عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

حي السيدة زينب

د. هدى السعدي

الفقه والمدارس: بين السياسة والعدالة

2025.08.16

مصدر الصورة : آخرون

الفقه والمدارس: بين السياسة والعدالة

 

يضم حي السيدة زينب عددًا كبيرًا من البنايات التاريخية، التي يُطلق عليها وصف "مدارس"، وكانت المدرسة قديمًا مؤسسة للتعليم العالي، تُدرِّس الفقه والعلوم الشرعية الأخرى، وهي المقابل لكلية الحقوق لتعليم القانون في الجامعات الحديثة اليوم.

ولأن الدولة والقانون في كل عهد صنوانِ لا ينفصلان، حرصت جميع الدول الإسلامية في مصر وخارجها على إنشاء المدارس، وتعيين العلماء، وتوفير النفقات لطلبة العلوم الشرعية بها؛ يلتحق طالب المدرسة بحلقة شيخ متخصص في مذهب فقهي، أو فرع من العلوم، ويقرأ معه كتب أحكام المذهب، ثم يحصل منه على "إجازة"، أي شهادة بها قائمة الكتب التي حفظها. ثم يُعيد الكَـرَّة مع شيخ آخر، حتى يحصل على أكبر عدد من الإجازات. وبعد أن يتخرَّج في المدرسة، يُعين في منصب قاضٍ في محكمة، أو مفتٍ للدولة، أو إمام مسجد، أو يصبح عالمًا يؤلف كتب الأحكام الفقهية المستجدة.

في القاهرة، حرصت كل دولة إسلامية حكمت مصر على إنشاء المدارس، بهدف إِعمال القانون وتحقيق العدالة في المجتمع. ونظرًا إلى أن النخبة الحاكمة لكل دولة كانت تتبنى مذهبًا معينًا من المذاهب الفقهية في نظامها القضائي، كان السلطان أو الأمير يخصص المدرسة التي ينشئها في الأغلب لتعليم هذا المذهب. ولكن في كثير من الأحيان كان مؤسس المدرسة يقرر تدريس المذاهب الأربعة، تأكيدًا على التعددية الفكرية وحرية اختيار وتطبيق الأحكام في المنظومة القضائية، كل بحسب مذهبه.

في حي السيدة زينب، توجد سبع مدارس ضخمة متبقية. بنى سلاطين وأمراء المماليك الأغلبية العظمى منها، أو بالأحرى بنوها كلها، فيما عدا مدرسة واحدة بناها سلطان عثماني متأخر.

فلنأخذ جولة في مدارس حي السيدة، ونستمتع بالقصص الشائقة خلف بنائها وعملها.

جذور مؤسسات التعليم في المدينة الإسلامية

مثَّلَ التعليم في الحضارة الإسلامية أحد أهم روافد النهضة المدنية، وحجر بناء المجتمعات والدول الإسلامية الآخذة في الاتساع والتشعب. فمنذ البدايات الأولى للإسلام، كان طلب العلم فريضة وسلوكًا تعبّديًّا، انعكس على بناء مؤسسات تعليمية مزدهرة، من حلقات المساجد إلى نشأة المدارس، التي تطورت لاحقًا لتشكِّل أولى أشكال التعليم العالي المنظم في العالم.

في عصر النبي محمد، كان التعليم يتم في المسجد النبوي، حيث تعلّم الصحابة القرآن والسنة وأساسيات الدين. وبعد وفاة الرسول انتشرت المساجد كأماكن للتعليم الديني في المدن الإسلامية الكبرى، وعلى رأسها القاهرة ومعها دمشق والكوفة والبصرة.

وبعد حوالي مئة عام من وفاة النبي، ولدت العلوم الإسلامية، حيث بدأ التدوين في علوم الحديث والتفسير وخرجت المدارس الفقهية، واحتاجوا إلى ضبط عملية تدريسهم، فظهرت الحلقات العلمية المتخصصة في المساجد الكبرى التي يقودها الأئمة المؤسسين لتلك العلوم، كجامع عمرو بن العاص في مصر، والمسجد الأموي في دمشق، ومساجد الكوفة والبصرة أثناء الخلافة الراشدة والأموية.

ثم في العصر العباسي، مع بدء حركة الترجمة والانفتاح على الفكر اليوناني والفارسي والهندي، توسعت مجالات التعليم وانقسمت إلى شقين. أولهما العلوم الدينية، وأساسها الحديث والتفسير والفقه ثم علم الكلام، وثانيهما العلوم العقلية، مثل الطب، والفلسفة، والرياضيات، والمنطق، والفلك.

وأنشأ خلفاء بني العباس مراكز الترجمة والمكتبات الكبرى، وأولها "بيت الحكمة" في بغداد. وفي القاهرة، أسس خلفاء الدولة الفاطمية الجامع الأزهر كأقدم جامعة إسلامية لا تزال قائمة إلى اليوم، ومن بعده "دار الحكمة" وسموها أيضًا "دار العلم".

وكان التعليم في العصور ما قبل الحديثة ينقسم إلى مرحلتين.

المرحلة الأولى: الكتاتيب وهي للتعليم الابتدائي.

لا يوجد اتفاق بين المؤرخين على وقت ظهور الكتاتيب بدقة، لكن مع انتشار الرغبة بين المسلمين في تعليم أبنائهم القرآن الكريم، انتشرت الكتاتيب في كل أرجاء العالم الإسلامي بحلول منتصف القرن الثامن الميلادي.

كان الكتاب يعلم القراءة والكتابة والحساب مع القرآن الكريم، وينعقد في أماكن متعددة: داخل المساجد، أو في البيوت الخاصة، أو داخل الدكاكين، أو تحت الخيام، بل أحيانًا في العراء. وفى مصر في العصور الوسيطة كان غالبًا ما يُبنى ويلحق به سبيل ماء لتأكيد أهمية التعليم عبر ربطه بالماء.

كان معظم الناس يتلقّون تعليمهم في تلك المدارس الابتدائية (الكتاتيب) طوال سنوات طفولتهم. وبعد إتمام منهج الكتّاب، كان في إمكان الطلاب إمّا الانتقال إلى حياتهم العملية ومزاولة مهنة، أو متابعة تعليمهم العالي في "المدرسة".

المرحلة الثانية: المدارس وهي أول مؤسسة تعليم عالٍ منظمة.

المدرسة في المفهوم الإسلامي الكلاسيكي لم تكن مجرد مبنى للتعليم، بل مؤسسة علمية دينية متكاملة. كانت تدرِّس أساسًا الفقه الإسلامي وأصوله، إلى جانب علوم اللغة، والحديث، والتفسير، وأحيانًا المنطق، والفلسفة. وقد ظهرت المدارس استجابة لحاجة الدولة والمجتمع إلى أماكن تعليم منظمة، تتجاوز حلقات المساجد غير الرسمية.

يمكن اعتبار هذه المدارس أولى الكُليَّات والجامعات الحديثة. فقد كانت تضم أقسامًا مستقلة لتدريس مواد مختلفة، وكان فيها علماء مقيمون متخصصون في مجالاتهم. كان الطالب يختار مجال التخصص الذي يرغب في دراسته، ويقضي عدة سنوات يتعلّم على يد عدد من الأساتذة، وهم المشايخ العلماء المتخصصون في الأصول والفروع. ومع تطور المدارس، صارت تُنشأ كمجمّعات تعليمية متكاملة، فتضم كل مدرسة: غرفًا لسكن الطلبة، وخزانة كتب أو مكتبة، وقاعات للمحاضرات، وكل منها عبارة عن مجلس الشيخ وحوله طلبته، ومسجد للصلاة، وسكن للقائم على المؤسسة ومن يديرونها، وأحيانًا سكن للعلماء. ومن هنا بدأ التعليم الإسلامي الرسمي المدعوم من الدولة.

يمنح الأستاذ للطلبة الإجازة العلمية، وهي شهادة تثبت إتقان الطالب تخصصًا معينًا، وتُعد في هذا السياق سابقة مباشرة للشهادة الجامعية التي تمنحها الجامعات الحديثة، ويمكن تتبع أصول التعليم العالي الجامعي إلى فكرة "الجامعة" أو "الجامع" في الحضارة الإسلامية، كما استُوحي شكل الكليات الأوروبية في العصور الوسطى من نموذج المدرسة الإسلامية.

أما عن مدة الانتظام بالمدرسة، فكانت تتراوح بين أربع أو خمس سنوات على الأغلب، تتفاوت من مدرسة إلى أخرى. وذكر ابن خلدون، الذي اختبر التدريس في المغرب وتونس ومصر، أن الطالب قد يستغرق سنوات أكثر من ذلك في المدارس متواضعة المستوى التعليمي.

المدارس والنزاع بين السنة والشيعة

بُنيت أول مدرسة بالمعنى المؤسسي في أثناء حكم السلاجقة الروم (1055–1194)، حين بنى الوزير الشهير نظام الملك (ت 485 هـ/1092م) أول مدرسة في بغداد -في ظل هيمنة السلاجقة على الخلافة العباسية- قبل أن يشرع في تشييد سلسلة من المدارس في مدن أخرى حملت وصف المدارس النظامية، بل قام بتعيين أحد أشهر العلماء في عصره وكل العصور أستاذًا فيها، وهو الإمام أبو حامد الغزالي.

نشأت تلك المدارس في سياق سياسي مضطرب، تتنافس فيه الدولة السلجوقية وسلاطينها من أهل السنة، مع الدولة الفاطمية في مصر، التي كانت تحكم وقتها أيضًا الأراضي المقدسة بالحجاز وفلسطين، بينما تتنازع العالم الإسلامي خلافتان، واحدة سنية يتزعمها العباسيون في بغداد وخلافة شيعية تحت الفاطميين في القاهرة. تتنافس في ذاك الوقت المرجعيات الفقهية السنية مع المرجعيات الشيعية والإسماعيلية القوية في كل العالم الإسلامي، وكل من منها يرعاها خليفة، ويسيطر السلاجقة على خليفة السُّنة. كان هدف الوزير نظام الملك الأساسي من تأسيس مدارسه تعزيز المذهب السني الشافعي، ومواجهة النفوذ الشيعي الواسع داخل وخارج مناطق الدولة الفاطمية.

ولأسباب سياسية مشابهة، بل أشد قوة، قامت الدولة الأيوبية السُّنية ببناء كثير من المدارس في القاهرة. أنهى السلطان الشهير صلاح الدين الأيوبي حكم الخلافة الفاطمية في عام 1174، بعد أكثر من مئتين وخمسين عامًا من سيطرتها على الحجاز ومصر والشام واليمن وشمال إفريقيا.

اعتقد صلاح الدين أن الحملات الصليبية نجحت، لأن الله كان يعاقب المسلمين على التخلي عن الدين الصحيح باتباع العقيدة الشيعية، لذلك بدأ مشروعًا ضخمًا لإنشاء المدارس التي تعلم الفقه على المذاهب السُّنية في القاهرة والشام، بهدف استعادة وحماية عقيدة "أهل السنة والجماعة"، والقضاء على الدعوة الإسماعلية الشيعية. ورفعت الدولة في عهده من شأن المدارس السنية النظامية في القاهرة، لتكون مراكز بديلة للتعليم والتكوين الشرعي.

وأصاب الجامع الأزهر ذلك المشروع، وعلى الرغم من أنه أُسس في العصر الفاطمي كمركز لنشر المذهب الإسماعيلي، فإن صلاح الدين لم يهدمه، بل حوله تدريجيًّا إلى مؤسسة تعليمية سنيّة، وأوقف عليه الأوقاف لدعم العلماء والطلاب. وبذلك بدأ الأزهر رحلة تحوّله من منبر إسماعيلي إلى أحد أعمدة التعليم السني في العالم الإسلامي.

تأسست عشر مدارس نظامية في القاهرة خلال فترة حكم صلاح الدين، وتبِعها إنشاء خمسٍ وعشرين مدرسة إضافية خلال الحقبة الأيوبية بأكملها. وقد خُصِّص معظم هذه المدارس للمذهب الشافعي، بينما قام بعضها بتدريس المذهبين المالكي والحنفي.

إذن سعى صلاح الدين إلى إعادة بناء المشهد الديني والعلمي على أسس سُـنيّة، تتماشى مع مشروعه السياسي الهادف إلى توحيد المسلمين في مواجهة الحملات الصليبية.

عقب انهيار الدولة الأيوبية وتسلّم المماليك الحكم في مصر والشام، دفعت العوامل السياسية مجددًا الدولة إلى التوسع في إنشاء المدارس على المذاهب السنية. وقت صعود المماليك للسلطة في النصف الثاني من القرن الثالث عشر، كانت الأمة الإسلامية لا تزال تمرّ بمرحلة شديدة الاضطراب، مع بقايا الحملات الصليبية واكتساح الغزو المغولي.

تصدى المماليك -باعتبارهم طبقة من المحاربين النخبة نشأت ضمن النظام العسكري الأيوبي- لكلا التهديدين. وبوصفهم عبيدًا عسكريين ارتقوا إلى سدة الحكم بعد أسيادهم الأيوبيين، فإنهم عملوا على ترسيخ شرعيتهم السياسية والدينية، من خلال تقديم أنفسهم كمدافعين عن الإسلام السني، وراعين للمعرفة الشرعية والمؤسسات العلمية. ومن هنا أسّس سلاطين وأمراء المماليك عددًا كبيرًا من المدارس للفقه السني، وموّلوها بأوقاف سخية جدًّا دعمت العلماء وطلاب العلم.

تميزت تلك المدارس بتُتدريس المذاهب الأربعة للفقه مجتمعة بدون تفضيل لواحد منها، حيث كانت تُبنى بتصميم "رباعي الإيوانات"، والإيوان هو الركن الكبير للمدرسة الذي يجلس فيه العلماء في حلقات مع تلامذتهم، مع تخصيص إيوان لكل مذهب فقهي، ووجود قاعات تدريس منفصلة. بالإضافة إلى تضمين كل مدرسة محرابًا ومسجدًا، وغرفًا لسكن الطلاب، وخزانات للكتب أو مكتبات ثرية جدًّا.

وفي بعض الأحيان كانت تضم "خانقاه" لتعليم مبادئ الصوفية، ما يدل على أن الفقه والشريعة لم يتعارضا مع أو يحرما علوم التصوف الباطنية في تلك الفترة.

وجدير بالذكر أن نظام المحاكم المملوكية تميز بالتعددية، حيث كانت الدولة تنشئ المحاكم التي تطبق المذاهب الأربعة، وتعين فيها القضاة من كل مذهب على حدة. على سبيل المثال، عندما حضر ابن خلدون إلى مصر من بلاد المغرب، وهي على المذهب المالكي، عينه السلطان الظاهر برقوق أستاذًا في مدرسة لتعليم المذهب المالكي، ثم قاضيًا في محكمة تطبق أحكامه.

وفي الفترة العثمانية، ظلت المدراس مرتبطة بالسياسة، بينما تبنت الخلافة العثمانية رسميًّا المذهب الحنفي في نظامها القانوني والقضائي والفتاوى. لذلك عُني سلاطين العثمانيين بإنشاء المدراس لتعليم المذهب الحنفي. ولكنهم لم يمانعوا استمرار عمل المدارس التي تقوم بتعليم المذاهب الثلاثة الأخرى، أو عمل المحاكم الشرعية التي يجلس فيها قضاة من المذهب غير الحنفي.

وبداية من العهد الأيوبي ووصولًا إلى العثماني، ظل كثير من السلاطين والأمراء يستخدمون المدارس لنشر المذهب الفقهي الرسمي للدولة، سواء الحنفي أو الشافعي أو المالكي. وكانت النخبة السياسية الحاكمة بشكل عام تستخدم المدارس لتشكيل نخبة دينية موالية لها، ومنحها الامتيازات وتعيينها في المناصب القضائية.

وكانت شبكات علماء الشريعة الموالية للدولة تساعد السلاطين والأمراء على تثبيت شرعيتهم ودفع الناس إلى طاعتهم عبر الخطاب الديني.

مدرسة سلار وسنجر

تحولت منطقة السيدة إلى مركز ينبض بالحياة في التعليم في الفترة المملوكية، حيث بنيت ست مدارس عظيمة وشهيرة فيها.

في أيام المماليك بوجه عام، صارت القاهرة واحدة من أهم مراكز تعليم الفقه والعلوم الشرعية في العالم الإسلامي، وحظيت منطقة السيدة زينب، على وجه الخصوص، بتكثيف نشاط بناء المدارس بها، بخاصة في عهد سلاطين بني قلاوون.

اختار أمراء المماليك شارعي مراسينا والصليبة، والشوارع القريبة منهما بالسيدة لبناء مدارسهم، وتطورت المنطقة إلى ما يشبه جامعة منفتحة، تُفضي مؤسسات التعليم فيها بعضها إلى بعض عبر الشوارع المُتصلة.

أولها وأشهرها هي مدرسة سلار وسنجر الجاولي، التي بُنيت عام 1303م، بشارع مراسينا بقرب الخليج المصري. أسّسها صديقان من مماليك السلطان الناصر محمد بن قلاوون، الأمير سلار والأمير سنجر، في وقت كان هذا السلطان قد نشط بشدة في تعمير منطقة السيدة بمشروعات كثيرة.

ربطت بين سلار وسنجر علاقة صداقة وطيدة، وكان الأول يشغل منصب نائب السلطنة، فكان الرجل الثاني في الدولة بعد السلطان ابن قلاوون، بينما كان سنجر قائد قوة من النخبة الموالية للسلطان، والحاكم المعين على غزة والقدس وأعمال أخرى في فلسطين. وفوق ذلك، درس سنجر الفقه وتخصص في المذهب الشافعي، وأصبح يعرف أيضًا كعالم، وليس فقط كأمير للجيش.

اختار الأميران موقعًا عاليًا فوق هضبة قلعة الكبش لبناء المدرسة عليها، بحيث تشرف من جانب على قلعة الكبش، ومن آخر على شارع مراسينا، المتصل مباشرةً بشارع الصليبة. بالإضافة إلى المدرسة العظيمة، أضاف الأميران إلى المشروع خانقاه للصوفية بها خلوات يقيمون فيها، وضريحان متجاوران ليدفنا فيهما بعد وفاتهما.

وبنيا قبتين هائلتي الحجم فوق الضريحين، كانتا متماثلتين في زخارفهما ولكن كانت قبة سلار أعلى من قبة سنجر لأنه كان أعلى منه في الرتبة.

يُعد مجمّع الأميرين تحفةً معمارية مبهرة، إذ يُوصف بأنه "مبنى معلّق" لوقوعه على هضبة مرتفعة، ومدخله يرتفع ثلاثة أمتار عن مستوى الشارع، ويُصعد إليه عبر درجات حجرية.

كان سلار الأكبر سنًّا بين الصديقين، ومات قبل سنجر. حيث اتهمه السلطان ابن قلاوون بالتآمر عليه، وصادر أمواله وحبسه في قلعة الجبل. والمحزن في الأمر أن سلار كان قد توجس من الذهاب إلى السلطان عندما استدعاه قبل اعتقاله، ولكن تحايل السلطان عليه وأرسل إليه صديقه الحميم سنجر ليحضره إليه. مُنع الطعام والشراب عن سلار في محبسه، وحاول سنجر التوسط للعفو عن صاحبه ونجح، لكن بعد فوات الأوان.

ذكر المؤرخ المملوكي الشهير أبو المحاسن ابن تغري بردي، تلك الواقعة في كتابه "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة"، وقال إن سنجر تسلمه بعد وفاته، "فأخذه الأمير علم الدين سنجر الجاولى بإذن السلطان وتولى غسله وتجهيزه، ودفنه". ودفن سنجر صديقه في ضريحه بالمدرسة في عام 1310م، ثم دُفن في الضريح الملاصق له، لما جاءه الأجل بعد سنوات.

مدرسة صرغتمش

أما المدرسة الثانية، ولعلها الأضخم، فمدرسة الأمير صرغتمش، التي بناها في عام 1356م. كان الأمير صرغتمش أحد المماليك السابقين للسلطان الناصر محمد بن قلاوون، وقرر أن يؤسس مدرسة عظيمة، تُرى قبتها العالية من جميع أنحاء القاهرة القديمة وتخدم العالم الإسلامي بأسره. ولضمان موقع مميز وبارز، اختار أن يبنيها بجوار جامع ابن طولون الأسطوري في شارع الصليبة.

درس الأمير صرغتمش الفقه واللغة العربية وأحب مجالسة العلماء، وكان هذا مصدر اهتمامه ببناء المدرسة، التي جعلها متخصصة على وجه التحديد في تدريس المذهب الحنفي للفقه، وسرعان ما جذبت الأساتذة والطلبة الراغبين في تدريس أو تعلم هذا المذهب من جميع بلاد الإسلام، بل أصبحت وجهة مفضلة لكبار فقهاء السنة الفرس، الذين هاجروا إلى مصر بعد سقوط دولة المغول الإلخانية.

كان صرغتمش مملوكًا وسيمًا لكن صاحب قدرات متواضعة. شارك في الحملات العسكرية في عهد أبناء قلاوون، وعلا نجمه بفضل ذلك، ثم ارتفعت مكانته سريعًا حتى أصبح الحاكم الفعلي لمصر في عهد السلطان حسن بن الناصر بن قلاوون. في أوج مجده، بنى هذه المدرسة وإلى جانبها قصر خاص به ليسكن فيه، وافتتحها في احتفال ضخم وصاخب، دعا إليه كل الأمراء وكبار رجال الدولة، وبالغ في إظهار الزهو والفخر الشديد بنفسه في الاحتفال.

أنفق صرغتمش على المدرسة من ماله الخاص، حيث كان مشهورًا بحب الصدقات وأعمال البر، كما أسس الأوقاف الخيرية في مكة والمدينة، لكن سمع السلطان حسن عن ظُلم صرغتمش لبعض الأهالي، ورأى في غروره وحبه للسلطة تهديدًا لعرشه، فسجنه ومات في سجنه بالإسكندرية بعد عامين فقط من افتتاح المدرسة.

دُفن صرغتمش في غرفة داخل المدرسة، وعلا قبره قبتها العالية. وكتب عنه المؤرخ أبو المحاسن بن تغري بردي، قائلًا: "وكان صرغتمش عظيمًا فى الدولة فاضلًا، مشاركًا فى فنون يذاكر بالفقه والعربية، ويحب العلماء وأرباب الفضائل ويكثر من الجلوس معهم، وهو صاحب المدرسة بخط الصليبة، وله برّ وصدقات، إلا أنه كان فيه ظلم وعسف مع جبروت".

والمدرسة بوجه عام تحمل تأثيرًا فارسيًّا لافتًا في تصميمها، حيث استخدمت نمط القباب السمرقندية الطويلة، ويُعتقد أن عددًا من الفنانين والحرفيين الفرس الذين هاجروا إلى مصر بعد سقوط الدولة الإلخانية شاركوا في بنائها.

من الجدير بالذكر أن فانوسًا من تلك المدرسة، هُرِّب إلى الخارج وبيعه أخيرًا في مزاد في لندن بمبلغ خمسة ملايين جنيه إسترليني كاملة، في حين يجلس بقية المبنى الهائل العظيم هنا منسيًّا ليأكله التراب والتجاهل.

مدرسة الأمير بشير

ثم بعد ثلاث سنوات من مشروع صرغتمش وقريبًا منه، أنشا الأمير بشير الجمدار الناصري مدرسته في عام 1359م.

لا نزال في عهد السلطان حسن بن الناصر بن قلاوون، الذي تعلم هو نفسه الفقه، وبنى أعظم المدارس في القاهرة بجوار القلعة؛ بنى الأمير بشير مدرسته بموقع جميل قرب بركة الفيل، والمدرستين السابقتين.

كانت مدرسته الأصغر حجمًا، تبتعد عن البذخ والزهو في الإنفاق على إنشائها، ووصفها تقي الدين المقريزي بأنها كانت "من المدارس اللطيفة"، وكانت تضم مكتبة غنية بأمهات الكتب في الفقه والعلوم الشرعية، وبمرور الوقت أطلق الناس عليها اسم المدرسة الجمدارية والبشيرية.

وبعد مرور ما يقترب من ثلاثة قرون على إنشائها، لفتت تلك المدرسة اهتمام أحد كبار المسؤولين في الدولة العثمانية، وهو عمر أغا دار السعادة، كبير خصيان البلاط العثماني، فرممها وجددها عام 1689م، ثم أضاف إليها عناصر زخرفية عثمانية جديدة، مع الحفاظ على طابعها الأصلي كمؤسسة تعليمية للشريعة.

   

مدرسة الرومي

ومن أجمل المدارس في السيدة وأهمها، مدرسة الأمير تغري بردي الرومي، التي بناها في عام 1440م، وهو والد المؤرخ أبو المحاسن بن تغري بردي.

أعاد الأمير تغري بردي إلى منطقة السيدة الاستثمار في مشروعات تعليمية كبيرة، فشرع في بناء مجمّع تعليمي متكامل، ضمّ مدرسة فقهية وكتّابًا، يوفّر خدمات التعليم من الكتّاب الابتدائي حتى المستوى العالي، وموَّله من الثروات التي جمعها من خلال خدمته للسلطان جقمق.

وبشكل فيه منافسة واضحة لمن سبقوه، أقام المجمع على مرمي البصر من مدرسة صرغتمش، على الجانب الآخر من شارع الصليبة، وخصصها كذلك في تدريس الفقه الحنفي، وأسفل الكتّاب، بني سبيلًا لتوفير مياه الشرب لسكان الشارع العامر مجانًا.

واهتم الأمير تغري بردي بتعليم أبنائه أنفسهم، وتفوق واحد منهم حتى أصبح من أشهر علماء مصر المملوكية والعالم الإسلامي، حيث تتلمذ ابن تغر بردي على يد المؤرخ الأشهر تقي الدين المقريزي، وأخذ عنه حب تدوين التاريخ، كما درس الفقه والموسيقى والشعر.

ينحدر آل تغري بردي من أصول تركية (رومية)، لذلك كان أبو المحاسن يتقن القراءة باللغتين التركية والعربية بطلاقة. ومن أشهر مؤلفاته كتاب "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة"، وكتاب تذييل على كتاب أستاذه المقريزي "السلوك لمعرفة دول الملوك"، وأعطاه عنوان: "حوادث الدهور في مدى الأيام والشهور".

مدرسة اليوسفي

ومن أجمل مدارس السيدة أيضًا، ما بناه الأمير أزبك اليوسفي في عام 1500م. ليضيف إلى المشهد التعليمي المتجدد بالحياة في شارع الصليبة صرحًا آخر، حيث بنى الأمير مدرسته في شارع متفرع منه، سيحمل لاحقًا اسمه تخليدًا لمجهوده في تطويره: شارع أزبك، الذي يفتح على الصليبة من جهة، ويشرف على بركة الفيل من الجهة الأخرى.

كانت تلك المدرسة في الحقيقة مجمعًا تعليميًّا وخدميًّا شاملًا. ألحق الأمير أزبك بها كتابًا للتعليم الابتدائي، ومسجدًا للصلاة، وأضاف إليها سبيلًا لتوزيع المياه مجانًا على أهل الشارع والمارة، وحوضًا لشرب دواب النقل العابرة، وحافظ على الروح المعمارية المملوكية في تصميمه بأبهى الزخارف.

ضمّ المجمع أيضًا منزلًا خاصًّا بالأمير، إضافة إلى ضريح خاص به لدفنه بداخل المسجد الملحق. ومن اللافت للانتباه أن أزبك ابتعد عن مظاهر الفخر والتمجيد الشخصي في بناء ضريحه، حيث لم يضع فوقه قبة فخمة عالية، كما فعل مَن قبله من الأمراء، وقد دُفن بالفعل بالمدرسة بعد وفاته، ويمكن رؤية قبره من خلال نوافذ المجمع، في تذكير صامت بعصره ومشروعه.

 

مدرسة السلطان الأشرف

وأخيرًا نصل إلى سلطانين بنيا مدرستين رائعتين بالسيدة، أولهما سلطان مملوكي متأخر، والثاني سلطان عثماني متأخر.

نظر السلطان الأشرف قايتباي إلى منطقة السيدة والمشهد التعليمي النابض بالحياة لقرون حتى الآن فيها، وقرر أن يسهم بنفسه ببناء مدرسة لطيفة، وشديدة الجمال تحمل اسمه.

بنى السلطان قايتباي مدرسته في موقع متميز فوق هضبة قلعة الكبش سنة 1475م. بالرغم من أنها كانت مدرسة صغيرة الحجم بالمقارنة بسابقاتها، ولكنها فاخرة في تصميمها وزخارفها ولطفها. ولأنه سلطان ولا بد أن يستوعب جميع العلماء في مشروعه، وعلى عكس مدارس من سبقوه من الأمراء، التي كانت تفضل تعليم مذهب فقهي معين، قرّر قايتباي أن تُعلِّم مدرسته المذاهب السنية الأربعة جميعها على قدم المساواة، وأن تحتضن جميع دروس الفقه في قاعات دراسية بديعة، اتبع في تصميمها نمط "الإيوانات الأربعة"، الذي طبقه السلطان حسن بن الناصر بن قلاوون في مدرسته الشهيرة، حيث قسم مدرسته إلى أربعة إيوانات أو أركان وكل إيوان منها مخصص لتدريس مذهب بعينه.

أما عن واجهة المدرسة، فصممت على النمط "الأبلق"، حيث صفَّ الحجر الداكن والفاتح بعضه فوق بعض في تحفة بصرية. أما المدخل الرئيسي، فيضم مقرنصات محفورة بدقة، وزخارف أرابيسك بديعة، ومن الداخل، تتوزع الإيوانات الأربعة بزوايا المدرسة، وجدران أحجارها مرصوصة بالتصميم الأبلق مع زخارف الأرابيسك في زوايا الأقواس. لا تزال خلفيات الطلاء الأزرق الأصلية ظاهرة، ما يضيف عمقًا إلى بِنية الزخارف النباتية. أما أرضية المدرسة، فتتزين بنقوش هندسية مذهلة من الرخام الأبيض والأسود. وفي يومنا هذا، يُستخدم الإيوان الشمالي الغربي كقاعة للصلاة مخصصة للنساء.

وما يميز مدرسة قايتباي إلحاق حوض لسقاية دواب الركوب العابرة بها. ولا زالت بقايا هذا الحوض موجودة إلى اليوم.

مدرسة محمود خان

مر ما يقرب من قرنين ونصف منذ فتحِ العثمانيين مصر، ولم يقم أي سلطان منهم بإنشاء أي بنايات في القاهرة كلها. حتى جاء أول ظهور لسلطان عثماني وتحديدًا في حي السيدة، حيث بنى محمود خان الأول مدرسة كبيرة في عام 1750م.

اختار السلطان محمود أن يميز نفسه عمن سبقه من المماليك، فبنى مدرسته بعيدًا عنهم على ضفة الخليج المصري (شارع بورسعيد حاليًّا)، فعلى الرغم من دخول العثمانيين مصر عام 1517م، فإن نشاطهم المعماري ظل محدودًا نسبيًّا في القرون الأولى من حكمهم، خاصة في مجال المؤسسات التعليمية، وهو تأخر يعود إلى عدة أسباب، أهمها أن السلطنة العثمانية لم تعتبر مصر مركزًا سياسيًّا أو دينيًّا أساسيًّا في دولتهم، بل ولاية بعيدة تُدار من إسطنبول، ويُترك فيها المجال لنخب محلية -غالبًا من بقايا المماليك- لتسيير شؤونها. فقد ركز العثمانيون جهودهم العمرانية الكبرى في إسطنبول والأناضول وبلاد الحجاز، حيث أرادوا تعزيز رمزية الخلافة هناك، ما جعل مصر في المرتبة الثانية من حيث الأولوية العمرانية خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر. لهذا، لم تظهر عمارة عثمانية كبرى جديدة مثل مدرسة السلطان محمود، إلا في منتصف القرن الثامن عشر، مع تغير أولويات الدولة العثمانية، وتراجع نفوذها المركزي في مصر وبعض الولايات الأخرى.

 أنشأ السلطان محمود الأول المدرسة ضمن مُجمَّع معماري متكامل، ضم في الأساس مدرسة لتدريس الفقه الحنفي، وكُتابًا لتعليم الأطفال، وتكية للمتصوفة، ومكتبة وقفية، وسبيلًا لتوزيع المياه مجانًا. وعكس مشروعه الشامل هذا توجه الدولة العثمانية لدمج التعليم الشرعي والابتدائي مع الأبعاد الصوفية والخيرية في عمارتها المؤسسية. ورغم أن المدرسة كانت تتبع رسميًّا المذهب الحنفي، فإن تصميمها سمح بتدريس المذاهب الأربعة، على غرار مدرسة الأشرف قايتباي.

وبعد أكثر من مئة عام من بنائها، وثق وجود المدرسة والمُجمَّع، المؤرخ علي باشا مبارك في موسوعته الخطط التوفيقية، وذكر أنها عرفت في زمنه باسم "تكية الحبانية"، حيث يطل المُجّمع من واجهة السبيل على شارع الحبانية، الأمر الذي يعني أنها باتت تُعرف بوصفها تكية، بعد أن انحسر نشاطها التعليمي وتحولت من الأساس إلى مقر لإيواء المتصوفة الدراويش، وتوزيع صدقات الطعام على الفقراء. ولكن الكتاب الملحق بها كان لا يزال يعمل، ودُمج في الدولة الحديثة، وصارت تشرف عليه وزارة الأوقاف إداريًّا وماليًّا.

 كتب عنها علي مبارك، قائلًا: "تكية الحبانية، وكانت أول أمرها مدرسة أنشأها السلطان الملك المغازي محمود خان ابن السلطان مصطفى خان 1164 هـ -كما هو منقوش على بابها- وبها أشجار ومساكن للصوفية، وكُتبخانة (مكتبة) معتبرة، وشعائرها مقامة من ريع أوقافها، وأنشأ بلصقها أيضًا سبيلًا، وجعل فوقه مكتبًا (كُتَّاب) قد صار الآن من المكاتب الأهلية الشهيرة يعرف بمكتب الحبانية، به نحو المئة تلميذ لهم خوجات ومؤدبون بماهيات من طرف الأوقاف، ويعمل به امتحان في كل سنة".

في النهاية لم تكن المدارس في الحضارة الإسلامية مجرّد أبنية مخصصة للتعليم، بل شكّلت نماذج عمرانية نابضة بالحياة، عكست تداخل الدين في العلم، والدين في مفاهيم القانون والعدالة، وتَجَسَّد فيها المشروع الحضاري للأمة.

فمن خلال جدرانها المزخرفة، ومشاهدها المعمارية البديعة، وتعدد وظائفها بين الفقه، والتصوف، والخدمة المجتمعية، عبّرت هذه المؤسسات عن رؤية متكاملة للمعرفة بوصفها ركيزة للعمران والنهضة.

إن العودة إلى هذا التراث التعليمي ليس مجرّد استذكارٍ للماضي، بل استدعاءً لقيمٍ حيّة لا تزال قادرة على إلهام الحاضر، وصياغة مستقبل يقوم على ربط التعليم بالهوية، والعلم بالعدالة، والمعرفة بالمسؤولية الاجتماعية. فالمدرسة، كما عرفها الأوائل، ليست فقط مكانًا للتعلّم، بل فضاءً لتشكيل الإنسان والمجتمع.