رؤى
راجي مهديالضفة الغربية - قربان السلطة الفلسطينية
2025.01.05
مصدر الصورة : رويترز
الضفة الغربية - قربان السلطة الفلسطينية
بينما يسعى الكيان الصهيوني إلى حسم ملف غزة عسكريًّا تمهيدًا لإقرار أوضاع اليوم التالي فيها، فإن السلطة الفلسطينية تلعب بكل ما في جعبتها من أوراق لإعادة تقديم نفسها كشريك فلسطيني موثوق يمكنه المساهمة في حل مسألة الأمن الصهيوني. غير أن السلطة لا تمتلك من الأوراق سوى أمنها الوقائي الضخم ومخابراتها وهي أساسًا الأجهزة التي نشأت بموجب اتفاق أوسلو وملاحقه التكميلية التي استهدفت في الحقيقة لا تأسيس دولة فلسطينية بل هياكل أمنية تتولى تحت إشراف الاحتلال التعامل مع الملف الأمني للضفة الغربية وغزة.
لم تنشأ سلطة الحكم الذاتي كنواة لسلطة وطنية فلسطينية فعليًّا، إذ إن إسرائيل هي نقيض الوطنية الفلسطينية بالمعنى الحرفي للكلمة. وبينما توهم عرفات وقيادة فتح المغتصِبة لمنظمة التحرير -توهَّم أو أراد إيهام الفلسطينيين- أن أوسلو هو بداية مسار سوف ينتهي بتأسيس دولة فلسطينية، وبما أن كل دولة تحتوي أجهزة أمن فإن تأسيس هذه الأجهزة كان يبدو كعملية طبيعية على مسار الدولة. غير أن أوسلو كان يستهدف تأسيس تلك الأجهزة وهي التي انصبت على تفاصيل تأسيسها أغلب بنود الاتفاق وملاحقه. لم يكن تأسيس سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية سوى إحدى حلقات تمتين الأمن الإسرائيلي في مواجهة التجمعين الأكبر للفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة. بالإضافة إلى هذا كان عرفات ومنظرو الاتفاق يروجون إلى أن الانتقال من سلطة الحكم الذاتي إلى السلطة الوطنية يتطلب أن تكف البنادق الفلسطينية عن العمل، فليس كافيًا أن يُسقط عرفات من الميثاق الوطني الفلسطيني كل البنود التي تعتبر إسرائيل كيانًا غير شرعي يجب إزالته، بل وأن يدين الكفاح المسلح ويسقط كل المواد التي تحرض عليه من الميثاق، باعتبار أن هذا سوف يقنع إسرائيل بجدية الفلسطينيين في البحث عن السلام.
على هذه الأرضية يمكن فهم حملة السلطة الفلسطينية ضد مخيم جنين منذ الأسبوع الماضي، الحملة التي يستهدف منها خلالها الأمن الفلسطيني اقتلاع خلايا المقاومة من المخيم كتتمة للعمل الذي يقوم به العدو الصهيوني منذ سنوات بينما اكتسب زخمًا خاصًّا منذ أطلقت المقاومة الفلسطينية هجومها على الاحتلال في السابع من أكتوبر 2023. والحملة على جنين ليست الجهد الأول الذي تقوم به السلطة في الضفة الغربية منذ بدء طوفان الأقصى. ففي أواخر أغسطس الماضي وبينما كان العدو يهاجم بالتزامن مخيمات بلاطة وشعفاط ونور شمس، كانت عناصر الأمن الوقائي الفلسطيني تهاجم البلدة القديمة بنابلس فيما بدا أنه جهد من السلطة الفلسطينية لإحكام الحلقة حول رقبة مخيمات ومدن شمال الضفة الغربية، نابلس وجنين وطولكرم. يمتلئ سجل الأمن الوقائي الفلسطيني منذ تأسيسه بحالات من التعاون مع الاحتلال منذ اعتقال أحمد سعدات وخلية الجبهة الشعبية التي اغتالت وزير السياحة الإسرائيلي رحبعام زئيفي وصولًا إلى محاولة القبض على الشهيد محمد جابر أبو شجاع قائد كتيبة طولكرم بسرايا القدس أثناء علاجه في مستشفى ثابت ثابت وصولًا إلى مطاردة الشهيد عبد الحكيم شاهين في البلدة القديمة ليلة الأول من أكتوبر الماضي قبل أن ينجح العدو في اغتياله في نفس الليلة. يمكننا سرد التاريخ الطويل للتعاون الأمني بين السلطة والاحتلال، غير أن هذا التاريخ لم يعد بعيدًا عن متناول القارئ، الأهم هو تناول السياق الحالي.
كما أسلفنا، يقوم العدو بعدوان ممنهج على مدن ومخيمات الضفة منذ طوفان الأقصى يستهدف فيه ليس التصفية الجسدية وتفكيك الخلايا والهياكل التنظيمية للمقاومة فقط بل وتدمير البنية التحتية لتأزيم علاقة المقاومين ببيئتهم الحاضنة. الاعتداء على المستشفيات، تدمير الطرق والاقتحامات المستمرة التي تخلق توترًا وتقيد حركة الفلسطينيين من أجل عزل وكشف العُقد القتالية في بيئة سكانية شديدة الكثافة. وبينما أوكلت أوسلو أمن الضفة لسلطة الحكم الذاتي، فإن انفلات الضفة في الأعوام الأخيرة والعمليات الكثيفة التي نفذتها الفصائل الثلاث الكبيرة (حماس والجهاد والجبهة الشعبية) داخل الضفة وإبداع صيغ جبهوية للعمل العسكري كعرين الأسود التي ضمت مقاتلين من التنظيمات كافة، كل هذا قد خصم من رصيد السلطة لأنها فشلت في الملف الوحيد الموكل إليها والذي أُنشئت لإدارته: ملف الأمن في الضفة الغربية. وكان نزول الجيش الإسرائيلي ومخابراته إلى ساحة الضفة بهذه الكثافة وبعد طوفان الأقصى هو تأشير على إقرار إسرائيلي بعجز السلطة عن التعاطي مع مهماتها. بالإضافة إلى هذا، تعد مسألة اليوم التالي في غزة عنصرًا فعالًا في تشكيل السياسة الإسرائيلية، من هي الجهة التي ستتولى إدارة غزة؟
هذا السؤال المطروح منذ اليوم الأول من الحرب، والذي صار واقعيًّا بعد أن اتضح حجم الجموح الإسرائيلي الذي باشر منذ اليوم الأول السير نحو هدف تحطيم المقاومة الفلسطينية وتدمير هياكلها العسكرية والمدنية وعلى رأسها حماس بما يعني أنه يتحتم تجهيز بديل لإدارة القطاع لا على صعيد تسيير شؤونه اليومية فحسب بل وأن يكون هذا البديل قادرًا على ضمان الأمن الصهيوني عبر امتلاك القوة لردع أي محاولة قد تُقدم عليها المقاومة لإيذاء إسرائيل. بل يمكن القول إن هذا البديل سيكون موكلًا بمنع إعادة إنتاج المقاومة في القطاع، هذا الخيار الذي يبدو غير عملي لأنه يتجاهل حقيقة أن طالما كان الاحتلال موجودًا فإن المقاومة ستتشكل حتميًّا في مواجهته.
وبالرغم من أن السلطة الفلسطينية الحالية كانت أحد الخيارات المطروحة لإعادة تولي القطاع، فإن العجز الذي أظهرته في الضفة رغم ما أنجزته على مستوى التعاون الأمني والتنسيق مع الأجهزة الإسرائيلية الأمنية، هذا العجز كان قد قوض حظوظ السلطة في نيل هذا التكليف الإسرائيلي. فمهما خدمت سيدك ستظل مجهوداتك غير مقدرة على ما يبدو. لكن جملة من العوامل قد تكون ساهمت في رفع حظوظ السلطة لإسناد المهمة إليها، وأهمها أن إسرائيل لا تدري تحديدًا شكل الإدارة في غزة ما بعد الحرب، وهو ما أعاد طرح إمكانية أن تحتل إسرائيل قطاع غزة مجددًا. غير أن التواجد الإسرائيلي العسكري المستمر في غزة ينطوي على مخاطر ضخمة وبتكلفة عالية قد لا تكون إسرائيل قادرة على تقبلها الآن. بالإضافة إلى هذا فإن أطرافًا إقليمية تتبنى فكرة تعويم السلطة التي فقدت رضا الصهاينة بالإضافة إلى العداء الذي تكنه لها جماهير فلسطينية عريضة جراء إيغالها في التنسيق الأمني مع العدو، وهو العداء الذي سوف تكتسبه كل هيئة سوف تقبل بتحقيق موجبات الأمن الإسرائيلي على حساب حقوق الشعب الفلسطيني. علاوة على ذلك، إذا لم تستطِع السلطة وأمنها الفوز بدور الهراوة الفلسطينية، ماذا سيكون مصير عشرات الآلاف من عناصر الأمن الوقائي المسلحين، والسؤال الكبير هو ماذا ستكون حدود وصلاحيات هذه الهراوة إذا سارت إسرائيل فعليًّا في طريق ضم الضفة؟
تسعى السلطة إذن عبر عمليتها في جنين وما سبقها وما ستكشف عنه الأيام إلى إعادة تقديم أوراقها للاحتلال، أو محاولة نفخ الروح في اتفاق أوسلو لا كاتفاق طرح احتمالية تحول سلطة الحكم الذاتي إلى دولة فلسطينية على الضفة وغزة، بل كاتفاق أمني يتولى فيه طرف فلسطيني قمع الشعب الفلسطيني في مقابل سيطرة شكلية على بعض المناطق وتعاون اقتصادي بين البرجوازية الفلسطينية وإسرائيل وضمان هيمنة فتح والسلطة على منظمة التحرير. هذا التبادل الذي يمكن أن نسميه الأمن لإسرائيل مقابل البقاء النفعي للسلطة التي هي مظلة شبكة من المصالح المالية العميقة التي انتفعت من ترتيبات أوسلو بل يمكن القول إن تلك المصالح كانت الدافع الرئيسي لاستسلام يمين منظمة التحرير المتمركز في حركة فتح لشروط إسرائيل.
من الضروري أيضًا الإشارة إلى أن هناك سعيًا إسرائيليًّا واضحًا لا إلى تحييد غزة عسكريًّا فقط، بل واستكمال الخطط القديمة الجديدة لضم الضفة الغربية التي لم يتوقف نمو البؤر الاستيطانية فيها، هذا النمو الذي يستدعي بالضرورة استئصال كل قوة أو شبه قوة عسكرية أو كل جهة تسعى إلى خلق أرضية لعمل عسكري في الضفة، وهو ما تجلى في حملة اعتقالات ضخمة طالت كوادر في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في الضفة في 5 نوفمبر الماضي، هذه الحملة ومثيلاتها هي استمرار لجهد إسرائيلي مشترك مع السلطة الفلسطينية لتفكيك قدرات الضفة العسكرية لما تمثله من خطر مباشر على مشروع الاستيطان وخطوة الضم التي تستعد لها إسرائيل في سياق توجهها نحو تصفية كل الملفات على الجبهات كافة، الخطوة التي سوف تستثمر فيها إسرائيل ما حققته من انتصار إستراتيجي لتستكمل ترسيخ سيادتها التي تمثل الضفة جزءًا محوريًّا فيها.
فلسطينيًّا، يبدو الاشتباك الفلسطيني الفلسطيني حتميًّا، فرغم نداءات فصائل المقاومة للسلطة بكف أيديها عن المقاومين، وبرغم فداحة الضرر الذي تلحقه مجهودات الأمن الوقائي بالقدرات القتالية للفصائل في الضفة، وبالرغم من التماهي التام للسلطة مع اجتياحات العدو للضفة وصولًا إلى رام الله ومحيط المقاطعة نفسه، فإن الفصائل من داخل ومن خارج منظمة التحرير لا زالت حريصة على إغلاق أبواب الاقتتال الأهلي الذي تدفع إليه تصرفات السلطة دفعًا، ليس عسكريًّا فقط بل جماهيريًّا، إذ عمدت السلطة إلى تحريك مظاهرات في الخليل جنوب الضفة تدعم الحملة الأمنية على مخيم جنين، لا يمكن تفسير هذا إلا باعتباره استفزازًا عمديًّا لن يؤدي إلا إلى خلق حالة فوضى فلسطينية بالضفة تقدم لإسرائيل غطاء عملية الضم أو أن يفضي صمت الفصائل واختيارها عدم التصعيد إلى تصفية ما تبقى له بما يجعل الضم أكثر سهولة بالنسبة إلى إسرائيل. إن ما تقوم به السلطة الفلسطينية يساهم في خلق صدع فلسطيني قد تستفيد منه السلطة مؤقتًا، غير أنها حين تستكمل مهمتها بتمزيق فصائل الضفة فإنها سوف تصبح زائدة على الحاجة بما يهدد بقاءها الذي لا شرعية جماهيرية له، بل إنه وجود الأمر الواقع المرتبط بوجود الاحتلال نفسه.
في هذا الإطار صار من اللازم التساؤل عن جدوى التزام المقاومة الفلسطينية بمنظمة التحرير، سواء فصائل داخل المنظمة كالجبهة الشعبية أو الفصائل خارجها. فصحيح أن المنظمة محط الاعتراف الدولي كممثل شرعي للشعب الفلسطيني، إلا أن تلك الشرعية صار مشكوكًا فيها منذ أن سعت المنظمة إلى نيل الاعتراف الإسرائيلي، ثم إنه ما قيمة هذا التمثيل وما قيمة المجتمع الدولي نفسه فإن ما نتج عن الالتزام بسقف اللعبة السياسية قد أفرز بعد جهد جبار وتنازلات درامية تأسيس مسخ سلطة قيل إنها مقدمة لتأسيس مسخ دولة. لقد صارت المنظمة إطارًا فارغًا وفقدت شرعية التمثيل التي استمدتها من شرعية السلاح، ثم صارت عقبة حقيقية في وجه الجهد الوطني الفلسطيني المقاتل وهو ما يدفع نحو ضرورة إما استئناف محاولات تخليص المنظمة من هيمنة فتح وخطها السياسي، الجهد الذي قادته الجبهة الشعبية تاريخيًّا والذي لم يعد ممكنًا الآن، لتفتت اليسار الفلسطيني وضعفه، وإما إلى إسقاط المنظمة عبر خلق تكتل خارجها على أرضية مشروع وطني فلسطيني مقاتل يمثل كل ما هجرته منظمة التحرير، فاتحًا الطريق نحو إعادة رص الداخل الفلسطيني خلف البندقية باعتبارها ما وضع القضية الفلسطينية من جديد على جدول أعمال التاريخ مثلما منحت منظمة التحرير شرعية التمثيل من قبل.