثة آلاف عرض سنويًّا  ولا أحد يشاهد أغلبها!

لدينا وفرة في الكتاب والمخرجين والممثلين ومصممي السينوغرافيا لكن أين الفرص؟

مبدئيًّا؛ لدي أزمة مع مصطلح "الأزمة"، لنجعلها "مشكلة" إذن، مع أنها لا تفرق كثيرًا، وحتى لو كانت تفرق فليس من الطبيعي أن نخسر بعض في ظل "الأزمات" المتلاحقة التي نحياها، لخلاف حول كلمة أو مصطلح!

المهم، وكي لا ندخل في جدل أو تحرش من أي نوع، فالسؤال الذي ينبغي أن نطرحه على أنفسنا أولًا هو: ما الذي يحتاجه "أبو الفنون" كي يكون لدينا عروض مسرحية تجعله على قيد الحياة أولًا، وتلبي، ثانيًا، حاجة الجماهير من هذا الفن، الذي يجب أن يكون جماهيريًّا بامتياز، لكنه لم يصبح كذلك حتى الآن لأسباب كثيرة، أرجو أن تذكرني بها لو نسيتها في غمرة انشغالي بالبحث عن العناصر التي يجب توافرها لصناعة عرض مسرحي جيد أو فائق الجودة.

الشيء الأول بالطبع هو النص الذي سيعمل عليه صناع العرض، وأقول لك، وأنا في غاية الاطمئنان، إن لدينا عشرات من الكتاب، الشباب بصفة خاصة، لديهم نصوص جيدة، وتلامس الراهن، وبها، في الوقت نفسه، من العوامل ما يجعلها صالحة لأن تقدم بعد مئة أو مئتي عام، لأنها، أولًا وأخيرًا، تناقش همومًا إنسانية ستبقى ما بقيت الحياة على وجه الأرض، وهذه سمة أي كتابة إبداعية حقيقية وصادقة. ستقول ومن أين جاءك هذا اليقين الذي تتحدث به، وأجيبك بأنني منذ عام ٢٠٠٧ وحتى عام ٢٠١٦ كنت رئيسًا لتحرير صحيفة "مسرحنا" التي تصدرها هيئة قصور الثقافة، وكان لي شرف أن أكون مؤسسها ورئيس تحريرها الأول، وخلال السنوات التي عملت بها بالصحيفة نشرت أكثر من ٨٠٠ نص مسرحي، ما بين طويل وقصير ومتوسط الطول، ومن بينها نسبة كبيرة لكتاب مصريين شباب، ولم يكن النص ينشر إلا بعد مروره بالعديد من القراءات حتى نثق أنه يستحق النشر.

صدقني ليس لدينا أي نقص في النصوص المسرحية، ثم إن لدينا ترجمات هائلة لنصوص أجنبية، فيها الكثير مما يصلح للتقديم لدينا لأنه، كما سبق وذكرت، يناقش همومًا تخص الإنسان في أي زمان وأي مكان. لا مشكلة إذن في توافر نصوص مسرحية، سواء كانت مستوردة أو تحمل شعار "كُتِب في مصر".

النص يلزمه مخرج، وهو متوافر والحمد لله، لدينا المعهد العالي للفنون المسرحية يخرج لنا كل عام ليس أقل من عشرة مخرجين، وهناك أقسام للمسرح بالعديد من الكليات، وهناك المئات أيضًا ممن مارسوا الإخراج بعد الانتظام في ورش أو العمل كمساعدين لمخرجين كبار، الخلاصة أنه لا ندرة في مخرجي المسرح، بل إن هناك العشرات منهم يجلسون في بيوتهم أو على المقاهي بلا عمل، لأن السوق مضروب.

لا تحدثني عن الممثلين، لن أقول لك إن مصر ولادة، لأنها ليست صفة استثنائية تختص بها وحدها، فالسودان أيضا ولادة، وكذلك كينيا وأفغانستان والجماهيرية الليبية، وجزر القمر ورواندا.. لكننا ولله الحمد لدينا جيوش من الممثلين، منهم من درس التمثيل أكاديميًّا، ومنهم من اعتمد على موهبته فقط ودعمها بشكل عملي أو علمي خارج أسوار الجامعات، لكننا في النهاية لا نعدم وجود هذه الجيوش التي يمكنها خوض أي معركة مسرحية وتحقيق الانتصار فيها. وقِس على ذلك مهندسي الديكور ومصممي الأزياء، والإضاءة، وكافة شيء يلزم المسرح.. أين المشكلة إذن؟

طيب.. هل استطاع هؤلاء صناعة عروض مسرحية جيدة يمكنها أن تلبي حاجة الجماهير؟ أجيبك بنعم، وبكل ثقة، توجد عشرات العروض المسرحية الجيدة التي يقدمها محترفون وهواة، وناس على باب الله، المؤسسة الرسمية المتمثلة في البيت الفني للمسرح، والهناجر، ومراكز الإبداع، وقطاع الفنون الشعبية والاستعراضية، وقصور الثقافة، وخذ عندك أيضًا الجامعات التي يقدم بعضها عروضًا تفوق بمراحل ما يقدمه عتاة المحترفين، وعندك أيضًا الكنائس، ومراكز الشباب، والفرق المستقلة، والهواة وغيرهم.

اقول لك خبرًا وأرجو ألا تتفاجأ به، أو لنجعله سؤالًا: هل تعرف كم عرضًا تقدمها كل عام، جهات الإنتاج في مصر؟ خذ ولا تندهش: جهات الإنتاج في مصر تقدم ما يزيد على ثلاثة آلاف عرض كل سنة، كتبتها لك بالحروف وليس بالأرقام، لأن زميلي المصحح لو كتبتها بالأرقام ربما شك في الأمر وحذف له صفرًا أو صفرين.. نعيدها مرة أخرى: أكثر من ثلاثة آلاف عرض كل سنة.. بالتأكيد ليست كلها "عروض واو" يعني، لكن فيها الممتاز والجيد، وفيها أيضًا ما يستحق تقديم بلاغ ضد صناعه، لكننا في الأول والآخر لدينا مجموعة كبيرة من العروض الجيدة التي تستحق المشاهدة.

نأتي إلى المشكلة، ونسأل كيف نقدم كل هذا العدد من العروض، والمسرح يكاد لا يكون حاضرًا على أجندة المواطنين؟ دعك من السبب الاقتصادي، فهناك عروض تقدم بالمجان، منها مثلًا جميع عروض قصور الثقافة، وعروض الجامعات ومراكز الشباب وغيرها، أما عروض المؤسسات الرسمية فالتذكرة تبدأ من عشرين جنيهًا ولا تتجاوز المئة جنيه، ما يعني أن الظروف الاقتصادية لاعلاقة لها بالأمر.

من الذي له علاقة بالأمر إذن؟

كثيرون جدًا، ولنبدأ بالإعلام، هل ضبطت حضرتك إحدى القنوات يومًا تقدم عرضًا مسرحيًّا مهمًا، وتعيد عرضه أكثر من مرة، هل ضبطت إحدى القنوات تقدم يومًا عرضًا مسرحيًّا غير كوميدي؟ أو ما تعتبره هي كوميديًا، يوجد ما لا يزيد على عشر مسرحيات كوميدية تعرضها قنوات التليفزيون في كل مناسبة، وفيها طبعًا عروض محترمة ومهمة، لكن هل شاهدت مثلًا قناة تعرض "هاملت" أو "الملك لير" أو ليالي الحصاد" أو "ميس جوليا" أو "القرد كثيف الشعر"، أو "طقوس الإشارات والتحولات" أو أي عرض يعتمد على نصوص مصرية أو عربية أو عالمية رصينة؟ لا يمكن أبدًا.

الأمر الذي زاد الطين بلة، كما يقولون، هو ظهور ما يسمى بمسرح مصر، وتياترو مصر، وغيرها من المسميات التي لا تقدم مسرحًا كوميديًّا- وهو بالمناسبة من أصعب أنواع الدراما- بقدر ما تقدم نِمَرًا ضاحكة، وللعلم أنا لست ضد هذه النمر، لكني ضد أن تقدم باعتبارها مسرحًا، وكان الإلحاح على تقديم مثل هذه الأعمال أن ترسخ لدى عامة الناس أن المسرح هو الحاجة إللي بتخلينا نضحك.

لعب الإعلام دورًا خبيثًا في تزييف وعي الناس فيما يخص المسرح -المسرح خطير جدًا وهم يعلمون ذلك جيدًا- واكتفى بتقديم نماذج شائهة من المسرح، ولم يهتم إطلاقًا بالمسرح المسرح، لا قدم عروضه ولا استضاف صنَّاعه، وحتى الصحف والمواقع الإلكترونية أهملته وبشدة، وأتحداك أن تذكر لي صحيفة أو موقعًا أو أي وسيلة إعلامية تحدثت على سبيل المثال عن عرض لطلاب الجامعات، أو عرض لقصور الثقافة أو فرقة مستقلة، هم مهتمون بالفستان الذي ارتدته رانيا يوسف وأظهر أجزاء من جسدها، أو بالطائرة التي استقلتها ممثلة أخرى تزوجت من رجل ثري، أو بالسيارة التي اشتراها "نمبر وان"، وهكذا أخي المواطن فكل ما هو جاد وينفع الناس لن تجده في إعلامنا المصون.

إلى جانب الإعلام، توجد مؤسسات أخرى كان عليها دور لم تقم بها، مثل التربية والتعليم، والثقافة، والشباب والرياضة، هذا الدور يتمثل في كيفية تجذير المسرح في نفوس الطفل والنشء، يعني تنشئة الأطفال على حب المسرح وارتياده، مرة كنت في "هانوفر" الألمانية أشارك في مهرجان مسرحي، وهناك أخبروني أن أطفال المدارس لهم اثنتا عشرة مسرحية لا بد وأن يشاهدوها كل عام، بواقع مسرحية كل شهر، وفضلاً عما يثيره المسرح في خيالات الأطفال، وما يسهم به في تطوير وعيهم، فإن المداومة على الذهاب إلى المسرح تجعله على أجندة الطفل عندما يصبح شابًا أو كهلاً أو شيخًا، ولذا فإن المسرح في ألمانيا له كل اعتبار وتقدير وعليه إقبال بسم الله ماشاء الله، وأكيد تعرف يعني إيه مسرح ألماني.

في مصر المسرح المدرسي ضائع، بل والجامعي في كل محافظات الجنوب التي تحرم أو تمنع أو تعاكس جامعاتها المسرح، المسرح الجامعي يوجد في الشمال ومحافظات القناة فقط، لا مسرح في المنيا أو أسيوط أو سوهاج أو قنا.. وكمل بقى حتى تصل إلى آخر الحدود، فكيف إذن يرتبط أطفالنا وشبابنا بالمسرح؟ ومن الإعلام و المؤسسات المسؤولة إلى الموظفين الذين يتولون إدارة المسرح في عموم مصر كافة، غالبيتهم غير مؤمنين بالمسرح أساسًا، وكل همهم تستيف الأوراق، وضبط الميزانيات، دون الانشغال بتهيئة ظروف جيدة لتقديم العرض المسرحي أو الدعاية له، حتى إن بعضهم عندما تنتهي المدة المقررة لتقديم العرض يطلق تنهيدة حارة قائلًا: "الحمد لله عدت على خير وخلصنا"، لا حماس ولا محبة ولا تقدير للمسرح ولا رغبة في نشره وسط الجماهير، المهم أن الأوراق ستقول إن المكان الفلاني قدم العرض الفلاني في الأيام الفلانية، أما عدد من شاهدوا العرض وكيفية تلقيهم له، وهل كان ملبيًا لاحتياجاتهم ومناسبًا لبيئاتهم، وما إلى ذلك، فسك على الموضوع مش ناقصة وجع دماغ.

وإذا جئت إلى البنية المسرحية، وأقصد بها المسارح المجهزة لاستقبال العروض، وهي واحدة من أهم مشكلات المسرح في مصر، فسوف تكتشف أن عدد المسارح في مصر لا يتناسب إطلاقًا مع عدد سكانها، في القاهرة على سبيل المثال لا يتجاوز عدد المسارح أصابع اليدين، والإسكندرية شرحه، ولا تحدثني عن المنيا وأسيوط والدقهلية وغيرها، هناك مسارح لقصور الثقافة لكن أغلبها في حالة يرثى لها.

وحتى هذه المسارح المحدودة العدد غير متاحة سوى للفرق التي تنتمي لمؤسسات الدولة، يعني لو فرقة مستقلة أو فرقة هواة أرادت أن تقدم عرضًا على أحدها، فإن الرفض هو سيد الموقف، ما يلجئ هذه الفرق إلى العرض في أماكن غير معدة جيدًا، أو التوقف عن النشاط، خصوصًا وأن الدولة لا تتعاون معها ولا تقدم لها أي دعم، والنتيجة اختفاء معظم هذه الفرق أو وقف نشاطها المسرحي والاكتفاء بأنشطة أخرى، مثلما فعلت فرقة الورشة، إحدى أقدم وأهم الفرق المستقلة في مصر، والتي أعلنت مؤخرًا عن وقف نشاطها المسرحي.

وإذا كان المسرح قد أفلت من مقص الرقيب في سنوات ماضية، فإنه الآن لا يقع تحت مقصه فحسب بل يقع أيضًا تحت سكاكينه ومسدساته، حتى التجارب الشبابية التي يقدمها رواد نوادي المسرح بقصور الثقافة لم تفلت من هذه المذبحة الرقابية التي أصبحت تتشكك في كل حرف، وأسهل شيء عندها هو اتقاء الشبهات بحذف كل ما تشك فيه حتى لو لم يتبق في النص شيء يمكن الاشتغال عليه.

تجربة نوادي المسرح قامت على "ديل" ظريف جدًا ومقبول، بين المؤسسة وبين المسرحيين الشباب، وهو ميزانيات أقل في مقابل حرية أكبر، يعني إنتاج عرض بألف أو ألفي جنيه على أقصى تقدير، في مقابل عدم وجود رقابة على النصوص، يعني قدموا ما شئتم من نصوص، وذلك بهدف إتاحة الفرصة للشباب للتجريب وإطلاق خيالهم، خصوصًا وأن عروضهم لا تشاهدها أعداد غفيرة من الجمهور، لكنها بمثابة "المفرخة" التي يمكن من خلالها اكتشاف عشرات المواهب، وقد حدث فعلاً وحصلت بعض هذه العروض على جوائز في مهرجانات محلية ودولية، منها على سبيل المثال عرض "كلام في سري" لنادي مسرح قصر الأنفوشي، الذي حصل على جائزة المهرجان التجريبي في إحدى دوراته، ومثَّل مصر في أكثر من مهرجان دولي بالخارج.

الآن - للأسف الشديد- بقيت الميزانيات كما هي، لكن الحرية ذهبت إلى الجحيم، إذ لا بد للنصوص من المرور على الرقابة لتقطع في أوصالها كيفما شاءت.

أحكي لك حكاية بمناسبة الرقابة، وإن كان هذا ليس وقتها، لكن أدينا بنتسلى: في عام ٢٠٠٨ تقريبًا، كتبت أشعار العرض المسرحي "موت فوضوي صدفة" للكاتب الإيطالي داريو فو، وذلك لمسرح الشباب التابع للبيت الفني للمسرح، من إخراج عادل حسان، أرسلنا النص إلى الرقابة، وكانت به جملة يهاجم فيها البطل وزارة الثقافة، لاحظ أن النص إيطالي، والرجل يقصد وزارة الثقافة الإيطالية، لكن الرقيب أراد أن يكون إيطاليًا أكثر من الطليان أنفسهم، وحذف هذه الجملة، وكان مُصرًا على رأيه. ربك والحق - وكنا أيامها في عز- كتبت مقالًا عنيفًا هاجمت فيه هذا الرقيب غريب الأطوار، ونشرت المقال في صحيفة مسرحنا "صحيفة وزارة الثقافة المصرية" فما كان من الرقابة إلا أن تراجعت وسمحت بالهجوم على وزارة الثقافة الإيطالية كما جاء بنص الكاتب الإيطالي وعلى لسان المواطن الإيطالى، وعرفت وقتها أن فاروق حسني وزير الثقافة هو الذي تدخل ضد عبث الرقابة.. الآن لو كنت "راجل" اعترض.. على الرقابة يعني.

 مشكلة المسرح إذن، وكي ألخص لك الموضوع، لا تتعلق بتوافر عناصر العرض بقدر ما تتعلق بالبيئة غير المواتية للمسرح، والتي تتضمن: إصرار الإعلام على حجب المسرح الجاد، والإلحاح فقط على العروض "السكند هاند"، وغياب المسرح المدرسي وعدم وجود خطة لجذب الأطفال إلى المسرح، تدخل الرقابة في كثير من الأحيان لإفساد النصوص، والأهم من ذلك، ولكي نكون أكثر صراحة: خوف الدولة من المسرح في عمومه، ورغبتها في أن تكون كل العروض موجهة في محبة الدولة والإشادة بإنجازاتها.. وطبعًا كده ما يبقاش مسرح. والمؤكد أن هناك مشكلات أخرى ربما تكون قد فاتتني، وعلى غيري أن يجتهد في البحث عنها، فهذا كل ما استطعته، فأنا، في الأول والآخر، مواطن على باب الله، ولست "سوبرمان" يعرف كل حاجة.