مراجعات

دينا قابيل

حنظلة على عهدة فهد إسماعيل

2018.01.01

حنظلة على عهدة فهد إسماعيل

 

على عهدة حنظلة

في القطار الذي يقله من بغداد إلى البصرة ومنها إلى الكويت، يكتشف ناجي العلي ثمرة الحنظل شديد المرارة، فيقرر أن يكون حنظلة هو اسم القرين والشريك والخِل الوفي الذي سوف يلازمه في كل رسوماته. يصوره طفلاًيعطي ظهره للعالم وللفنان نفسه، عاقدًا يديه وراء ظهره شاهدًا على مجريات الأحداث دون أن يشارك أو يلوث يديه بما لا يطيق. ولد حنظلة في العاشرة من عمره، وهي السن التي خرج فيها العلي من فلسطين، من قرية الشجرة، وسيظل دائمًا في العاشرة من عمره حتى يعود الفلسطينيون إلى وطنهم، حينها فقط سيكبر وينمو في أرضه الطبيعية، كما أراد له ناجي العلي.

ومثلما خلَّد ناجي العلي صاحبه وجعل من حنظلة أيقونة الثورة وطوطم العودة، سعى الروائي الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل في روايته الجديدة (على عهدة حنظلة) لأن يخلد، ليس فقط سيرة المناضل الفلسطيني، ولكن أن يستحضر ذاكرته وذكرياته. اختار الكاتب ذلك الزمن البعيد، زمن حادث اغتيال ناجي العلي في لندن في 22 يوليو 1987، حين صوب أحدهم مسدسه كاتم الصوت إلى رأسه، ومكث العلي بعدها في غيبوبة حتى رحل في 29 أغسطس 1987. وجعل الكاتب أحداث روايته تدور في فترة الخمس أسابيع التي قضاها العلي على مرقده في المستشفى يقاوم الفناء.حوَّل فهد إسماعيل هذا الموت الإكلينيكي، أو الموت السريري كما يرد في الرواية، إلى صراع مع الوعي وآلية للتذكر، معتمدًا في ذلك على «حنظلة» قرين العلي، كما ينعته في النص «أنت ضميري المستتر». يؤنبه حنظلة على استسلامه، يلكزه ويوقظ وعيه ويستدعي الذكريات داخله، فتتحول حالة «الموت السريري»، عبر صفحات الرواية، إلى قصة مقاومة؛ انتصار ليس فقط على الموت بل على المحو والنسيان.

لأن التحدي الكبير الذي يقوم به إسماعيل فهد إسماعيل من خلال روايته، هو استحضار روح ناجي العلي من خلال مواقفه ومقولاته بعد ثلاثين عامًا من محاولات المحو. في لحظة مسكونة بالتنازلات، ومع تتالي الأحداث المرعبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة التي وصلت مؤخرًا لسيطرة العدو على القدس ومنع إقامة الصلاة في الأقصى والحنث بكل العهود والاتفاقات، حري بنا أن نعود للجذور وللأصول لتلمس طريق العزة والنجاة المسلوبتين. يذكرنا فهد إسماعيل بزمن النقاء الثوري، وبرفض العلي المفاوضات على الأراضي المحتلة واشتباكه الدائم مع منظمة التحرير ومع النظم العربية المهادنة مع العدو. فنستعذب اليوم قراءة هذا الحوار الأشبه بالمونولوج الداخلي بين حنظلة والعلي حين يسأله عمن يستعدونه ويٌعرفهم هو بـ«السيئين»، فيقول: «أولئك الذين يساومون على قضيتنا بلا استثناء»، يستثيره حنظلة «عساك لا تشمل المفاوضين»، فيجيبه قاطعًا «أيا كان ذاك الذي يعلن قبوله تنازله عن جزء من حقه لمغتصبه تحت بند الأرض والسلام يجد نفسه بعد مماطلات تدوم عقودًا فاقدًا حقه كله».

سيرة شديدة الخصوصية

حين قرر إسماعيل فهد إسماعيل، أن يكتب سيرة صديقه ناجي العلي، اختار الخروج عن النمط السائد في كتابة مسيرة الحياة المتعارف عليه والذي يتناول فيها الكاتب حياة الشخصية بضمير الغائب، ويغوص في تفاصيل مشوار الحياة من الميلاد وحتى الممات، أو يتوقف عند محطاتها الرئيسية لتكوين لوحة كاملة عن صاحبها. أما «على عهدة حنظلة»، فقد لجأ فهد إسماعيل فيها إلى بناء فني شديد الإحكام، توارى هنا الكاتب الراوي ليفسح المكان لحنظلة، ينبه صاحبه وينشط ذاكرته في مرقده، ينجح مرات في انتشاله من جب اللاوعي، من الصمت المطبق أو من «بياضه الحليبي» -كما يصفه في النص من أعلى موته السريري- ويخفق كثيرًا في اقتناص لحظات الوعي المحدودة، فيأخذ هو القرين زمام المبادرة، ويدعوه منذ بداية السرد أن يترك للخيال العنان (أليس الأمر كله يتعلق بالغيبوبة ويحكمه الهذيان واللاوعي؟)«دع عنك الواقع واستعن بالخيال».

وتبدو هذه الدعوة هي المحرك الفني الذي جعل الكاتب يتوحد تمامًا مع الشخصية، لأن ما فعله فهد إسماعيل عبر فصول الكتاب الثمانية ليس مجرد تماهٍ مع الراوي أو الرواة -باعتبار أن هناك صوت حنظلة وصوت العلي قادمًا من لا وعيه- بل يدخل الكاتب تحت جلده في أعمق وعيه، يدرك نواياه، ويستنبط مساعيه لبث الوعي في حواسه علها تتفاعل مع محدثيه، مثلما في هذا المقطع عند لقائه مع زوجته وداد «حضنت وداد كفك اليمنى. كيف لك أن تكرس وعيك في كفك. انبرى حنظلة يوجهك. استعن بخيالك. تبذل جهدك، يخيل إليك أن هامشًا من تنمل رائق بدأ يسري عبر كفك صعودًا لذراعك آخذًا طريقه نحو قلبك، ناوشك صوت حنظلة.» ومثلما صور علاقته بزوجته، صور أيضًا علاقته الوطيدة بأصدقائه منذ إقامته في الكويت مثل أحمد الربعي وغانم النجار، وعلاقته بالكاتب الفلسطيني إميل حبيبي وبالشاعر محمود درويش.

ينقل إلينا حنظلة تردد أصدقاء العلي عليه في المستشفى يستحثونه على المقاومة والعودة لأن حياتهم بدونه لا معنى لها، وزيارة إميل حبيبي له أو ذكريات لقائهما في بلغاريا، ولكن الأهم من ذلك هو إدراج مقاطع من رواية سعيد أبي النحس المتشائل تقرأها عليه «حنين» في مرقده، في شكل من أشكال التناص الروائي حيث تتشابك وتتشابه مشاهد من رواية إميل مع سيرة ناجي العلي نفسه، مثل هذا المقطع عن يقين العودة: «يابا.. أبوك يا سرايا ينتظرك انتظارًا مريعًا أشد إيلامًا من يقين المؤمن بأن الموت حق، فهل أرى في عينيك لومًا أغمضت عيني ضميري عنه طول هذا العمرخوفًا من ضياع ذلك اليقين».

أما محمود درويش فيخيم وجوده على النص في مفتتح كل فصل من فصول الرواية، كما لو كان يروي مع فهد إسماعيل نصًّا موازيًا لأسطورة ناجي العلي. «فلسطيني واسع القلب ضيق المكان سريع الصراخ، وطافح بالطعنات.. وفي صوته تحولات المخيم»، أو في مفتتح آخر: «احذروا من ناجي.. فإن الكون عنده أصغر من فلسطين، وفلسطين عنده هي المخيم».

لا يلتزم فهد إسماعيل إذن بالسرد التقليدي لسيرة حياة شخصية شهيرة مثل ناجي العلي، لكنه يعتمد على علاقته المقربة مع الراحل ومعرفته الوثيقة به وقراءاته لكل ما كُتب عنه، ليمزج تاريخ الشخصية المعروف لنا ومواقفها المعلنة بالخيال، أي تصوره لما سيكون عليه ناجي في مواقف محددة، وكيف سيكون رد فعله وكيف ستكون مشاعره. يغوص الكاتب في عقل العلي الباطن من خلال كتاب كتابة شعرية متدفقة لا تعتمد عل الحوار التقليدي بقدر اعتمادها على نوع من المناجاة بين طبقتين من الوعي يتصارعان ضد الموت، أي ناجي وحنظلة. ومع ذلك كله ورغم ضلوع الكاتب في أدق تفاصيل ومشاعر شخصياته إلا أنه يحكم بنائه الفني ويستكمل ألعاب الخيال بأن يطلق على روايته عنوان «على عهدة حنظلة» كما لو كان قد نفى نفسه تمامًا خارج عملية السرد وألقاها على عاتق حنظلة. يتسمع الطفل الفلسطيني ما يدور بخلد صاحبه ويستدعي ذكرياته ويسردها على القارئ، لأنه كما وصفه ناجي العلي «عاق لا يمتثل للأوامر الصادرة عن جهاته العليا»، أو كما يرد في الرواية «لا يمكن ترويضه إلا إذا استطاع المرء ترويض من هو قائم عليه».

تنتهي الرواية كما يعرف الجميع...لا يقوى الجسد الثائر على «العجز عن الفعل» فيؤثر المغادرة، لكن يظل صوت صاحبه حنظلة يشاغبه مصاحبًا لهبوب الريح في البعيد، مثلما يشاغبنا فهد إسماعيل باستدعاء ذاكرة العودة وروح المقاومة الغافلة.