رؤى
راجي مهديحول الوحدة الوطنية الفلسطينية
2025.02.17
مصدر الصورة : آخرون
حول الوحدة الوطنية الفلسطينية
في السادس من فبراير الجاري، أطلق جميل مزهر نائب الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين نداءً طالب فيه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بالدعوة إلى عقد اجتماع عام للأمناء العامين للفصائل الفلسطينية من أجل "وضع خطة وطنية موحدة لمواجهة المخاطر المحدقة بالقضية الفلسطينية وإفشال المخططات الأمريكية الصهيونية"، عبر "تشكيل قيادة وطنية مؤقتة تتولى إدارة المواجهة الميدانية والسياسية"، كما دعا مزهر في ندائه إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية تتولى إدارة الأوضاع في الضفة وغزة.
في العاشر من فبراير الجاري، أصدرت السلطة الفلسطينية قرارا بوقف دفع رواتب أُسر الأسرى الفلسطينيين وعائلات الشهداء.
بين السادس من فبراير والعاشر منه، يبرز التناقض بين الفصائل الفلسطينية من جهة والسلطة من جهة أخرى، تناقض يصيب كل دعوات الوحدة الوطنية الفلسطينية في مقتل، ويحول كل دعوة إلى وحدة مع السلطة الفلسطينية إلى إفلاس سياسي. فالسلطة التي دعاها جميل مزهر في ندائه لتحمل مسؤولياتها الوطنية، هي نفس السلطة التي وصفها بيان الجبهة تعليقًا على إيقاف صرف مخصصات الأسرى بأنها تعد "خضوعًا فاضحًا لشروط الاحتلال وضغوط الإدارة الأمريكية وانتهاكًا سافرًا للحقوق الوطنية".
تدرك الجبهة الشعبية أقدمية هذا الخضوع في الحاضر وفي التاريخ القريب والبعيد، فالشواهد أكثر من أن تعد، وتكفي الإشارة إلى أن السلطة التي تسعى لاستعادة حظوتها لدى الاحتلال شنت طوال أعوام حملات مكثفة على البنية التحتية للمقاومة في الضفة الغربية، ولديها في سجونها أعداد غير معروفة من الأسرى الفلسطينيين من مختلف الفصائل. كما أنها قررت -في مواجهة قرار الاحتلال بتقليص مخصصاتها من أموال الضرائب التي يجمعها نيابة عنها- أن تقلص مخصصات عائلات الأسرى، كي توجه أغلب تلك المخصصات لعناصر أمنها الوقائي، التي لم تتوقف غاراتها على مدن ومخيمات الضفة طوال عام الطوفان بالتوازي مع حملة العدو المسعورة على الضفة التي تسير في اتجاه تمهيد عملية ضمها فعليًا.
إن مشاهد التهجير التي افتتحها العدو في شمال الضفة الغربية منذ أيام، وسط صمت الأمن الوقائي الفلسطيني، إنما تقف على رأس أدلة بطلان دعوة الوحدة الوطنية التي ما كفت الجبهة الشعبية عن توجيهها، بالرغم مما عانت الجبهة نفسها على أيدي السلطة سواء بإيقاف مخصصاتها من أموال منظمة التحرير أو بمحاصرة خلاياها العسكرية في الضفة والتعاون مع العدو في تفكيكها. وبالتالي يحق لنا التساؤل في ظل المأزق الفلسطيني الراهن، على أي أساس تستند دعاوى الوحدة مع السلطة الفلسطينية؟ أو ما هو تحليل الجبهة لطبيعة تلك السلطة التي تنبأ جورج حبش منذ أكثر من 45 عامًا بأنها لن تكون سوى "سلطة رجعية واستسلامية". فسلوك السلطة الحالي هو سلوك استسلامي بالفعل، يختبئ خلف حديث ممجوج عن الويلات التي جرها الكفاح المسلح على القضية الفلسطينية، باعتبار أن اتفاق أوسلو وما تمخض عنه من سلطة "حكم ذاتي" هو إنجاز فلسطيني. غير أن السلطة القائمة وترتيبات ما بعد أوسلو كانت انتصارًا لبرجوازية فلسطينية تعد الآن شريكًا رئيسيًّا للاحتلال الإسرائيلي وتمتد العلاقات الاقتصادية بينهما عميقًا. رأس المال الفلسطيني الذي سعى إلى تسوية تحت أي ظروف، وبأي ثمن، ليعود من المنفى كي يزدهر ولو بالشراكة مع الاحتلال، بل وليستفيد من تلك الشراكة، تلاقت مصالحه مع مصالح العدو في ضرب الكفاح المسلح وتقويض كل من يعتبر أوسلو لا شيء في ميزان المصالح الوطنية الفلسطينية.
عادت البرجوازية الفلسطينية من المنفى، يمثلها سياسيًّا ما تبقى من حركة فتح بعد انشقاقات الثمانينيات وتشظي يسار الحركة، ليبقى عرفات على رأس هيئة يمينية تولت تفكيك الميثاق الوطني الفلسطيني واستكمال الاستيلاء على منظمة التحرير واقتيادها إلى الاستسلام التام لتنشأ سلطة استسلام طبقي ووطني، تدعو الجبهة الشعبية إلى وحدة معها، على أي أساس؟ بالطبع لن يرتدي محمود عباس الزي العسكري الآن، وهو من لم يرتدِه طوال حياته، ليقود المقاومة في الضفة، ويتصدى للجريمة الإسرائيلية المنظمة التي تغتال قرى ومدن ومخيمات الضفة الغربية الآن. فالشاغل الأساسي للسلطة الآن هو التأكد من تسوية ملف المقاومة الفلسطينية في غزة وفي الضفة بالكامل، وأن تعود إلى حكم غزة على دبابة صهيونية وبمباركة من الإمبريالية الأمريكية والرجعية العربية، حكم غزة الآن يعني اقتسام كعكة إعمار مطروح، أو التقاط فتات مشروع ترامب الإمبريالي لسيطرة الولايات المتحدة على القطاع، غير أن السلطة تواجه معضلتين، الأولى هي أن عودتها إلى غزة بالإسناد الاستعماري يحكم عليها بالإعدام، وتصبح سيطرتها المأمولة على القطاع في حكم العدم. المعضلة الثانية هي حاجتها إلى تسويق نفسها كبديل جدير وقادر على حكم القطاع على أنقاض الفصائل المسلحة، تسويق نفسها للرعاة الإقليميين والعدو الصهيوني والإدارة الأمريكية. حل هذه المعضلات حاليًّا هو أمر مشكوك فيه مع قدرة سلطة شائخة، ولا شرعية لديها سوى سلاح أمنها الوقائي الذي يبقيها واقفة بينما هي تتغذى من الهبات والأعطيات الصهيونية.
على أي أساس إذن يدعو مزهر إلى وحدة مع السلطة؟ إن الخوف من خراب منظمة التحرير الفلسطينية كإطار سياسي يمثل الشعب الفلسطيني في المحافل الدولية ولدى بلدان تناصر القضية الفلسطينية يبدو أحد الهواجس، غير أنه هاجس نابع من وهم التمثيل هذا، فالحقيقة أن الاعتراف بالمنظمة كان إنجازًا في زمن حاولت فيه إسرائيل إنكار الفلسطينيين كشعب وإنكار أهليتهم السياسية، غير أن التجربة أثبتت أن السلاح الفلسطيني كان أكثر مضاءً في فرض الوجود الفلسطيني والحق الفلسطيني، ومسألة شرعية التمثيل السياسي الآن يجب أن تُطرح على أساس واحد: في الماضي اكتسبت منظمة التحرير صفتها التمثيلية عبر الكفاح المسلح، والآن ينتخب الكفاح المسلح هيئة فلسطينية بديلة يجب أن تسعى الجبهة وكل الفصائل داخل وخارج المنظمة إلى تشكيلها على أساس ديمقراطي، خلافًا لبنية منظمة التحرير التي كرست هيمنة فتح وعرفات من فوقها. المنظمة الآن لا تخدم سوى شق الصف الفلسطيني وتخريب التعبئة الشعبية وهي وظيفة أدتها السلطة عبر المنظمة بجدارة، فهي من جهة تضم فصائل لا زالت منخرطة في الكفاح المسلح وهي من جهة أخرى لا تتبنى -كإطار جامع- الكفاح المسلح، بل وتنكر شرعيته، وتستغل ما تبقى من نفوذ معنوي لخلق حالة من التردد في صفوف قطاعات فلسطينية. لقد استنفدت منظمة التحرير مبررات وجودها حين وقَّع عرفات وثيقة إعدامها في أوسلو ثم بكنس كل مواد الكفاح المسلح من ميثاقها الوطني، وهي الآن ليست سوى جثة تكتسب ما بقي لها من شرعية من استمرار انضواء فصائل العمل المسلح ضمن صفوفها. إن استمرار وجود الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية في المنظمة إنما يساهم في منح الغطاء للسلطة، وباستثناء الجبهتين، لا يتبقى في المنظمة سوى فصائل بلا وجود فعلي أو فصائل ترفض الكفاح المسلح كحزب الشعب، الحزب الشيوعي الفلسطيني سابقًا.
يدرك مزهر أن لا إمكانية حقيقية لوحدة مع السلطة إلا بأن تنبذ الجبهة وفصائل الغرفة المشتركة الكفاح المسلح، فالبرنامج الذي طرحه يستدعي السلطة لأرض قد أبحرت بعيدًا عنها منذ سنوات وصارت تبحر مبتعدة كلما تعمق الاستيطان في الضفة والإغارات البربرية على الضفة وغزة دون موقف حاسم تتخذه السلطة، وغياب هذا الموقف في كل مرة كان لزامًا عليها أن تصدره، دفعها كلية إلى الاعتماد في وجودها على أذون الاحتلال، فمن أين وجد جميل مزهر القوة المعنوية لمخاطبة سلطة قامت بتسليم أمين عام تنظيمه للاحتلال؟ ولماذا دون بقية الفصائل، لا يتوقف مزهر عن مخاطبة السلطة "للاضطلاع بدورها" وصيانة "الوحدة الوطنية". فالحقيقة أن السلطة تضطلع بدورها فعليًّا، وأي سلوك آخر منها سيعتبر سلوكًا هجينًا، كما أن صيانة الوحدة الوطنية لا تتم بالاصطفاف مع سلطة استولت بقوة الاستعمار والرجعية على القرار الفلسطيني وملفات فسادها لم تعد سرًّا يخفى على أحد.
في أزمان أخرى كانت فترات وجود الجبهة داخل منظمة التحرير أقل من فترات مقاطعتها. وكان لدى الجبهة أفكار وتصورات عن بدائل وأشكال تنظيمية ودعائية في مواجهة المنظمة وعرفات، وكان النقد الذي يوجهه حبش والجبهة إلى عرفات وميوله التصفوية التي تبدت منذ الخروج من الأردن نقدًا حاسمًا وواضحًا ويرفض ابتزاز الجبهة بعضوية المنظمة. ما نشهده الآن من قيادة الجبهة الشعبية هو مساهمة في خلق وهم عن إمكانية إصلاح السلطة الفلسطينية، وهو وهم لا يستند إلى أي أدلة أو أسس حقيقية بل يمكن وصفه كهروب من الأسئلة الكبيرة التي تواجهها الحركة الوطنية الفلسطينية في أحلك لحظاتها.
ترشيحاتنا
