مراجعات
إسلام بركاتحتى لا يطير الدخان
2019.07.01
المؤلفة: هيام صابر
الناشر: الهيئة العامة للكتاب - سلسة تاريخ المصريين
الطبعة اﻷولى: 2018
عرض كتاب «الدخان والمجتمع المصري في النصف الثاني من القرن التاسع عشر 1848 ـ 1914 م
أهمية هذه الدراسة أنها تلقي الضوء على التطورات اﻻقتصادية واﻻجتماعية التي حدثت بمصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وذلك بتناول أثر زراعة الدخان والتدخين في حياة المصريين. تظهر الدراسة التغيرات الجوهرية التي حدثت في مصر في القرن التاسع عشر، فهي فترة انتقالية بين مجتمع مغلق على نفسه وآخر منفتح على العالم، كما تهتم الدراسة بإبراز الصراع بين اﻻستثمارات المحلية واﻻستثمارات اﻷجنبية في البلاد.
الدخان في مصر قبل القرن التاسع عشر
يوضح الفصل التمهيدي للكتاب بدايات انتشار الدخان في العالم ومن ثم دخوله إلى مصر، وتذكر المصادر التاريخية أنه ظهر مع اكتشاف اﻷمريكتين على يد كريستوفر كولومبس، وذلك مع وصوله إلى جزيرة كوبا في قارة أمريكا الوسطى، ثم مع هجرة اﻷوروبيين إليها، ومخالطتهم السكان اﻷصليين؛ هناك اعتادوا تدخين التبغ، وبدورهم أرسلوه إلى أوطانهم. ثم انتقلت زراعة التبغ إلى أوروبا حيث زرع في إسبانيا عام 1518، وفي البرتغال عام 1558، وفي فرنسا عام 1560، ومن الطرائف التي تذكرها المؤلفة؛ أن أول رجل أوروبي رآه خادمه يُخرج الدخان من فمه، ظن خادمه أن النار تلتهم سيده، فأسرع وصب الماء عليه حتى كاد يميته غرقًا.
تنتقل المؤلفة بعد ذلك إلى موقف الدولة العثمانية من الدخان، فترجع أول دخول للدخان إلى الأراضي العثمانية إلى عام 1605؛ في عهد السلطان أحمد، عن طريق اﻷوروبيين الذين جلبوه إلى القسطنطينية، وتؤكد أن انتشار الدخان في الشرق حدث في القرن التاسع عشر، وأن اﻷتراك والفرس كانوا أكثر المولعين به. ثم تنتقل إلى أن الدخان لقى مقاومة من بعض سلاطين الدولة العثمانية ورجال الدين الذين أفتوا بحرمته، وتذكر منهم السلطان مراد الرابع الذي جعل قصاص مستعمليه جذع اﻷنف والشفتين، وتذكر أن التاريخ فيه حكايات كثيرة عن أن متعاطي التبغ لاقوا أشنع الميتات، كإدخال قصبات الغلايين في أنوفهم، ومع كل ذلك لم يستطع أحد منعه.
زراعة الدخان في مصر
اختلفت المصادر في تحديد زمن زراعة الدخان في مصر، لكن الثابت أنه زرع في القرن الثامن عشر، وكان لتركيا الفضل في إدخاله إلى مصر، وقد جادت زراعته في الوجه القبلي ومصر الوسطى، وعرفت مصر زراعة نوعين من الدخان؛ الدخان اﻷحمر؛ باللاتينية «نيكونسيانا تباكوم»، واﻷخضر «نيكونسيانا روستيكا» أي البري، وكان اﻷكثر انتشارًا في مصر، لكنه اﻷقل جودة.
بعد ذلك اتسعت زراعة الدخان في مصر مع أواخر القرن الثامن عشر، إذ زرع منه أهالي الفيوم في عام 1799 مساحات كبيرة، وبعد تولية محمد علي حكم البلاد وتوجيه اهتمامه للنهوض باﻻقتصاد المصري أولى جهودًا كبيرة لزراعة الدخان، خصوصًا وأنه قبل قدومه لمصر كان يعمل في الاتجار به. وتذكر المصادر التاريخية أنه كان من ضمن قائمة المحاصيل التي أوصت بها لائحة الفلاح، وجاء فيها «وأما زراعة الدخان البلدي فابتداء زراعته حين نزول ماء البحر من الجروف، يبذرون التقاوي في اﻷرض التي تنكشف من الجروف، وفي غابة كيهك يحرثون اﻷرض التي ينتقل فيها الشتل المذكور مرتين، ومن ابتدأ بأوانه لغاية شهره ينقلون الشتل المذكور المنزرع بالجروف، ويضعونه في قلب النقر بالغيط الثاني، وحين يطلع عيدانه ويبلغ رشده ويصفر ورقه ينقون الورق الذي يصفر، ويرصونه فوق بعضه، ويربطونه حزمًا، وأما بعض محلات يقطعونه بعيدانه، وينشرونه على المساطب ويبخون عليه جانب ماء، وبعد نشوفيته يعبونه في حصر، ويجنون له نقرًا على قدره في اﻷرض، ويضعونه فيها لأجل ما يعرق وينبطخ، يغطون عليه بعيدانه ويرمون التراب من فوق العيدان، وبعد كم يوم حين يبلغ نصله في السوى يطلعونه ويعبونه بالزكايب وإلا في مصر ويبعونه على راغبيه».
أشهر مناطق زراعة الدخان والتنباك
تنقل المؤلفة عن علي مبارك إسهابه في ذكر المناطق التي اشتهرت بزراعة الدخان والتبناك، وأن معظمها كان يقع في الوجه القبلي. اعتبر مبارك أن أجود أنواع اﻷدخنة، وأكثرها طلبًا، كانت تزرع في ست مناطق في الصعيد وهي «جزيرة نقنق»؛ وأرضها مشهورة بجودة المحصول، ولا سيما شجرة الدخان المشروب، ودخانها مرغوب فيه من جميع جهات الصعيد، ويزدحم عليه التجار، ويقرب منه في الرغبة دخان بلاد الزنار بحوض أسيوط، ودخان البداري شرقي البحر اﻷعظم، عند قرية العقال قبلي بوتيج، ودخان ناحية غياضة من قسم ببا بمديرية بني سويف. وفي ناحية صول بشرق أطفيح بحري الكريمات كان يزرع دخان يعرف بالسروال يرغب فيه كثير من اﻷهالي، وفي بعض قرى إسنا يزرع دخان له رائحة كرائحة الدخان الجبلي.
ترخيص زراعة الدخان والتنباك
وضعت تركيا نظامًا لحصر زراعة الدخان في عام 1874 ألزمت من خلاله كل من أراد زراعة التبغ، بإخبار إدارة الرسومات للحصول على تذكرة مطبوعة، تشتمل على إذن الزراعة، واسم المزارع وكنيته، واسم القرية أو الحارة، والجهات المطلوب زراعة الدخان فيها وموقعها، وكذلك مقدار التبغ الذي قدر عند الحصاد، وحاولت الدولة العثمانية إدخال هذا النظام إلى عدد من ولاياتها، وتشير إلى أنها بدأت تطبقه في مصر مع صدور لائحة زراعة الدخان والتنباك في 19 يناير 1880. انتقلت الحكومة المصرية بعد ذلك إلى إحكام قبضتها على محصولي الدخان والتنباك رغبة منها في تحصيل أكبر قدر من اﻷموال، لتغطية نفقاتها، لذلك صدرت اﻷوامر إلى جميع المديريات باﻻستعداد لعملية الحصر والقياس، كما شُدِّد على المأمورين بمراعاة الدقة في أثناء قيامهم بهذا العمل «إذ المقصود من الحصر والمقاس هو عن جميع ما يصير زراعته بالظبط».
تحديد زراعة الدخان
في أكتوبر عام 1889 قررت الحكومة المصرية تحديد زراعة الدخان بـ 1500 فدان في العام الواحد، إذ عقدت اتفاقًا مع اليونان، كان بموجبه أن تتعهد مصر بتخفيض مساحة الدخان في مقابل زيادة رسوم الدخان الوارد إلى مصر إلى 20 قرشًا للكيلوجرام، أثار ذلك القرار جدلاً بين مؤيد ومعارض، وكان لكلا الطرفين الحجج التي تدعم موقفه. وتحايل اﻷهالي على السلطة بأساليب شتى، إذ لجأ البعض إلى دفع الرشاوى للمسؤولين عن مسح اﻷراضي، ومن لم يستطع ذلك كان يلجأ إلى اقتلاع الدخان من جذوره قبل وصول المسَّاحين، ومع كثرة المنشورات التحذيرية وتوجيه التنبيهات مع بداية كل موسم والتأكد من أنها أصبحت معلومة سواء كان بواسطة المناداة في كل بلدة، أو بوضع إعلانات على محلات مشايخها وعمدها، أو عند النقط الشهيرة، أو بطرائق أخرى، ليكون الجميع على علم بأن الحكومة عزمت على استعمال جميع الطرق الفعالة لتنفيذ كل الأحكام.
حرب المقالات بين اﻷهرام والمقطم
أثار قرار تحديد ملكية زراعة التبغ تلاسنًا بين صحيفتي اﻷهرام والمقطم؛ إذ انحازت اﻷخيرة للقرار وعارضته اﻷهرام، المثير في اﻷمر أن ذلك التلاسن استمر 10 سنوات، فاﻷهرام انحازت إلى أهمية بقاء زراعة الدخان، وحاجة البلاد إليه، معبرة عن خطأ الدولة في قرارها، بينما سخرت المقطم من اﻷهرام، ونشرت في عدد اﻷول من سبتمبر 1890 «فاحت صفحات اﻷهرام بروائح التنباك والدخان في هذه اﻷيام تارة بقلم مديروه، وطورًا بأقلام مكاتيبه ومراسليه، فملأ أعمدة جريدتكم بكلام الهزء والهذيان، متظاهرًا بالدفاع عن مصلحة الوطن وأهله، وقاصدًا في الحقيقة الطعن على دولة الوزير الذي أبعده من حضرته خاسئًا مزدولاً، وعلى رجال المالية خصوصًا، والحكومة المصرية عمومًا، ومؤملاً أن يضر بخصمه الذي نجح وحسن حالاً رغمًا عن مقاومته له، وقد جعل دأبه التهويل على الناس، وإنذار المالية بعجز اﻹيراد، وإخفاق المسعى، مستدلاً على ذلك بأدلة أوهن من نسج العنكبوت».
كان ضحايا إلغاء زراعة الدخان والمطالبة بإعادة زراعته
الزراعة المصرية، ومزارع الدخان، والمدخن الفقير.
أصبحت آلاف اﻷفدنة التي لا تصلح إلا لزراعة الدخان متروكة دون زراعة، فقد كان التنوع في المحاصيل مطلوبًا للحفاظ على جودة اﻷراضي، ومن نتائج ذلك قلة إيراد القطن مقارنة بالمساحة التي خصصت لزراعته، إذ أثَّرت الدودة في اﻷراضي المصرية تأثيرًا كبيرًا، ولمحاولة تلافي هذا اﻷمر كان هناك نقاش عن ضرورة إعادة زراعة الدخان، ﻷن التجارب أثبتت أن في الفترة التي زرع فيها لم يكن للدودة أثر «الجوهر الفعال فيه أشد تأثيرًا من غاز البترول، وهو الجوهر الطيار الذي شوهد نفعه في إبادة الدودة، غير أن نفقاته عظيمة لا يطيقها الفلاح، وأن أوراق الدخان التي تتساقط على اﻷرض لهي من أقوى اﻷسمدة وأعظمها نفعًا لها». حتى إن صحيفة المقطم التي عرفت بتأييدها الشديد لقرار إلغاء زراعة القطن، ووقوفها ضد أية محاولة ﻹعادته، عدلت عن موقفها في تلك السنوات التي عجز فيها محصول القطن، ودعت إلى ضرورة اﻻعتماد على زراعة محاصيل أخرى بخلافه، اشترطت فيها رواج سوقها، ومساواة قيمة محصول فدانها لمحصول فدان القطن، ورأت أيضًا أن تلك الشروط تنطبق على ثلاثة محاصيل فقط، الكتان وقصب السكر والتبغ، ولم تكتف بذلك وفي العدد نفسه؛ الذي صدر في 21 أكتوبر 1913، شجعت الحكومة على إعادة إجراء التجارب العلمية، كي تصل بالتبغ إلى درجة من الجودة تمكنه من المنافسة العالمية.
أما عن مزارعي الدخان فقد ساءت حالتهم اﻻقتصادية، وعانو معاناة شديدة حتى قيل عنهم «الذين يتضورون جوعًا ويئنون من أعباء الفقر والفاقة حتى أصبحوا أجوع من كلبة حومل، وأذل من نعل» وعانى أيضًا المدخن الفقير، فقد افترض البعض أن إذا كان عدد سكان مصر في أواخر القرن التاسع عشر يقدر بـ7 ملايين نسمة تقريبًا، منهم مليون استطاعوا شراء الدخان اﻷجنبي، ونحو 4 ملايين غير مدخنين، من بينهم النساء واﻷطفال، فهناك 2 مليون من العمال والفلاحين، اشترى كل منهم من الدخان بقيمة جنيهين كل عام، وبالتالي أصبح المبلغ الذي دفعوه 4 ملايين جنيه كل سنة، وهذا المبلغ يوازي تقريبًا ربع إيراد مصر في تلك الفترة، وهنا تتساءل اﻷهرام في عدد 30 أبريل 1892 «أفمن العدل أن تؤديه الرعية للأجانب غنيمة باردة وهم أولى به وبمنافعه، بالنظر إلى شدة احتياجهم». كما حذرت في ذلك العدد أيضًا من النتائج التي يترتب عليها ضيق معاش الفلاح، وقلة إيراده، وعدم قدرته على الإنفاق على الدخان، فيضطره ذلك إلى السلب والنهب واﻻعتداء، لأن التدخين صار ملكة لدى الجميع من الصعب التخلي عنها.
المطالبة بإعادة زراعة الدخان
توالت الاقتراحات التي تطالب بإعادة زراعة الدخان عن جهات مسؤولة في الدولة، منها ما سُمي بالجمعية العمومية التي قدمت عددًا من المقترحات لإعادة زراعته إلى مجلس النظار الذي قابلها بالرفض، وكانت حجة مجلس النظار أن إعادة زراعة الدخان تتطلب عددًا كبيرًا من المستخدمين، بالإضافة إلى أنه اعتبر أن منع زراعة الدخان لم يترتب عليه ضرر حقيقي للمزارع، ﻷن اﻷراضي التي كان يزرع فيها المحصول تزرع فيها أصناف أخرى ذات إيرادات.
لجنة إباحة زراعة الدخان
تشكَّلت لجنة إباحة الدخان في 10 نوفمبر 1913 بدعوة من محمد الشريعي باشا إلى عدد من كبار موظفي الحكومة واﻷعيان والمزارعين، واجتمع نحو 500 شخص ورفعوا تقريرًا للحكومة بشأن العوائد اﻻقتصادية التي سوف تجنيها مصر من إعادة زراعته، كما أنهم وقبل إرسال هذا التقرير في 19 نوفمبر 1913 عرضوا على البرنس عمر طوسن في 12 نوفمبر الرئاسة الشرفية للجنة ووافق من جانبه. لكن في النهاية رفضت الحكومة الاقتراح.
تجارة الدخان في مصر
تناولت المؤلفة أيضًا تجارة الدخان، في عهد محمد علي؛ إذ تذكر أن القنطار الواحد من الدخان البلدي كان يباع بـ15 قرشًا و20 نصف فضة، وتشير إلى أن الشوام واﻷتراك كان لهم دور مهم في تجارة التبغ، إذ زاولوا تجارته بالجملة في أحياء القاهرة التجارية؛ مثل خان الخليلي والجمالية.
وتشير إلى أن المؤرخ أندريه ريمون بعد دراسته لعدد من وثائق المحاكم الشرعية توصل لعدد من مواقع الدخاخنية في القرن الثامن عشر، والتي كانت بالقرب من باب النصر واﻷزهر، لفتت تجارة الدخان أنظار محمد علي لذلك أخضعها للاحتكار عام 1810 وأصدر أوامره إلى جميع البنادر والقرى بأن «كل من كان يدق النشوق من الدخان القرردلي أو القبا القرادا ولم يكن من النشوق الميري الذي تحت يد الوكلاء المذكورين يكون عليه ألف ريال نذر تؤخذ منه لطرف الميري، والذي لم يكن له مقدرة على دفعها تؤخذ من البلد الذي يكون به،ا ومن خصوص الدخان القرردلي المذكور كل من كان يوجد عنده يبيعوه إلى وكلاء الملتزمين المذكورين وإن أخفوه عنهم ولم يبيعوه لهم يظبط جبرًا وقهرًا عنهم والذي يحضروا به إلى الوكلاء ويبيعوه لهم بالطوع والرضا يأخذوا ثمنه منهم على كل أقة سبعون نصف فضة».
وتذكر المؤلفة أن تاجر الدخان أطلق عليه «التتويجي» أو «الدخاخني» أو «تنباكي»، وكان مصطفى عبيد رئيس طائفة الدخاخنية في عهد محمد علي، وقاسم الساعي شيخ طائفة التنبكية في الفترة ذاتها.
اﻻستثمارات اﻷجنبية في صناعة الدخان
كان للمتغيرات السياسية واﻻقتصادية التي مرت بها مصر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر دور مهم في تأسيس صناعة الدخان والسجائر، إذ ارتبطت بوجود طبقة فريدة من المستثمرين الأجانب خصوصًا من اليونانين واﻷرمن، ويتضح ذلك من خلال أسماء أصحاب المعامل مثل «جناكليس، وكريازي، وعياش وطنية، ونيقولاديدس، وخريستو كاسمييس، وسيمونيدس، وماتوسيان». ثم تنتقل إلى الأسباب التي شجعت على اﻻستثمارات اﻷجنبية في مجال صناعة الدخان:
أولاً: السياسة اﻻقتصادية التي اتبعتها الدولة العثمانية
احتكرت الحكومة التركية لنفسها صناعة الدخان، مما حفز العاملون بها في تركيا على الهجرة إلى مصر والعمل بها، وباﻹضافة إلى نظام اﻻحتكار قررت لجنة سداد الديون العثمانية توريد عُشر أرباح صناعات الحرير والملح والدخان لمساعدة الدولة العثمانية في سداد ديونها.
ثانيًا: المميزات التي تمتعت بها مصر عن غيرها
تمتعت مصر عن غيرها من الدول بوفرة العمالة ذات اﻷجور الزهيدة التي كانت مطلوبة بشدة في صناعة الدخان، فضلاً عن اقتراب الموقع الجغرافي من مناطق تصدير الدخان الخام في (اليونان وإيطاليا والدولة العثمانية)، باﻹضافة إلى مناخ مصر الجاف الصالح لصناعة السجائر لا سيما مناخ القاهرة الذي تفوق على غيره من مدن مصر.
الشركات العائلية والمساهمة
بحلول عام 1911 بلغ عدد شركات الدخان نحو 40 شركة، زاد في اﻷعوام التالية، وامتلك المصريون منها عددًا محدودًا للغاية، واتسم عدد كبير من شركات الدخان والسجائر بالطابع العائلي؛ ففي عام 1867 أسس كريكور سركيسيان «فابريقة سجائر ودخان سركيسيان بمصر»، التي آلت إلى ابنه كيفورك، ومن بعده أولاده، وظهر أيضًا عدد من الشركات المساهمة؛ ففي عام 25 يونيو 1899 رُخص لعقد شركة بين «خليل باشا خياط والخواجات جون ريشار وريفيس بنكير ونصر الله. خياط تاجر وجبرائيل. طمبة تاجر وچان طمبة مهندس وستيليوج جاروفالو تاجر وسليم طويل تاجر المقيمين جميعهم باﻹسكندرية لتأسيس شركة مساهمة باسم شركة الدخان المصرية».
أساليب المنافسة بين الشركات
نتج عن زيادة عدد المؤسسات العاملة في صناعة الدخان اشتعال المنافسة بينها، وعلى ذلك حرصت كل شركة على جذب العملاء إلى منتجاتها؛ باﻻدعاء بجودة الصنف، ومنح الهدايا والجوائز، كما كان من أهم الوسائل التي اتبعتها الشركات للتسويق لمنتجاتها هي العبارات الدعائية مثل «لذة وهناء بعد التعب والعناء» و«اﻷكابر والبكوات والبرنسات.. وكل من يشرب سكايرنا لا يعود يلذ له أن يشرب من غيرها مطلقًا».
الحركات الاحتجاجية لعمال السجائر
يعتبر إضراب عمال الدخان يومي 25 و26 أغسطس 1889م هو الإضراب الأول لهم، فقد اتسم العمال من قبل بالرضا والسكون قبل أن تنتقل إليهم عدوى اﻹضرابات من أوروبا، وقد وصفت اﻷهرام حركة العمال في 20 يونيو 1892 ضد المسيو ستوراري بالإسكندرية باﻷزمة، لأن العامل منهم كان يحصل على 17 قرشًا مقابل لف 1000 سيجارة، لكن صاحب المعمل أراد تخفيضها إلى 15 قرشًا. ويرى عدد من المؤرخين أن إضراب عمال لفافي السجائر عام 1899 هو أول إضراب في تاريخ عمال السجائر بوجه خاص، وفي تاريخ الطبقة العاملة المصرية بوجه عام.
تناول الكتاب أيضًا السمات التي كانت عليها حركة عمال السجائر، إذ تميزت بالتنظيم والتخطيط الجيد ويمكن ايجازها في التالي:
1: التنظيم والتعبئة
وضع عمال السجائر الذين خططوا لإضراب عام 1894 خطة محكمة قبل الشروع في إضرابهم، فاجتمعوا وانتخبوا منهم 16 رئيسًا للاعتماد عليهم في اتخاذ القرارات، وكانوا كالتالي «خمسة من اليونانيين، وأربعة من الوطنيين، وثلاثة من السوريين، وثلاثة من اليهود، وواحد من اﻷرمن. وفي المساء توجه أربع رؤساء مختلفين إلى البوليس، وأبلغوا عزتلوا هرنجتون بك عن سبب اعتصاب العمال -وكان في الوقت ذلك وحتى أوائل القرن العشرين يسمي اعتصاب، ولم تستعمل كلمة اعتصام إلا أخيرًا - كما امتنعوا عن العمل، ومع الوقت زاد عدد المعتصمين من إضراب إلى آخر، حتى قُدر في إضراب ديسمبر 1899 بـ 900 عامل، ثم وصل في إضراب ديسمبر 1903 إلى 2400 عامل.
2: تحديد المطالب
كان الشائع على مر تاريخ إضراب العمال هو المطالبة بزيادة اﻷجور لإصلاح بعض الشؤون، ومع الوقت ارتقت مطالب عمال السجائر، ولم تعد تقتصر على النواحي المادية، بل تطورت لتشمل نواح نفسية واجتماعية وصحية وغيرها؛ إذ اشترط المعتصمون على أصحاب المعامل في اعتصام يوليو 1894 إنه بعد موافقتهم على مطالبهم المادية ألا يحقدوا عليهم، أو يحاولوا اﻻنتقام منهم بعد عودتهم إلى العمل، ثم ارتفعت المطالب مثل عدم إلزامهم بالمأكل والمشرب بالمحلات التابعة لصاحب العمل، ونقلهم إلى محل أوسع للتهوية تتوفر فيه الشروط الملائمة للصحة، ثم طالبوا بخفض ساعات العمل واحتساب الإجازة المرضية بأجر، وتذكر اﻷهرام في عدد 10 يوليو 1908 أن إضراب عمال محل ملكونيات، طالبوا بضرورة إحضار طبيب للعمال عند الحاجة، واﻹبقاء على العمال المعتصمين دون أدنى معارضة لهم.
نقابات عمال السجائر
كان السبق في ظهور النقابات لعمال السجائر، إذ شُكِّلت جمعية اللفافين في عام 1888، وكان معظم أعضائها من العاملين في محل ملخرينو؛ لأن صاحب المحل أراد في هذا العام إنقاص أجورهم، ثم أنشئت في أغسطس من عام 1896جمعية خاصة بلفافي السجائر المصريين والسوريين أطلق عليها عليها اسم «الجمعية اﻻقتصادية الشرقية لعمال اللفائف بمصر» وتعددت بعد ذلك الجمعيات الخاصة بالعاملين في صناعة السجائر، حتى وصلنا إلى 17 أكتوبر 1908، إذ اشترك جميع عمال السجائر في نقابة، إثر اجتماع عام عقد بينهم، وسميت هذه النقابة الجديدة باسم «نقابة عمال الدخان»، كما شكَّل عمال بعض المصانع نقابات خاصة بهم فقط، مثل نقابة عمال لوران بالإسكندرية، وكانت تهدف إلى مساعدة عائلات العمال الذين حُكم عليهم بالسجن بعد اعتدائهم على زملائهم في اعتصام عام 1912.
ظهور الدخان وانتشاره في مصر
اختلفت المصادر التاريخية حول زمن دخول الدخان لمصر وتشير إلى أن الدراسات الحديثة ترجح ظهوره بين عامي 1601 و1604 وهذا الترجيح جمع بين ما قاله أحمد شلبي عبد الغني واﻹسحاقي وعلي باشا مبارك. أما عن الشخص الذي أدخل الدخان إلى مصر فهو رجل مغربي يدعى أحمد بن عبدالله الجارحي، من بلدة تافيلان، وكان يتجمع حوله الناس في حلقات صغيرة، ثم انتقلت تلك العادة من مجموعة اﻷتباع والمريدين إلى كل فئات المجتمع العامة والخاصة.
تنقل الكاتبة عن الجبرتي سيرة أحد المشايخ التي توضح من خلالها توغل وانتشار التدخين بين اﻷمراء والمماليك الصغار منهم قبل الكبار، إذ كان الشيخ علي بن أحمد بن مكرم الله قد نهى عن شرب الدخان ومنع شربه بحضرته وحضرة أهل العلم، وكان إذا دخل إلى منزل أحد اﻷمراء، ورأى من يشرب الدخان فإنه يسبه ويكسر آلته، فكانوا عندما يرونه مقبلاً من بعيد نبَّه بعضهم بعضًا، ورفعوا شبكاتهم وأقصابهم، وأخفوها عنه. ثم تنتقل الكاتبة إلى وصف علماء الحملة الفرنسية في مطلع القرن التاسع عشر لتوضيح مدى توغل انتشار التدخين بين المصريين من خلال وصف شابرول «فأنت تراهم ممددين لجزء طويل من النهار على آرائكهم أو على حصرهم حسب درجة ثرائهم، حتى تظن أن ليس في هذه الدنيا ما يشغلهم إلا أن يملأوا ويفرغوا على التوالي نرجيلاتهم الطويلة، ويبدو أن مخيلتهم وكأنما قد تخدرت مثل أجسامهم».
أماكن التدخين
تعددت اﻷماكن التي اشتهرت بتركز جموع المصريين المدخنين وهي المقاهي، والمحاشش، والمحال التجارية، والمنازل، ومناطق العمل الرسمية.
المقاهي
تشير المصادر التاريخية أن عدد المقاهي بلغ 1067 بحلول سبعينيات القرن التاسع عشر، وبلغ عدد المترددين على المقاهي في اليوم الواحد 250 فردًا، وكان لكل مقهى رواته ومنشدوه الذين قصوا حكايات الشخصيات اﻷسطورية أمثال أبي زيد وعنترة، وكان شعار المقاهي في القرن التاسع عشر «اﻷرجيلة علينا والتبغ على الزبون»، فكان مدير المقهى يقوم بإعداد اﻷرجيلة للزبائن الذين يطلبونها، في الوقت الذي كان كل زبون يحضر معه تبغه إلى المقهى.
المحاشش
يطلق هذا الأسم على المقاهي صغيرة الحجم، وهي أماكن معزولة خصصت لبيع الحشيش وغيره من المخدرات، اتسمت في البداية بالسرية التامة، حيث كانت توجد في اﻷزقة الضيقة، وأحيانًا في باطن اﻷرض، لكن في قسم العطارين بالإسكندرية أصبحت تلك المقاهي بالشوارع العمومية وفي وسط المنازل الكبيرة الحافلة بالسكان، ومع الوقت صارت مصدرًا للمشاجرات التي تقلق السكان، فضلاً عن روائح الحشيش الكريهة التي لا يمكن الصبر عليها، وقد لعبت الصحف دورًا بارزًا في توجيه أنظار رجال البوليس إلى مناطق وجود تلك المحاشش، إذ أشارت «التنكيت والتبكيت» في الكثير من أعدادها إلى هذه اﻷماكن، وجاء على لسان أحد أصحاب مقاهي الحشيش «إحنا ناس غلابة… وما فضح أسرارنا إلا التنكيت، حيث سمانا الحشاشين، فإذا كان حضرة المأمور يسامحنا في شهر رمضان، وحضرة صاحب التنكيت يخف علينا شوية ويبين للناس ثمرة الكيف...».
المحال التجارية
تنقل المؤلفة عن المستشرق وعالم اﻵثار البريطاني ستانلي لينبول، أن شرب القهوة والتدخين أداتان من أدوات المساومة التي استخدمت في اﻷسواق بين التاجر والعميل، إذ تحدث عن أحد التجار الذي جلس في مكان بلغ كل من طوله وعرضه خمسة أقدام، وارتفاعه كان يتجاوز ستة أقدام، وقد وضع صاحب هذا المكان في هذا النطاق الضيق جميع السلع التي ظن أنه يستطيع بيعها، كما ترك لنفسه مكانًا لمساومة عملائه الذين تصل المساومة معهم إلى حد الجلوس وشرب القهوة والتدخين.
المنازل
اعتبر التدخين في المنازل أحد مظاهر الترف وكذلك وسيلة من وسائل الضيافة، وعبَّرت اﻷمثال عن ذلك «دخانك عمانا وطعامك ما جانا»، ونقلت المؤلفة من كتاب بيرتون «رحلة بيرتون إلى مصر والحجاز» أن الزيارات في مصر كانت «مجرد مناقشة عن النرجيلة والقهوة في مكان، ومناقشة عن النرجيلة في مكان آخر» كما أنها تستعين بما ذكره أحمد تيمور في معجمه الكبير في اﻷلفاظ العامية، بأن ولع البعض بالقهوة والنرجيلة، بلغ أن تغنوا بها في اﻷشعار العامية فقالوا:
يا سعيدة كلمي سيدك .. بالقهوة والشبك فإيدك.
مناطق العمل الرسمية
كان التدخين شائعًا في مناطق العمل الرسمية، وعندما ذهب كل من بورنج وكامبل لمقابلة محمد علي بالديوان استقبلهما وهو يدخن «شيبوكًا» بديع المنظر، جميل التنسيق، تزينه قطع من الماس، يخطف لؤلؤها اﻷبصار، وعلى الديوان حيث يجلس الباشا كانت علبة السعوط مرصعة باﻷحجار الكريمة. لكن في أواخر القرن التاسع عشر تغيرت اﻷوضاع، فحرِّم التدخين في مناطق العمل الرسمية.
الشوارع
شاع التدخين في الشوارع باستثناء شهر رمضان، ومن الطرائف التي تنقلها ما قام به محمد سعيد باشا، الذي أمر ذات يوم بوضع البارود على جانبي طريق ضيق، ثم أشعل شبكته، وألزم حاشيته بإشعال شبكاتهم، ثم ساروا جميعًا على ذلك الطريق وهم يدخنون، وأنذر بمعاقبة كل من وجد شبكته غير مشتعلة، واستمروا في السير، وكانت شرارة واحدة إن تطايرت من إحدي الشبكات وسقطت على ذلك البارود كافية لنسف ذلك الطريق بمن عليه.
وانتشر التدخين في ذلك الوقت بين كل طبقات المجتمع المصري، ومعه اختلف نوع الدخان ودرجاته ومواصفاته من طبقة إلى أخرى.
الطبقة العليا والوسطي كانت هذه الطبقة هي اﻷكثر اهتمامًا بالتدخين، إذ كان بالنسبة لها مطلبًا أساسيًّا من متطلبات الحياة اليومية، وتدلل على ذلك أن عرابي وطلبة باشا كان يدخنان السيجار في أثناء توجههم إلى العباسية.
تشير المراسلات الكتابية التي عثر عليها أن مصطفى أغا الدخاخني بحي الحسين إلى مراسلات أُرسلت إليه من بعض عملائه تحتوي على تحديد نوع الدخان المطلوب، وصفاته ومقداره؛ وجاء نص المراسلات كالتالي «من بعد صباح على جنابكم يقتضي عند تشريف هذه لحضراتكم تعطوه لحامله هذه ربع أقة دخان إسلامبولي من مشروبنا».
وسمي وسيط الاتصال بين التاجر والمستهلك بمسمى «رافق»، وكان العميل يطلب من تاجر الدخان ضرورة اﻻحتفاظ بأصل الرسالة التي بعثها إليه مع الوسيط، وذلك من أجل المحاسبة.
الطبقة الدنيا ومحدودو الدخل
شغل التدخين حيزًا كبيرًا من حياة أبناء الطبقات الفقيرة ومحدودي الدخل، من فلاحين، وعمال، وبحارة وغيرهم من أصحاب الحرف البسيطة والدخول المحدودة؛ فقد كان معظم استهلاك أبناء هذه الطبقة من الدخان المصري مثل طاقم المركب الذين ذكرتهم إميليا إدوادز «ويظهرون بمظهر اﻷمير السعيد عندما ينالون حفنة من الدخان المصري الخشن».
لذلك عندما منعت الحكومة زراعة الدخان البلدي استورد المصريون الدخان الحجازي الذي كان يشبهه إلى حد كبير، وكثر ورود الصنف المذكور عن طريق القصير، وعندما علمت الحكومة بذلك منعت وروده وأجبرت المصريين على تدخين الدخان اليوناني، واﻷنواع الرديئة من العثماني.
وتشير التقديرات أن أعداد الفلاحين الفقراء الذين اعتادوا تدخين الدخان البلدي بمليوني شخص، لذلك بحث المدخن عن الباعة الذين يبيعونه بأرخص اﻷثمان، وعندما ذهب أحد الخدم لشراء بقرش صاغ سجائر من أحد الدخاخنية، وأعطاه اﻷخير 8 سجاير فقط، رفض الخادم أخذها وقال له «أنا دايمًا اشتريهم عشرة بقرش، فغضب الدخاخني، ورمى له القرش، وقاله له روح اشتري من عند الحصان، فقال له لأ، سيدي قالي متجبش إلا من عند الحمار».
تدخين النساء
تشير بعض المصادر التاريخية إلى أن بعض النساء كن يقطعن أوقات فراغهن بالدخان؛ لكن لا يجهرن به، إنما كن يدخن في حجراتهن بعيدًا عن اﻷعين، بينما يذهب أولج فولكلف في كتابه «القاهرة ألف ليلة وليلة» أن نساء مصر كن يدخن الغليون في النوافذ لكن لم يسمح إلا للأمهات فقط بممارسة تلك العادة، ولكن على صعيد آخر حرمت بعض النساء من التدخين، يذكر نوبار باشا في مذكراته أن عباس باشا اﻷول حاك فم إحدى وصيفاته لأنها تجرأت على التدخين في جناح الحريم بالمخالفة لأوامره. وفي أحيان أخرى كان الزوج هو من يحضر الدخان لزوجته، وتشير بعض وثائق بيت مال مصر إلى وجود بعض المكاتبات التي أرسلها أحد المدخنين إلى مصطفى أغا الدخاخني يطلب فيها تسليم مرافقه وقة ونصف الوقة دخان، على اعتبار وقة واحدة خاصة باستخدامه الشخصي، ونصف وقة بحسب تعبيره الشخصي «لزوم منزلنا».
مع بدايات القرن العشرين تذكر صحيفة البصير في عدد 4 يونيو 1901 أن بعض النساء أطلقن دعوة للتدخين، وكان مما جاء فيها أن المرأة أكانت غنية أو فقيرة هي أشد شعورًا، وألطف إحساسًا من الرجل، وبالتالي أكثر اضطرابًا وانفعالاً منه، مما يجعلها أحق بالتدخين منه. وجاء في الدعوة أن منع التدخين عن النساء واعتباره عيبًا، لم يثنهن عنه؛ إذ مضت عليهن عشر سنوات وهن يدخن سرًّا، وردت تلك الدعوة على حجة أن الدخان يمس أدب المرأة وأخلاقها بأنه لا يجب أن يعتد بذلك، لأن المسائل المادية شيء، والمسائل اﻷدبية شيء آخر ،كما أضافت الدعوة أن العيب الوحيد في تدخين المرأة أنه أمر غير مألوف، لكن ذلك لم يعد عيبًا حقيقيًّا، لأن الرجال كانوا يرونه عيبًا من قبل، اعتمادًا على أنه لم يكن مألوفًا.