عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

رؤى

كارولين كامل

الأم -غير- المغلوبة على أمرها

2025.08.09

مصدر الصورة : آخرون

الأم -غير- المغلوبة على أمرها

 

في المرات التي تجمعني بأبناء أشقائي، ونحن أسرة رُزقت بالأحفاد البنين فقط، أراقبهم من كثب، كما أفعل في وجود الأطفال بشكل عام. طاقة بهجة متفجّرة ومُعدية، وخيال مفعم بالمفاجآت، يطالبونني بسرد الحكايات الغرائبية التي أرددها في حضورهم، بينما أتوقُ إلى الاستماع إلى مغامراتهم مع حيواناتهم المُتخيلة.

لفت نظري، في لقائنا الأخير، أن الولدين، أكبرهما في التاسعة من عمره، والآخر في الرابعة، عندما تحدثا عن هويتهما الجندرية حمدا الله كونهما ليسا بنتين، وطلبا مني أن أمنحهما فرشاة الحلاقة التي يستخدمها جدهما، أي والدي، حتى يلعبا بها قليلًا، يقفان متقابلين ويدعيان حلاقة ذقنيهما الملساء. ضحكت على طلبهما وسمحت لهما باللعب بها، ضد رغبة أمي، التي رأت أن إحضار المزيد من الألعاب سيُطيل من فترة بقائهما في البانيو بالمايوهات.

لم يكن لعبهما مجرد محاكاة لأفعال جدهما، البطيئة عادة، التي تبدأ بتجهيز العدة من الفرشاة التقليدية، التي لم نعد نراها كثيرًا، بعد أن فضل كثير من الرجال ماكينات الحلاقة الكهربائية وأنابيب المعجون سهلة الاستخدام، ولم يعودوا في حاجة إلى تلك الفرشاة التي يفركها الجد في حركات دائرية فوق الصابونة، لخلق فقاعات من الرغوة، ينقلها على وجهه برفق، ثم يعمل الموسى ببطء حتى لا يُجرح.

قال لي الحفيد الأكبر بنبرة كيدية، ولكني أحبها، لأنها تُعلن تحديه لشخصي، إنه صار كبيرًا كفاية حتى يفعل مثل جده ووالده، أفعال الكبار الحصرية على "الولاد"، بينما "البنات" لن يكبرن ويفعلن أفعال الكبار. ضحكت من تلميحاته التي أراد من خلالها إخباري أنني بنت، وهو ولد، ويومًا ما سيصير أكبر مني.

أردت إخباره بأن البنات يكبرن أيضًا، بل إنهن، قبل أن يحاول الصبي مثله إزالة شعيرات ذقنه التي لم تنبت بعد، ينزعن شواربهن بالفتلة، والشعر من مناطق أخرى في أجسادهن. لكنني تذكرت تحذيرات الكبار بألَّا أسترسل مع أولاد أخواتي في أحاديث ستجلب لهم الصداع بعد أن أعود إلى منزلي.

"كل خطأ يُسوَّى عندما يُفهم"، تقول الكاتبة والأكاديمية الأسترالية جيرمين غرير، أحد أهم الأصوات النسوية في أواخر القرن العشرين، في كتابها "المرأة المخصية".

لم تكن لعبة الأولاد بفرشاة جدهم خطأ يحتاج إلى تصويب، ولكن الإحساس بتفوقهم الذكوري الطفولي بدا لي قابلًا للنقاش، ربما بتقديم المزيد من الشرح عن وجود فروق جسدية بين الصبي والفتاة، لكنها لا تثبت تفوّق أحدهما على الآخر، كل ذلك باستخدام لغة يفهمها من هم في أعمارهم، وتناسب رؤية والديهم للتربية.

لستُ أمًّا، لكنني أرى الأهمية القصوى لبداية تنشئة الذكر في مصر. تأثير كل كلمة وفعل في حياة هذا الصبي، الذي يتحتم عليه أداء أدوارٍ مختلفة في المستقبل: حبيب، وزوج، وأب، ورجل مسؤول في مناصب مختلفة. ليس فقط كابن مدلل لأمه، ينتقل صوريًّا من حيازتها إلى حيازة امرأة أخرى، مطالِبًا إياها بتدليله كما تفعل والدته، ومضاجعته كزوجة عاشقة، وخضوعها له كابنة مطيعة، بينما هو صغير لا يكبر أبدًا.

اللافت أن هذا النوع من الرجال يؤدي تلك الأدوار كلها، ويتمتع بسلطاته اللا محدودة، ويتنصل من كثير من المسؤوليات بروح طفولية، ويغضب عندما يتناهى إلى مسامعه شكوى أو تأفف، ويُبدي خيبة أمله، ويشكو قلة حظه، لأنه لم يجد المرأة التي تشبه والدته بمغفرتها اللا محدودة وطبيخها المسبك.

ينال هذا الذكر من جسد الأنثى، كل أنثى بلا استثناء، لأنه تغذى على فكرة أن النساء كلهن يطمعن في امتلاكه بشكل أو بآخر، ويُحثُ على أن ينتبه إلى كل المعارك المتخيلة، وأن يثبت فيها رجولته، بداية من حقه في التحرش، لأن المرأة تشاركه الحيز المكاني، وفي الزواج له حق الاغتصاب، وضرب الزوجة وقتلها، وغيرها من أفعال استعراض "القوة".

هنا نقف حائرين ونسأل: من أين جاء هذا الرجل بطبيعة فاسدة، جامحة، بلا قيد، وكأنه لم يعرف يومًا كيف يحترم امرأة؟

آلهة الحرب

"اللعنة الأسوأ التي تثقل على المرأة، هي أنها مستثناة من هذه الغزوات الحربية. ويرتقي الرجل إلى مرتبة أعلى من الحيوان، ليس بمنحه الحياة، وإنما بالمخاطرة بحياته. ولهذا نعطي التفوق في البشرية ليس للجنس الذي ينجب، بل لذلك الذي يقتل"، تقول الفيلسوفة والناشطة الفرنسية سيمون دو بوفوار في كتاب "الجنس الآخر".

توضح دو بوفوار أن شهوة الرجال للقتل والدمار لم تعُد خفية، خاصة أنها جعلت منهم أبطالًا لم يطلب أحد وجودهم. لم نكن في حاجة إلى أن ينقذنا أحدهم من حروب هم من أوجدوا معاركها بأنفسهم، وزجوا بالجميع تحت وطأتها.

وفي كل مرة تنتهي معركة، يقلّدون أنفسهم الأوسمة، وفي المقابل يطالبون الضحايا الحقيقيين والناجين من أهوال لم يكن لهم فيها ناقة أو جمل أن يجلّوهم، ويضعوهم في مراتب الآلهة، ويخضعوا لسلطاتهم بلا سؤال أو نقاش، وفاءً بدَين البقاء على قيد الحياة.

في أثر الأم

قبل الشروع في البحث عن منبع تلك الطبيعة، يهمني أن أشير إلى الاستعانة، فيما يلي، بلفظة "أم" للإشارة إلى ما أقصده من شريحة محددة من النساء، درءًا للتكرار فقط، وليس بغرض التعميم.

فنجاة المرأة في مصر من معارك ضارية ليست دائمًا للبقاء، بل لتقضي يومها بأقل أذى ممكن. معرفة تنتقل جينيًّا من الأم إلى الابنة؛ ذاكرة المعاناة التي توحد النساء في الوعي الجمعي.

الإنسان، حيث روح تجد مسكنها في الجسد، تتعلّم الأنثى في مصر كراهية سكنها الأول، الذي لا يملك أيٌّ كان أن يطلبه لذاته، فهو قدر ومحتوم. وعوض أن تتعرف على هذا الجسد الذي يرافقها حتى الموت، تنفر منه، كونه يُشكّل عقبة تحول دون أن تعيش حياتها بشكل طبيعي حر، خاصة عندما تُدرك الهوة السحيقة من الأفضلية التي تفصل بين جسدها وجسد الذكر.

تنمو الأنثى بينما تعرف أن العالم كله يراقبها، وأنها تحمل شرف أسرتها، وأن جسدها ليس إلا مصدر تهديد وخيانة، وغيره من كلام تردده الأم على مسامعها، قبل أن تتلو عليها قائمة المحظورات، بداية من منعها من طفولة طبيعية، عبر تحريم اللعب، والقفز، والضحك بصوت عالٍ، وغيرها من ممارسات الطفولة المُحرّمة باسم المجتمع والعرف والدين، بل ويتجرأ البعض ويصبغها بطابع علمي، بأن هذه الحياة الطبيعية تُهدد النمو السليم للأنثى.

فبُعيد أن تولد الأنثى وتُغطيها الأَردية، يزيد عدد الأقمطة كلما كبرت، حرصًا على أن تُخفي جسدها بشكل عام، والأعضاء التناسلية بشكل خاص، مما يفضي إلى الجريمة الكبرى التي تورثها الأم إلى طفلتها، عندما تسوقها إلى الذبح باسم "الطهارة"، جريمة بتر وتشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية، المعاناة والنزيف في الجسد الأنثوي، والمسؤول عنه، والمخول باستمراره، هو النساء بشكل خاص.

في الوقت ذاته، الأم هي ذاتها التي غرست في نفس طفلتها التدني النوعي، في مقابل تفوق شقيقها، الذي تراه في المقابل يكبر وتنمو أعضاؤه في ظل تشجيع وتهليل وفخر ذويه، وكأنه الرجل الأول الذي يملك ما لم يملكه غيره، فيتضخم شعور بالاستحقاق، بعد أن يتجاوز مرحلة البلوغ، ويتأكد أن عضوًا واحدًا في جسده يجعله أفضل من شقيقاته.

العضو الموقر ليس عقله الأذكى، أو قلبه الأرحم، أو حتى جسده الأقوى، وإنما ذلك العضو المخفي، الذي يتحول مع الوقت إلى محور حياته، ويحول حياة الآخرين إلى جحيم، ويؤهله للحصول على تعليم أفضل، بينما تجلس شقيقاته لحياكة قمصانه في المنزل، تحت سيادة الأم التي فرضت قوانين تمييز تصب في مصلحة الابن الذكر، وضمان راحته على حساب حياة شقيقاته أحيانًا.

تشكل الأم النموذج الأول والمباشر في ذهن الطفلة عمَّا ستكون عليه هي شخصيًّا في المستقبل. الصورة التي ترى فيها الابنة نفسها أدنى من شقيقها، الذي تفوّق عليها حتى قبل أن ينطق بكلمة واحدة، ويتكوّن في ذهنها أنه حق طبيعي، طالما كانت الأم هي التي ألقت بتلك البذرة الأولى، ورضيت أن تنمو داخل طفلتها وتطعمها ثمرها المر بيدها.

 تكبر الفتاة، فتجد الصوت الأبوي، يذكرها بأن أخاها أفضل منها، باسم الدين والمجتمع والعرف، والشارع، والشعب، والجيران، وأن جسدها سبب تدنيها لأنه الخطر المختبئ في كل زاوية يتربص بالرجال، ولا تجد في صوت أمها أي شك أو شكوى من هذا التمييز السلبي، بل تشجعها على قبوله لأنه "هكذا وجدت نفسها ووجدتها".

الخيانة الأولى للأنثى تأتي من الأم، التي تعاني، ولكنها لا تتوقف لحظة لتسأل نفسها متى تنتهي معاناتها، بل تستمر الأمهات في خيانة بنات جنسها، وإنجاب الطفلات اللواتي يكبرن ويصبحن زوجات وأمهات، يحرسن استمرار معاناة نساء أخريات، خاصة إذا أنجبن الذكور، وصِرن حموات في عداوة فطرية مع الأخريات اللواتي يصبحن زوجات لأبنائهن المدللين.

في أصل البذرة

"الوعي لا يمكن إدراكه بعقلنا الواعي فقط"، بهذه الكلمات القليلة يمكن تحفيز القرّاء على قراءة الكتاب المهم "غريزة الوعي" للدكتور مايكل جازانيجا، عالم الأعصاب الأمريكي، وأحد رواد دراسة العلاقة بين الدماغ والسلوك، خاصة في مجال علم الأعصاب الإدراكي.

يدلل جازانيجا، من خلال أبحاثه الخاصة، وعشرات المصادر، والأبحاث العلمية لآخرين، على الارتباط الوثيق بين كل ما يصدر عن الإنسان من أفعال، وبين الحيز المادي لأجهزة التفكير، وغير المادي من المعارف المكتسبة. ولا يمكن فصل أيٍّ منهما عن الآخر، حيث يتأثر المادي واللامادي ببعضهما البعض.

لذلك أكد مرارًا أن السنوات الأولى من التربية والتنشئة لها التأثير الأصيل، الذي يترتب عليه فيما بعد أدنى اختياراتنا اليومية، وانحيازاتنا الثقافية والإنسانية والحقوقية.

وبالتالي، الرجال (شريحة منهم) الذين يضربون زوجاتهم، أو يسيئون عمدًا إليهن بأشكال مختلفة، ربما كبروا في كنف أم مُعنفة، وتصوروا أن هذه طبيعة الأشياء، خاصة لو لم تصوب لهم أمهاتهم أفكارهم.

وعندما ضربوا زوجاتهم للمرة الأولى، لم تجرم أمهاتهم أفعالهم، بل الأسوأ هو ما نعرفه في العموم من سوء طباع الحموات، اللواتي يحرصن على أن يضرب أولادهن الزوجات، لضمان فرض السيطرة، ويحرضنهم باستمرار على إساءة معاملة هذه النساء.

استبداد النسوية

يقول الفيلسوف في مجال العقل، والفيزيائي البريطاني، وخبير السيبرنطيقا (التحكم الذاتي)، دونالد ماكاي: "من الأسهل أن نفهم كيف يعمل شيء ما عندما لا يكون يعمل بالشكل السليم. إن المهندسين يمكنهم أن يتعرفوا على كيفية عمل شيء مثل التلفزيون عندما تكون الصورة تومض متقطعة، أسرع مما لو كانت تُعرض بسلاسة".

ومن هذه الكلمات يبزغ بصيص أمل في احتماله تغيير الأجيال القادمة إلى نسخة أفضل منا، وذلك من خلال الاعتراف الجاد بكل الروافد التي تؤسس لهذا المجتمع الذكوري العنيف. وهي البداية التي لن تتحقق إلا عبر تعليم محترم، وثقافة حقيقية، من خلال إعادة إحياء المراكز الثقافية، والمكتبات العامة، والساحات الفنية. ولكن، دون إرادة حقيقية من الدولة، وبمشاركة النخبة الثقافية والفنية، والتيارات النسوية الجادة، لن تجد هذه الأفكار من يرعى إتاحتها.

ولكن، إلى حين نجاح هذه المساعي، فإن الجهود الشعبية في المبادرات الاجتماعية التي تتبناها بعض المؤسسات غير الحكومية، تستخدم خطابًا يسمونه "نسويًّا" ينتصر للنساء كسلوك عام، أيًّا كانت القضية. وللأسف، لا يأتي هذا الخطاب بأي نتيجة ملموسة، إما لأنه فئوي جدًّا، بحيث لا يصل إلى القاعدة الشعبية التي تحتاج إلى المساعدة، وإما لأنه يجعل من المرأة مغلوبة على أمرها طوال الوقت لصالح هيمنة المجتمع الأبوي، وينفي عنها كل سلطة فعل، وكأنها تعيش في محيطها مخطوفة. وهي صورة لا تعكس الدور الأساسي للأم المصرية في التنشئة، وسلطتها شبه المطلقة في إدارة السلوك العام لأسرتها.

تقول جيرمين جرير: "تسعى النخبة النسوية إلى قيادة النساء غير الواعيات في اتجاه استبدادي آخر، وتدربهن كمجموعة مهام خاصة في معركة ضارية. فستخسر النساء، لأن أفضل البشر لا ينتصرون قط، وعواقب النضال لا تختفي عندما تنتهي الحاجة إليها".

لا يمكن لأي باحث اقتصادي إلا أن يقف عاجزًا أمام عبقرية الأم المصرية، التي استطاعت على مدار عقود أن تنجو بالبيت والأسرة، خاصة على مستوى الطبقة المتوسطة، بإدارتها الناجحة للميزانية المحدودة، دون الحاجة إلى شهادة جامعية، حتى تؤسس عشرات الجمعيات وتديرها بنجاح منقطع النظير.

الدور العملي، الذي تخلّت عنه شريحة كبيرة من الرجال بإرادتهم، تكاسلًا أو ثقة -حتى وإن أنكروه شكليًّا- لا يختلف عن إهمالهم المشاركة في التربية وخلق الوعي لدى الأطفال، وهو الدور الذي لعبته وتلعبه المرأة، نظرًا إلى قضائها الوقت الأطول برفقة أطفالها. وإنكار سلطة الأم في التربية مقارنة بحجم ما يقدمه الأب، ليس في صالح قضايا المرأة وحقوقها، وربما نحتاج أن نواجه أنفسنا، ونعترف بالدور الذي لعبته المرأة في قهر المرأة، حتى وصل بنا الحال إلى ما وصلنا إليه.