هوامش

منى أبو النصر

خيارات أوليمبية.. طوكيو 2020 هوامش نفسية وجندرية وأيديولوجية

2021.08.01

خيارات أوليمبية.. طوكيو 2020 هوامش نفسية وجندرية وأيديولوجية

يتصدر العنصر الدرامي فعاليات الأولمبياد الرياضية بكل جدارة، فصرخات الانتصار وخطوات الانسحاب ودموعها لها وقع صوتي ودلالي يكاد أحيانًا يُزلزل الأفئدة، فهنا الأحلام مباحة والخسارات مُباحة، حيث المسرح يتسع للجميع، والسقوط من عليائه مؤلم.

بعد تأجيلها لمدة عام بسبب الجائحة، تعود دورة الألعاب الأوليمبية المُقامة بالعاصمة اليابانية طوكيو هذا العام بختم 2020، سنة انعقاده الرسمية، ليظهر لاعبو الأولمبياد الذين تُفرقهم الجنسيات وأنواع الرياضات لتجمعهم "الكمامات" التي لا يتخلون عنها سوى خلال المنافسات، وسرعان ما يتخفوّن وراءها حتى في لحظات التتويج على أنغام السلام الوطني.

تختبئ وراء الكمامات والأرقام القياسية لأصحابها مئات الحكايات، فأبجديات الأولمبياد تتسع لما هو أبعد من مجرد فوز وخسارة، فهناك أيضًا الانسحاب، ذلك الفعل الذي كما يرتكز في الغالب على خيارات سياسية وعقائدية (كرفض مواجهة لاعب إسرائيلي)، فهو ينحاز كذلك لخيارات ذاتية تفوق أهمية المجد الرياضي أحيانًا، فوسط أنباء التتويج والميداليات، شغل العالم انسحاب اللاعبة الأمريكية سيمون بايلز، 24 عامًا، من نهائي مسابقة الفردي العام ضمن منافسات الجمباز الفني، إذ انسحبت اللاعبة "النجمة" حسب بيان رسمي للاتحاد الأمريكي للجمباز"من أجل التركيز على صحتها الذهنية"، وفتح هذا الانسحاب "الشجاع" للاعبة تساؤلات حول إدراج الصحة الذهنية كسبب للانسحاب من الفعاليات الرياضية، يوازي تمامًا الانسحاب لأسباب جسدية.

بايلز واحدة من أنسال أسطورات الجمباز، تقف بثقة في قائمة تضم أسماء بارزة على درب الرومانية نادية كومانشي، فهي بطلة أوليمبية لثلاث دورات متتالية، كما فازت ببطولة جميع الأجهزة في بطولة العالم للجمباز ثلاث مرات أعوام 2013، 2014، 2015، بما يجعل الصحافة تنعتها بأريحية بـ"أسطورة الجمباز"، والأفضل في التاريخ G.O.A.T، إلا أن بايلز التي تحمل رصيدًا كبيرًا من الانجازات الرياضية تحمل كذلك إرثًا طويلاً للمرض الذهني، الذي أعلنت عنه قبل نحو 5 سنوات، وهو إصابتها بمتلازمة فرط الحركة ونقص الانتباه ADHD، وما يلزمه من تناول عقاقير للتغلب على الاضطراب الذي تعاني منه منذ طفولتها، وتحرص بايلز على التدوين الدائم حول هذا المرض وتعايشها معه، ورحلة إدراجها للأدوية التي تتناولها مع كل مشاركة أوليمبية لها، للحصول على موافقة لدى دخولها المنافسات وهي تتعاطى تلك الأدوية، كما حصل من قبل في أولمبياد ريو دي جانيرو 2016، التي قدمت بايلز طلبًا للحصول على استثناء للتنافس وهي تتناول عقار "ريتالين"، وحصلت في تلك الأولمبياد على 4 ميداليات ذهبية. وكذا حصلت على موافقة استثنائية في أوليمبياد طوكيو، ورغم ما كان تنتظره مشاركتها لتحقيق رقم أوليمبي جديد، فإن يبدو أن بايلز واجهت تطورات في صحتها قررت إثرها الانسحاب وعدم مواصلة منافسات النهائيات، لتفتح نقاشًا واسعًا حول الصحة العقلية للرياضيين، وفكرة أوسع حول فكرة الأولويات والخيارات "علينا حماية عقولنا وأجسادنا وليس مجرد الخروج والقيام بما يريد العالم منا القيام به" فللأرقام القياسية تكلفة نفسية لم تتحملها البطلة الأمريكية، وآثرت رعايتها النفسية على أمجاد طوكيو.

تستدعي حكاية سيمون حكاية لاعبة التنس اليابانية ناعومي أوساكا، أول لاعبة تنس يابانية تفوز بدوري الفردي جراند سلام، التي قررت في يونيو الماضي الانسحاب من بطولة فرنسا المفتوحة بسبب عزوفها عن المشاركة في المؤتمرات الصحفية في تلك البطولة العالمية الذائعة، بهدف حماية صحتها العقلية.

ونقل موقع بي بي سي BBC في هذا الوقت عن الدكتورة فرانشيسكا كافاليريو، وهي من كبار أساتذة علم النفس الرياضي بجامعة أنجليا رسكن في بريطانيا، قولها إن رد الفعل السلبي على موقف أوساكا يعوق الجهود المبذولة لحث الرياضيين على الحديث بصراحة عن صراعاتهم مع مواضيع تتعلق بصحتهم العقلية، واعتبرت أن انسحابها فرصة للحديث عن التوتر والصحة العقلية في الرياضة. أوساكا، ذات الـ23 عامًا سبق أن دوّنت على تويتر عبارات عن معاناتها من نوبات الاكتئاب، منذ فوزها عام 2018 بأول ألقابها في إحدى البطولات الأربع الكبرى (جراند سلام)، وأنها تريد "الابتعاد قليلاً عن الملعب".

في عام 2019 فتح فيلم "Headsrong" نقاشًا جريئًا مبينًا على فكرة المصارحة في الكشف عن الاختلالات النفسية والذهنية لدى أبطال الرياضة، ومحاولة الاقتراب وتفكيك الصورة النمطية القائمة على إظهار صلابة الرياضي، بديلاً عن هشاشته، وذلك عبر تبني قصص أربعة من الرياضيين والرياضيات الذين واجهوا تحديات مع الصحة العقلية، وما أطلقوا عليها "وصمة" المرض التي قد تؤثر سلبًا على صورة الرياضي القوي/الصلب، ومن المنتظر أن يتسع هذا النقاش بعد الضجة التي أثارتها سيمون بايلز وسط اهتمام عالمي في قلب طوكيو.

تمثل مشاركة سيمون وغيرها من التمثيل النسائي المتصاعد في الفعاليات الرياضية الدولية، أحد أبرز ثمار الحركة التاريخية الممتدة من النضال النسوي من أجل تحقيق مناصفة عددية في المشاركات النساء في الألعاب الأوليمبية، والمنافسة في جميع الألعاب المُدرجة ضمن البرنامج الأوليمبي، هذا النضال الذي يعود إلى بدايات القرن التاسع عشر، وتحديدًا مع انعقاد الدورة الأولى للألعاب الأوليمبية عام 1896 في أثينا التي مُنعت فيها النساء من المشاركة، وذاع وقتها تصريح مؤسس الألعاب الأوليمبية الحديثة، بيير دي كوبرتان، بأن مشاركة النساء في المنافسات "أمر غير عملي وغير ممتع وغير جمالي وغير لائق"، إلا أن الضغوط النسائية لم تكترث بالنغمة التمييزية لكوبرتان، واتسعت دوائر النضال حتى تمكنت النساء من المشاركة منذ الدورة الثانية للألعاب الأوليمبية عام 1900 في باريس، وكانت المشاركة مقتصرة في تلك الدورة على رياضتين فقط وهما التنس والجولف، منذ هذا التاريخ استطاع الضغط المجتمعي والنسوي يربح أرضًا جديدة مع كل دورة أوليمبية، حتى لو استغرق هذا التغيير عمليًّا أكثر من 100 عام، حتى وصلنا لهذا العام الذي أعلنت فيه اللجنة الأوليمبية الدولية (IOC) في الـ8 من مارس الماضي أن أولمبياد طوكيو 2020 المؤجلة ستكون أول دورة ألعاب أوليمبية متوازنة جندريًّا من حيث نسبة الرياضيات التي تقترب من 49 % للمرة الأولى في تاريخ الألعاب الأوليمبية، لتستدعي ذكرى الدورة الأولى، قبل 125 عامًا، قرار قصر المنافسة على الرجال.

وإلى جانب المساواة الجندرية، تستضيف طوكيو 2020 أول مشارِكة عابرة للجنس وهي النيوزيلندية رافعة الأثقال لوريل هوبارد، لتصبح أول رياضية عابرة جنسيًّا تختار للمشاركة في مسابقات الألعاب الأوليمبية، واللافت أن هوبارد، 43 عامًا، كانت تُنافس من قبل في الفعاليات الرياضية الخاصة بالرجال قبل أن تُعلن أنها عابرة جنسيًّا في 2013، وتفتح مشاركة هوبارد جدلاً، متوقعًا بطبيعة الحال، حول مدى إنصاف مشاركة العابرين جنسيًّا في الفاعليات الرياضية، وانقسم الرأي ما بين احترام هُويتهم الجنسية والجندرية من جهة، وانتقاد لفكرة أن لديهم أفضلية غير منصفة (بسبب مستويات هرمون التستستيرون)، إلا أن هذه المشاركة في جميع الأحوال ستكون انطلاقة للمطالبة بمزيد من الضم لفئات كانت مستثناة في الألعاب.

وتعد هوبارد واحدة من بين 142 رياضيًّا من مثليي الجنس والمتحولين والعابرين جنسيًّا المشاركين في أولمبياد طوكيو، وهو عدد أكبر من عدد المشاركين في الأولمبياد الصيفية الأخيرة في ريو دي جانيرو، ويأتي ذلك بعد أن أوصت اللجنة الطبية التابعة للجنة الأوليمبية الدولية، في 2016، بالسماح للرياضيين المتحولين جنسيًّا بالمشاركة في الألعاب الأوليمبية، حتى لو لم يخضعوا لعملية تغيير الجنس.

وعادة ما تُجدد الفعاليات الأوليمبية خطابات استيعاب المثليين دون تمييز جنسي، لعل أبرزها دعوة الأمين العام للأمم المتحدة السابق بان كي مون في خطاب له خلال اجتماع اللجنة الأوليمبية الدولية في فبراير 2014 داعيًا العالم إلى رفض "الهجمات على السحاقيات والمثليين"، وذلك عشية افتتاح دورة الألعاب الأوليمبية الشتوية في سوتشي".

وفي أوج جدل حول هذا الموضوع قال بان كي مون إن الكثير من الرياضيين المحترفين المثليين وغير المثليين يرفضون الأحكام المسبقة، وعلينا جميعًا أن نرفع الصوت لرفض الهجمات على السحاقيات ومثليي الجنس والمتحولين جنسيًّا". ولم يكن خطاب بان كي مون، في هذا التوقيت، مبنيًا على فراغ، فقد خرج على خلفية الجدل الذي أثاره قانون أصدره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين آنذاك الذي ينص على غرامة وعقوبة بالسجن بحق من يقوم بالترويج" للمثلية أمام قاصرين، وهو القانون الذي أثار في هذا الوقت انتقادات غربية شديدة، إلا أنه وعد قُبيل دورة الألعاب الأوليمبية الشتوية التي نظمتها روسيا للمرة الأولى، أن روسيا "سترحب بالجميع"، في إشارة إلى موقف محايد من المثليين، وواكب ذلك تصريحات رئيس اللجنة الأوليمبية الدولية أن على الجميع محاربة "التمييز على أساس التوجهات الجنسية أو أية أحكام مسبقة أخرى"، معتبرًا أن الرياضة يجب ألا تكون "منبرًا لانشقاقات سياسية أو لمحاولة تسجيل نقاط لدوافع تتعلق بالاحتجاجات السياسية الداخلية أو الخارجية".

في 2016 كانت الصورة الشهيرة التي تُبرز المواجهة بين"البيكيني" و"الحجاب" في مباراة كرة القدم الشاطئية بين منتخبي ألمانيا ومصر، واحدة من أشهر الأحداث الثقافية التي خرجت من رحم أولمبياد ريو، أخذت تلك الصورة مناحي أيديولوجية وثقافية وجدلية لفترة طويلة، وسط عنونة "لندن تايمز" لها في هذا الوقت بأنها "صدام ثقافي"، وطورّت صحيفة "صن" المسألة معتبرة أن هذا الانقسام الثقافي ليس "هائلاً" فحسب بل "جسيمًا".

في المقابل واكب ظهور فتاة من الفريق المصري بالحجاب بروباجاندا من بعض التيارات الدينية تعتبر هذا الظهور بمثابة انتصار إسلامي، بعد قدرة "الحجاب" على فرض حضوره في محفل دولي بعد سنوات من القيود على ملابس كرة القدم الشاطئية، فتلوّنت منافسات الكرة الشاطئية في هذا العام بأطياف دينية وأيديولوجية وخرجت عن مضمارها الرياضي. 

ويبدو أن خطوات السيدات صوب إثبات جدارتهن في المنافسة الرياضية، دون تمييز جندري يميل للتعليق على أجسادهن وملابسهن الرياضية، له باع تاريخي طويل، سعى الفن لتأمله منذ بدايات القرن العشرين، وإن تلوّن بعضه بصبغة أيديولوجية، لعل منه لوحات الروسي أليكساندر أليكساندروفيتش دينيكا، أحد أبرز رسامي أسلوب الواقعية الاشتراكية Socialist realism، ومنها تلك التي حاول فيها صياغة علاقة السيدات بالرياضة في الاتحاد السوفيتي وقيمه الشيوعية، منها لوحة "سيدة الأنشطة" التي تقترب من روح"المُلصقات" الدعائية، وفيها تظهر بطلة اللوحة في ملابس رياضية مُساوية لنظرائها من الذكور الذين يظهرون في الخلفية، وتحمل قرصًا في حالة دينامية توحي بتأهبها للحركة، ويوحي جسدها الرياضي بدعم فكرة أن النساء مثل الرجال، يجب أن يُصبحن قويات، وتبدو لوحة دينيكا في هذا الوقت، منتصف الثلاثينيات، أقرب لاستلهام المستقبل وأحلامه بأن تتساوى المرأة مع الرجال في المنافسة.

وواصل دينيكا في الأربعينيات تدوينه الفني البصري فرسم في تلك الفترة لوحة أخرى لعدد من السيدات في ملابس رياضية، يركضن بحرية في أفق ممتد من المناظر الطبيعية، دون وصاية أو تهديد مجتمعي، في اتكاء على الفن لدعم المرأة في مجال الرياضة، وتعزيز الصور القليلة للنساء المشاركات في الرياضة آنذاك على مستوى العالم، أملاً في كسر الحلقة التقليدية للرياضة باعتبارها ملعبًا ذكوريًّا.