دراسات

راجي مهدي

تاريخ تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – الجزء الأول

2024.07.13

تاريخ تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – الجزء الأول

 

تأسست الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عام 1967 من اندماج منظمتي شباب الثأر وأبطال العودة التابعتين لحركة القوميين العرب مع مجموعة "جبهة تحرير فلسطين" التي كان يقودها أحمد جبريل. كان تأسيس الجبهة استجابة للواقع الجديد الذي أفرزته هزيمة يونيو 1967 التي أدت إلى زلزال داخل حركة القوميين العرب. كانت الحركة التي أسسها جورج حبش ووديع حداد وهاني الهندي، مرتبطة بالأنظمة القومية العربية وعلى رأسها النظام الناصري، وقد أدى هذا الارتباط إلى توجه سياسي يربط معركة تحرير فلسطين بقرار القيادة القومية العربية الممثلة في عبدالناصر، ويربط التحرير بمعركة تخوضها الجيوش العربية حينما تنضج الظروف، أدى هذا المفهوم إلى امتناع حركة القوميين العرب عن إطلاق الكفاح المسلح فعليًّا -كي لا يتم توريط عبدالناصر في حرب لم يستعد لها بعد- باستثناء بعض دوريات تنطلق عبر الحدود إلى الداخل المحتل وقد سقط الشهيد خالد الحاج عيشة في أول دورية من هذا النوع عام 1964.

أدت الهزيمة واحتلال ما تبقى من الأرض إلى تحول عميق داخل حركة القوميين العرب واستقطاب غير مستقر داخل الحركة. برزت بشائر هذا التحول في اجتماع اللجنة التنفيذية في يوليو 1967 الذي خرج بوثيقة سياسية صاغها جورج حبش جاء فيها: "إن متابعة الحرب مع الاستعمار الجديد، بكل أبعادها، الداخلية والخارجية، وبآفاقها الاقتصادية والسياسية والفكرية والعسكرية.. باتت تتطلب انتقال مقاليد القيادة إلى الطبقات والفئات الاجتماعية الكادحة الأكثر جذرية في مقاومة الاستعمار وحلفائه المحليين، بحكم مصالحها وطبيعة أيديولوجيتها، وتحت هذه القيادة، سوف يكون على البرجوازية الصغيرة وكل العناصر والقوى الوطنية والتقدمية أن تسهم بدورها في معركة التحرر الوطني". كانت الوثيقة نقلة واضحة في التحليل في اتجاه اليسار، وضعت بذور التحول الجذري في تربة القوميين العرب، وبصياغة حبش نفسه الذي اعتبرته جماعة حواتمة يقف على رأس قوى اليمين التقليدية في القوميين العرب.

جورج حبش 

صدر البيان التأسيسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في 11/12/1967 وقد خلا من أي تحديد للهوية الأيديولوجية للجبهة رغم توجيهه النداء إلى جماهير الفلاحين والفقراء وسكان المخيمات وما لذلك من دلالات، وهو التوجه الذي سوف يتنامي كما سنرى، بالإضافة إلى هذا، توجه البيان بدعوة إلى كل القوى خارج الجبهة للوحدة في مواجهة العدو، وكانت هناك بالفعل محاولات للوحدة بين القوميين العرب وحركة فتح -المنافس الصاعد منذ 1965- وهي محاولات فشلت نتيجة إصرار فتح على العمل بدون برنامج، وهي محاولات تكررت بعد تأسيس الجبهة التي كانت تسميتها نابعة أساسًا من السعي إلى أن تكون جبهة عريضة تضم كل قوى الكفاح المسلح الفلسطيني، غير أن الصدع الأيديولوجي داخل الجبهة لم يسمح لقيادتها بحسم الموقف من فتح على أرضية تحليل طبقي سليم لطبيعة نشأتها وارتباطاتها.

كانت معركة الكرامة في 21 مارس 1968 إيذانًا بمزيد من الفرز داخل الجبهة الشعبية. كان أحمد جبريل قائد قوة الجبهة المرابطة في قرية الكرامة قبل بدء الهجوم الصهيوني، ولمَّا كانت مبادئ حرب العصابات تحتم انسحاب المقاومة وعدم الاشتباك جبهيًّا مع قوة معادية متفوقة، فقد أمر جبريل قواته بالانسحاب بينما بقيت قوات فتح تدعمها مدفعية الجيش الأردني. دارت معركة شديدة انتهت بانسحاب الصهاينة إلى غرب الأردن بعد خسارة 4 دبابات و28 قتيلًا، وبالرغم من تكبد المقاومة خسائر تقدر بـ 150 شهيدًا فإن الكرامة كانت انتصارًا معنويًّا شهد أول انسحاب صهيوني في وجه قوة عسكرية عربية ضئيلة الحجم والعتاد وتفتقر إلى التغطية الجوية - انتصارًا استثمرته فتح دعائيًّا بشكل ناجح أدى إلى صعود أسهمها بشدة.

الصراع الأيديولوجي

في أغسطس 1968، صدر التقرير السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وهو التقرير الذي رسم خطوط التطور التالي للجبهة. تبنى التقرير تحليلًا ماركسيًّا صريحًا يحكم بالإعدام على الأنظمة "التقدمية" العربية بوصفها أنظمة برجوازية صغيرة لم تعد قادرة على قيادة معركة التحرير لأنها بتكوينها تخشى تعبئة الجماهير العربية لخوض حرب تحرير شعبية وأن هزيمتها الفادحة أمام العدو قد جاءت تعبيرًا عن هذا التناقض. صدر التقرير عن المؤتمر الأول للجبهة الذي عُقد بأغوار الأردن وانتخب لجنة مركزية حظي فيها جناح حواتمة -محسن ابراهيم بـ 10 مقاعد مقابل 6 مقاعد للقيادة القديمة حبش- حداد. حدثت هذه التطورات في ظل غياب جورج حبش نتيجة اعتقاله في سوريا بعد كمين استدرجته إليه المخابرات السورية. كان حبش هو قطب الجبهة الوازن ونقطة ارتكازها التاريخية، وأدى غيابه إلى تسارع عملية الفرز داخل الجبهة. بحلول أكتوبر 1968، أتم أحمد جبريل انشقاقه على خلفية الانتقادات التي طالته بعد الكرامة بالإضافة إلى نفوره من الصراع الأيديولوجي، فأسس الجبهة الشعبية - القيادة العامة التي تحولت من الآن فصاعدًا إلى مجرد ذراع سورية في السياسة الفلسطينية.

بعد عملية جريئة قام بها وديع حداد لتحرير حبش من سجانيه السوريين في نوفمبر 1968، عاد الحكيم إلى الأردن ليجد التنظيم ممزقًا، لم يكن حبش رافضًا تبني الماركسية لكنه طالب بالتروي، كما طالب بعدم قطع كل العلاقات مع الأنظمة الوطنية في مصر وسوريا خوفًا من العزلة الإقليمية. أدى هذا مباشرة إلى الانشقاق الثاني في الجبهة حيث تأسست الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين بقيادة نايف حواتمة –كان اسمها عند الانشقاق الجبهة الشعبية الديمقراطية- غير أن الديمقراطية التي تأسست باعتبارها اليسار المنشق عن القيادة القومية القديمة سوف تنتقل بحلول السبعينيات لتكون على يمين الجبهة الشعبية.

نايف حواتمة يلقي خطاب الانشقاق عن الجبهة 

في المؤتمر الثاني للجبهة الشعبية المنعقد على خلفية فوضى تنظيمية ضاربة، تبنت الشعبية رسميًّا الماركسية اللينينية كمنهج نضالي ومرشد للعمل، وتبنى المؤتمر هدف صهر مكونات حركة القوميين العرب في التنظيم الماركسي الجديد ولم تعُد صيغة الجبهة كإطار جامع لقوى عديدة هي الهدف بل تأسيس تنظيم ماركسي ثوري يهدف إلى قيادة الطبقة العاملة الفلسطينية لطيف عريض من الكادحين والبرجوازية الصغيرة الفلسطينية لإنجاز التحرير الكامل وإقامة الدولة الديمقراطية الاشتراكية. كما قدم التقرير الصادر عن المؤتمر نقدًا عميقًا وموضوعيًّا لأنظمة البرجوازية الصغيرة التي تحجز الجماهير العربية خلف أسوار الجيوش النظامية وتمنع إطلاق حرب التحرير الشعبية كخيار وحيد أمام حركة التحرر العربية. لم يكن انشقاق الديمقراطية إذن قائمًا على أسس موضوعية، إذ إن مكونات الموقف كانت جميعها تشير إلى أن الجبهة تتطور باتجاه الماركسية على خلفية إدراك قيادتها لإفلاس الأيديولوجية القومية وهو ما كان جليًّا في وثيقة يوليو 1967، وفي هذا الصدد تبدو الإشارات المتعددة إلى دور فتح وحزب البعث الفلسطيني -مرتبط بسوريا- في دفع الانشقاق، تبدو صحيحة. إذ إن الجبهة كانت منافسًا مباشرًا خاصة مع تأسيس الجهاز الخاص بقيادة وديع حداد والصدى الهائل الذي أحدثته عمليات خطف الطائرات التي أمدت الجبهة بسيل من المتطوعين.

وديع حداد

كان هذا النقد امتدادًا لموقف المؤتمر الأول والتقرير الذي أشرنا إليه آنفًا. شكل هذا الموقف النقدي تجاه أنظمة الهزيمة، بالإضافة إلى بدء الجبهة الشعبية موجة خطف الطائرات في 23 يوليو، فصل النهاية في العلاقة التاريخية بين جورج حبش وجمال عبد الناصر. فصم عبد الناصر علاقته بالجبهة وأوقف تمويلها وتسليحها وأغلق معسكرات تدريبها في مصر. كان إصرار الجبهة على إدارة علاقتها بعبد الناصر ونظامه وفق مبدأ الوحدة والصراع غير مقبول لعبد الناصر الذي لم يتخلَّ عن مبدأ التحالف اللامشروط، أي التبعية في محاولة لفرض تحكمه وسيطرته على كل عناصر الموقف العربي، وجه عبد الناصر دعمه إلى فتح باعتبارها أكثر اعتدالًا وأقل توريطًا بالإضافة إلى أن فتح كانت تحظى بدعم مشيخات النفط الخليجية على اعتبار أن الإخوان المسلمين كانوا رافدًا رئيسيًّا في تشكيل فتح. وفي حين اختارت مصر دعم فتح، وجه السوريون دعمهم إلى منظمة الصاعقة التي قامت بتحريض سوري بالتحرش بالجبهة ومحاولة التضييق عليها.

 تفجير الوضع في الأردن

 في بيئة إقليمية غير مواتية تمامًا حسمت الجبهة أمر صراعها الداخلي وأمر هويتها الأيديولوجية، وبدأت في الأردن تبني نفوذًا هائلًا في المخيمات وتستعيد حيويتها عبر نشاط جبار كان محوره جورج حبش الذي انتخبه المؤتمر العام الثاني قائدًا للجبهة كما كان إصدار مجلة الهدف بإشراف غسان كنفاني أحد القرارات المهمة التي اتخذها المؤتمر، لتكون ناطقًا باسم الجبهة ومركزًا علنيًّا بديلًا لمجلة الحرية التي انتقلت لتصبح المجلة الرسمية للجبهة الديمقراطية.

غسان كنفاني

منذ منتصف 1968 صبت الجبهة جحيمها على الثالوث المُعادي -الإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية- انطلاقًا من الأردن قامت الجبهة باختطاف الطائرات وتفجير مكاتب شركة العال والمصالح الإسرائيلية في أوروبا، وفي 1969 دفعت الجبهة بعناصر من الكوماندوز لتفجير خط أنابيب بترول التابلاين الذي ينقل النفط السعودي عبر الجولان، جلبت هذه التكتيكات على الجبهة الشعبية عداء الجميع، بدءًا من الملك حسين مرورًا بكل النظام العربي الذي رأى في الجبهة تقويضًا لكل مساعيه الرامية إلى الوصول إلى تسوية وانتهاء بالرأسمال الغربي الذي لم يعد آمنًا على مصالحه.

في هذه البيئة كانت الجبهة تحاول إرساء نفسها كتنظيم لينيني، وبرغم تواجدها في المخيمات الفلسطينية فإنها لم تنجح حتى انفجار المواجهة مع الملك حسين في تعزيز الحركة الوطنية الأردنية، وكان هذا أحد دروس مرحلة الأردن التي تحدث عنها جورج حبش بمرارة، خطأ اشتركت فيه كل فصائل العمل المسلح غير أن مسؤوليته الأكبر تقع على عاتق اليسار الذي وضع نفسه بديلًا للجماهير والحركة الوطنية الأردنية، بالإضافة إلى هذا كانت بعض الممارسات المراهقة ليسار أغرته قوته ونفوذه سببًا في عزلة الثورة الفلسطينية في الأردن، عزلة لم تتناسب مع السقف المرتفع الذي طرحته الشعبية -والديمقراطية معها- الذي أعلن العداء لحسين والعمل على إسقاطه، واستمرت الجبهة في تقويض ركائز الاستقرار في الأردن على أساس أن المواجهة سوف تجبر فتح على الانخراط في المعركة وإسقاط حسين.

دعم هذا السيناريو إقدام الجبهة في مطلع 1970 على احتلال محطات إذاعة أردنية في عمَّان وتحركت فتح لدعم الجبهة في المعركة، غير أن الأمر كان يتطلب أن تتخذ الثورة الفلسطينية المبادرة بالهجوم على العرش قبل أن يبادر الأخير بتوجيه الضربة الأولى للمقاومة. استمرت الجبهة في تصعيد الموقف مع العرش الهاشمي، فقامت في 11 يونيو 1970 باحتلال فندقي إنتركونتيننتال وفيلادلفيا في عمَّان واحتجاز 68 سائحًا كرهائن للمطالبة بإقالة بعض العناصر في النظام الأردني وإيقاف الاعتداءات على المخيمات.

مع قبول عبد الناصر بمبادرة روجرز، قامت الجبهة الشعبية وجبهة التحرير العربية بالاشتباك مع منظمة العمل الناصري في مطلع أغسطس وكثفت دعايتها المضادة لناصر والملك حسين على السواء. كانت الجبهة تتحرك وفق سيناريو يستهدف الإطاحة بالعرش الأردني وتحويل الأردن إلى قاعدة للعمل الفدائي، غير أن هذا السيناريو لم يكن مقبولًا لدى فتح وعبد الناصر، ولم تكن الولايات المتحدة وإسرائيل ومن ورائهما مشيخات الخليج لتقبله، وكان تنفيذه يستلزم بناء كتلة عربية جماهيرية تضمن عدم عزل المقاومة وتصفيتها. غير أن الشعبية استمرت في تهديد حسين والنظام العربي كله وأقدمت في 6 سبتمبر 1970 على نشر الفوضى في سماوات أوروبا بالاستيلاء على 4 طائرات بالإضافة إلى فشل الاستيلاء على طائرة خامسة. هبطت ثلاث منها في مطار داوسون في الأردن بينما هبطت الرابعة في مطار القاهرة وتم تفجيرها بعد إخلاء الرهائن. هزت العملية العالم، وبينما حاول عرفات التفاوض مع الجبهة قامت عناصرها بتفجير الطائرات الثلاث في المطار وتوزيع الرهائن على مخابئ سرية في عمَّان ومحيطها. كانت تلك اللحظة هي الشرارة التي تحرك على إثرها الجيش الأردني لتصفية الوجود الفلسطيني المسلح في الأردن على مدار الفترة الممتدة من سبتمبر 1970 حتى منتصف 1971. كان حسين سيتحرك على أي حال، فقد صار الفدائيون عبئًا على نظامه الهش، وتهديدًا لبقائه إذ إنه صار بلا سلطة فعلية، ما أثار حفيظة الجيش الأردني، كما كان الأردن قاعدة للانطلاق إلى الأرض المحتلة وعبر نهر الأردن عبر الكوماندوز لينفذوا مئات العمليات، كما قامت الفصائل بإطلاق الصواريخ من قاعدتهم الآمنة في الأردن، كل هذا أدى بالولايات المتحدة وإسرائيل إلى دفع حسين إلى التحرك. 

وللحديث بقية..