صناع الثقافة

دار المرايا

دورة حياة الفيلم المستقل كيف يواجه الصناع المصير المجهول

2021.08.01

دورة حياة الفيلم المستقل كيف يواجه الصناع المصير المجهول

في أحد أيام شتاء العام ٢٠١٧، كنت أتحدث إلى صاحب "آخر أيام المدينة" تامر السعيد عن كيف يرى مستقبل السينما المستقلة وصناعها في مصر. لم يكن لدى المخرج الشاب إجابات، بقدر ما كان محملًا بالأسئلة المريرة والهواجس. 

"السؤال الجوهري في رأيي هو كيف نخلق منظومة إنتاج تضمن تحقيق طموحنا السينمائي، بينما تتجاهل الدولة أفلامنا وتخضعها لنفس شروط السينما التجارية؟"، يواصل السعيد "فهل من العدل مثلًا أن نتوقع من صانع فيلم بلا مقابل وبلا فرص للعرض أو التوزيع أن يستمر على نفس المنوال؟ هل يستطيع صانع الفيلم في ظل هذه الظروف إنتاج فيلمه الثاني أو الثالث؟ هل يمكنني أن أصنع خمس أفلام في حياتي؟ أنا سعيد أني أعمل على الهامش لكن إلى أي مدى ستسمح الظروف أن يظل هذا الهامش قائمًا من الأساس؟"

كان اللقاء مع السعيد، بعد أشهر قليلة من الأزمة التي أثارها اعتذار مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في اللحظة الأخيرة وعلى نحو مفاجئ عن عرض فيلمه الروائي الطويل الأول الذي استغرق إنتاجه عشر سنوات وشارك في عشرات المهرجانات حول العالم وحصد الكثير من الجوائز، قبل أن ينتبه السعيد إلى أنه غير مسموح بعرضه في المدينة الوحيدة التي تلعب دور البطولة في فيلمه "القاهرة"، إذ لم يقدر للفيلم أن يحصل على تصريح رقابي بعرضه في دور العرض المصرية بأي شكل من الأشكال. 

للفيلم المستقل دورة حياة تختلف قطعًا عن غيره تحكمها سلسلة معقدة من الخطوات غير المضمونة. فليس هناك طريق مختصر لإنتاج فيلم، لأن كل الطرق يحكمها التشكك والانتظار. يولد الفيلم المستقل مجهول المصير من لحظة تشكل الفكرة مرورًا بكل مراحل الإنتاج وحتى وصوله إلى الجمهور إن قدر له ذلك.

معضلة الدعم الخارجي:

في إطار ظروف إنتاجية شبه مستحيلة محليًا، يصبح الاعتماد على فرص الدعم الخارجي من خلال صناديق الدعم أو الإنتاج المشترك هي النافذة الأهم لتمكين صناع الأفلام في السينما المستقلة من إنتاج أفلامهم. لكن هذه النافذة مغلقة بدورها على سلسلة من الإجراءات المعقدة التي تحكمها رؤية الممول لما هي الأفلام التي يمكنه إنتاجها وبأي طريقة. مثلًا تطلب فيلم "سعاد" لأيتن أمين سنوات قبل أن يتمكن من الحصول على أي نوع من الدعم الإنتاجي، كانت أمين بالتعاون مع السيناريست محمود عزت قد انتهت من كتابة الفيلم في العام ٢٠١٥، أي بعد عامين فقط من عرض فيلمها الروائي الطويل الأول "فيلا ٦٩". لكن كان لزامًا على المخرجة وفريق عمل الفيلم الانتظار حتى عام ٢٠١٨ للحصول على المنح الأولى لإنتاجه من خلال منصة مهرجان الجونة والتي كانت بالكاد تكفي لبدء التجهيزات الفعلية للفيلم. حصل الفيلم لاحقًا على المزيد من الدعم الإنتاجي لينتهي العمل عليه في العام ٢٠٢٠. عندما سألت أيتن في العام الماضي بعد الإعلان عن مشاركة "سعاد" رسميًا في مهرجان كان، عن السبب في تعطل تمويل إنتاج الفيلم كل هذه السنوات قالت إنها رغبت من خلال فيلمها الجديد في استكشاف لغة سينمائية مختلفة عن تلك التي ميزت فيلمها الأول. لكن هذه الرغبة في الاستكشاف والتجريب بالذات هي التي أعاقت دعم الفيلم "لم يجد المنتجين الأجانب في أسلوب إخراج فيلمي الأول ما يعزز الطريقة التي أرغب بها عمل فيلمي الثاني. فهو مختلف تمامًا في أسلوب السرد والبناء واختيار الممثلين. اعتبروا أنه لا يوجد دليل ملموس على قدرتي صنع فيلمي كما أريد. استغرق الأمر سنوات لكسر التوقعات". الآن بعد أن صار فيلم "سعاد" هو الأول لمخرجة مصرية الذي يختار رسميًا في مهرجان كان تشعر أمين بالامتنان لإصرارها على تنفيذ فيلمها وفق رؤيتها مع أن الثمن كان ٦ سنوات من الانتظار. 

"كاميرا رشيقة، سلسة، وقريبة وشخصية ترسم صورة متحركة وحيوية لشباب مصر. تبني أيتن أمين بعناية عالمًا غنيًّا تمتزج فيه التقاليد المحلية بالآمال الكونية. هنا فتاة صغيرة تحلم، تأمل في الغواية والإرضاء، تطمح في أن تكون محبوبة، أن تتزين، وأن تولد من جديد في قلب العالم، في الإسكندرية الفخمة يمكنك سماع الحياة، والإنصات إلى أصوات المدينة بالخارج ممتزجة بصمت بطلة الفيلم، وصمت المخرجة. هنا ميلاد دليل آخر على أن هناك حاجة إلى المزيد من تلك النماذج التي تبرز الطاقة الديناميكية للمشهد السينمائي المصري الشاب والصاعد" هكذا جاء تعليق إدارة مهرجان كان على أسباب اختيار "سعاد" رسميًّا من بين ٥٦ فيلمًا للمشاركة في الدورة الـ٧٣ للمهرجان الفرنسي العريق.

واجهت المخرجة مي زايد تجربة شبيهة خلال إنتاج فيلمها التسجيلي الطويل الأول حاصد الجوائز "عاش يا كابتن"، والذي استغرق إنتاجه ست سنوات، وتدرك هي أنها كانت ضرورية لمتابعة تطور الشخصية الرئيسية في الفيلم عام بعد آخر، لكنها لا تنكر أن تأمين التمويل الكافي لإنتاج الفيلم لم يكن أمرًا سهلًا. تحدثت إليها عقب الإعلان عن العرض الأول للفيلم في مهرجان تورنتو صيف ٢٠٢٠ وكانت لا تزال تلتقط الأنفاس بعد عناء الانتهاء من فيلم مرهق. "باءت كل محاولاتي للحصول على تمويل للفيلم بالفشل خلال السنوات الثلاث الأولى.. واحد من أهم أسباب رفض المنتجين الأجانب دعم الفيلم هو أنهم لا يفهمون لماذا علينا أن نصنع فيلمًا عن فتيات عربيات سعيدات وقويات بدلًا من التركيز على زوايا تعرضهن للقهر أو التحرش والاستغلال". يقدم الفيلم قصة نجاح لمجموعة من بطلات رفع الأثقال اللاتي وصلن إلى العالمية من قلب حديقة جرداء متربة في أحد الأحياء العشوائية بالإسكندرية. كانت مي بينما تبحث عن فرص لتمويل إنتاج فيلمها تواصل التصوير، لكنها لم تكن مقتنعة بأن على المخرج أن يصنع فيلمًا بالكامل بالاعتماد على موارده المحدودة "رحلة إنتاج فيلم مستقل درس شاق، لكن من الضروري لكل صانع أفلام أن يتعلمه حتى يتمكن من إنجاز المزيد من الأفلام". تمخضت التجربة الصعبة بالإضافة إلى "عاش يا كابتن" عن كليو ميديا وهي شركة إنتاج أسستها مي بهدف إنتاج أفلامها، ودعم صانعات الأفلام لإنتاج أفلامهن "هناك ضرورة لأن تعبر السينما عن صوت النساء من خلال صانعات أفلام" تقول مي. 

على نفس المنوال واجهت المخرجة السودانية مروى زين مصيرًا مؤرقًا خلال إنتاج فيلمها "أوفسايد الخرطوم". قضت مروى شطرًا كبيرًا من حياتها في مصر، حيث درست في المعهد العالي للسينما بالقاهرة وأخرجت أفلامها القصيرة الأولى. لكن فيلمها التسجيلي الطويل الأول والذي يتناول قصة ثبات فريق كرة قدم نسائي سوداني في مواجهة تحديات صعبة، لم يلق ترحيبًا من المنتجين الأجانب في البداية لأنه حسب تعبيرها يكسر التوقعات الغربية عن تناول نساء عربيات في السينما. قررت مروى أن تستثمر مدخراتها القليلة في تأسيس شركة إنتاج سينمائي في السودان ORE Production أملًا في العثور على شريك أجنبي للإسهام في إنتاج الفيلم بشرط أن تحافظ على موقعها كمنتج رئيسي له الكلمة العليا. لكن الأمر لم يخلُ من مخاطرات أبرزها محاولات التدخل في رؤية المخرجة والتي قاومتها مروى بعناد "أنا بالتأكيد ممتنة للعائلة الدولية التي احتضنت الفيلم، لكنني أعي جيدًا أن لكل منحة ولكل إنتاج مشترك شروط. وعندما لا تشبهني أو تشبه فيلمي أنسحب فورًا مهما كانت الحاجة للدعم المالي شديدة". اعترفت لي المخرجة الشابة بينما كان فيلمها يعرض بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي عام ٢٠١٩ بأنها تعرضت لخسائر بسبب إصرارها على مواقفها في بعض الأحيان لكنها في النهاية ترى أنه "على صانع الأفلام أن يعرف جيدًا متى عليه أن يقول لا بارتياح".

ورغم أن المخرج مروان عمارة تمكن من إنتاج فيلمه الروائي الطويل الأول "الحلم البعيد" - بمشاركة المخرجة جوانا دومكى- بميزانية يقول إنها كبيرة نسبيًا لفيلم مستقل بفضل الإنتاج المشترك، فإنه لم يسلم من المنغصات خلال رحلة البحث عن تمويل لفيلمه. لم تكن الشكوك هذه المرة تتعلق بمحتوى الفيلم وإنما بأسلوب صنعه الذي يمزج بين عناصر الفيلم الروائي والتسجيلي "لم يكن من السهل إقناع المنتجين، ولا الرقابة، ولا حتى فريق العمل بفيلم لا يمكن اعتباره روائيًا بالكامل ولا تسجيلي بالكامل. يزداد الأمر صعوبة عندما يتعلق بمخرج على أول الطريق نسبيًّا، كانوا يسألون باستمرار عن نوع الفيلم، ثم يتكفلون بإسداء النصائح لتصحيح ما اعتبروه أخطاء في رؤية المخرج". افتتح الفيلم عروضه العالمية بمهرجان كارلوفي فاري المرموق، وعرض للمرة الأولى في الشرق الأوسط من خلال مهرجان الجونة السينمائي عام ٢٠١٨. عندما التقيت مروان عقب عرض فيلمه في الجونة كان فخورًا لتمكنه من إنجاز الفيلم وفق رؤيته. "في أفلامي الثلاثة السابقة حاولت كسر القواعد لخلق لغة سينمائية جديدة. وفي الحلم البعيد أيضًا رغم أنه يتعامل مع مكان وزمان محددين كان هدفي من خلال أسلوب صنع الفيلم أن أقدم عملًا يتجاوز حدود الزمان والمكان".

منصات التطوير.. منصات التدجين 

وفي كثير من الأحيان تتحول ما يعرف بورش ومنصات تطوير السيناريو إلى عقبة حقيقية خاصة أمام صناع الأفلام على أول الطريق. فمن خلالها يلتقي المخرجون والكتاب بخبراء دوليين في صناعة السينما وتخضع أفلامهم لمراجعات وآراء ونصائح متنوعة بهدف خروجها بالصورة المثلى، لكنها في واقع الأمر تربك الصناع وتفقدهم البوصلة بدلًا من أن تعمل على تدعيم رؤيتهم. على سبيل المثال تطلب إنتاج الفيلم التسجيلي الأول للمخرج محمد زيدان "عندي صورة" سبع سنوات ضاع جزء كبير منها هباء على أعتاب منصات التطوير. مارك لطفي مؤسس شركة فيج ليف، ومنتج الفيلم يرجع السبب الرئيسي لتعطيل إنتاج الفيلم إلى منصات تطوير السيناريو الدولية "صحيح أن عدم الاستقرار السياسي خلال العام ٢٠١١ لعب دورًا في إبطاء وتيرة الإنتاج، لكنه لم يكن السبب الرئيسي. وإنما التدخلات المتضاربة للخبراء الدوليين في منصات تطوير السيناريو. كل واحد يرغب في إحداث تغييرات في السيناريو ليتوافق مع ما يرون أنه سيكسب الفيلم ما يعرف بالجاذبية الدولية. عندما تشارك في تلك المنصات فإنك تتعامل مع خبراء لديهم رؤيتهم الخاصة. وإذا كنت مخرجًا للعمل الأول أو الثاني أو الثالث فإن تلك النصائح لا تفيد بالضرورة فيلمك. لأنها تقتل الخبرة الطازجة التي تدفع مخرج شاب لارتياد آفاق جديدة غير معلبة" يقول مارك الذي يؤكد أنه كانت لدى فريق عمل الفيلم النية للاستفادة من منصات التطوير "لكننا اكتشفنا أن كل شخص يرغب في صنع الفيلم وفق رؤيته وهو ما حولهم إلى أداة ضغط وليس دعم. في النهاية قررنا إنتاج الفيلم بالاعتماد على مواردنا المحدودة على أن يعكس رؤية صناعه المهتمين أكثر بأن يكون لفيلمهم جاذبية محلية كأولوية". 

تكلف الفيلم حسب مارك أقل من ٣٠ ألف جنيهًا مصريًا، بينما تبرع معظم أعضاء الفريق الرئيسين بمجهودهم دون مقابل "لو طلب مني إعادة إنتاج هذا الفيلم الآن، لن أنصح المخرج بالسعي نحو استشارات خبراء لا يتعاملون مع مخرج الفيلم على أنه مخرج الفيلم". 

التقيت مارك وزيدان وباقي فريق العمل بينما يحتفلون بحصول فيلمهم على جائزة أفضل فيلم تسجيلي عربي بالدورة الأولى لمهرجان الجونة السينمائي عام ٢٠١٧. قال لي زيدان إنه رغب في أن يصنع فيلم سيرة ذاتية بأسلوب غير تقليدي "لم يكن من بين أهدافي دعوة شخصيات الفيلم للجلوس على كرسي والإجابة على أسئلتي. كان هذا قرارًا واعيًا. مع ذلك لم يكن هدفي إنتاج فيلم مختلف بل تحرير فيلم السيرة الذاتية التسجيلي من التوقعات المسبقة التي تحد من قدرتنا على الاستكشاف والتجريب.. في النهاية لا ينبغي أن تكون هناك طريقة واحدة لعمل فيلمك".

من جيبي وجيوب أصدقائي

 مع ذلك يحاول بعض صناع الأفلام في السينما المستقلة خلق طرق بديلة لإنتاج أفلامهم دون اللجوء لعجلة الملاهي الدوارة للدعم الأجنبي أو دعم الشركات الكبرى المحلية. في يوليو ٢٠١٨ أصدرت شركة حصالة، منتجة فيلم "ليل خارجي" للمخرج أحمد عبد الله بيانًا حول ظروف إنتاج الفيلم جاء فيه "حينما ظهرت فكرة فيلم ليل خارجي كان هناك اتفاق بين فريق العمل أن نقوم بتجريب شكل إنتاج مغاير عن طرق الإنتاج المعهودة، تلك التي أصبحت تضيق يومًا بعد يوم، وتصبح أكثر صعوبة خاصة على صانعات وصناع الأفلام الأصغر سنًا؛ لذا فقد اتخذنا قرارًا واعيًا أن نقوم بإنتاج الفيلم وتوفير ميزانيته معتمدين على الجهود الذاتية، رغبة منا في التجريب والعثور على طرق وبدائل أخرى". 

كان يمكن للمخرج أحمد عبد الله في فيلمه الروائي الطويل الخامس وبعد تجارب سينمائية مهمة تكلف بعضها ميزانيات إنتاجية ضخمة بدعم شركات إنتاج وتوزيع كبرى أن يستغل ما حققه عبر السنوات في الاستعانة بشركة إنتاج كبرى لفيلمه الجديد، لكنه قرر الانتصار للتجريب والاستكشاف الذي ميز مسيرته السينمائية. لجأ لـ"حصالة" التي أسسها قبل سنوات مجموعة من صناع الأفلام الشباب وعلى رأسهم المخرجة والمنتجة هالة لطفي صاحبة الخروج للنهار (2012) بهدف دعم الأفلام المستقلة. اعتمدت خطة الإنتاج على مساهمات الأصدقاء المالية والفنية، واعتماد جدول زمني متقطع للتصوير حسب توافر المال اللازم، بالإضافة إلى الدعم الذي تلقاه الفيلم من مؤسسة غير سينمائية تحمست للتجربة (وكيل إحدى شركات الكاميرات العالمية في الشرق الأوسط)، والتي صور الفيلم كاملًا بمعداتها وعدساتها المخصصة للسينما. تم تصوير الفيلم بالكامل في ثلاث سنوات، لكن مرحلة ما بعد الإنتاج (المونتاج، وضبط الصوت والألوان) تطلبت الاعتماد على مصادر دعم مالي وفني إضافية تم تأمينها من جهات تمويل عربية ومحلية. 

حصل الفيلم على جائزة أفضل ممثل بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي بالإضافة إلى جوائز أخرى خلال جولته بين المهرجانات الدولية. التقيت المخرج أحمد عبد الله عقب العرض الأول لفيلمه بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي وكان متحمسًا للتجربة دون أن يعتبرها درسًا في الإنتاج "لا أعتبر تجربة ليل خارجي نموذجًا إنتاجيًا يحتذى به، بقدر ما آمل في أن يكون ملهمًا لأسلوب مختلف لصناعة الأفلام يخرج الصناعة من أزمتها المرتبطة بسيطرة أنماط إنتاجية معينة ثبت أنها جزء من المشكلة وليست طريقًا للحل".

بعد "ليل خارجي" بعام واحد، أطلقت حصالة فيلمها التالي "الشغلة" وهو الفيلم التسجيلي الطويل الأول للمخرج رامز يوسف، بينما لعب دور المنتج الإبداعي للفيلم المخرج محمد رشاد. التقيت رشاد والمخرجة هالة لطفي خلال العرض العالمي الأول للفيلم بمهرجان شرم الشيخ ٢٠١٩ وكانت متحمسة للحديث عن ضرورة إيجاد أشكال بديلة للإنتاج من قبل صناع الأفلام لا تعتمد على المنافسة غير العادلة على كعكة الإنتاج الدولي الصغيرة. تم إنتاج "الشغلة" على طريقة حصالة، محمد رشاد الذي أنتجت حصالة فيلمه الطويل الأول "النسور الصغيرة" قرر دعم زميله المخرج رامز يوسف في خروج فيلمه الطويل الأول إلى النور كمنتج إبداعي. وهي الفكرة التي تقول لطفي أنها جزء من أهداف تأسيس حصالة "بعد إنتاج فيلمي الخروج للنهار وجدنا ضرورة للاستفادة من خبرة السنوات التي قضيناها في إنتاج الفيلم لدعم مخرجين آخرين لإنتاج أفلامهم الأولى، على أمل أن يحاول هؤلاء دعم مخرجين آخرين وهكذا". تطلب إنتاج "الشغلة" ست سنوات بميزانية محدودة فضلاً عن الاعتماد على جهود الزملاء. واستطاع رشاد في موقع المنتج الإبداعي أن يضمن جودة نسبية للفيلم بميزانية محدودة لكن التجربة جعلته أكثر تشككًا في إمكانية صنع المزيد من الأفلام بالاعتماد على دعم وجهود الزملاء "محدودية الإمكانات مشكلة كبيرة، لأنه يمكنك أن تصنع فيلمًا بمساعدة الأصدقاء، لكن لا يمكنك بأي حال أن تواصل صنع الأفلام بهذه الطريقة. فالأصدقاء بدورهم يحتاجون إلى المال ليتمكنوا من العيش ومن التطور المهني خاصة في مثل هذه الظروف"، يشعر رشاد بالإعجاب الشديد بتجارب الإنتاج الذاتي مثل تلك التي اتبعها أحمد عبد الله في فيلم "ليل خارجي"، ومحمد حماد في فيلم "أخضر يابس" لكنه لا يعتبر تلك التجارب صالحة للتطبيق في كل الحالات "لا يتمتع كل صانع أفلام بالقدرة على إيجاد بدائل إنتاجية. كما أن تلك الطريقة في الإنتاج لا تصلح لكل فيلم لأنها تعني وضع السينما التي نصنعها في مستوى إنتاجي محدد لا يمكن الخروج عنه وهو أمر مرعب" يقول رشاد بينما عينه على مصير فيلمه الطويل القادم.

المخرجة هالة لطفي التي تسعى بدورها منذ عام ٢٠١٥ لتأمين الموارد الكافية لإنتاج فيلمها الثاني، مؤمنة أيضًا بأن دعم الأصدقاء لا يكفي لإنقاذ صناعة السينما "من غير الممكن أن توفر إسهامات الأصدقاء ٢ مليون جنيه مثلًا لإنتاج فيلم إذا تطلب ذلك، وبالتالي فإن سقف الإنتاج سيظل محدود في أطر معينة. بينما نخسر الكثير من المواهب المضطرة للعمل في السوق لكسب المال على حساب مشاريع أفلامهم التي تتعطل لسنوات". مع ذلك ترى لطفي أن هناك طريق ثالث ينبغي وضعه في الاعتبار "على صناع الأفلام الشباب أن يفكروا في وضع خطة قابلة للتطبيق لتجاوز قيود صناديق دعم الأفلام والتغلب على المساومات التي تفرضها السينما التجارية. دون ابتكار خطة عمل جماعية فإن الأمل وحده لن يكون كافيًا للمستقبل". 

في مقابلة لي مع المنتج والسيناريست محمد حفظي رئيس مهرجان القاهرة السينمائي الدولي خلال الدورة الـ٤١ عام ٢٠١٩، أي قبل جائحة كورونا، سألته عن السبب برأيه في العدد المحدود من الأفلام المصرية التي تنتج سنويًا وكيف يمكن تجاوز العقبات التي تواجه إنتاج الأفلام خاصة في السينما المستقلة، قال حفظي بحسم "السينما المستقلة في أزمة، فهي تحتاج إلى قدر أكبر من الحرية والمرونة ونوافذ أوسع للتوزيع وعقبات أقل" لكنه في الوقت نفسه أشار إلى أن السبيل إلى ذلك لن يتم الوصول إليه إلا من خلال صناع السينما المستقلة أنفسهم الذين يتشاركون نفس الرؤى والتصورات "على صناع السينما المستقلة أن يقرروا فيما بينهم أشكالًا جماعية لمناقشة الحلول والخروج بخطط عمل ومشاريع مشتركة، يمكنها لاحقًا أن تحظى بدعم المزيد من المثقفين والشخصيات العامة. تلك هي الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلال التأثير على صنع القرار.. مع الأسف حتى الآن لا أرى أن هناك أي وجود لمثل هذه الأشكال الجماعية لمناقشة أي شيء". 

المرأة في السينما.. خيارات صعبة

 لكن العقبات الإنتاجية لا تتوقف عند التمويل، بل تشمل أيضًا ظروف وبيئة الإنتاج خاصة عندما يتعلق الأمر بمشاركة النساء في المواقع القيادية في عملية صنع الأفلام. المخرجة والمنتجة ندى رياض تحكي عن الصعوبات التي واجهتها كمخرجة خلال إنتاج فيلمها الروائي القصير "فخ" الذي شارك في مسابقة أسبوع النقاد بمهرجان كان عام ٢٠١٩، كانت ندى قبل تجربتها تلك قد أخرجت فيلمها التسجيلي الطويل الأول "نهايات سعيدة" الذي افتتح عروضه العالمية بمهرجان إدفا المرموق بامستردام وشارك في ٢٠ مهرجان دولي آخر، قبل أن يفشل في الحصول على تصريح رقابي بالعرض في مصر من خلال أيام القاهرة الذي تنظمه سينما زاوية عام ٢٠١٦ويختص بعرض أبرز الأفلام العربية وأحدثها إنتاجًا. تقول ندا "المخرجات النساء عادة ما يكون متوقعًا منهن تقديم قصص رومانسية في إطار دراما اجتماعية. المخرجة يجب أن تكون دبلوماسية عندما تعبر عن نفسها. لكنني لست كذلك. فيلمي يتحدث عن علاقة مؤذية بين رجل وامرأة، وفي هذا النوع من العلاقات لا يبدو العالم بالطريقة التي نعتاد مشاهدتها في الأفلام. الطرف الذي يقع عليه الأذى لا يمكنه أنه يتأمل الجمال، في ظل شعوره بالضغط والقهر". 

كمخرجة امرأة واجهت ندى بعضًا من هذا الضغط خلال تصوير فيلمها الذي يحتوي على بعض المشاهد الحميمية في إطار العلاقة المؤذية بين البطلين. منتج الفيلم أيمن الأمير، شريك ندى في الحياة وكذلك في شركة "فلوكة" للإنتاج يتحدث عن التجربة المؤلمة "كنت نعرف أن التصوير في شوارع العجمي تحديًا كبيرًا لكنه كان متوقعًا إلى حد ما" ما لم يكن متوقعًا هو صعوبة الإبقاء على فريق عمل يقبل التصوير في فيلم يحتوي على مشهد حميمي "في البداية واجهنا صعوبة كبيرة في العثور على ممثلة تقبل القيام بالدور، بعضهن اعتذر في اللحظات الأخيرة، وبعضهن قبل القيام بالدور ثم طالبن بتغييرات في المشاهد خلال البروفات ومن بينهن ممثلات شهيرات"، غير أن التجربة الأصعب كانت عندما قبلت ممثلة القيام بالدور ثم بعد تصوير أغلب مشاهد الفيلم أصرت على حذف المشهد الأخير "فجأة بدأ عدد من أعضاء فريق العمل في دعم موقف الممثلة. فقررنا وقف التصوير، لكنهم بادروا بتحطيم الديكورات والمعدات بموقع التصوير. كانت لحظة صعبة جدًا لكن لم يكن هناك مجال للمساومة على قيمنا ورؤيتنا لتنفيذ الفيلم". 

ترى ندى من ناحيتها أن كونها مخرجة امرأة زاد من صعوبة الموقف "فريق العمل المكون في غالبيته من الرجال يتوقع من مخرجة امرأة أن تخضع للضغط تمامًا مثلما يحدث للنساء في المجتمع. وفي نفس الوقت من الصعب على ممثلة أن تتحمل مواصلة العمل في فيلم بينما ينظر زملائها في الفريق لدورها بطريقة غير مريحة".

كان الثمن أن يعاد تصوير الفيلم من البداية بفريق جديد وممثلة جديدة "تطلب الأمر عدة أشهر وكل مدخراتنا للبدء من جديد لأن معظم الأموال الخاصة بالإنتاج كانت قد أنفقت بالفعل على التصوير" غير أن ندى وأيمن كانا يشعران بفخر كبير خلال لقائي بهما عقب الإعلان عن مشاركة فيلمهما في مهرجان كان، إذ تم اختياره مع ٧ أفلام أخرى من بين ١٠٦٥ فيلمًا تقدمت لمسابقة أسبوع النقاد. 

لا تقتصر الضغوط على النساء العاملات في السينما المستقلة، لكنها تمثل نمطًا متكررًا في عمل المرأة في الحقل السينمائي بشكل عام. قبل عامين التقيت النجمة منة شلبي بمناسبة الإعلان عن تكريمها بمهرجان أسوان الدولي لسينما المرأة، وفي إطار حوارنا سألتها عن هل تشعر بأنها حققت ما كانت تطمح إليه كممثلة في مشوار فني بدأ في العام ٢٠٠١. أجابت الممثلة الشابة التي عملت مع مجموعة من أهم المخرجين على وزن أسامة فوزي، ومحمد خان، ورضوان الكاشف، ويسري نصر الله، ومروان حامد، وهالة خليل، وكاملة أبو ذكري، وغيرهم "فكرة إلى أي مدى حققت أحلامي تخضع للكثير من المتغيرات المرتبطة بصناعة السينما نفسها" تقول منة التي تشير إلى أنها في بداية عملها بالسينما كانت هناك مساحة لأن تشارك في فيلمين أو أكثر في السنة بينما في الوقت الحالي مجمل ما ينتج من أفلام لا يتجاوز الـ50 فيلمًا. وتضيف "في السابق أيضًا كان لدى المجتمع قابلية للسماح بمستوى معين من الجرأة لم يعد موجود حاليًا. صار لزامًا على الممثلة أن تفكر كثيرًا في طبيعة الأدوار وفي الطريقة التي ستؤدي بها الأدوار وكيف ستظهر على الجمهور. وبناء على هذه المعادلة الصعبة، الإنتاج وطبيعة ما يتقبله المجتمع أشعر أنني لم أحقق ربع ما أطمح في تحقيقه".

في العام الماضي قررت مجموعة من ٩ مخرجات من دول عربية مختلفة وفي المهجر، تجمع بينهن معاناة تجارب إخراج أفلامهن الأولى والقيود المفروضة على النساء في السينما تأسيس مبادرة باسم "راويات". ترغب المخرجات من خلال المبادرة مساندة بعضهن البعض في إنتاج العمل الثاني، قبل أن تتسع المبادرة لدعم غيرهن من صناع وصانعات الأفلام. ضمت المبادرة كوثر يونس من مصر، ونزيهة عريبي من ليبيا، ياسمين شويخ من الجزائر، دانييل دافي، ومريم الحاج من لبنان، دينا ناصر من الأردن، أريج صحيري من تونس، ولينا سويلم، ودوروتيه ميريام كيلو من الجزائر/فرنسا. عندما تحدثت إليهن عن الأسباب في كون المبادرة تضم صانعات أفلام أنجزن أفلامهن الأولى على وجه التحديد، كان حاضرًا بالتأكيد الصعوبات الإنتاجية القائمة في العمل الأول والتي تزداد مع البدء في إنجاز الفيلم الثاني. لكنهن أجمعن على وجود تحديات كبيرة تواجههن في ظل المناخ الضيق الذي تعمل في ظله النساء في مجال السينما الذي يسيطر عليه الرجال بشكل أساسي. من بين تلك التحديات اضطرار صانعات الأفلام الدائم لوضع الأطر الثقافية للمجتمع في خلفية تفكيرهن عند التطرق لأي موضوع في أفلامهن، فضلًا عما تتعرض له النساء داخل دوائر الصناعة من أحكام مسبقة وأفعال مسيئة مرتبطة بكونهن نساء. بالإضافة إلى الضغوط الاجتماعية التي تضطر النساء في كثير من الأحيان للوقوف بين خيارات التفرغ لتكوين أسرة وبين عملهن في السينما. قالت لي المخرجة اللبنانية مريم الحاج "من المهم جدًا أن نساند بعضنا البعض لإنجاز الفيلم الثاني. فبعد الفيلم الأول نفقد الكثير من صانعات الأفلام تحت وطأة الضغوط المتعلقة بالصناعة من جهة وبالمجتمع والأسرة من جهة أخرى". مع ذلك تأمل المخرجات التسعة في أن تتطور المبادرة في المستقبل لتشكل نواة حقيقية لدعم صناع وصانعات الأفلام دون تفرقة في ظل مناخ إنتاجي قاسي. تقول المخرجة دينا ناصر "نريد كسر الصورة النمطية المفروضة علينا بأن المبادرة النسائية تقتصر على النساء. هدفنا هو خلق مناخ بديل ولكنه شامل حيث يوجد متسع للجميع". 

 بالإضافة إلى العقبات الإنتاجية ومحدودية الموارد والفرص والمناخ الثقافي الضاغط، وعدم عدالة منظومة التوزيع، تبقى الأطر القانونية الخانقة والممارسات الرقابية الضاغطة من العوامل المعيقة لتطور المشهد السينمائي المستقل خاصة في غياب رؤية صديقة وداعمة لوجود منتج فني يعبر بشكل حقيقي عن صوت هؤلاء الصناع ورؤية جيلهم وتطلعاته.

في شهر يوليو الماضي وبعد نزاع قضائي دام ٤ سنوات، أصدرت الدائرة الثانية لمحكمة القضاء الإداري حكمًا بإلزام جهاز الرقابة على المصنفات الفنية بإصدار ترخيص بالعرض العام لفيلم "آخر أيام المدينة" للمخرج تامر السعيد بعد سنوات من عدم تمكن الفيلم من الحصول على تصريح بالعرض. على صفحته بموقع فيس بوك كتب السعيد "أخيرًا! أتمنى ييجي اليوم اللي مايبقاش فيه صانع أفلام محتاج محكمة علشان يعرض فيلمه للناس". فهل يسمح للجمهور في دور العرض مشاهدة فيلم استغرق إنتاجه عشر سنوات ولو بعد ستة سنوات من خروجه للنور. الأيام القادمة وحدها كفيلة بالتأكد من مدى فاعلية القرار على أرض الواقع.