عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

هموم

عصام زكريا

حالُه أصعب من السينما: أبو الفنون يبحث عن أرشيف!

2021.04.01

حالُه أصعب من السينما:  أبو الفنون يبحث عن أرشيف!

لم أكن أتوقع أن أبدأ هذا المقال بخبر سعيد.. عندما شرعت في البحث عن مصادر الأرشيف المسرحي في مصر، كنت أعرف أن المسرح في مصر، مثل غيره من الفنون، يتيم، لا متحف يجمع مقتنياته القديمة، ولا مؤسسة تعني بطبع وحفظ وأرشفة الأعمال المسرحية، وحتى الأعمال التي صورت قبل وبعد ظهور التليفزيون لا توجد جهة تجمعها وتحفظها، والأعمال التي أنتجها أو صورها أو حصل على شرائطها التليفزيون المصري ضاعت أو تلفت مثل معظم أرشيف التليفزيون، ولم يبق سوى فتات أعمال قليلة حالتها سيئة.

أرشيف المسرح أصعب

مقارنة بالسينما، فالمسرح أتعس حظًا بكثير. مجرد وجود الفيلم وثيقة وبرهان وجود، ولو لم يتعرض نيجاتيف شريط الفيلم لمصيبة كبيرة تدمره كليًّا أو جزئيًّا، فإن الفيلم يبقى مقاوما محاولات الطمس والنسيان، في انتظار من يعثر عليه أو يشاهده. أما المسرحية فتنتهي، وتختفي، وكأنها لم توجد قط، بمجرد إسدال الستار على الممثلين. وكل ليلة عرض هي مولد جديد للعرض المسرحي، وموت له.

تختلف المسرحية عن الفيلم في كون النص المسرحي عمل إبداعي مستقل بحد ذاته، بينما كل إنتاج وإخراج للنص، وكل مرة عرض له، هي نسخ من النص الأصلي، أو ترجمات له، أحيانًا تتعمد مخالفة النص ونقضه، كما نرى على سبيل المثال في النسخ اللانهائية التي تصنع عن أعمال شكسبير، وكثيرًا ما تحمل تأويلات مختلفة حتى تبدو أحيانًا وكأنها اقتبست من نصوص مختلفة!

يقال إن المسرح يختلف عن سائر الفنون لضرورة وجود متلقٍ يكمل الحالة المسرحية، فالسينمائي قد يصنع فيلمه ولا يراه، والمؤلف الموسيقي قد يؤلف مقطوعته ولا يسمعها، وكذلك الرسام والأديب، ولكن المسرح ينتمي للأدب كما ينتمي لفنون الأداء، مثل الرقص والغناء، ولا يمكن أن يوجد رقص أو غناء أو عرض مسرحي دون جمهور! وعندما نتحدث عن أرشيف المسرح، فنحن نقصد شيئًا آخر غير الأرشيف السينمائي أو أرشيف فني آخر. نحن نتحدث عن أرشيف الوثائق المتعلقة بوجود المسرحية من شتى جوانبها، كنص وعرض وحالة.

سبعة أوجه للأرشيف المسرحي

هناك سبعة مجالات ينبغي أن نضعها في اعتبارنا حين نتحدث عن أرشيف المسرح.

أولاً: أرشيف النصوص المسرحية، وهو مجرد جزء صغير من تاريخ المسرح، لأن النص قد يوجد ولا يتم إنتاج المسرحية على المسرح أبدا. وهي قد تقرأ جيدا، أو لا تقرأ على الاطلاق. يعتبر أرشيف النصوص المسرحية المنشورة هو جزء من تاريخ الأدب المكتوب، ولكن هذا ليس صحيحا دائما، فهناك ما يعرف بالنصوص الشفهية، أو التي كانت تكتب ويتم تعديلها طوال الوقت أثناء العرض، أو نصوص المسرحيات التي لم تنشر قط. يحفل تاريخ المسرح بالكثير من العروض المسرحية والشعبية التي ليس لها نصوص منشورة. بعضها من زمن ما قبل أهمية طبع ونشر النص المسرحي، حين كانت المسرحيات تكتب لتمثل على المسرح فقط، وليس لتنشر كنصوص، وحتى أعمال شكسبير هناك خلاف عليها: إذ يوجد شكوك في انتماء بعض المسرحيات المنشورة له، ويوجد شكوك حول وجود نصوص مسرحيات أخرى كتبها ولم تنشر. وينطبق هذا الوضع أكثر على العروض الشعبية، والأعمال الرائدة، وحتى الأربعينيات من القرن الماضي شهدت وجود عروض مسرحية لم تنشر نصوصها، ولا يوجد نسخ منها. وجزء مهم من أرشيف وتاريخ المسرح هو البحث عن هذه النصوص المفقودة، ونشرها، وجدير بالذكر أن هيئة المسرح التابعة للدولة قامت في وقت من الأوقات بطبع بعض هذه الأعمال لرواد المسرح المصري، ولكنها توقفت، وهناك بعض الجهود الفردية؛ مثل جهود الباحث سيد علي إسماعيل لنشر مخطوطات بعض المؤلفين مثل محمد علي جمعة، ومصطفى ممتاز وعباس حافظ. ولكن تظل هذه الجهود مبعثرة طالما لا يوجد مؤسسة متخصصة في جمع هذه النصوص وأرشفتها ذلك. ومن المدهش أنه في الوقت الذي تتوفر فيه أعمال من بدايات القرن التاسع عشر لرواد مثل يعقوب صنوع، ومارون النقاش، فإننا لا نجد نصوص مسرحيات كثيرة من ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين.

ثانيًا: تاريخ العروض المسرحية. الوثائق التي تدل على أن المسرحية تم إنتاجها بالفعل، على مسرح محدد في مكان وزمن محددين. وقد تعرض المسرحية مرة واحدة، أو تعرض مئات المرات على مسارح مختلفة، بممثلين مختلفين، ومنتجين ومخرجين مختلفين. وتوثيق هذه العروض من أصعب ما يكون، ويكتفي مؤرخو المسرح غالبا بتوثيق تاريخ العرض الأول، أو عدد ليالي العرض مجتمعة، وإذا توفرت صور فوتوغرافية للعرض فربما تكون أخذت خلال عرض واحد أو على مدار عروض عدة.

ثالثًا: التصوير الفيلمي والفيديو هو أفضل توثيق ممكن للعرض، مع الوضع في الاعتبار أن هذا التصوير لمرة عرض واحدة. ربما يتغير الممثلون، ربما يتغير الأداء، ربما يتغير الإخراج، على مدار مرات العرض، ولكن التصوير لن يستطيع أن يوثق سوى مرة عرض واحدة.

رابعًا: التوثيق الكتابي، أي الوثائق المكتوبة التي تبرهن على وجود العرض المسرحي، وأسماء صناعه، واستقباله الجماهيري والنقدي، وردود الفعل المجتمعية عليه، وتقارير الرقابة عنه، والتغيرات التي ربما طرأت عليه بمرور الوقت، كتغيير ممثل، أو مشهد، أو ديكور.. إلخ.

هذه الوثائق الكتابية لا غنى عنها فيما يتعلق بالتأريخ للمسرح على عكس الفنون الأخرى، التي يكفي وجودها لإثبات وجودها، على عكس الفنون الأدائية كما ذكرت، التي تتلاشى بعد الانتهاء من أدائها. نحن نعلم أن ممثلاً معينًا برع في أداء «هاملت» أو «الملك لير» من خلال ما كتب عن العرض في أيام كثيرة. حتى لو صوِّر العرض مرة، فليس هذا دليلاً كافيًا على براعته الدائمة، وهو ما ينقلنا للنقطة الخامسة.

 خامسًا: التوثيق لردود فعل المتلقين. يحدثنا أرسطو عن رد فعل جمهور اليونان القديمة على «أوديب» سوفوكليس، ويستنتج من خلال ذلك وظيفة التراجيديا الرئيسية وهي «التطهير»، ثم يرصد ردود فعل الجمهور على مسرحيات أرسطوفانس الكوميدية ويحدد وظيفة الكوميديا. إن رصد أشكال التلقي أمر مهم في التأريخ لكل الفنون، ولكن فيما يتعلق بالمسرح فهو أمر لا غنى عنه، ولا يكتمل فهم أهمية عمل مسرحي ما، دون رصد هذا التلقي، خصوصًا وأن العروض المسرحية، كما ذكرت، غالبًا ما يجرى عليها تعديل وتطوير شكل تنفيذ النص، وأحيانًا تعديل النص نفسه، بحسب ردود أفعال الجمهور. وتلعب الصحافة الفنية بوجه خاص دورًا أساسيًّا في توفير المعلومات عن ردود الفعل في زمن العرض المسرحي والمقالات النقدية حوله، بجانب الأرقام الموثقة لعدد المشاهدين لكل مرة عرض.

سادسًا: متاحف المسرح، التي تعنى بحفظ مخطوطات النصوص ومخططات الإخراج والديكورات والملابس والأكسسوارات التاريخية الخاصة بالمسرحيات البارزة وصناعها، وبعض هذه المتاحف قد يكون مخصصًا لأعمال فنان بعينها، أو فرقة بعينها، أو فترة تاريخية محددة.. إلخ.

سابعًا: مكتبة المسرح التي تعنى بإصدار وحفظ وأرشفة المعلومات المطبوعة عن تاريخ المسرح وأعلامه والموسوعات المسرحية والكتب النقدية وذلك لتسهيل أعمال الباحثين والراغبين في الاطلاع.

أخيرًا.. موسوعة تليق بالمسرح المصري

لم أكن أتوقع أن أبدأ هذا المقال بخبر سعيد. ولكن ها أنا أختمه باالخبر الذي كنت أنوي أن أبدأ به: أخيرًا أصدرت الهيئة العامة للكتاب «موسوعة المسرح المصري المصورة»؛ للمخرج والممثل والباحث الدكتور عمرو دوارة، وهي موسوعة تتكون من سبعة عشر جزءًا، قضى دوارة أكثر من عشرين عامًا في إعدادها، وتضم قائمة تفصيلية بكل ما عثر عليه الباحث من مسرحيات عرضت في مصر خلال قرن ونصف القرن، منذ ظهور المسرح بمعناه الغربي في مصر، مرتبة ترتيبًا أبجديًّا، وكل مسرحية مزودة بمواد تفصيلية عنها بجانب كثير من الصور بمعدل ثلاث صور لكل عرض. هذه الموسوعة ظلت تبحث عن ناشر لعدة سنوات، وكان من الصعب بالطبع أن يقوم ناشر خاص بإصدارها بسبب التكلفة، ولحسن الحظ أن الهيئة العامة للكتاب انتبهت إلى هذا المرجع المهم، الأول من نوعه. على أية حال وجود هذه الموسوعة يؤكد أن الجهود الفردية لعشاق الفن والثقافة المخلصين هي التي تبقي جذوة الأمل مشتعلة، وتثبت أن كل حلم ممكن إذا توفر لتحقيقه بعض الدعم والتشجيع من الجهات الحكومية أو الخاصة التي تستطيع أن تدعم، ونحلم بان نرى قريبًا متحفًا ضخمًا للسينما وآخر للمسرح كي ننقذ ما يمكن إنقاذه من تراثنا الفني الذي يباع يوميًّا لأفراد وجهات داخل وخارج مصر!