مراجعات

أحمد فضيض

جمعية جيرنزي الأدبية وفطيرة قشر البطاطس: بين الرواية والفيـلم

2021.06.01

مصدر الصورة : آخرون

جمعية جيرنزي الأدبية  وفطيرة قشر البطاطس:  بين الرواية والفيـلم

بدا واضحًا منذ البداية أن المشهد الافتتاحي للفيلم قد تفوَّق بالضربة القاضية على الفصل الافتتاحي للرواية المأخوذ عنها، ففي المشهد السينمائي الأول، ومنذ الدقيقة الأولى، نعرف سبب تكوُّن الجمعية الأدبية وسبب اختيارها لاسمها الغريب؛ حين نشاهد جماعة من أهل جزيرة جيرنزي، وهي إحدى جزر القنال الإنجليزي، التي كان الألمان يحتلونها في الحرب العالمية الثانية؛ زمن الفيلم، فنشاهدهم يتغنّون ويتمايلون وهم نشاوى بعد عودتهم ليلاً من سهرة سمر، بعد تناول وليمة دسمة من لحم خنزير مشوي، كانوا يحتفظون به سرًّا في قبو بيت أحدهم، فقد كانوا في وليمة سرية، لأن الاحتلال استولى لصالحه على كل خنازير الجزيرة (التي تشتهر الجزيرة بتربيتها) من أجل حاجة جنودهم إلى الطعام، وألزم أهل الجزيرة بزراعة البطاطس عوضًا عنها، هذا بالإضافة إلى أن تلك الجماعة بعودتها المتأخرة كانت تخترق قرار حظر التجوّل، وهنا تظهر مجموعة من الجنود الألمان يستوقفوهم تحت ضوء كشّافاتهم الساطعة، ويسألهم القائد الألماني في غلظة عن أوراقهم وعن سبب خرقهم لحظر التجول المفروض، فتساعد سرعة البديهة إحداهن وتقول بعد أن تلمح طرف كتاب يطل من جيب القائد، إنهم أعضاء نادي القراءة وهم عائدون من اجتماع لهم، وتتملّق الاحتلال مستخدمة شعاراته من: "اقتداءً بتشجيع الاحتلال على الترابط الثقافي"، و"تقليدًا لحسن استغلال الوقت كما يفعل الألمان"، فتلمع عينا القائد ثم ما يلبث أن يسألها عن اسم ناديهم، فتقول منطلقة: "جمعية جيرنزي الأدبية"، وفي تلك اللحظة يغثّ رجل هرم من جماعتهم، كان مشغول البال بما تناوله قبل قليل، ليقول وهو يتهيّأ للتقيؤ من أثر فطيرة من قشر البطاطس أحضرها معه أحد رجال الجزيرة في الوليمة، كطبق جانبي: "وفطيرة قشر البطاطس اللعينة!"، ليكتمل بهذا عنوان الجمعية الغريب، ثم يتقيؤ الرجل أثر الفطيرة على حذاء القائد الألماني، فيطلب القائد منهم وهو ينصرف قرفًا مع جنوده، أن يوافوه غدًا لتسجيل اسم هذه الجمعية الأدبية، ويغادرهم دون توقيع عقوبة بهم.

وحبذا تلك البداية الاسترجاعية والتي تضع المتفرّج وجهًا لوجه مع سبب تسمية الفيلم، ففي الرواية يقاسي القارئ مللاً بالغًا وهو يقرأ الرسائل الأربع الأولى (والرواية بأكملها تقوم على عرض الرسائل بين شخصياتها المختلفة، فهي رواية تراسلية Epistolary novel لا تحمل سردًا، بل إخبارًا)، وتلك الرسائل الأربع الأولى (وجميع رسائل الرواية مؤرخة بعام ١٩٤٦ عقب انتهاء الحرب العالمية) تعود إلى جولييت، الكاتبة الإنجليزية الشابة المقيمة في لندن، وهي تحكي لصديقها عن فرحتها بنجاح كتابها الأول، في صلة منقطعة بموضوع الجزيرة، حتى تأتي إليها رسالة من شخص غريب، من جزيرة جيرنزي، يخبرها فيها أنه عثر على كتاب مستعمل يعود لها، عثر على اسمها وعنوانها على صفحة الغلاف الداخلي (ولا تسأل مَن هذا الذي قد يكتب عنوانه على كتبه؟!) ولذلك فهو يسألها إن كانت تملك كتبًا أخرى تعود لنفس المؤلف لأنه أعجبه، ولأنه ضحك كذلك وهو يقرأ أحد مواقف ذلك الكتاب التي تتحدث عن خنزير مشوي، ليجعله الأمر يتذكّر سبب إنشاء جمعية جيرنزي وفطيرة قشر البطاطس، وتنتهي رسالته، لتكتب جوليت له متسائلة عن سر هذا الاسم الغريب لنادي قراءة، ثم تصل رسالة رجل الجزيرة الجديدة بعد سبع رسائل جانبية طويلة بين جولييت وأصدقائها، وعندها يعرف القارئ وقد وصل للصفحة الأربعين من الرواية سبب تسمية الجمعية بهذا الاسم، أخيرًا!

وفي الفيلم والرواية تتصل المراسلات بين هذا الرجل، دوزي، وبين جوليت، وهو يحكي لها عن الجمعية والجزيرة وأهلها، وكيف أن القراءة كانت ملاذهم للخروج من ثقل الاحتلال والحد من الحريات، ثم يحدِّث أعضاء نادي القراءة عن الكاتبة الإنجليزية التي تريد الكتابة عن جمعيتهم الأدبية؛ إذ رأت جوليت أن هذه القصة بأكملها موضوع مثالي يصلح لتناوله في مقالة في صحيفتها، حتى تقرر السفر والالتقاء بهم، وتمضي أحداث الرواية والفيلم إلى نهايتهما السعيدة، وهي، بالطبع، زواج دوزي من جوليت، وإقامتها في الجزيرة، وهذا ليس حرقًا للأحداث، فهو متوقع منذ أن بدأ القارئ يقرأ هذه الخطابات اللطيفة المتبادلة بينهما، ومنذ أن رأى المشاهد هذه الكيمياء بين الاثنين في مشاهد لقائهما، كما أن الفيلم لا ينحصر في هذه النهاية السعيدة، بل إنه يتضمن باقة أخرى من الحكايات عن شخصيات جيرنزي، والتي ستنتهي نهاية سعيدة بدورها، مثل حكايات أفلام الأبيض والأسود قديمًا (من ناحية أخرى فأحداث الفيلم والرواية تدور في عام ١٩٤٦، فهو بذلك من زمن أفلام الأبيض والأسود وعصر الرومانسية الذهبي).

يمتاز الفيلم بمشاهده المرئية الساحرة، المتمثلة في أزياء الأربعينيات الرائقة؛ سواء في بدل الرجال، أو فساتين النساء الرائعة، أو البيوت الدافئة، أو صالات الحفلات، أو الشوارع، والمقاهي، أو بكلمة أخرى المتمثّل في طابع الرقي والأناقة الذي نتحسّر على زواله عندما نشاهد أفلام أنور وجدي وليلى مراد القديمة، كما أن معالم جزيرة جيرنزي ساحرة أيضًا، وأبدع مدير التصوير، زاك نيكلسون في تصوير هذا الجمال البديع للسهل والبحر والسحب المتناثرة فوقه، في مشاهد كثيرة آسرة. لكنني، على الجانب الآخر، رأيت أن هذا الاهتمام البالغ "بصورة" الفيلم، لم يكن في صالح "الكلمة" المروية، فرسائل الرواية في فترة التعرّف بين جوليت من ناحية، وبين دوزي وسائر أهل الجزيرة، وقبل قرار جوليت بالسفر لملاقاتهم، شغلت مساحة وافرة من الرواية (تقريبًا حتى نصف الرواية) وهذا ما رآه، بالطبع، صنّاع الفيلم مما سيبطّيء مسار الحركة في الفيلم، فليس أكثر مللاً من مشاهدة الشخصيات وهي تقرأ أو تكتب الرسائل دون أن تتلاقى، ولذلك فقد اختصر هذا الجزء من الفيلم للغاية، فما إن انتهى الربع الأول من الفيلم حتى رأينا جوليت تشدّ الرحال وتغادر لندن وتركب السفينة لتصل إلى الجزير لتبقى حتى نهاية الفيلم. ولأنني قرأت الرواية أولاً، فقد تعجّبت كثيرًا عندما انتهت فقرة الرسائل بين جوليت ودوزي، بهذه السرعة، قبل سفرها إلى الجزيرة، وأحسست (وأظن أنه الإحساس نفسه للذي اكتفى بمشاهدة الفيلم) بأن هناك شيئًا غير منطقي في ترحيب أهل الجزيرة المبالغ فيه، خصوصًا أعضاء نادي القراءة، بزيارة جوليت لهم للكتابة عن الجمعية الأدبية، ويشبه الأمر أنك قد قمت لتلبي نداء الطبيعة عند بداية أحداث الفيلم وعندما عدت انتبهت إلى أن ثمة أشياء قد فاتتك!

يبقى الفرق بين الصورة والكلمة في هذا العمل في أشياء ستظلّ دائمًا الحدّ الفاصل بين وسيلتي التعبير هاتين، فقارئ هذه الرواية يتخلّق لديه خيال متوزّع بين وجهات نظر الشخصيات في الرواية، فيبني العالم الروائي في نفسه تبعًا لوجهة نظر كل شخصية في رسائلها، حتى يرى خطوط وجهات النظر تتجمّع لديه في النهاية في تشابك حين تصل الرواية المكتوبة إلى نهايتها المرسومة، وهذا يحتاج إلى مساهمة وجهد منه، لأن القارئ هو جزء لا تكتمل القصة إلا به، ومراجعات الرواية على الجودريدز تمتلئ بعدد لا بأس به من التقييمات السلبية، ولا أرى تفسيرًا لهذا التقييم (بالإضافة إلى الذائقة الأدبية المختلفة بالطبع!) سوى أن أولئك القرّاء لم يريدوا أن يبذلوا جهدًا ليكونوا هم ذلك الجزء الناقص من الرواية، فرأوا في الرواية مجموعة من الرسائل الجامدة، لكنها طبيعة تقنيّات الروايات وأثرها في تحفيز الخيال المطلوب إثارته، بينما مشاهد الفيلم لا يحتاج لإرهاق نفسه وإعمال خياله نظرًا إلى لأنه يستعمل بصره في متابعة الفيلم، فهو ليس بحاجة لشيء يحفّز خياله، إذ يرى الخيط الأساسي للفيلم وهو يسير أمامه سيرًا طبيعيًا لا التفاف فيه، ويشاهد قصة منبسطة ذات مشاهد بصرية جميلة، حتى يصل الخيط إلى نهايته المنطقية، وهذا يفسّر (إلى جانب شعبية السينما بالطبع) هذا النجاح اللافت الذي ناله الفيلم منذ إطلاقه على منصة نتفلكس (ولأنه أيضًا من أفلام النهايات السعيدة) ويفسر أيضًا لماذا خاب أمل الكثيرين ممن طالعوا الرواية بعد مشاهدة الفيلم، لعلى الرغم من تسطيحه واختصاره لكثير من قضايا الرواية المكتوبة، ولكن النظرة هي مدخل القلب الأول، كما يرى ابن حزم، ثم تأتي الفكرة.

يقاسي القارئ مللاً بالغًا وهو يقرأ الرسائل الأربع الأولى، فالرواية بأكملها رواية تراسلية لا تحمل سردًا، بل إخبارًا، ، وجميع رسائل الرواية مؤرخة بعام ١٩٤٦ عقب انتهاء الحرب العالمية

القارئ يتخلّق لديه خيال متوزّع بين وجهات نظر الشخصيات، فهو يبني العالم الروائي في نفسه تبعًا لوجهة نظر كل شخصية في رسائلها، حتى يرى خطوط وجهات النظر تتجمّع لديه

يبقى الفرق بين الصورة والكلمة في هذا العمل في أشياء ستظلّ دائمًا الحدّ الفاصل بين وسيلتي التعبير، الكتب والسينما، فالقارئ يتخلق لديه خيال متوزع بين وجهات نظر الشخصيات

«القاهرة ليست خضراء دائمًا».. قالتها الكاتبة صافي ناز كاظم في «مناوشة» لذلك الفيض الشعوري الذي كان يتأمل به محمود درويش العاصمة المصرية بعد وصوله إليها، سألته كيف يراها؟ فأجابها: «القاهرة جميلة، وبها أشجار، إنها خضراء وواسعة، والنيل عريض جدًا»، فخرجت عندها كلمات صافي ناز شجيّة: «ولكن القاهرة ليست خضراء دائمًا»، عندها لاذ درويش بكلمات هذا المنطق: «دعيني أتمتّع بأن ما أراه خذل ما صوّروه عنها».

لم يكن «الشاب» الفلسطيني محمود درويش لدى وصوله للإقامة في مصر عام  ١٩٧١ بالشاعر المجهول، بل كان نجمًا يُشار إليه بالبنان، وتفرد لأشعاره الصفحات الأدبية في العالم العربي، والمقالات المدموغة باسم كبار كتاب هذا العصر للدفاع عن كينونته الشعرية والوطنية، حتى إن وصوله لمصر كان حدثًا عُقد من أجله مؤتمر صحفي شهير، وبشّرت به الصحافة المصرية آنذاك، وربما لقِصر فترة إقامته في القاهرة، لم تكن محطة شائعة الذكر في سيرته، بخلاف محطتي «موسكو» و«بيروت» على سبيل المثال. وكتاب «محمود درويش في مصر: المتن المجهول» للكاتب والصحفي سيد محمود، الصادر أخيرًا عن منشورات «المتوسط -إيطاليا»، يقتفي أثر المكان المصري على مشروع درويش الشعري والصحفي، مع الإضاءة على حالة الحراك الثقافي والسياسي الذي واكب فترة إقامته تلك، فللمكان والزمان معًا هنا خصوصيتهما، أو كما يقول درويش نفسه: «في مصر، لا تتشابه الساعات».

يضع الكاتب فترة إقامة محمود درويش بالقاهرة في قلب السرد التوثيقي للكتاب، يسبقها بتتبع لصعود درويش وقصيدة المقاومة لديه من داخل إسرائيل وسجونها، وصولًا لموسكو المحطة الأوروبية الصاخبة في مسيرته، ومنها للقاهرة عام ١٩٧١، التي يدور في شوارعها الأدبية والفنية والصحفية عالم الكتاب، حتى قرار درويش المغادرة إلى بيروت منتصف العام ١٩٧٢.

 حسب المؤلف فالتحوّلات التي أحدثتها مصر كمكان جديد في نصوص درويش الشعرية، كانت مفصلية؛ إذ صنعت القفزة الرئيسة في تجربته، ولم تجعلها إلى المجهول، فقد تأسّست شعريته في مصر على قاعدة صلبة، وأتيح له المجال واسعًا لاختبارها أمام مجايليه من شعراء الموجة الثانية لقصيدة التفعيلة، فضلاً عن الإنصاف النقدي من أسماء مثل لويس عوض ورجاء النقاش وغالي شكري وعبد القادر القط، ما ساعده على مساءلة نصوصه، والدفع بها إلى فضاءات أعمق، ثم تحريرها من طابعها المباشر وأفقها الرومانسي، وقت كان المناخ الثقافي للقاهرة القلقة حافلاً بكل أشكال الغضب ونزعات التمرّد الطامحة إلى ميلاد أدب جديد.

تبشير غسان كنفاني

يُمهّد الكتاب في تسلسل سردي أفقي للمشهد الذي خرجت منه «ظاهرة» محمود درويش، بداية من فصول مقاومته الاحتلال من داخل إسرائيل، تحت لواء الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي كان وقتها يضم أسماء أدبية باسلة، ومن هنا التقط غسان كنفاني في الصحف والمجلات التي كان يصدرها الحزب كنوزًا لعدد من شعراء منهم سميح القاسم ومحمود درويش، حتى إن الكتاب ينقل على لسان الكاتبة البارزة صافي ناز كاظم، حالة الافتتان التي كانت تغمر الراحل غسان كنفاني بقصيدة محمود درويش «سجّل أنا عربي»، يُرددها بكل جوارحه، آمن بدرويش حتى إنه كان أول من أطلق لفظ «شعراء الأرض المحتلة»، الذي تقول صافي ناز إنها سمعته للمرة الأولى على لسان كنفاني مطلع عام ١٩٦٧ في بيروت، تقول «كان غسان يتكلم فرحًا بشوشًا متوقدًا بالبلاغة والحماسة والتأثر حول بحثه وكشفه ووسائله الفدائية، ليحصل على قصائد شعراء الأرض المحتلة»، أما الكاتبة المصرية نفسها فتُعلق في معرض تذكرها لشغفها المبكر وشغف كنفاني بشعر درويش «لم نفكر لحظة في محاكمته بميزان النقد البارد، كان الأمر بالتحديد يتماثل مع فرحة من عثر على بقية أهله أحياء تحت الأنقاض».

 لمع اسم درويش بعد هزيمة ١٩٦٧ وترددت أصداء أشعار المقاومة التي كتبها على مسامع العالم العربي، بفضل دواوينه التي توالت بغزارة في هذه الفترة، وما واكبها من «تبشيرات» صحافية يستعرضها الكتاب كسرديات يمكن بها الوقوف على التطور الذي يتزامن مع صعود نجم درويش، منها مقال للكاتب اللبناني خليل خوري الذي يُشيد فيه بالشاعر الشاب درويش «عند محمود درويش لا تأمل للحياة، بل للحياة نفسها، لا التصفيق للمقاتلين، بل خوض المعركة، لا حافة الرصيف، بل السير في زحام الشارع، هي وحدها التي تمنح الشعر مذاق الدم والوجود». 

سكين «صوفيا»

إلا أن هذا التبشير ارتطم بقرار دوريش السفر ضمن وفد خرج من إسرائيل للمشاركة في مؤتمر ومهرجان الشببية المُنعقد في «صوفيا»، وهنا انقلبت الآية وبدأت نبرة التنديد بشعره، والتخوين، في مقابل مكاسب كثيرة حققها بهذه المشاركة فكما يطرح الكتاب «أتاح له المؤتمر فرصة الخروج للمرة الأولى من إسرائيل بصفته الشاعر إذ كان ضمن أفراد وفد غير رسمي، تمت دعوته لحضور المهرجان، كما مكنه ذلك من إجراء أول تواصل مباشر مع أعضاء الوفود العربية»، وظل السجال محتدمًا وحارًا، استوعبته ربما بعض الأصوات الهادئة التي أبدت تعاطفًا مع حالة أبناء الأراضي المحتلة، وإشكاليات الشعراء العرب المقيمين في إسرائيل، وظلت تلك المحنة واتهامات الخيانة يتذكرها درويش وسميح القاسم في رسائلهما المتبادلة على صفحات مجلة «اليوم السابع» الباريسية قبل نشرها في كتاب، يقول سميح لدرويش «يوم خرجنا إلى صوفيا، مُفعمين بشهوة العناق، قعدنا، وفي ظهرنا سكين الشائعة الدامية، وما دمنا نذكر، فسنتذكر دائمًا وأبدًا تلك الوقفة النبيلة التي اكتشفها آنذاك رفيقنا وحبيبنا وشهيد قضيتنا غسان الكنفاني الذي لم ينتظر التفاصيل، بل أدركها بحسّه الوطني السليم، فهّب  مدافعًا عن جناحي الشعر القادم، كما لقبّنا مشكورًا إلى دهر الداهرين».

تمر الرحلة التوثيقية للكتاب بعد أزمة «صوفيا»، إلى وصول محمود درويش إلى موسكو، ويصنع المؤلف خيطًا موازيًا بين تلك الرحلة، وبين أصداء تنقلات درويش في صحف القاهرة، حيث وجدت نصوص محمود درويش الشعرية مكانًا في قلب السجال الشعري في مصر، بعد أن قدمته الصحافة الأدبية كنجم ساطع، قبل أن يصل للقاهرة فعلاً، فيما يرصد كيف أسهم  الخطاب السياسي آنذاك في دعم محمود درويش، مع اعتبار الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر أن قضية فلسطين هي القضية المركزية في خطابه السياسي، وأبرز مكونات خطاب القومية العربية الذي روّج لها، وضاعف من وهج هذا الخطاب هزيمة حرب يونيو ١٩٦٧، الذي جعل الخطاب المعني بالأرض وتحريرها هو الأعلى صوتًا، وانعكس بدوره على دعم غير مسبوق للمقاومة الفلسطينية ورموزها.

ترى انعكاس هذا الخطاب في مطبوعات مؤسسة «الهلال» العريقة وهي تفتح صفحاتها أمام الإبداع الأدبي الفلسطيني، وتولى غسان كنفاني حالة التبشير المُحببة لديه بمحمود درويش عبر مقالات كرر فيها وصفه لدرويش بالعلامة الطليعية، وامتد الاهتمام بدرويش بقلم الكاتب والناقد رجاء النقاش، والشعراء محمد إبراهيم أبو سنة، وصلاح عبد الصبور الذي كتب مقالا شهيرًا عن درويش عنوانه «القديس المقاتل»، وفي هذه الفترة كان درويش يُعاني لا زال من أزمة «صوفيا» التي خرج بعدها إلى «موسكو» متشبثًا بفرصة لإعداد الكادر الحزبي في معهد الماركسية اللينينية، ومنها إلى الأراضي المحتلة من جديد ليتعرض لحصار جديد، وإقامة جبرية حتى سمحت له القوات الإسرائيلية بالمغادرة إلى موسكو من جديد في مارس ١٩٧٠، وفي هذه المرة في موسكو يمر الكتاب على تفاصيل ترتيب وصوله للقاهرة ليبدأ محطة عربية جديدة.

طفل جائع

وصل درويش مصر وظهر في مؤتمر صحفي في فبراير ١٩٧١ ليُعلن استقراره بها، وبداية أيامه القاهرية، وعقب وصوله مباشرة عيِّن درويش مستشارًا ثقافيًا لإذاعة «صوت العرب»، ليبدأ بالتدريج في استكشاف انطباعاته الشعورية حول تلك المدينة، يقول «أحببت القاهرة كما أحب حيفا، ووجدت أن جمال القاهرة كان مشوبًا بالحزن، كأنك تشعر أن في قلبها شيئًا مكسورًا».

كان الحديث الصحفي الأول الذي يجريه درويش في القاهرة مع الكاتبة الصحفية صافي ناز كاظم، الذي يُبرز الكتاب مقاطع منه، ومقاطع من حوارات ممتدة معها عن تصوراته عن القاهرة كحلم قبل أن يصير واقعًا، يقول لها درويش: «في القاهرة ما زلت أحلم، مدينة بأكلمها تتحدث العربية، عقلي يعرف ذلك منذ زمن بعيد، لكن شعوري المادي بالحقيقة أول مرة، أريد أن أعرف الشوارع والوجوه والأصوات».

وصف درويش نفسه في الحوار ب»الطفل الجائع» الذي وجد أمامه دفعة واحدة طبقًا مليئًا بالحلوى واللحوم، وألف يد تطعمه، متلبك، مزدحم، لا أعرف كيف أقول «هل تعرفين رغبة ضم الأشياء حتى لا تفقدينها، لأن شعورك الراسخ أنك مهددة بالفقدان».

في القاهرة تتزاحم دائمًا الأصوات الأدبية والصحفية والشعرية والسياسية، ووسط هذا الزحام يسطع نجم «الأب الروحي» أو قُل الحارس لرحلة درويش، وهو الكاتب الصحفي الاستثنائي أحمد بهاء الدين: «ربما يتشابه هذا الدور، إلى حد كبير، مع الدور الذي لعبه الشيخ «أبو العلا محمد» في حياة «أم كلثوم»، وواصله شيخ الأزهر «مصطفى عبد الرازق»، فالأول أقنعها حين التقى بها للمرة الأولى أن مساحة صوتها أكبر من حدود قريتها، وعلّمها الثاني أن الموهبة تحتاج إلى عقل وصيانة لكي تُدار بشكل صحيح».

وهنا كان موعده مع إدارة موهبته في المسار الذي يريده، فقد آمن درويش في هذا الوقت أنه سفير فلسطين للعالم في تلك اللحظة التاريخية، وراهن على أن تكون القاهرة هي وجهته بعد أن انتهت مرحلة موسكو، وفي الوقت ذاته كان مُدركًا بحسه الفطن أن تصديره طيلة الوقت تحت لافتة «الشاعر البطل المقاوم» ستصيبه بخسائر على الصعيد الفني، فيقتبس مؤلف الكتاب إحدى تصريحات درويش لفؤاد مطر يقول فيها: «أرجو أن تضعوني في حجمي الطبيعي، وأرجو أن أنسحب من هذه الأضواء المُبالغ فيها، أنا لست سياسيًّا مُحترفا، كما صورتي بعض الصحف العربية في الأسابيع الأخيرة إلى درجة المبالغة وإلى حد مطالبتي بحمل كل القضية الفلسطينية» .

ومع ذلك كان الناقد اللبناني شربل داغر يقول إنه من المؤكد أن أفراد النخبة المصرية النشيطة أمثال أحمد بهاء الدين ومحمد حسنين هيكل ولطفي الخولي كانوا منتبهين لحاجتهم لدرويش في تلك السنوات التي شهدت حرب الاستنزاف، فقد كان تلميع الشاعر يساهم دون شك في هذه السياسة «الرمزية» أي سياسة «الحرب بالصورة».

نجيب محفوظ ورفاق القاهرة

ويُبرز الكتاب مقالات تنشر للمرة الأولى لدرويش كتبها في صحيفة «الأهرام» التي تُظهر كثيرًا من آرائه السياسية والشعرية في تلك الفترة، وهي مقالات كتبها في القاهرة واستمر في مراسلة صحيفة «الأهرام» بها حتى بعد مغادرة القاهرة، وتنقسم إلى مقالات في التحليل السياسي، وحول الشخصية الإسرائيلية، وتغطيات مؤتمرات ومشاركات أدبية حول الشعر، وجميعها تمنح القارئ فرصة للتعرف على مُجمل تصوراته الفنية والسياسية في تلك الفترة.

ويُظهر الكتاب ملامح حياة درويش كفتى مُدلل للدولة المصرية، ومن مظاهر ذلك إقامته في فندق «شبرد» الشهير الذي يُطل على النيل، الأمر الذي ألّب عليه بعض الأصوات، فينقل الكتاب عن صافي ناز كاظم كيف أن الدائرة الرسمية التي أحاطت بدرويش أوغرت صدر بعض شعراء مصر النابغين المفلسين الجالسين على مقهى «ريش»، وأيّد هؤلاء منطق الشاعر والمسرحي نجيب سرور: «اشمعنى محمود درويش مدلل في فندق شبرد، طيّب ما إحنا كمان شعراء الأرض المحتلة».

وراجت أيضًا في تلك الفترة أغنية للثنائي «أحمد فؤاد نجم» و«الشيخ إمام»، في أوساط المثقفين، يزعم البعض أنها كانت تسخر من درويش ومن الإمعان في تدليله، وهنا يرى الكتاب أن درويش كان يحاول تجنب تلك المناوشات أو ما يمكن وصفها بالفضاءات الثقافية الشعبوية ليتفادى الاحتكاكات مع المثقفين الذين لم يقبلوا برعاية الدولة لموهبته، لكن في المطلق لم يحرم نفسه من بناء صداقات مع بعض وجوه الحركة الطلابية والشباب المبدعين الذين كانوا في مثل عمره.

ومع انتقاله من العمل في «صوت العرب» إلى صحيفة «الأهرام» اتسعت دوائر درويش بشكل كبير،  وتحدث عن سعادته بفرصة وجوده في مبنى «الأهرام» الصحفي العريق، الذي أتاح له فرصة مُجاورة عمالقة مثل نجيب محفوظ، الذي يروي درويش بطرافة كيف أنه كان آية في الالتزام والدقة في المواعيد، حتى إنه إذا أراد أن يسأله: هل تريد فنجان قهوة يا أستاذ نجيب؟ كان ينظر إلى ساعته قبل أن يجيب درويش ليعرف إذا كان وقت القهوة قد حلّ أم لا.

وفي حوار مع  الكاتب والشاعر اللبناني عبده وازن، بعد أكثر من ثلاثين عامًا على مغادرة القاهرة، تحدث درويش عن فرصة عمله في طابق «الكبار» في «الأهرام» «عينني محمد حسنين هيكل مشكورًا في نادي كُتّاب الأهرام، وكان مكتبي في الطابق السادس، وهناك مكتب توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وبنت الشاطئ، وكان توفيق الحكيم في مكتب فردي ونحن البقية في مكتب واحد، وعقدت صداقة عميقة مع محفوظ وإدريس، الشخصيتان المتناقضتان».

وفي الحوار ذاته، عبّر درويش عن أسفه أو «سوء حظه» على حد تعبيره، لعدم لقائه طه حسين خلال وجوده في القاهرة، وكذلك أم كلثوم «حسرتي الكبرى أنني لم ألتقِ بهذه المطربة الكبيرة».

في القاهرة أيضًا تحقق أمل درويش بلقاء الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي، الذي استطاعت صافي ناز كاظم، استطاعت ترتيب أول لقاء يجمع بين الشاعرين؛ وكان ذلك في أحد شوارع القاهرة القديمة «الغورية» في لقاء لا زالت صوره تتداول على صفحات التواصل الاجتماعي إلى اليوم بفيض من الحنين لزمن الشاعرين وعالميهما.

ينقل الكتاب عن محمود درويش قوله «مدين في تطوري وتحولاتي الشعرية لخروجي، فقد خرجت إلى أفق أوسع، وإلى تجربة أغنى، هي تجربة الواقع المُعقد الغني بالتناقضات والمفارقات والروح الشعبية التي لم تعبر عن نفسها».

ولعل فكرة «الخروج» بمعناها الرحب الذي ورد في كلمة درويش السابقة، تحمل ضمن دلالاتها فرص احتكاك درويش بشعراء القاهرة، وهو ما فتح المجال واسعاً أمامه لاختبار نصوصه الشعرية أمام مجايليه من شعراء الموجة الثانية لقصيدة التفعيلة، أمثال أمل دنقل ومحمد عفيفي مطر ومحمد إبراهيم أبو سنة، وحسب سيد محمود فقد صادق درويش الشعراء الذين كان يحبهم: صلاح عبد الصبور، وأحمد عبد المعطي حجازي، وعبد الرحمن الأبنودي، وصلاح جاهين، وأمل دنقل (كتب مرثية للأخيرين) ووصفهم بـ«القريبين جدًا».