قضايا

هيثم محمدين

فوزي محمدين.. قبضة العامل وقلب الفلاح

2021.12.01

 فوزي محمدين.. قبضة العامل وقلب الفلاح

أذكر في سن السابعة مشهدًا لم يفارقني حتى اللحظة. انتزعنا من نومنا فجأة في صيف ١٩٨٩ على صوت كسر باب البيت، خرجنا وجدتي للدهليز فوجدنا قوات كبيرة من رجالة بقمصان وبناطيل وعساكر كتير لابسه اسود وشايلين بنادق، واخدوا أبويا حافي وخرجوا وسط ذهولنا جميعا.

بيتنا القديم، في أحد القرى التابعة لمركز الصف بالجيزة، بيت من طابق واحد مبني بالطوب الأحمر المصنوع من الطمي، سقفه من الخشب والبوص، يهبط عن مستوى الشارع درجتي سلم، بابه من الخشب في شكل دلفتين يغلق بترباس حديدي صغير كترباس شباك منور، له أربعة شبابيك خشب تفتح على شارعين، مكون من أربعة غرف، ودهليز (صالة)، سلم من الحجر أسفله فرن بلدي ستي وأمي بيخبزوا فيه العيش وبنتلم جنبه وقت الأكل، وحمام، غرفة يسكنها أبويا "فوزي محمدين" وأمي، وغرفة يسكنها عمي وزوجته، وغرفة تسكنها جدتي ونحن وأولاد عمي، وغرفة الكنب (الضيوف).

لم أفهم في هذا السن، لماذا أخذوا والدي إلى السجن، كما لم يخبرني أحد وقتها، ولم أكن أعرف ساعتها أني سأستغرق أكثر من عشر سنوات للحصول على نفسير لهذا المشهد عندما كنت أفتش في مكتبة فوزي بعد وفاته، كل ما عرفته أني لما كبرت شوية مكنتش بشوف أبويا كتير، كنت بسمع من امي إن ابويا في المصنع. ذات يوم وليلة بعد ذلك المشهد بوقت قصير، فوجئت بناس كتير بتيجي بيتنا تبارك لستي وتمشي، ولاحظت حركة غريبة في البيت وفي الناحية، سيتي كانت تبل شربات كتير في حلل كبيرة، وقرايبي فتحوا ديوان العيلة نضفوه وفرشوه، والمغربية لقيت العيلة وأهالي البلد متجمعين في الديوان وقاموا كلهم خرجوا مع بعض ومشيوا على زراعية بلدنا (مدخل البلد من طريق القاهرة أسيوط الزراعي الشرقي) طلعنا لحد الطريق ولقيت زفة بالمزمار والطبل البلدي وشوية جه اتوبيس مصنع الحديد والصلب وعمي اللي سايق، هو أصلا سواق في الصلب، نزل فوزي وعدد كبير من العمال وشالوا ابويا ونزلنا بالزفة على الزراعية ولفينا البلد، سمعت الناس بتبارك لبعض وبيقولوا فوزي نجح في النقابة، بقى لنا ضهر في النقابة، مكنتش فاهم هما بيتكلموا عن إيه أصلا، كنت فرحان زي الناس ولأني شايف ابويا متشال وكل ده عشانه، كنت فرحان وسط العيال أنه ده ابويا. لما رجعنا الديوان لقيت ابويا صوته مبحوح وتقريبا مكنتش فاهم كلامه. تفوت أيام قليلة، لقيت عربية ملاكي قديمة نزل منها راجل ضيف دخل قعد مع ابويا وقعدت جنبهم أعمالهم شاي، سمعت الراجل ده بيقول لابويا يا فوزي سيبك من العيال بتوع اليسار بتوع وجه بحري دول وتعالى نشكل النقابة أنا وانت من الصف والبدرشين وانت تمسك ريس وانا النائب بتاعك "وعلي الطلاق هتبقى مليونير يا فوزي يا محمدين"، فاكر كويس ان فوزي طرده من البيت، عرفت بعد كده ان دي كانت خناقة تشكيل مجلس نقابة الحديد والصلب بعد ما اليسار فاز بأغلبية المقاعد بسبب دور القيادات العمالية في اعتصام أغسطس ٨٩، وان الدولة كانت عايزة تخرب هذا الانتصار بأي طريقة. تفوت الايام واعرف أن الراجل ده اسمه صلاح هيكل وأنه من نقابيين الدولة اللي واقفين مع الإدارة بل ومع الأمن ضد العمال، وبالمناسبة صلاح هيكل بقى مليونير فعلا، وهو كان عامل في قطاع الخردة في مصنع الصلب!.

ابويا ماكنش مهتم بينا ودايما غايب عن البيت، لكن كان مصمم اننا نتعلم وكل مرة كان يشوفنا كان يسألنا عن الدروس ويتابع درجاتنا في المدرسة، لما دخلت المدرسة الإعدادية بدأت أفهم هو فوزي بيعمل ايه، لما اخدني معاه افطار العمال في نادي غرب حلوان في رمضان، كان بالنسبة لي صالة النادي اللي فيها ترابيزات طويلة وكراسي كتير شئ مبهر، انا متعود على جو القرية اللي عايش فيها، لفت نظري أن كل مجموعة من الترابيزات عليها ورقة مكتوب عليها عمال المحلة، عمال شبرا، عمال الحرير، عمال إسكندرية، عمال الكوك، عمال الصلب، وهكذا.

بعد الفطار كان فيه مؤتمر، والعمال بيطلعوا يتكلموا ورا بعض، وشوفت لأول مرة مصطفى عبد الغفار القيادي بمصنع الحرير، وصلاح الانصاري القيادي بالصلب، ومحمد الضلع وغيرهم كتير. سمعتهم بيتكلموا عن الأجور والأرباح، والإضراب والنقابات، والقانون وغيره، ويومها سمعت لأول مرة هتافات العمال "سامع صوت المكن الداير.. بيقول بس كفاية مذلة.. نفس الصوت اللي في حلوان بيقول شدي الحيل يا محلة" كان ترديد ألاف العمال للهتاف شئ مبهر. في الوقت ده بدأت أفهم ان فوزي وزمايله بيعملوا حاجة عشان يزودوا المرتب والأرباح وعشان كده الحكومة بتاخدهم، أنا كمان بدأت ارتبط بمرتب ابويا عشان لما كنت اطلب فلوس "المجموعة" يقولي لما اقبض، عمري ما انسى فرحتي بالعيدية اللي كانت بريزة نحاس بتلمع كانت أول مرة تظهر وقتها اظن كان سنة ٩٢. وفي وقتها عشان انجح في المدرسة كان لازم ادخل مجموعة في كل المواد، مكنتش أقدر اطلب فلوس اكتر، فلما لقيت بيدوا دروس تقوية في الجامع اللي عند بيتنا روحت وبقيت اخد درس في الرياضيات والعربي والانجليزي والجغرافيا وغيرها. ارتبطت بدروس الجامع العلمية وكمان الدينية، أظن لقيت نفسي مع مجموعة منظمة ليها شيخ.

وبدأت انتظم في ما يسمى "حلقة " لحفظ القرآن والحديث، واقف بعلبة بلح على أول ساحة صلاة عيد الفطر اوزعه على المصلين مع كرت معايدة من الإخوان المسلمين. فوزي لاحظ ارتباطي بالدروس الدينية رغم أنه شيوعي لم يتدخل لمنعي مباشرة من حضورها، ربما حاول ربطي بفكره بأن كان يأخذني الى لقاءات عمالية، ولم أنس قط أنه وجدني أمام الجامع معي كتاب "الحياء في الاسلام" فأخذه مني وقلب صفحاته ثم أعاده لي مرة أخرى وسألني مين مؤلف هذا الكتاب؟، قلبت الجلدة والصفحات الأولى ولم اجده، وكان تعليقه "مش لما تقرأ حاجة تعرف مين اللي كاتبها يا طروبش". كنت طروبش فعلا، لكن كنت شايف ان اللي بيعمله فوزي صح وان الكلام اللي سمعته من العمال صح رغم ان "حلقة الدين" ماكنش فيها مناقشة الكلام ده، وكان غريب بالنسبة لي ليه مكنش حد في "الحلقة" كان بيتكلم زي العمال! كانت الحاجة الوحيدة اللي ليها علاقة بالعيشة هي توزيع "شنطة رمضان" على الفقرا، ده كان نشاطنا الوحيد نوزع بلح لافطار المصلين في العيد، ونودي شنطة رمضان للأرامل الفقراء في البلد، كنت شايف ان بيتنا يستحق شنطة رمضان كنت عارف اننا مش بناخد لسببين الأول إن في ناس أفقر مننا والسبب التاني إن أهلي هيرفضوا لأنه ده عيب. على أية حال ابويا كان بيجيبلنا شنطة الوجبة كل شهر من المصنع، كانت عبارة عن سكر وزيت ورز وحلاوة طحينة وسمنة وشاي. عرفت بعد كده ان الوجبة الجافة دي كانت إحدى مكاسب اعتصام عمال الصلب البطولي في ٨٩، وكانت الوجبة بتوفرلنا جزء أساسي من غذاء الأسرة طوال الشهر، لقد كانت مكسب لو تعلمون عظيم. انتقلت لمرحلة الدراسة الثانوية، وكان فوزي قد أصابه المرض، كان في حاجة إلى علاج بأسعار مرتفعة كانت شركة الحديد والصلب تسدد فواتير العلاج من التأمين الصحي، في يوم وليلة فوجئ فوزي محمدين بإحالة ملفه الوظيفي للكمسيون الطبي لإخراجه على المعاش المرضي، كان علاج فوزي في التأمين الصحي للدولة بمثابة قرار بالاعدام، أذكر أنه في عز المرض والتعب قرر أن يذهب بنفسه إلى المصنع لمواجهة هذا القرار وعلمت أنه هدد بالاعتصام داخل مقر إدارة الشركة، تراجعوا عن القرار ولكن فوزي لم يعش طويلا وتوفي بعدها بشهور، في يوليو ٩٩، حزنت لفراقه فقد كان سندا لكل أفراد العائلة ولأسرتنا ولزملاء العمل، حزنت أيضا أن رفاقه من تنظيمات اليسار لم يزورونا أثناء مرضه إلا نادرا ولم يزورونا ولا مرة بعد وفاته تقريبا ولا مرة، وتلك واحدة من مشاكل بعض اليساريين الذي يتعاملون مع بعضهم البعض كماكينات نضال! توفي فوزي محمدين ولم يتركنا للمجهول، وعلى حد قول ستي احنا عايشين من خير ابوك وهو عايش وهو ميت، ترك لنا معاشه ومكافأة نهاية الخدمة التي بنينا بها بيت جديد! كانت بالنسبة لي مكتبة فوزي الصغيرة نقطة تحول، ضمن ما وجدته في مكتبته كتيب "ملحمة عمال الصلب" الذي كتبه مع عدد من القيادات العمالية اليسارية منهم صلاح الانصاري ، عبدالرشيد هلال ، محمد الضلع، كمال عباس ، يوسف عبد الحليم وغيرهم، كنت قد التحقت بكلية الحقوق، في نفس سنة وفاته ولفت نظري "ملزمة" مكتوب على غلافها "قانون العمل الموحد .. قانون تشريد العمال"، كانت "الملزمة" تستعرض مخاطر قانون العمل ١٢ لسنة ٢٠٠٣ الذي كان وقتها مجرد مشروع قانون، وفشلت الحكومة في تمريره من عام ١٩٩٠ حتى ٢٠٠٣ بسبب المقاومة العمالية لهذا القانون. كان من ضمن اسباب فشل الحكومة في تمرير هذا القانون الكارثي وجود قيادات عمالية يسارية مناضلة وقفت ضده. كان لليسار وجود وتأثير داخل الطبقة العاملة المصرية، وقد كانت حلوان غنية بالعشرات من القيادات العمالية اليسارية، عشرات القيادات العمالية اليسارية كانت تقود مئات الألوف من العمال في مصانع الحديد والصلب والكوك للكيماويات والمعادن والحرير والمطروقات والمصانع الحربية.

تلك كانت أول علاقة لي بأفكار اليسار، علاقة توطدت عندما مررت بمعرض طلابي ينظمه الطلاب الاشتراكيين في جامعة القاهرة بمناسبة الانتفاضة الفلسطينية، ووجدت ضمنه لوحتين عن انتقادات الاشتراكيين لمشروع قانون العمل الموحد ومخاطر هذا القانون على العمال وأسرهم. فوزي كان يدرك بشكل فطري تركيبة عمال مصانع حلوان، كان يغلب على عمال حلوان آنذاك ما يمكن تسميته "نصف عامل نصف فلاح"، حيث كانت الغالبية الساحقة من عمال مصانع حلوان تأتي من مراكز جنوب الجيزة (الصف، اطفيح ،الحوامدية، البدرشين، العياط) بالإضافة إلى عمال من بني سويف والفيوم. ولإدراكه لهذه الخصوصية، كانت المناسبات الاجتماعية لهؤلاء العمال محل اهتمام فوزي محمدين، ربما كان يدرك انه كقيادي عمالي ونقابي عندما يقوم بدوره في المصنع إنما يقف إلى جانب "نصف العامل" لذلك كان دائم الحضور لافراح ومعازي ومناسبات العمال للوقوف إلى جانب "النص فلاح"، الفلاح لا يثق الا فيمن يقف إلى جواره في فرحه وحزنه، كما كان لتنقلاته هذه أثرها على ارتباطه بالعمال، تقريبا لا توجد سيارة وردية لأي بلد أو مدينة لم يستقل مع عمالها اتوبيس المصنع، من شبرا وامبابة شمالا وحتى العياط جنوبا، لذلك لم يكن من المستغرب يكسب فوزي ثقة العمال في المصنع وخارجه.

(*) نشر هذا المقال في موقع (بالأحمر) عام 2017.