عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

هوامش

أشرف إبراهيم

إسرائيل بين نيران غزة وتصدعات الذات: مجتمع علي حافة الانفجار

2025.08.17

مصدر الصورة : آخرون

إسرائيل بين نيران غزة وتصدعات الذات: مجتمع علي حافة الانفجار

 

في زمنٍ تتكاثف فيه الغيوم فوق سماء الشرق الأوسط، وتشتعل الأرض تحت أقدام الأبرياء، تقف إسرائيل أمام مرآة الحرب الطويلة مع غزة، لا لترى انتصارًا عسكريًا، بل لتواجه شروخًا متنامية في جدارها الاجتماعي والسياسي، تهدد بتفكك داخلي قد يكون أكثر فتكًا من أي صاروخٍ أُطلق من الجنوب.

لم تكن الحرب الإسرائيلية على غزة مجرد مواجهة عسكرية مع حركة حماس، بل كانت كاشفة لواقع داخلي أكثر تعقيدًا، حيث برزت الانقسامات العرقية والسياسية داخل المجتمع الإسرائيلي على نحو غير مسبوق. فبينما يرى غالبية اليهود الإسرائيليين أن الحرب ضرورة أمنية لا بد منها، يعبّر المواطنون العرب عن رفضهم القاطع للنهج العسكري، مطالبين بحلول سياسية وإنسانية تُراعي حقوق الإنسان وتُعيد الاعتبار للعدالة.

هذا التباين في الرؤية لا يعكس فقط اختلافًا في الموقف من الحرب، بل يكشف عن أزمة هوية وطنية عميقة. فالعرب الإسرائيليون، الذين يشكّلون نحو 20٪ من السكان، يعيشون في ظل تهميش سياسي واجتماعي، ويُنظر إليهم غالبًا كـ"طابور خامس" في أوقات التصعيد، رغم كونهم مواطنين يحملون الجنسية الإسرائيلية. الحرب الأخيرة عمّقت هذا الشعور بالاغتراب، ودفعت كثيرين منهم إلى إعادة التفكير في علاقتهم بالدولة، وفي جدوى المشاركة السياسية ضمن نظام لا يعترف بهم إلا عند الحاجة الأمنية.

أما على الصعيد السياسي، فقد تهاوت "وحدة الحرب" التي سادت بعد هجوم أكتوبر، وتراجعت نسبة التضامن الاجتماعي من 54٪ إلى 26٪ خلال أقل من عامين، وفق استطلاعات الرأي. هذا الانهيار في الشعور بالوحدة يعكس تآكل الثقة بين مكونات المجتمع، ويُظهر أن الحرب، بدلًا من أن توحّد الصفوف، قد عمّقت الانقسامات، وفضحت هشاشة التماسك الداخلي.

الصحفي اليساري جدعون ليفي عبّر عن هذا التصدع بوضوح حين كتب: "إسرائيل لا تحارب من أجل أمنها، بل من أجل كبرياء سياسي مريض. كل يوم يمر دون وقف إطلاق النار هو يوم إضافي من العار الوطني."

الانقسام لا يقتصر على العرب واليهود، بل يمتد إلى داخل المجتمع اليهودي نفسه، بين المتدينين والعلمانيين، وبين اليمين واليسار، وبين سكان المركز وسكان الأطراف. هذه التصدعات، التي كانت كامنة، انفجرت بفعل الحرب، وظهرت في شكل احتجاجات، وانقسامات حزبية، وتراجع في الثقة بالمؤسسات، خاصة الحكومة والجيش.

صوت الشارع يعلو فوق صوت المدافع

في قلب تل أبيب، وعلى أرصفة القدس، وفي ميادين حيفا ويافا، خرج عشرات الآلاف من الإسرائيليين يهتفون: "أعيدوهم الآن"، مطالبين بوقف الحرب والتفاوض لإطلاق سراح الرهائن. لم تكن هذه التظاهرات مجرد تعبير عن الغضب، بل كانت إعلانًا صريحًا عن انكسار الثقة بين الشعب والحكومة، وعن رفض متزايد لاستمرار الحرب التي باتت تُثقل كاهل المجتمع الإسرائيلي نفسيًا وسياسيًا.

الاحتجاجات لم تكن حكرًا على النشطاء أو المعارضين التقليديين، بل شملت ضباطًا في الجيش، وطلابًا، وأكاديميين، وحتى عائلات الرهائن الذين اتهموا الحكومة بالتقاعس، بل بالخيانة، حين فضّلت التصعيد العسكري على التفاوض. هؤلاء المحتجون لم يطالبوا فقط بوقف إطلاق النار، بل طالبوا بإعادة تعريف أولويات الدولة، وبوضع الإنسان قبل العقيدة، والرهينة قبل الراية.

الاحتجاجات الإسرائيلية، رغم قوتها واتساعها، تواجه تحديات كبيرة. فالحكومة، المدعومة بتحالف يميني متشدد، تواصل تجاهل المطالب الشعبية، وتُمعن في استخدام القوة، ليس فقط ضد غزة، بل ضد المتظاهرين أنفسهم. الاعتقالات، والتضييق الإعلامي، ومحاولات التشويه، كلها أدوات تُستخدم لإسكات صوت الشارع، لكنها في الوقت ذاته تُغذي الغضب، وتُعمّق الانقسام الداخلي.

اللافت أن هذه الاحتجاجات لم تعد تُعبّر فقط عن موقف سياسي، بل باتت تُجسّد أزمة أخلاقية عميقة. فالمواطن الإسرائيلي، الذي كان يُربّى على فكرة "الدولة الأخلاقية"، يجد نفسه اليوم أمام مشاهد دمار وقتل لا يمكن تبريرها، ويبدأ في طرح أسئلة وجودية عن معنى الوطن، وعن حدود الدفاع، وعن ثمن الصمت.

صوت الضمير في زمن الحرب

في خضم العنف المتصاعد، وبين ضجيج المدافع وصمت المجتمع الدولي، تنهض بعض الأصوات من الداخل كصوت نادر للضمير، يرفض أن يُختزل الصراع في معادلة أمنية، ويصرّ على أن الحرب ليست فقط معركة حدود، بل اختبار أخلاقي لمجتمعٍ يزعم "الديمقراطية" ويعيش على حافة التناقض.

اللواء الاحتياط يائير جولان، الذي خدم في قلب المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، لم يتردد في كسر الصمت، قائلًا: "الدولة العاقلة لا تقتل الأطفال كهواية، ولا تدير حربًا ضد المدنيين، ولا تسعى إلى تهجير السكان."

كلماته، التي جاءت من داخل النظام، كانت بمثابة صفعة على وجه الخطاب الرسمي، وصرخة في وجه من يبرر القصف باسم الدفاع، متجاهلًا أن الضحية الأولى هي الإنسان، لا المقاتل.

اليسار الإسرائيلي، رغم تهميشه السياسي، يواصل نضاله عبر منظمات مثل "نقف معًا" و"المقاتلون من أجل السلام"، التي تجمع بين العرب واليهود في مشاريع مشتركة، تسعى إلى بناء جسور بدلًا من الجدران، وإلى استعادة إنسانية ضاعت في زحمة الشعارات القومية.

ضمير الإنسانية في وجه الحرب

في زمنٍ تتكالب فيه المصالح، وتُختزل فيه المآسي في أرقام وتقارير، ينهض اليسار العالمي كصوت أخلاقي، ليضع الحرب الإسرائيلية على غزة تحت مجهر الضمير الإنساني. لم تكن مواقف المفكرين اليساريين مجرد تعاطف عابر، بل كانت صرخات فكرية عميقة، تُدين العنف، وتُعيد الاعتبار للإنسان الفلسطيني كقضية وجودية تتجاوز الجغرافيا والسياسة.

الفيلسوفة الأمريكية جوديث بتلر، التي طالما دافعت عن حقوق المهمّشين، لم تتردد في وصف ما يحدث في غزة بأنه إبادة جماعية، مؤكدة أن استهداف المدنيين لا يمكن تبريره تحت أي ذريعة أمنية. كلماتها جاءت كصفعة أخلاقية في وجه الخطاب الرسمي الذي يُبرر القصف بالرد على الإرهاب، متجاهلًا أن الأطفال والنساء والمستشفيات لا علاقة لهم بالمعارك.

أما المفكر السلوفيني سلافوي جيجك، فذهب أبعد من ذلك، حين اعتبر الحرب إعادة إنتاج لأسطورة التفوق الأخلاقي الإسرائيلي، التي تُستخدم لتبرير كل انتهاك. في نظره، إسرائيل لا تدافع عن نفسها، بل تُعيد صياغة سردية استعمارية تُحوّل الضحية إلى تهديد، وتُشرعن العنف باسم البقاء.

المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي، أحد أبرز رموز اليسار العالمي، وصف أنصار إسرائيل بأنهم أنصار لانحطاطها الأخلاقي، مؤكدًا أن ما يحدث في غزة ليس دفاعًا، بل إذلال ممنهج لشعبٍ محاصر. تشومسكي، الذي قضى حياته في فضح الإمبريالية الغربية، يرى في الحرب على غزة نموذجًا صارخًا لانهيار القيم الليبرالية حين تُختبر أمام مصالح القوة.

أما إدوارد سعيد، المفكر الفلسطيني الأمريكي، فقد كتب قبل رحيله أن الرواية الفلسطينية ليست مجرد سردية مضادة، بل هي كشفٌ لزيف الرواية الإمبريالية التي تُخفي الاحتلال خلف خطاب الأمن. سعيد، أدرك أن القضية الفلسطينية ليست فقط قضية أرض، بل قضية سردية تُخاض في الإعلام والجامعات والمكتبات، قبل أن تُخاض في الميدان.

هذه الأصوات، رغم بعدها الجغرافي، تُشكّل جبهة فكرية مقاومة، تُعيد تعريف الصراع لا بوصفه نزاعًا حدوديًا، بل بوصفه اختبارًا أخلاقيًا للعالم. فاليسار العالمي، في لحظته الراهنة، لا يُطالب فقط بوقف إطلاق النار، بل يُطالب بإعادة الاعتبار للعدالة، وبكسر احتكار الرواية، وبفضح التواطؤ الدولي الذي يُغلف القتل بالشرعية.

أزمة وجودية

لم تعد إسرائيل تواجه خطرًا خارجيًا فحسب، بل باتت تواجه سؤالًا داخليًا أكثر تعقيدًا: من نحن؟ هل نحن دولة ديمقراطية تسعى للسلام، أم كيان عسكري يعيش على منطق القوة؟ هذا السؤال لم يعد مجرد جدل فلسفي في أروقة الجامعات، بل أصبح محورًا يوميًا في الإعلام، وفي ساحات الاحتجاج، وفي ضمير المواطن الإسرائيلي نفسه.

لقد كشفت الحرب على غزة عن أزمة هوية عميقة، تتجاوز حدود السياسة والأمن، لتطال جوهر المشروع الصهيوني ذاته. فالدولة التي تأسست على وعد "الحرية والعدالة لليهود"، تجد نفسها اليوم في مواجهة واقعٍ يتناقض مع هذا الوعد: احتلال طويل الأمد، حصار خانق، قصف متكرر، وتهميش ممنهج لفئات واسعة من مواطنيها، وعلى رأسهم العرب الإسرائيليون، واليهود الشرقيون، والعلمانيون، واليساريون.

الانقسامات الدينية باتت أكثر حدة، خاصة بعد قانون تجنيد الحريديم، الذي فجّر غضب العلمانيين، وأعاد فتح ملف العلاقة بين الدين والدولة. أما الانقسامات الطبقية، فقد ظهرت بوضوح في توزيع الموارد، وفي طريقة تعامل الحكومة مع ضحايا الحرب، حيث يشعر سكان الأطراف والمجتمعات المهمشة بأنهم يُستخدمون وقودًا لصراعات لا تخدم مصالحهم. أما الانقسامات العرقية، فهي تتجلى في التمييز المستمر ضد العرب، وفي الخطاب السياسي الذي يُشيطن الآخر، ويُحوّله إلى تهديد وجودي.

مجتمع على حافة الانفجار

إسرائيل اليوم ليست كما كانت قبل السابع من أكتوبر 2023. فالحرب على غزة، التي تجاوزت حدود الزمان والمكان، لم تكن مجرد مواجهة عسكرية بين جيش نظامي وتنظيم مقاوم، بل تحوّلت إلى مرآة ضخمة عكست هشاشة الداخل الإسرائيلي، وكشفت عن تصدعات عميقة في بنية المجتمع.

لقد أفرزت الحرب واقعًا جديدًا، تتصارع فيه الروايات وتتنازع فيه القوى، حيث لم يعد بالإمكان الحديث عن إجماع وطني، ولا عن وحدة داخلية صلبة. بل باتت إسرائيل تعيش حالة من التمزق بين تيارات متنافرة: يمين متطرف يزداد شراسة، ويسار مدني يزداد عزلة، وجمهور يترنح بين الخوف من الخارج والخيبة من الداخل. في هذا المناخ، لم تعد الحرب تُخاض فقط على الجبهة الجنوبية، بل باتت تُخاض في الشوارع، وفي الجامعات، وفي وسائل الإعلام، وفي ضمير المواطن نفسه.

لقد أثبتت التجربة أن الحرب، مهما طالت، لا تبني مجتمعًا، بل تهدمه من الداخل، حجرًا حجرًا، وضميرًا ضميرًا. فكل قذيفة تُطلق على غزة، تُصيب في المقابل جزءًا من النسيج الإسرائيلي وتمزقه. وكل يوم يُمرّ دون وقف إطلاق النار، يُعمّق الهوة بين الدولة ومواطنيها، ويُضعف الثقة بالمؤسسات، ويُغذي مشاعر الغضب والاغتراب.

أما نحن العرب فقد أوجز الروائي الجزائري واسيني الأعرج المشهد في غزة كنموذج لما يمكن أن يحدث للمنطقة كلها إذا تُركت آلة الطغيان دون مقاومة، قائلًا: "غزة ليست فقط ضحية، بل مرآة تكشف ما نحن عليه، وما يمكن أن نصبح عليه إذا صمتنا."

كلماته تُعيد تعريف المقاومة، لا بوصفها رد فعل، بل بوصفها فعلًا أخلاقيًا، وضرورة وجودية في وجه التوحش.