ثقافات
ممدوح حبيشيقميص النبي والفلاح
2024.10.12
تصوير آخرون
قميص النبي والفلاح
ورد في الكتاب المهم الذي ألفه يوسف الشربيني عام ١٨٧٥ ميلاديًّا حادثة مهمة ودالة عن نمط تعاطي الجماعة الشعبية لمفردات الدين، وعن نسختها الخاصة التي تنسجها له حينما يذكر:
"وصلى رجل فلاح فلما نوى وقرأ الفاتحة حط يده على رأسه وقال: آه يا راسي فقال له رجل عارف: بطلت صلاتك، فقال له: أنا ما بشكي لك أنا بشكي لربي وجع راسي. ثم إنه ركع وصلى وأتم صلاته ولم يبالِ بالكلام ولا اعتبر بقول هذا العارف."
"الفلاح في هذه الحكاية القصيرة يسخر من العارف ومن زعمه أن صلاته فاسدة لا تصح، حيث رأى ذلك الفلاح البسيط الصلاة في جوهرها كعلاقة مناجاة وتعبد وحوار بين العبد وربه، معبرًا عن الفهم الشعبي للدين، هذا الفهم الذي قد يستسيغ بعض الممارسات باعتبارها تعبيرًا عن الدين حتى ولو كانت خارجة عن نطاق الدين النصّي، أي النصوص الحاكمة في دين ما، الأهمّ من ذلك أنّ هذا الفهم يتعامل مع الظاهرة الدينيّة كواقع معيش، أو بمعنى أدقّ يتعامل معها كممارسات يوميّة سواء على المستوى الطقسي أو المعاملات الحياتيّة الجارية." كما يرى الباحث محمد مرجان في بحثه المهم "الدين الشعبي والدين العالمي".
فالجماعة الشعبية التي تعتبر الله عز وجل بمثابة الأب وتركز في فكرة الحنان (حِنيِّن على الغلابة يا رب) لا تجد مانعًا من الشكوى إليه داخل الصلاة بما يؤلمها أو تعاني منه فإذا لم نشكو إلى خالقنا فإلى من نشكو.
وفي الحقيقة إن الجماعة الشعبية التي يعبر عنها هذا الفلاح المصري الذي كان يعيش في القرن الثامن عشر يتركز اهتمامه في شؤون حياته اليومية وليس القيم الروحية المتعالية لأنه متورط في هذه الحياة ويعاني فيها ولا يملك معينًا أو مساندًا سوى الله عز وجل، كما أن فرد الجماعة الشعبية هو أكثر ارتباطًا بالأرض والتصاقًا بها وبتفاصيلها، وهو ما يطلق عليه الفيلسوف الروسي باختين "الإسفال" من أسفل، حيث يرى أن الفلاحين تتركز علاقاتهم ورؤاهم للعالم بالأرض وما يتعلق بها (الأسفل): الزرع والحيوان والري وغيرها، وتبدأ علاقاته تتضاءل وتتفكك، فيما كل ما يعلو نحو السماء ويبتعد عن الأرض.
بعبارة أخرى "الإسفال" أو "التسفيل" هو نقل كل ما هو عالٍ (أو متعالٍ)، روحي ومثالي ومجرد، إلى المستوى المادي والجسدي، مستوى الأرض والجسد، كذلك يعني التقريب من الأرض، والاتحاد (بها) مركز الولادة وهي موطن احتضاننا في الموت وفي الإسفال "نحن نقبُرُ ونبذرُ، نميتُ ونحيي".
المديح النبوي وسوء الأدب
من هذا المنطلق تبدو أحيانًا التعبيرات المطرزة في المديح والقصص الشعبية والمواويل الخاصة بالأولياء والصحابة بل والنبي الكريم نفسه فيها بعض التجديف والتجاوز، بل وحتى كما يدعي بعض المتزمتين سوء الأدب وهذا الزعم يبدو وجيهًا من زاوية نظر أخلاقية متعالية ولكن ما تقوم به الجماعة الشعبية في هذا الصدد هو نمط من أنماط الكرنفالية - حسب باختين.
حيث يجتمع الحواة والمهرجون والقوالون وباعة الأكلات الشعبية والناس العادية، حيث تسود المبارزات الزجلية الشعبية ولا تقتصر هذه الاحتفالات على مؤدين يحافظون على هذه المكانة المنفصلة دائمًا كمؤدين، والجمهور كجمهور متلقي فقط بل أحيانًا كثيرة ما تتبدل الأدوار فلا يقتصر دور الحاضرين على المشاهدة فقط بل يعيشونه جميعهم، بوصفه انبعاثًا وتجديدًا للعالم بأسره، حيث يسود شكل من الاحتكاك المتحرر بين الأفراد في سياق الحياة اليومية. هكذا "ينصهر في الإدراك الكرنفالي للعالم، المثال الطوباوي والواقع المادي، الحي والمحسوس".
من ناحية أخرى فالمتأمل لنصوص المديح النبوي الشعبية سيجد أن الاحترام والتبجيل والتقديس والمغالاة في هؤلاء أحيانًا موجودة ولكن في العمل ككل ومنطق بنائه ومنتهاه والرسالة الضمنية المبثوثة عبره وفي نهايته، بعيدًا عن محاكمة المفردات والتراكيب نحن أمام نص يذوب عشقًا وفق أقصى درجات التبجيل والاحترام والتقديس والرفع إلى ما هو أعلى حتى من مرتبة الأنبياء والرسول الكريم.
حتى أن الجماعة الشعبية بمنطق التجسيد والاقتراب من عوالم الأسطورة والحكايات الخرافية وفوق الطبيعية لا تكتفي بالمعجزات الثابتة في صحيح المعتمد الديني بل تنطلق فلا يحدها قيد ولا حد في رسم ونسبة الخوارق والمعجزات الحسية إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما سيتبدى من النص القادم "قميص النبي" وهي مديحة معروفة وتتكرر على ألسنة الفنانين، المؤدين الشعبيين بتنويعات عديدة وبتبديلات طفيفة ترجع إلى خصوصية وحراكية الفن الشعبي التي تعتبر واحدة من أهم ميزاته.
يبدأ النص بمفتاحه والاتفاق الضمني بين المؤدي والمتلقين أنه سيقوم بالمديح النبوي المعتاد بينهما والذي استقرت تقاليده وسماته داخل الوعي الشعبي فيقول:
امدح اللي قال له المولى تعالى
أنت حبيبي أعطيك الرسالة
اسمك المختار عندي الجلالة
قبل ما تنشا السماوات العلية
ثم يشرع في قص حكاية هذا الأعرابي الذي كان غنيًّا ومقتدرًا ولكن غدرت به الأيام وتحول إلى العوز وسؤال الناس للمساعدة دون مجيب، فهرب من البلد التي كان يسكن فيها خوفًا من الشماتة وهربًا من عيون الناس:
فر هارب من البلد بغير تواني
يشحت للعيال يا أهل الكمال
ما أحد أعطاه رجع توه حال
يلتقي عياله من الجوع في بلية
يلتقي عياله وأهل بيته حزانه
قاعدين يبكوا ولا يعطوش هوايه
صار يحلف لبنت عمه بأمانه
اصبرى إياك تجينا أيام سرية
اصبرى إياك تجينا أيام مليحة
يستريح القلب من جور الفضيحة
ثلاثة أيام لم يتناول الأطفال سوى الماء لذا الأطفال الجوعى لن ينتظروا أكثر ولن تملأ بطونهم الوعود وحسن الظن في الغد، لذا تحاول زوجته دفعه للتصرف.
قال لها فاضل النبي ما رحتلوشي
دول بيقولوا ع النبى كنز العطيه
دول بيقولوا ع النبى كنز العطيه
لما أروح اسأله في الناس وفيه
بالفعل ذهب إلى النبي الكريم وشرح له الموقف بأكمله وهنا يصور الفنان الشعبي قصصيًّا ما يحدث بعبارات بسيطة قادرة على الوصول إلى جل المتلقين، هنا يصور نزول الوحي للنبي الكريم بخصوص حالة الأعرابي السائل، بطريقة قد تبدو للبعض مبسطة إلى حد السذاجة وبها تجاوز في حق النبي صلى الله عليه وسلم، أو ملاك الوحي (جبريل) عليه السلام.
الله أرسل له جبريل يشوره
كان يريح الناس إذا جتها ضروره
أعطاه القميص يا زين دا معوش
أعطاه القميص بابر الطالعة البهية
يا فقير الحال تعالى خذ قميصي
راح ورا المدير وقلعه ما بطيشي
اليس أنا البس بردة وثوبى جبالك
أنا اللى بردتي تفضل عليه
إن جرى لك أمر وإن حد سألك
يا فقير بيع القميص وقوت عيالك
هنا يبدو واضحًا وبشكل ملموس ما قد أشرت إليه من طريقة تمثيل النبي الكريم حيث وهب قميصه الوحيد الذي كان يرتديه من دون تردد لحل كرب الأعرابي وبقي هو يتلحف ببردته العطرة.
بينما يسير الأعرابي خالجه التردد بين بيع القميص لتقويت عياله، وبين الاحتفاظ بالقميص والتبرك به، هنا أيضًا إشارة واضحة من الفنان الشعبي عن التردد والصراع الدائم داخل الإنسان بين الحاجات الروحية والاحتياجات المادية في تعبيرات بسيطة الألفاظ والتركيب ومشحونة بالدلالات المكتنزة.
أنا أروح للعيال عابطين عليه
ولا أوديه للعيال يتبركوا بيه
أروح السوق وإن ما تبعش أجيبه
وكتر الله خير أبو العيون الكحيلة
وكتر الله خير أبو اليد السخية
وفي النهاية حسم قراره ونزل للسوق كي يحاول بيعه واضعًا احتياجات ومصلحة أولاده التي لا تصبر ولن تنقضي وحدها كأولوية، وهناك في سوق المدينة وجد عشرة من أصحاب النبي معًا، ربما في إشارة إلى العشرة المبشرين بالجنة آو في خلط بينهم وبين أصحاب النبي الكريم، فعندما وجدوا معه القميص وعلموا برغبته في بيعه بدءوا جميعًا يزايدون في مقابله حتى يحصلوا عليه ولا يباع لغريب وفي نفس الوقت تقضى حاجة الرجل وتنفذ حكمة وهدف النبي من منحه قميصه.
فر أبو بكر الصديق وقال يا عرابي
ليه تبيع القميص ملبوس حبيبي
مؤنسي فى الغار وطبيبي
نادي يا دلال وقال اعملوه بميَّة
بميت محبوب من الذهب الصلايب
مشتري أبو بكر كل شاري راغب
لما درى عثمان عليه قال الحساب
قال عليَّا دي القميص بتلتميه
تلتميه محبوب ذهب مصفِّي
تلتميت حمر من كفك لكفي
وهكذا والأعرابي لا يرضى بالمقابل ولا يريد التنازل عن القميص مهما زايد الأصحاب الكرام، كذلك اتفق الملأ على الرقم الذي وصلت إليه المزايدة ما زال قليلًا عن القميص المعطر بعرق النبي والذي طالما احتضن جسده الزكي.
حصلوا القميص ألف وأزيد
والعرابي في العطايا يقول شويه
والعرابي في العطا يقول ما سيبه
كل منكم يا كرام يأخذ نصيبه
التجار وأهل البلد استمعوا به
يلتقي القميص واقف بعشرة ميه
قالوا القميص واقف على عشر ميه
ما حد زود خلاف هذه العطايا
قالت الناس الكبار أهل اللوا
ألف محبوب في القميص شويه
في نفس الوقت كان هناك عبد أحد التجار اليهود الأغنياء موجود في السوق ويراقب عملية المزايدة التي تمت والتي لم تنتهِ ببيع القميص فذهب إلى سيده يخبره بالأمر كطرفة.
قال رأيت قميص ما يجيش وقيه
قال رأيت قميص فى السوق داير
سعره يا سيدي غلب ثمن الجواهر
قال سيده فى صلاة الصبح باكر
إن وصل ألفين ثلاثة قول عليه
إن وصل ألفين ثلاثة ما أسيبه
دا قميص المصطفى نتبركوا به
قال العبد أنا باكر أجيبه
بالفعل في الصباح الباكر نزل العبد إلى السوق ووجد الأعرابي لم يبِع القميص، وخاطب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وطلب منهم التوقف عن الغش واستطاع الحصول عليه بعشر أكياس ذهب.
قال لهم العبد بطلوا الغواشي
تلات آلاف دا القميص عليه
أنت يا دلال تهاود في سؤالك
خد عشر أكياس وقوت عيالك
غير حملين تمر دول منى جبالك
قال أنا بعت القميص بصفو نيه
بالتأكيد يغضب الإمام علي فهو كعادته تمثله الجماعة الشعبية غيورًا ومحبًّا أيما حب للنبي الكريم ويهدد الأعرابي بالسيف لأنه قد باع قميص النبي ليهودي غريب ولم يرضَ بأي عرض من عروض الصحابة، لكنه عندما راجع النبي طلب منه الهدوء.
قال النبي القميص خرج منه
له يبيعه لليهودي ولا يشيله
وان كان بيعه لليهودي ولا بصره
اقبضه يا عبد وضمانك عليَّا
قبض العبد حق التوب كله
الله أغناك من بعيد ذله
في تلك الأثناء عاد العبد يحمل القميص للتاجر اليهودي الذي الآن نكتشف أنه كفيف فاقد للبصر، ومنحه إياه:
قال سيده فزنا بالريحة الزكية
قال قميص طه إن كنت تدري
قام منه وقال والله هدية
قام خده منه وشاله بيمينه
استبارك به وملس به على جبينه
بعد ما كان العمى طامس على عينه
فتحت عينه من الريحة الزكية
فتح وشاف الأبيض من الأسود
كعادة النصوص الشعبية ها هو قميص النبي يلعب دورًا أكبر من مجرد تذكار عاطفي فردي يحتفظ به أحد الصحابة أو كان حتى مكسبًا ماديًّا فرديًّا أيضًا يحافظ بمقابله الأعرابي على حياته وحياة عياله لكنه يتحول إلى ما هو أبعد، يتحول الي الإنجاز الجماعي وتحقيق فائدة كبرى للدين وللأمة حيث أسلم اليهودي وجيشه (قومه) وعتق رقبة العبد، فبعدما رد إلى اليهودي بصره:
قال أشهد أن الله كريم وأنت محمد
غير دينك ما عدت أعبد
أسلم الكافر وجيشه بالسويه
قال تعالَ يا عبد أنا اللي زمان هنتك
الصبح بدري النبي باكر يبعتلك
إن قبل منك القميص لله عتقتك
خدمتك يا عبد تحرم عليَّا
أخد القميص يا أهل الفنون
قال سلامي على التي قرة عيوني
رأيت النور أسيادي يعتقوني
حينها يهبط الوحي في الحكاية ليؤكد على ما كانت الجماعة الشعبية عبر شعرائها ومبدعيها على المعنى الأوسع للإنجاز والمساحة الأبعد من تحقيق المصلحة، فلا مناحة في تحقيق مصلحة أو مصالح فردية في طريق تحقيق الغاية الأبعد والأسمى وهي المصلحة الجماعية:
هبط جبريل من الدرجة العليه
قال هبط جبريل علي النبي وقال له
أسلم الذمي يا هادي وجيشه كله
آدي قميص النبي روح محله
دا الحبيب قال النبي قبل الهديه.