عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

دراسات

أشرف إبراهيم

ثورات الفلاحين في مصر الحديثة.. من التاريخ السري لمقاومة الأطراف

2025.12.06

مصدر الصورة : ويكبيديا

ثورات الفلاحين في مصر الحديثة.. من التاريخ السري لمقاومة الأطراف

 

يُروى تاريخ مصر الحديث عادة من شرفات العاصمة، من ميدان التحرير وشوارع وسط البلد، ومن مكاتب الساسة وزعماء الأحزاب، بينما تبقى القرى والنجوع والأرياف مجرد خلفية صامتة للمشهد الوطني الكبير. في السردية الرسمية، يظهر الفلاح إما بوصفه «رمزًا» رومانسيًّا مرتبطًا بالأرض، أو كتلة اجتماعية سلبية تنتظر ما تقرره النخب في القاهرة والإسكندرية. لكن نظرة أقرب إلى تاريخ القرنين التاسع عشر والعشرين تكشف وجهًا آخر تمامًا: فلاحون ينتفضون ضد الضرائب الباهظة، يقطعون السكك الحديدية، يهاجمون مكاتب التحصيل، ويخوضون مواجهات مسلحة مع جنود الدولة، من صعيد مصر حتى دلتا النيل.

هذه المقالة تحاول إعادة سرد جزء من هذا التاريخ المنسي، من ثورات الصعيد في القرن التاسع عشر إلى موجات الاحتجاج العمالي‑الريفي في مدن مثل: كفر الدوار والمحلة، مرورًا بدور الفلاحين في ثورة 1919 وسياسات الإصلاح الزراعي وما بعدها. الهدف ليس مجرد إضافة «تفاصيل محلية» إلى تاريخ معروف، بل إعادة ترتيب مركزه وهامشه: ماذا لو بدأنا حكاية مصر من الأطراف لا من العاصمة؟ وكيف يساعدنا ذلك على فهم أعمق لعلاقة الدولة بالمجتمع، ولأشكال المقاومة التي طوّرها المهمَّشون؟

أولًا: جذور التمرد الفلاحي في القرن التاسع عشر

مع مشروع محمد علي لتأسيس دولة مركزية حديثة، لم يكن الفلاح مجرد مستفيد من «التحديث»، بل كان في قلب ماكينة الاستغلال الجديدة. فسياسات احتكار الدولة للمحاصيل النقدية، خاصة القطن، وفرض الزراعة القسرية، والضرائب الثقيلة، والتجنيد الإجباري، والسُّخرة في شق الترع وبناء القلاع، أعادت صياغة علاقة الريف بالسلطة على نحو عنيف. تحوّل الفلاح من عضو في مجتمع محلي شبه مكتفٍ إلى ترس صغير في اقتصاد موجّه للتصدير، محكوم من إدارة مركزية لا يرى منها إلا جباة الضرائب وجنود التجنيد.

هذه الأوضاع فجرت سلسلة من الانتفاضات المحلية، كثير منها جرى التعامل معه كـ«أعمال شغب» أو «فتن» في الوثائق الرسمية، لكنه في جوهره تعبير عن رفض ريفي منظم لسياسات الدولة. في الصعيد، وقعت ثورات واحتجاجات مرتبطة برفع الضرائب أو توسيع التجنيد، وفي الوجه البحري شهدت قرى عدة حراكات مشابهة. بعض هذه الانتفاضات اتخذ طابعًا دينيًّا أو «مهدويًّا»، حيث التف الفلاحون حول شخصيات تقدم وعودًا بالخلاص من ظلم العصر الحديث، لكن دوافعها الاجتماعية‑الاقتصادية كانت واضحة: الدفاع عن الأرض، وضد الإفقار، وضد عنف جهاز الدولة.

  • في مطلع عشرينيات القرن التاسع عشر، انفجرت في مديرية قنا واحدة من أعنف موجات التمرد الريفي ضد محمد علي. بدأت القصة مع اتساع سياسة التجنيد الإجباري وجمع الضرائب النقدية، ومع تضرر الفلاحين والتجار من احتكار الدولة للتجارة عبر البحر الأحمر. في قرى قنا وما حولها، راح الجنود يجوبون القرى بحثًا عن شباب يُساقون إلى الجندية، وجباة يجمعون ضرائب متزايدة لا يملك الفلاحون سدادها، بينما تتراكم الديون ويهدد الفقر الناس في قوت يومهم. في هذا المناخ برز شيخ صوفي/ديني محلي حشد الأهالي حول خطاب يَعِد برفع الظلم واستعادة «العدل» في مواجهة الباشا وموظفيه، فتحولت الشكوى المتفرقة إلى تمرّد مسلّح. هاجم أهالي قنا بعض مراكز التحصيل، وامتنعوا عن تسليم المجندين، وقطعوا الطرق أمام حملة الدولة، حتى بدت السلطة للحظة عاجزة عن فرض سيطرتها على الصعيد.
  • لم تتسامح الدولة مع هذا العصيان طويلًا، فأرسلت حملة عسكرية لإخماد الثورة، واستُخدم العنف المفرط في القرى التي شاركت، بمداهمات وإعدامات ميدانية وفرض غرامات جماعية، لتوجيه رسالة واضحة بأن الفلاحين ليس لهم حق الاعتراض على الضرائب أو التجنيد. ورغم الهزيمة، بقيت ثورة قنا شاهدًا مبكرًا على أن مشروع «التحديث من فوق» الذي أطلقه محمد علي كان يمر فوق أجساد الفلاحين وعرقهم، وأن الريف لم يستقبل الدولة الحديثة بوصفها نعمة خالصة، بل بوصفها سلطة جديدة لا تقل قسوة عما سبقها، ما دفعه إلى تطوير تقاليد مقاومة محلية عادت للظهور في ثورات واحتجاجات لاحقة في الصعيد والدلتا.

ثانيًا: من الفلاح إلى العامل الزراعي – تحولات القرن العشرين

مع الاحتلال البريطاني نهايةَ القرن التاسع عشر، تعمّقت بنية الاقتصاد الزراعي التصديري، وتعززت مكانة القطن بوصفه «ملك الحقول»، بينما تركزت الملكية بشكل متزايد في أيدي كبار الملاك والعائلات النافذة، وتدهورت أوضاع الفلاحين الصغار والمستأجرين. أصبح الفلاح مضغوطًا بين حاجته إلى البقاء على الأرض وبين شروط إيجار مجحفة، وديون متراكمة، وتقلّبات السوق العالمية التي لا يملك بشأنها قرارًا.

في النصف الأول من القرن العشرين، أخذ موقع الفلاح يتحول تدريجيًّا إلى موقع العامل الزراعي أو شبه العامل، يعمل بأجر في أرض لم يعد يملك منها سوى فتات، أو يعمل بنظام المشاركة لصالح المالك الكبير. هذا التحول فتح الباب أمام أنماط احتجاج جديدة قريبة من تقاليد الحركة العمالية الناشئة في المدن: توقف عن العمل، ضغط جماعي لتحسين الأجور، رفض لشروط الإيجار، أو مقاومة محاولات الطرد من الأرض. في الوقت نفسه، بدأت روابط بين الريف والمدينة تتشكل: أبناء الفلاحين يهاجرون إلى المصانع، يحملون معهم ثقافة القرية إلى الأحياء العمالية، ويعودون بقيم وتنظيمات جديدة إلى قراهم.

الإصلاح الزراعي بعد ثورة 1952 قدّم لحظة مفصلية، فقد أعاد توزيع جزء من الأراضي وحدَّ من الملكيات الكبيرة، ما منح شرائح واسعة من الفلاحين فرصة امتلاك قطع صغيرة. لكن هذه الخطوة، رغم أهميتها التاريخية، ظلت محدودة من حيث عمق التحول، إذ أبقت على نموذج الزراعة التصديرية والتبعية للأسواق الخارجية، وخلقت بدورها طبقات جديدة من الوسطاء والجمعيات التعاونية ذات الطابع البيروقراطي. ومع الوقت، تحوّل بعض الفلاحين المالكين الجدد إلى مدينين للبنوك والجمعيات، ليعود شبح فقدان الأرض من باب آخر.

ثالثًا: من كفر الدوار إلى انتفاضات الخبز – تحالف الأطراف

في الخمسينيات، ظهرت مدينة كفر الدوار كنموذج صارخ لتقاطُع الريف بالصناعة؛ مدينة صناعية قامت على تخوم الريف، تعج بالعمال الذين جاؤوا من قرى البحيرة والدلتا، يحملون معهم تاريخًا من العلاقات الريفية والتراتبيات الاجتماعية. إضراب عمال كفر الدوار ومحاكمات 1952 الشهيرة، التي انتهت بإعدام قادة عماليين، كشف مبكرًا حدود تحالف يوليو مع الطبقة العاملة، وأظهر أيضًا أن «الأطراف» ليست مجرد حقول بل مصانع وبلدات صناعية متصلة بالريف.

هذا النمط تكرر لاحقًا في مدن أخرى مثل المحلة الكبرى، حيث تحولت مصانع الغزل والنسيج إلى قلاع احتجاجية يرتبط عمالها بعمق بالقرى المحيطة. عندما يضرب العمال أو يخرجون في تظاهرات، لا تبقى الحركة محصورة في أسوار المصنع، بل تمتد إلى الأسواق والقرى والنجوع، إذ يحمل العمال مطالبهم وقصصهم إلى أهلهم، وتنعكس أزمات الأجور والعمل على حياة أسر ريفية كاملة.

في انتفاضة الخبز عام 1977، تجلّت هذه الشبكة على نطاق واسع، إذ انتقلت شرارة الاحتجاج من المدن الكبرى إلى مدن الأقاليم والقرى، وشارك الفلاحون في قطع الطرق وخطوط السكك الحديدية، وهاجموا مقارّ الدولة المتهمة بتمرير سياسات رفع الأسعار.

هذه اللحظات تُظهر أن ثورات الفلاحين لم تكن ظاهرة معزولة عن الحركة الوطنية أو العمالية، بل جزءًا من موجة أوسع من المقاومة الاجتماعية. الفرق أن صوت «الأفندية» والقيادات الحزبية والبرجوازية الوطنية طغى على صوت الفلاحين في الوثائق والخطابات، فبقيت ثوراتهم في هوامش الكتب بدلًا من أن تُكتب في المتن.

رابعًا: الريف في زمن النيوليبرالية – نزع ملكية جديد

منذ التسعينيات، دخل الريف المصري طورًا جديدًا مع تطبيق وصفات الليبرالية الجديدة: خصخصة شركات القطاع العام، تحرير أسعار المدخلات الزراعية، تقليص دعم الفلاحين، وتوسيع بيع أراضي الدولة للمستثمرين المحليين والخليجيين والدوليين. هذا التحوّل لم يكن مجرد «سياسات اقتصادية»، بل عملية إعادة هيكلة اجتماعية عميقة: الفلاح الصغير يجد نفسه محاصرًا بين أسعار مرتفعة للبذور والأسمدة، وأسعار متقلبة للمحاصيل، وديون للبنوك، وضغوط للهجرة إلى المدينة أو إلى الخارج.

في الوقت ذاته، ظهرت موجة جديدة من نزع الملكية؛ ليست تلك الصدامية الفجة لعهد محمد علي، بل نسخًا حديثة تحت شعار «التنمية» و«المشروعات القومية». تُنزع الأراضي لصالح طرق سريعة، أو منتجعات سياحية، أو مشاريع استثمارية كبرى، وغالبًا ما يُدفع إلى الفلاحين تعويضات هزيلة، أو يُدفعون قانونيًّا وإداريًّا إلى الخروج من الأرض التي عاشوا فيها أجيالًا. رد الفعل لم يكن صمتًا، فشهدت محافظات عدة اعتصامات أمام دواوين المحافظات، واحتجاجات على مشروعات بعينها، ونزاعات جماعية على الأراضي الممنوحة لكبار المستثمرين أو ضباط متقاعدين.

هذه الاحتجاجات قد لا تأخذ دومًا شكل «ثورة شاملة»، لكنها تمثل استمرارية لتقليد طويل من مقاومة الأطراف، من تمرد الفلاحين ضد جباة الضرائب، إلى مقاومة الفلاحين ضد أوامر الإخلاء الحديثة. الفارق أن أدوات الدولة أصبحت أكثر تنوعًا: من القوة العارية إلى القانون، ومن الجندي إلى خطاب التنمية والإعلام والدراما التي تقدم هذه المشاريع كإنجازات وطنية لا يجوز معارضتها.

خاتمة: إعادة كتابة التاريخ من الحقول

عندما يُعاد النظر في تاريخ مصر الحديث من منظور الفلاحين والأطراف، تنقلب بعض المسلّمات رأسًا على عقب. تصبح ثورة 1919، مثلًا، ليس فقط ثورة «الأفندية» والوفد، بل أيضًا انتفاضة واسعة للفلاحين في الأقاليم قطعوا فيها خطوط السكك الحديدية، وهاجموا مكاتب الدولة، وأسّسوا لجانًا محلية لإدارة حياتهم اليومية خارج سيطرة السلطة الاستعمارية. وتغدو ثورة يوليو أقل «بياضًا» حين يُنظَر إلى الإصلاح الزراعي من زاوية صراعاته وحدوده وتناقضاته داخل الريف، لا فقط بوصفه منحة من فوق.

إعادة الاعتبار لتاريخ ثورات الفلاحين لا تعني تمجيدًا رومانسيًّا للريف أو إنكارًا لدور المدن، بل محاولة لبناء سردية أكثر صدقًا وعدالة عن تاريخ هذا البلد. فالمعارك التي تُخاض اليوم حول الأرض والماء والمشروعات «القومية» والاستثمار الأجنبي هي امتداد مباشر لصراع طويل بين دولة مركزية تسعى لتأميم القرار الاقتصادي لصالح تحالف من النخب، وبين جماعات محلية تحاول الدفاع عن حقها في العيش على أرضها بكرامة. ربما يكون السؤال الأهم اليوم: كيف يمكن أن تُترجم هذه التقاليد المتراكمة من المقاومة الريفية‑العمالية إلى خيال سياسي جديد، لا يرى في الفلاح «تابعًا» لحركات المدينة، بل شريكًا كاملًا في صنع المستقبل؟