مراجعات

إسلام بركات

ذوات ممزقة: الفلاح في الرواية المصرية عرض كتاب "الرواية والخيال الريفي في مصر بين 1880 و1985"

2019.07.01

تصوير آخرون

المؤلف: سماح سليم
ترجمة: عبد الرحمن الشرقاوي
الناشر: المركز القومي للترجمة 2019

ذوات ممزقة: الفلاح في الرواية المصرية عرض كتاب "الرواية والخيال الريفي في مصر بين 1880 و1985"

يعمل كتاب الرواية والخيال الريفي في مصر للدكتورة سماح سليم، أستاذ الأدب العربي الحديث بجامعة روترجز، على استكشاف صورة الفلاح والريف المصري منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى قبيل نهاية القرن العشرين، وتحولات تلك الصورة عبر الزمن في النصوص السردية المصرية البارزة، وارتباطها بسياسات الوطنية وتجلياتها في اﻷدب، إذ يظهر الفلاح خلالها باعتباره رمزًا واضحًا للهوية الوطنية. وكي تُظهر كيف تبلورت الهوية الوطنية بدأت الكاتبة بتفاصيل ما قبل القرن السابع عشر؛ وهي مرحلة سياسية واجتماعية مغايرة ليقف القارئ ما تعنيه من خلال تناولها اللاحق.


تناقش مقدمة الكتاب صورة المجتمع والدولة في كتابات تنويري النهضة اﻷوائل، بصفتهم المؤسسين للحداثة الفكرية في مصر مع نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين؛ من أمثال: أحمد فتحي زغلول ومحمد المويلحي وقاسم أمين وأحمد لطفي السيد. إذ رأت هذه المجموعة من المفكرين «المجتمع» بوصفه كيانًا مجردًا تحدده قوانين عالمية وعلمية ومبادئ لتنظيم الحياة اﻻجتماعية، كما ناقشت الدور الوطني للأدب الجديد المتمثل في الرواية، الدور الذي يُمكن أن نستوضحه من عبارة أحمد لطفي السيد: «ليس اﻷدب كما يتخيله السطحيون من المفكرين مجرد وسيلة لإمتاع قراء الأدب، ولا حكاياته مجرد طريقة جميلة لإهدار الوقت الثمين. الحقيقة أن اﻷدب والتاريخ اﻷدبي من ضمن أقوى ملامح تحديد هوية اﻷمة، يقومان بالربط بين أجيالها الماضية والحاضرة، ويحددان خصائصها ويميزانها عمن عداها، ويتحقق لها الخلود عبر الزمن، ومواطن التشابه بين أفرادها تتسع وتقوي روابط التآزر بينهم«.


وعلى الرغم من أن الكتاب يعتبر كتابات عبد الله النديم ويعقوب صنُّوع سوابق سردية للقص العربي الحديث، فإن شخصية الفلاح في تلك الكتابات ظهرت كشخصية ثانوية، بائسة أحيانًا، وجاهلة ومستغلة في أحيان أخرى. شخصية حادة ومتمردة، لكنها أيضًا ماهرة في الغش، غوغائية وساخرة في كلتا الحالتين. لقد انطلقت تلك الكتابات من الوعي الحاد المنتشر شعبيًّا في مصر خلال العصور الوسطى وبواكير العصر الحديث؛ حين كان استغلال الفلاح على يد الحكام وجباة الضرائب سائدًا، ومن خلال ذلك الوعي ابتكر النديم وصنُّوع شخصية الفلاح وثيقة الصلة بمشروع اﻻصلاح اﻻجتماعي والسياسي للحركة الوطنية في نهايات القرن التاسع عشر، وتجسَّد ذلك سياسيًّا في الحزب الوطني المبكر، وفي حركة العرابيين، وجاءت اﻷعمال النثرية؛ فعلى سبيل المثال طوَّر يعقوب صنُّوع شخصية «ابن اﻷرض» المقهور والمتمرد الواقع تحت رحمة الموظفين العثمانيين وتحت رحمة نظام كولونيالي لا أخلاق له. بينما طوَّر النديم شخصية فلاح أكثر غموضًا جسَّدت التخلف المخجل والجهل الخاصين بالشخصية الوطنية المصرية، ومارست شخصيات صنُّوع والنديم نضالاً وطنيًّا موجهًا للبرجوازية المتأوربة الفاسدة التي ازدرت ثقافته المعترضة على الروابط والأخلاقيات التي تربطه ببلده.


الروايات والقوميات 


تناولت الكاتبة العلاقة بين الرواية واﻷمة مع ظهور الأيديولوجيات الوطنية؛ إذ ترى أن هناك توافقًا عامًا حول خصائص الرواية على مستوى البناء والخطاب، وعلى تمثيلها للزمان والمكان، وأن كل هذا موجود في الفضاء التاريخي الجديد للدولة الوطنية الحديثة. وتورد أن عمل «الجماعات المتخيلة» لبنديكت أندرسون الصادر عام 1983 أدى إلى تدفق عدد من اﻷعمال تتناول العلاقة الجدلية بين الرواية واﻷمة سواء في إطار السياق الغربي الحديث أو خارجه، ومن ثم تناولت الجدل حول الذات الروائية في مصر، حيث كان هناك شبه إجماع على أن رواية «زينب» لمحمد حسين هيكل هي الرواية العربية اﻷولى، وذلك على الرغم من ظهور عدة محاولات روائية عربية رصدها «تطور الرواية العربية الحديثة في مصر» لعبد المحسن طه بدر توثيقه لنحو 167 رواية ظهرت في مصر قبل رواية زينب بين أعوام 1834 و1914. وناقشت المؤلفة مفهوم الذات الروائية، ولماذا اعتبر مؤرخو اﻷدب ما قبل رواية «زينب» سلسلة من التجارب غير الناضجة. ولتوضيح تبلور الذات الروائية الوطنية في اﻷعمال الروائية استعانت المؤلفة بمقال كتبه محمد حسين هيكل عام 1925 واعتبرته «مانفيستو» للأدب الوطني الجديد وهو «اﻷدب القومي». وقد استلهم هيكل مقاله من الرومانسية الفرنسية، وأكد أن البيئة الطبيعية والتاريخ الوطني هما المصدران الرئيسان للإلهام الوطني، وفيه يكتب هيكل «إذا ما كشف الفن عن جمال البلاد للمصريين، فإنهم سيبذلون قصارى جهدهم للاعتناء بهذا الجمال وإخراجه من العجب والرهبة»، وعن التاريخ الفرعوني والنيل وواديه يقول هيكل «كلها جديرة بأن تكون مصدر الوحي لأدب قومي يصور مصر في ماضيها وحاضرها صورة صادقة تنطبع في نفوس أبنائها وفي نفوس اﻷجانب عنها... فيعرفون مصر كما هي لاحقًا، لا مصر التي شُوِّهت تشويها بالدعاية الفاسدة لغايات سياسية وغير سياسية»، ما يقوله هيكل ربطته الكاتبة بطرح بنديكت أندرسون عن العملية التخيلية التي تقوم بها الدولة الوطنية الحديثة، والتي تلوح في اﻷفق من ماض بعيد وصناعة خطاب معاصر عن الجماعة واﻻستمرارية عبر الزمان والمكان. وبناءً على ذلك اعتبرت رواية زينب الرواية العربية اﻷولى؛ فهي تعرض صورة رعوية كاملة ومتماسكة للأمة فيما يتعلق بكل من الحبكة والمكان ومن ناحية تقدم عرضًا أصيلاً لذات روائية مكتملة التطور.

رواية زينب

تظهر الذات السردية في رواية زينب من خلال شخصية «حامد» التي تمثِّل الصدام بين عالم قديم من القيم اﻻجتماعية البالية وعالم جديد طوباوي؛ حيث الهوية المضطربة الممزقة بين ثنائيات الهويات العتيقة والحديثة: «الشرق/ الغرب، الجنس/ الحب، الغنى/الفقر، الواقع/ الخيال». هذه الصورة المتمزقة لحامد انعكست على سلوكه اﻻنعزالي من آن ﻵخر في غرفته بعيدًا جدًا عن الحياة الجماعية لحقول العزبة، وهي الصورة التي حكاها هيكل عن نفسه في أثناء شروعه في كتابة الرواية، وهو في باريس يكتب على ضوء مصباح. ويصور هيكل حالته «ﻷعزل نفسي عن باريس وأرى، في عزلتي، الحياة في مصر محفورة في ذاكرتي وخيالي»، وهو ما تعقب عليه الكاتبة «استعارة متكررة لعلاقة الذات الجديدة بنقضيها الجدلي (اﻵني) -العالم خارج النافذة- اﻵخر»، هذا اﻵخر في رواية زينب هو الجمع المحتشد الشبيه برموز اﻻختزال، وهو المجتمع الريفي السلفي؛ المادة الخام للخيال الوطني، اﻻغتراب الاجتماعي الذي يعاني منه حامد تجعله يقضي أيامه متأملاً بلا نهاية في الحقول، يقول حامد «ولكن أنى يجد الشاب هذا المتاع في مصر؟ أنى يحل له أن يجد السعادة؟ إنه لمسكين بائس. هو بين اثنين كلاهما شر: إما أن يبقى في ذلك الموت الذي تأتي به لا شك الحياة الموروثة وقواعدها المطلوبة منه ومن كل المسنين. وإما أن يرتمي في أحضان الفضلات الفاسدة، التي رميت بها هذه البلاد المسكينة من الغرب السعيد المجرم. نعم في اﻷولى موت لا مفر منه، وهل ذلك التبتل الذي تطالب به كل شي إلا موت، وفي الثانية فساد وضياع»، وعلى ذلك كانت الطبيعة ملجأ حامد من مجتمعه، وهو يتحسر على الحمل الثقيل على الفلاح اﻷجير إذ يُنظر إلى العامل الريفي على أنه أجير، ليس بعمله، وإنما إما باللعب أو باعتباره وظيفة أزلية يمتد تاريخها إلى العصر الفرعوني، وكأن هذا طبيعي. في فقرة أخرى يقول حامد: «وتقضت أيام الحصاد هي اﻷخرى، وانتقلوا لعمل جديد واستعاضوا بذلك مكان الليل المقمر ونسيمه العذب وآماله وأحلامه نهار الصيف وشمسه المحرقة.. ولكنهم ما كانوا ليحسوا بذلك أو يألموا له وقد تعوده آباؤهم من قبلهم. تعوده من يوم مولدهم، فانتقل إليهم بالوراثة وبالوسط. وتعودوا ذلك الرق الدائم ينحتون لسلطانه من غير شكوى ومن غير أن يدخل في نفوسهم قلقًا. يعملون دائمًا ومن غير ملال، ويرقبون بعيونهم نتاج عملهم زاهرة ناضجة».

يوميات نائب في اﻷرياف 

أما عن الذات السردية في يوميات نائب في اﻷرياف، فهو وكيل نيابة ساخر كُلف بالعمل في إحدى قرى مصر، يقضي أيامه في جرائم مثيره للشفقة، ارتكبها محليون، وينتقل بين عدد لا نهائي من الدوسيهات القانونية، فيما تمضي أمسياته الوحيدة مع رفيقه الوحيد وملجأه؛ الصحيفة. تعلِّق الكاتبة على حال وكيل النيابة وبغضه للفلاحين، والجهل المستشري حيث القانون الفرنسي المستورد، هو وحده السلطة الرمزية البريئة في نظر الحكيم «لا أحد بريء في قرية الحكيم عدا القانون ذاته، الذي يمثل بنقائه وبعدم تمييزه كليًّا الشرعية اﻷخلاقية لحداثة عالمية تأخذ شكل اﻷمة باعتبارها صنفًا مثاليًّا. أن أيًا من الشخصيات في الرواية -باستنثاء وكيل النيابة المستفز- لا يستطيع أن يصل إلى روح القانون»، أما عن الطبيعة في قرية الحكيم، فهي تعكس العفن والقذارة والفلاحين متآمرين بطبيعتهم العدوانية؛ حتى يصل وصفهم من قبل وكيل النيابة بشكل جماعي بأنهم «ذباب» و»ديدان ورائحتهم مثل رائحة القردة في حديقة الحيوانات»، تلك الحالة التي كان عليها وكيل النيابة جعلته يصرخ في وجه مُحضر شرطة بقوله «إن تلك اﻻجراءات التي تتبع في أعمالنا القضائية طبقًا للقوانين الحديثة ينبغي أن يُراعى في تطبيقها عقلية هؤلاء الناس ومدى إدراكهم وقدراتهم الذهنية، أو فلنرفع تلك المدارك إلى مستوى تلك القوانين!»

 سياسات الواقعية، الواقعية الجديدة ورواية القرية

تنطلق الكاتبة بعد ذلك إلى مرحلة 1952، وما بعدها، ولكنها قبل أن تتناول صورة الفلاح في روايات تلك الفترة، تتناول العلاقة الإشكالية بين نظام 52 والمثقفين، إذ رحب معظم الكتاب التقدميون بثورة 1952، التي فتحت مجالاً لضرب ثقافة يسارية نشطة بجذورها الممتدة للإصلاح الزراعي الذي تبناه النظام، وانعكس على النشاط الثقافي الرسمي؛ فأسست وزارة الثقافة في عام 1958 مركزًا للفنون الشعبية، ومعهدًا ومكتبة للدراسات الشعبية، وترصد الكاتبة أنه بين عامي 1952 و1970 صدر ما لا يقل عن اثنين وعشرين رواية عن الريف، تحول بعضها إلى أعمال مصورة كبيرة، وفي ذلك تسشتهد الكاتبة بعدد من الدراسات، منها دراسة «اﻷرض والفلاح: المسألة الزراعية في مصر» ﻹبراهيم عامر والتي نُشرت في عام 1958، وفيها يكتب عامر «بهذا، أصبح الفلاح، ولأول مرة، في مركز التاريخ المصري، ليس باعتباره ضحية صامته أو باعتباره رمزًا محددًا ومرتكزًا عليه لماض غابر وإنما باعتباره موضوعًا حيًّا وممثلاً لتغيير تاريخي». وعليه كانت ثورة يوليو تنظر إلى المثقف باعتباره «ملتزمًا» بمباديء النظام، إذ نُظر إلى الكتابة باعتبارها فعلاً سياسيًّا تداخل مع مجموعة متكاملة من العلاقات اﻻجتماعية والأيديولوجية المتنازع عليها، وقد انعكست هذه النظرة على الإنتاج الروائي وبدا ذلك في نظرة عبدالرحمن الشرقاوي ويوسف إدريس إلى الفلاح كشخصية سردية متمردة، في حين كان ينظر كتاب آخرين أمثال محمد عبد الحليم عبد الله ويوسف السباعي وثروت أباظة إلى رسم صورة الفلاح باعتباره كمحافظ سياسيًّا وسرديًّا، واضعين الصراعات اﻻجتماعية والسياسية المركزية للقرية في إطار من الحبكة الغرامية المفرطة في العاطفية، وعلى ذلك كان هؤلاء الكتاب مدللين لدى النظام ومتصدرين للمناصب المهمة في المشهد الثقافي، وتذكر الكاتبة مدللة «تمثل رواية رد قلبي ليوسف السباعي التي صدرت عام 1955 مثالًا جيدًا للتواشج بين القص واﻷيديولوجيا»، فالصعود الطبقي للفلاحين مرتبط باﻻرتقاء مهنيًّا وأيديولوجيًّا مع اﻹدارة العسكرية الوطنية الجديدة. 

استندت الكاتبة إلى العلاقة الإشكالية بين المثقفين والدولة الناصرية في تناولها لرواية «اﻷرض» لعبد الرحمن الشرقاوي، والتي صدرت عام 1952 فقد تلقَّت تقديرًا منذ صدورها من قبل الدوائر الثقافية التقدمية، واعتبرها محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس «مثالاً لامعًا على قص جديد بازغ في مصر»، واكتسبت وضعًا عظيمًا باعتبارها عملًا واقعيًّا ثوريًّا واشتراكيًّا» بسبب تفكيكها الصورة الرومانتيكية للقرية والفلاح. وتستشهد الكاتبة باستراتيجية رواية «اﻷرض» منذ الصفحة اﻷولى للرواية، «لست أريد.. أن أكتب رواية طويلة، ولا أنا أروي هنا تاريخ بعض الرجال أو النساء. ولا ذكرياتي، ولست أحتال على القارئ لأسرق اهتمامه ويقظته، فأؤكد له أن اﻷبطال الذين يضطربون عبر هذه الفصول، لم يعيشوا أبدًا إلا في الخيال. لن أخدع القاريء إلى هذا الحد، فخيالاتنا في النهاية لا تستطيع أن تخلق الكائنات التي تمضي مع الحياة مثقلة بالحياة: تحلم وتتعذب وتعرف المتاعب واليأس والهوى والدموع والضحكات واﻷمل الغامض وتصنع المستقبل في إصرار حزين. وما أنا بزاعم أني عرفت قصة الذين أتحدث عنهم، فنحن في مصر لا نكاد نعرف قصة كاملة لإنسان.. قصة اﻹنسان في مصر تظهر فجأة وتمضي فاترة رتيبة يخالجها اﻻحتدام والغليان لبعض الوقت.. ثم تمهد وتغيض شيئًا فشيئًا كمياة منسابة على الرمال. هكذا كانت حياة وصيفة وعبد الهادي وخضرة وعلواني ومحمد أبو سويلم والشيخ يوسف والشيخ الشناوي ومحمد أفندي والشيخ حسونة، وكل النساء والرجال واﻷطفال الذين عرفتهم في قريتي منذ عشرين عامًا». وتبرز الكاتبة من خلال تناولها لرواية اﻷرض أن الشخصية الجمعية للقرية هي الفاعل اﻷول الذي تحكى عبره اﻷحداث المشتركة والذكريات والتطلعات، وأن المادة الخام من اﻷساطير والحكايات هي محاولة لإعادة بناء الذات للقرية وعلاقتها بالعالم الخارجي في حدود الملحمية واﻻلهام ومنحها القوة لذلك.

انتقلت الكاتبة بعد ذلك إلى الروايات التي جاءت بعد هزيمة 1967 حيث الثنائية الضدية بين «الحلم/ الواقع، الماضي/الحاضر، اﻷصالة/المعاصرة، الريف/المدينة» حيث الذات المنشطرة نتيجة الفقد الناتج عن الهزيمة لتبرز التفسخ التاريخي للذات جغرافيًّا ووجوديًّا من خلال تناول الكاتبة لرواية «أيام اﻹنسان السبعة» لعبدالحكيم قاسم ثم رواية «شرق النخيل» لبهاء طاهر. تورد الكاتبة «تحوَّل قص القرية في السبعينيات لأشكال هامشية وفردانية وغير منطقية من المعتقدات الطائفية والشعائرية من أجل استكشاف الطبيعة اﻷسطورية للثقافة الشعبية وكذلك الجانب القسري والحدي الخفي في المجتمع الريفي». وترى أن رواية «أيام اﻹنسان السبعة» تمثل التضاد بين الثقافة الريفية وخطاب النظام عن الحداثة؛ «اﻷيام السبعة في عنوان الرواية هي سبع لحظات منفصلة في حياة شاب نشأ في قرية صغيرة من قرى الدلتا. يصف كل مرحلة في سنة صوفية دائرية تدور حول رحلة حج سنوية لضريح السيد البدوي في طنطا، ويحدد مرحلة بعينها من تطور هذا الطفل/الرجل حيث يكبر خارج دائرة الجماعة وينتهي به منفيًّا من سر تماسكها وزمانها السحري التقويمي». أما بشأن رواية «شرق النخيل» لبهاء طاهر «يتيح بناء الرواية اﻷمثولي لبهاء طاهر تفكيك الثنائية المألوفة التي تميز سرد القرية - مدينة/قرية، أصالة/حداثة- من خلال تضمينها جميعًا في مستوى جدلي وإعادة خلقها باعتبارها فضاءات متوازية للتمثيل السردي لدراما فردية وجماعية… وعلى الرغم من أن الماضي والقرية في مركز الدلالة في «شرق النخيل» ولكنهما ليس مترادفين ويمثلان الجنة الموعودة، ولكنهما يتصارعان حول الحقيقة والعدل وإرادة الحياة واﻻتحاد، كما هي الحال في المدينة».

في الجزء الثاني من المقال تتناول الكاتبة اللغة المستخدمة بدءًا بالنديم وصنُّوع؛ إذ ترصد أن النديم كتب بمزيج بين الفصحى والعامية المصرية، معتمدًا على السياق والوضع الاجتماعي للمتكلمين، وأحيانًا بعربية كلاسيكية مبسطة، ولاحظت أن شخصيات النديم تتحدث بنمط لغوي مناسب لطبقتها وأصولها العرقية والجغرافية ومهنتها وتعليمها، بينما كتب صنُّوع مسرحياته كلها بالعامية. وفي المجمل ترى الكاتبة أن اللغة المستخدمة كانت أداة لنقد الأرستقراطية من العسكر الأتراك القدامى ومن طبقة الصفوة الحضرية ذات الانتماء الثقافي، سواء كانوا أوروبيين أو مستشرقين يستخدمون عربية هجينة ومصريون مستغربون والتي تصفهم الكاتبة بأنهم «مظهريون يختالون بعدتهم المتفوقة من الثقافة التي اكتسبوها».

يكتب النديم التي تعده الكاتبة من رواد الإصلاح اللغوي في افتتاحية «التنكيت»: «وليست متحفة بمجاز ولا استعارات ولا مزخرفة بتورية واستخدام ولا مفتخرة بدقة قلم محررها وفخامة لفظة وبلاغة عبارته ولا معبرة عن غزارة علمه وتوقد ذكائه ولكنها أحاديث تعودنا عليها ولغة ألفنا المستمر بها لا تلجئك إلى قاموس الفيروزآبادي ولا تضطرك لترجمان يعبر لك عن موضوعها ولا شيخ يفسر لك معانيها، فهي كصاحب في مجلسك يكلمك بما تعلم، وكخادم في بيتك يكبر منك ما تقدر عليه ونديم يسامرك بما يمتعك».

تنتقل الكاتبة بعد ذلك إلى عام 1925 حين دعا محمود تيمور إلى كتابة الحوار السردي كاملاً بالعامية التي أسماها «اللغة الطبيعية للمتكلم»، لكنه تراجع بعد ذلك بسنتين لصالح العودة إلى «لغة عربية أدبية»، والسبب أن تيمور كان شغوفًا باعتراف مجمع اللغة العربية، الذي لم يقبل المؤلفين الذين كتبوا بالعامية. وتتابع الكاتبة أن ذلك الجدل استمر في عشرينيات القرن العشرين، وفي النهاية انتصرت اللغة العربية «الثالثة» أو الفصحى المتحولة إلى الدارجة، وهو ما استخدمه محمد حسين هيكل في روايته زينب، كي يناسب المنطق السلطوي للذات السردية في الرواية، أما في يوميات نائب في الأرياف فقد استخدم الحكيم على لسان الفلاحين لهجة عامية ساخرة، وفي ذلك تذكر الكاتبة «تمثل التجاوزات اللغوية في «يوميات نائب في الأرياف» توجهًا ثنائيًّا صوب الصوت الهامشي. فمن ناحية فإن قيمتها الصادمة تأتي من التباين المتنافر والكوميدي بين الكلام المتدني وبين التهذب والفصحى المعيارية. ومن ناحية أخرى، فهذه اللغة المتدنية الكوميدية الدائرية تقترح احتمالية النقد الشعبي الجماهيري للخطاب المسيطر، بما في ذلك الخيال السردي البرجوازي»، وفي ذلك اشتبك بعد ذلك عبد الرحمن الشرقاوي مع طه حسين في عام 1953 حول الاستخدام المفرط للعامية في حوار رواية «الأرض»، فاتهم طه حسين الشرقاوي ومعاصريه بتجاهل اللغة العربية والسخرية من رصانتها، وفي المقابل أصر الشرقاوي ويوسف إدريس ونعمان عاشور على كتابة الحوار بالعامية، مبررين أنها ضرورة فنية ووسيلة أساسية للتقديم الواقعي للشخصية. 

وعن الاستنتاج النهائي بشأن صراع العامية و«اللغة الثالثة الدارجة» فالتجربة السردية للكتابة بالعامية كانت تجربة قصيرة في نهايات القرن التاسع عشر على يد محمد عثمان جلال والنديم وصنُّوع، لكنها هُجرت تمامًا مع في القرن العشرين باستثنائين بارزين: مذكرات لويس عوض المنشورة عام 1964 «مذكرات طالب بعثة»، وكتاب بيرم التونسي «السيد ومراته في باريس» المنشور في عام 1953.

وفي نهاية كتابها تتوصل الكاتبة إلى أن الروايات التي تتناول الفلاح والريف المصري ما زالت أسيرة التفسخ الناتج عن هذا التاريخ اﻻجتماعي القديم/ الجديد في رواية القرية المعاصرة في شكل ميتا سردي رمزي وساخر، وتُدلل على ذلك باقتباس من رواية «محب» لعبدالفتاح الجمل الصادرة عام 1992 «حدث في رواية متواترة، أن «مصر» كانت تتفسح في شماليها الأقصى، وقيل تعس وتتفقد الأحوال، وتتعرف إلى خلق الليل والنهار، وقيل _وهي الأرجح» تمشي رجليها وقد خدرتا من طول خلود. وبينما كانت تهبع على ضفة النيل قرب دمياط كما يهبع الجمل، فعطست ومسحت بوزها بكمها وهي تتشهد، وبأصول إبهامها مسحت عينها التي دمعت، وتلفتت حولها فلما لم تجد من قول لها «يرحمك الله يا مصر»، شمخت جانحة إلى اليمين رافعة إبهامها الأيسر، تضغط به منخورها الأيسر تسده، وفمها تطبقه، وبعزم أمها، وأبيها تنفخ، وكالصاروخ يرتفع بربورها، بربور مصر العزيز، إلى أعلى عليين. وعلى بعد كيلومترين وكسور من مجرى النيل. انحط البربور. ومن يومها لم يتزحزح في نقطة لم يكن لها أدنى اعتبار على خريطة مصر.

هذا أصلي وفصلي -أنا قرية محب- وأصل الفتى ما قد حصل، أي نعم أنا بربور، إلا أنه بربور مصر».