ثقافات

أمير الـصرّاف

خبايا جبانة الإمام الشافعي التي تُهدم اليوم

2024.11.02

تصوير آخرون

المرقد الأول لزعيم الأمة.. سعد باشا زغلول

 

جبانات الموْتى القديمة وبخاصة في العواصم الكبيرة ليست مجرد أماكن وارى ترابها جثامين صفوة العلماء والنُّخب المجتمعية. الجبانات مداخل للحيوات السابقة للراقدين فيها للمهتمين والباحثين، وهي أيضًا أبنية فيها تنافسات فنية وحرفية بين البنَّائين والخطَّاطين في إبراز حرفيتهم وشخصيتهم الفنية على هذه الدُّور التي عتقتها عجلة الزمن الدوارة فصارت آثارًا للأقدمين تشبه كثيرًا المُتحف المفتوح بطرزها المعمارية المتنوعة وتفاصيلها الفنية على شواهد القبور وأعتاب المداخل.

نزلنا إلى السيدة زينب ومنها إلى السيدة عائشة، كنت قد هاتفت إبراهيم طايع الهواري، قبلها بليلة للإعداد لتلك الزيارة بصفته عارفًا بقبور النُّخب في القرنين الماضيين، ومحبًّا لزيارة قبور الصالحين وآل البيت، بدت منطقة السيدة عائشة مزدحمة، كالعادة تسربنا من الزحام إلى مقهى في درب خلف المسجد.

تولدت لدينا جرعة من الحماس والهمة مع قدوم دليلنا في هذه الرحلة، بدا إبراهيم مفعمًا بالنشاط ويرتدي ملابس رياضية تناسب هذه الرحلات الطويلة، وبدأت رحلتنا إلى الإمام الشافعي ترجلًا، نشق الكتل البشرية ونتجاهل ضجيج باعة الحيوانات في ذلك السوق المتخصص والشهير بمنطقة السيدة عائشة، ولم أكن قد التقيت إبراهيم الهوًاري من قبل، وكان الطريق إلى مقابر الإمام مناسبًا للتعارف.

منذ 10 سنوات بدأ شغف إبراهيم، بزيارة القرافة وقبل أن ينقل إقامته من سوهاج إلى القاهرة، يقول.. أصبحت أزور المقابر كل يوم بعد استقراري في القاهرة ويلازمني شغف في استكشاف مقابر الشخصيات التاريخية المهمة في كل الحقب التاريخية، فروعة هذه العمائر كان وراءها فنانون وبناءون غاية في الإبداع وبالتالي هي لا تقل في قيمتها الفنية عن الأبنية التاريخية الأخرى على اختلاف أغراضها.

يضيف.. من خلال هذه الزيارات تكون المعلومات متاحة أمامك لمعرفة أسماء حكام أو رجال دين مرت أسماؤهم عليك من قبل، إضافة إلى استكشاف الطرز المعمارية وتواريخ الدفن من خلال شواهد القبور، وأسماء الخطاطين والفنانين الذين صمموا دور الدفن تلك وهي في النهاية تراث قومي يجب الحفاظ عليه وصيانته والعمل على توثيقه للتعريف به.

مع ظهور قباب مقابر الإمام الشافعي من بعيد بدأ الزحام ينفك من حولنا وانتهى امتداد سوق الجمعة، وأصحبنا قادرين على الترجل بسرعة للوصول إلى أكبر عدد من أبنية الدفن قبل غروب الشمس.

كنت أخطط لزيارة مدفن الأمير يوسف كمال الرحَّالة والفنان التشكيلي وهو من أبرز أمراء أسرة محمد علي، ولم أكن أعرف أننا سنكتشف قبرًا غامضًا لزعيم الأمة والحركة الوطنية المصرية التي تمخض منها الوفد المصري. لقد دُفن الزعيم سعد زغلول في الإمام الشافعي مؤقتًا، ثم نُقلت رفاته إلى مرقده الحالي بضريحه الشهير في شارع الفلكي وسط القاهرة بعد 9 سنوات من وفاته.

من ضمن مرويات شهود العيان على مكان المرقد المؤقت للزعيم سعد زغلول بمقابر الإمام الشافعي، وجنازته، رواية الراحل نجيب محفوظ، أديب نوبل في مذكراته، "صفحات من مذكرات نجيب محفوظ" التي كتبها الراحل رجاء النقاش: "أما يوم جنازة سعد زغلول فهو يوم من الأيام التي لا أنساها أبدًا، خرجت مع شلة العباسية وانتظرنا موكب الجنازة في ميدان الأوبرا، كان المنظر مهيبًا، وسرنا على الأقدام مع الجماهير الحاشدة التي رفعت نعش الزعيم على أكتافها حتي مدافن الإمام، كان الناس يحبونه إلى درجة العبادة، وينزلونه منزلة التقديس والإجلال."

امتازت منشآت الدفن الخاصة بالنُّخب في القرن العشرين وهي النماذج الأكثر احتفاظًا بتخطيطها المعماري القديم، بالرحابة والاتساع ووجود ملحقات ومنها غرفة الدفن الرئيسية، غرفة للحارس المُقيم، وغرفة استقبال للزوار من أسرة المتوفي، فضلًا عن حديقة صغيرة أو فناء، وهذا ما يُلاحظ في أكثر من منشأة في الإمام الشافعي.

تتشابه الشوارع ومنشآت الدفن في مقابر الإمام، ورغم ذلك فدليلنا إبراهيم طايع يعرف الطرق المؤدية إلى معظمها من دون أن يسأل أحدًا من سكان المنطقة وفي الطريق كان حريصًا على أن يدلي بمعلوماته حول كل ما يقابلنا من أبنية، ولم نكن نستطيع أن نفوِّت زيارة قبر نفيسة البيضاء، أرملة علي بك الكبير ثم زوجة تلميذه مراد بك وأشهر نساء طغمة البكوات المماليك، تلك المعتوقة القوقازية التي أدارات المفاوضات مع الفرنسيين أثناء احتلالهم مصر، كان قبر نفيسة، فقيرًا ربما يعكس نهاية حياتها المؤلمة والغريب أن ذلك القبر بالتحديد كان كل حراسه من النسوة.

وسط صفوف المقابر التي تتراص بشكل عمودي منتظم في الشوارع وتتقاطع أحيانًا وصلنا إلى قبر سعد زغلول الذي لم يكن مميزًا في مدخله فقد أحيطت وحدات المدفن بسور غير مرتفع وباب صغير من الحديد.

بخطى مُسرعة دخلنا من الباب ورفع إبراهيم صوته، السلام عليكم لتحية أهل القبر، ووجدنا من يرد التحية بصوت خفيض! كانت امراة عجوزًا طيبة وبشوشة من أسرة حارس المقبرة تمشي بخطي متثاقلة قادمة من ممر يقع إلى جانب غرفة الدفن.

قلت لها.. جئنا لزيارة سعد باشا.. نحن من الوفد المصري! وعلى ما يبدو أن ذكر الوفد كان هو مفتاح الدخول لحجرة الدفن القديمة التي وارى ترابها جثمان سعد سنة 1927، فلم يكن إبراهيم طايع قد دخلها من قبل وإن كان يعرف موقع المقبرة.

كان التفرد والمغايرة هو اللافت في قبر سعد زغلول من الداخل مقارنةً بمنشآت الدفن الكثيرة الخاصة بالنُّخب في مقابر الإمام، أقيمت حجرة الدفن الرئيسية بنظام الجمالون الفراغي وهو هيكل إنشائي مصنوع من الدعامات المتشابكة في نمط مثلث من خامات الخشب والحديد وارتكز السقف على حوائط بنائية، ويعد هذا النمط هندسيًّا من أحسن الأنظمة المستخدمة في تغطية المساحات الواسعة من دون الحاجة إلى أعمدة داخلية، ويمتاز هذا النمط بالشكل المغاير وتوفير الإضاءة والتهوية الطبيعية.

داخل غرفة الدفن ظهرت مزايا استخدام ذلك النمط الهندسي حيث توافرت الرحابة والاتساع في المساحة والتهوية والإنارة الطبيعية من خلال السقف والشرفات الخشبية في الحوائط، ومع الرحابة كانت هناك البساطة فلا شواهد قبور فخمة ممهورة بخطوط مذهبة، بل مجرد طبقة مرتفعة تتوسط أرضية غرفة الدفن ومكسوة بالرخام الأبيض ويزينها أصيص صبار، أما الجدران فكانت تزينها آيات من الذكر الحكيم.

توفي سعد زغلول في العاشرة مساءً وخرجت جنازته الحاشدة في اليوم التالي مباشرة من بيته، مُتحف بيت الأمة حاليًّا، حسب شهادة الأديب نجيب محفوظ في مذكراته السالف الإشارة إليها، ساعة الوفاة وتاريخها وثقت لها السيدة صفية زغلول أم المصريين، في بيت الزوجية عندما أوقفت التقويم والساعة على تاريخ رحيل زوجها، وكأنها اعتبرت أن الحياة توقفت بعد رحيل سعد.

هي نفسها الزوجة الوفية التي ناضلت 9 سنوات لبناء وتخصيص ضريح يليق بالزعيم، إلى أن تولى الزعيم مصطفي النحاس رئاسة الوزارة وصدر قرار نقل رفات سعد زغلول في احتفال رسمي من مقابر الإمام الشافعي إلي ضريحه الحالي بشارع الفلكي.

كتبت صفية، إلى النحاس، تشكره بعد صدور قرار نقل الرفات في 12 يونيو 1936 وكانت لهجة الخطاب تقول إن الزوجة المخلصة ارتاح قلبها أخيرًا بعد أن نجحت مساعيها في تخليد اسم زوجها أبد الدهر.

تقول صاحبة العصمة: "تشرفت بكتاب دولتكم الرقيق الذي تبلغني به قرار مجلس الوزراء بنقل رفات زوجي المغفور له سعد زغلول باشا إلى الضريح الذي بُني من أجله، وقد كان لهذا القرار أبلغ الأثر في نفسي فلدولتكم وللمجلس جميعًا أوفر الشكر وأجزل الحمد. على أنني نظرًا إلى الحوادث التي جرت في هذا الشأن، وشعورًا بواجبي نحو فقيدي وفقيد البلاد، لا يسعني إلا أن آذن بهذا النقل إلا إذا كنت على يقين من أن ما تفضلتم بتقريره من تخصيص الضريح بزوجي وبي، ويظل باقيًا أبد الدهر، فإن تكفل القانون بذلك فحبًّا وكرامة."

لم يكن سعد زغلول يُخطط أن يدفن جوار بيته في وسط القاهرة أو يُقام له ضريح فخم بطراز العمارة المصرية القديمة، اختار سعد زغلول أن يُدفن في مقابر عادية ككل المصريين، في الوقت نفسه لا يوجد تاريخ مُحدد لبناء قبره في الإمام الشافعي فقد خلت غرفة الدفن من تاريخ الإنشاء، لكن المرجَّح إنه أقيم قبل سنة 1927، لأن سعد زغلول دُفن فيه في اليوم التالي مباشرة لوفاته وهو ما يُؤكد أن المقبرة كانت متممة وجاهزة، ويمكن تقدير عمر المدفن بحوالي 97 سنة استنادًا إلى تاريخ وفاة سعد زغلول.

وبقيت هذه المقبرة أو المدفن في حيازة سلسال عائلته من بعده، فقد حوت لوحة رخامية صغيرة على واجهة غرفة الدفن ما نصه.. مدفن عائلة الحاجة صفية زيد حفيدة سعد باشا زغلول، على الجانب الآخر من هذه الواجهة لوحة أخرى باسم ورثة المرحوم شلبي إبراهيم زغلول، كما ضمت الواجهة لوحات أسماء متوفين من العائلة.. محمود رشاد زغلول 2004، إبراهيم زغلول محمد البسيوني زغلول 2011، محمد عصام محمد شلبي بركات 2010، الدكتور محمد علاء الدين بركات، المستشار محمد كمال زغلول مارس 2012، والشيخ محمد البسيوني إبراهيم زغلول يوليو 1979.