فنون
مي عامرتجربة "شخلعة" في مجتمع يكره الرقص ويبجله!
2025.05.04
مصدر الصورة : آخرون
بمناسبة اليوم العالمي للرقص: تجربة "شخلعة" واحتفالها بعيد ميلادها الأول
امرأة جديدة اكتشفتها منذ عام.. الأحدث بين شقيقاتها، الزوجة والمطلقة والأم والعاملة والباحثة وأستاذة الجامعة، إنها الراقصة الأقرب منهن إلى قلبي والأكثر رحمة عليَّ، والأصعب في العيش معها.. لكنها الأصدق التي كشفت عبر رحلة طويلة اقتربت فيها من إتمامي العقد الرابع.
الكشف الأول: "شاكرا" الضفيرة الشمسية (مانيبورا)
قرر جسدي الانتفاض على أكبر حادثة، فقد مر بها بأكبر شعور بالخوف مررت به، في الثانية صباحًا أشعر وكأن منطقة البطن والظهر جوفاء تمامًا، ورغم أنني أعلم أن ذلك ليس حقيقيًّا لكنني في النوبة أخسر كل المنطق واليقين لمدة ساعتين، في كل مرة زرت فيها أطباء نفسيين مقترحين من الأصدقاء، قالوا لي إنها نوبة قلق من الدرجة الأخطر والتي تحتاج إلى تعاطي أدوية نفسية بشكل ربما دائم، لديَّ مخاوفي من الأدوية النفسية ما جعلني أتروَّى في القرار.
جلست المرأة العجوز التي تتحدث الإنجليزية بصعوبة كونها من إحدى دول أمريكا اللاتينية، لم تكن دراستها لعلوم الطاقة السبب في ذهابي إليها، فقد كنت وما زلت حذرة تجاه تلك العلوم ولكن علمت من صديقتي عن نجاحها في رحلة استشفائية من مرض عضوي، وساعتها قلت: خلينا نجرب.
قالت لي بهدوء: "أزمتك في عدم توازن الطاقة بين "الشاكرات"، ففي كل جسم يوجد 7 أنواع من الشاكرات لكل واحدة فيهن وظيفتها ولونها وطرقها الخاصة للتوازن"، ما لديَّ حسب قولها فراغ في شاكرا الضفيرة الشمسية (مانيبورا)، والتي يرمز إليها باللون الأصفر ومسؤولة عن الشعور بالأمان، وحتى تتوازن عليَّ أن أرقص بشكل دوري وحدي ومع جماعة.
صدقت العجوز وأدار الرقص معركته مع النوبة داخل جسدي، حين أرقص تنزوي النوبة أو تظهر على استحياء، كان لي تجاربي السابقة مع الرقص، أشعر بالسعادة عندما أمارسه، تخلصت من أزمة نفسية سابقة بعد التحاقي ببرنامج للعلاج بالرقص لكن كانت اللحظة الأولى التي أراه يحارب الألم في جسدي.
أنا أصدق في الجماعة وصدقت سحر الرقص فقررت أن أجمع الصديقات محبات الرقص لنمارسه معًا ربما أخبرهم عن سري واكتشافي الجديد أو أن أحتمى فيهن ويساعدنني على تثبيت الممارسة لتكن عادة دورية.
في يناير 2024 كانت الفكرة جاهزة وبدأت التدريبات مع الصديقات، كل واحدة كانت تملك قاموسها الحركي الخاص، وكأننا نستخرج الإرث الذي غرسته الثقافة فينا، ونمزجه بما نحس، كانت المواريث مختلفة والمشاعر متعددة ولكننا استطعنا أخيرًا أن نفعلها.
أصبحنا نمتلك منهجًا للتدريب على الرقص البلدي، كوَّناه برصد قاموسنا الحركي وسمينا الحركات بلغة نفهمها نحن، وفي كل يوم تدريبي كنا نرى تطور قدرة أجسادنا على التعبير ونشجع بعضنا بعضًا على مقاومة الأصوات التي رفضتها أجسادنا لسنوات وطالبتها بالاكتمال.
وددنا لو أن نشارك أخريات تجربتنا وقررنا أن نطور فكرتنا لتكون فرقة نسائية جمهورها مقتصر على النساء، لتظل مساحة مفتوحة لكل النساء على اختلاف أيديولوجياتهن، ودون المساس بأمانهن، فكأنها امتداد لتراث ليلة الحنة التي تجتمع فيه كل بنات العيلة للاحتفاء بالأنوثة.
كان علينا أن نختار اسمًا، لم تكن "شخلعة" اقتراحي ولكنها كانت الأقرب إلى قلبي فهي لفظة مرحة وعفوية تقع ما قبل الرقص وبعد الثبات، عند اللحظة التي تبدأ منها كل امرأة تنضم إلى المبادرة، فكرنا كثيرًا في شكل اللوجو حتى استقررنا على امرأتين إحداهما بدينة والأخرى نحيفة خارجتان عن النموذج المثالي للجسد يخلفهما دائرة صفراء كرمز لشاكرا الضفيرة الشمسية (مانيبورا)، التي توقفت فتسببت في كل هذه الحركة.
الكشف الثاني: مبادرة جماعية في سياق فرداني
مبادرة غير هادفة إلى الربح كان اختيارنا للمرحلة التأسيسية فقد صممت "شخلعة" لتكن مساحة رحبة لكل النساء على اختلاف توجهاتهن، خبراتهن في الرقص، تنوعهن في البنية الجسدية، وضعهن الطبقي والاقتصادي.
هل كان ذلك سهلًا؟ بعد عام أستطيع أن أقول: لا. كانت "شخلعة" اختبارًا عمليًّا لكل قيمة آمنت بها ووثقت يها، إعادة التفكير في كل مبدأ نسوي، تقييم كل رؤية يسارية تبنيتها، تساؤلات متجددة عن تعريف الفن ودوره، باختصار كانت استدعاء لمراجعة نسقي الفكري بالكامل.
عبر 102 امرأة قابلت العالم وأولهم نفسي، صحيح أن الرقص استطاع إخراج النسخ الأصلح من النساء، لكننا كلنا منهكات، الأمر لم يقتصر على إدارة مجموعة تدريبية بل على إدارة الإنهاك ومحاولة إدراكنا الجماعي له، ما نستطيع أن ندركه أسهل علينا إبقاؤه على مسافة، أما ما لم يكن مدركًا فكان أحيانًا يخالط مشاعرنا في القاعة.
بالطبع لم تكن المساحة مثالية، ولن نطمح أبدًا إلى ذلك، تعرضنا لحادث سرقة، أزمات مادية متتالية، رفضنا من بعض المسارح والجمعيات الثقافية، اختلفنا حول مفهوم الأمان فيما بيننا وسياسات تطويره، فقد البعض راحتهن في أن تكون المساحة علاجية لتشبثي بحدودها التعبيرية، أمزح دائمًا وأقول: "أنا رقاصة وبرقص" درست الأنثربولوجي وأدرسه لكنني لست متخصصة أبدًا في علم النفس ولديَّ نقدي للتيار المعاصر منه في اللحظة الراهنة.
لكننا نجونا بالمحبة والشجاعة، رحبت بنا مسارح أخرى، المشترك فيها هو أن القائمين على إدارتها أصحاب وصاحبات تجارب فنية حقيقية، نالوا عبر رحلتهم قدرًا كبيرًا من الاستهجان والرفض لكنهم استطاعوا الآن أن تكون لهم مساحتهم في الوسط الثقافي.
استكمل 96% من النساء رحلتهن في شخلعة، كلهن استكشفن طريقهن في النجاة الجماعية وأدركوا استحالة فرديتها أو على الأقل عدم كفاية الرحلة الفردية التي تجعلنا في جزر معزولة بعيدين عن اختبار كل ما نصل إليه، جمل مثل: "اعتزل ما يؤذيك" و"المجتمعات السامة" و"الريد فلاج" إنما هي نتاج لحظة يتعالى فيها الخطاب الفرداني الخطير المؤدي ليس فقط إلى هشاشة العلاقات بحسب زيجمونت باومان، في سلسلته عن الحب السائل والشر السائل، وإنما لهشاشة الأفراد أنفسهم لأن الهروب من مجالات الصراع هو جبن بيِّن، وقد علمتنا تجارب العرض في شخلعة المقاومة، مقاومة أصواتنا الداخلية عن أنفسنا، مقاومة أصوات العالم عنا، محاربة ومقاومة وصمنا ووصم رقصنا معنا، ربما نبدو مجموعة نساء ترقص "رقص بلدي" لكن رحلة كل امرأة من الجمهور وحتى المسرح نضال شخصي وجماعي وسياسي تحسد عليه.
الكشف الثالث: البلدي يِوْكَل! ولكن..
حذرنا الكاتب الكبير إدوارد سعيد من استخدام لفظة شرقي، وفي كتاباته شرح لنا ما تحمله اللفظة من دلالات دونية حاول الاستعمار تثبيتها، اعتمدت الكاتبة شذى يحيى في كتابها "الإمبريالية والهشك بشك" على نفس المنظور في دراستها الواسعة عن علاقة الاستعمار بتاريخ الرقص البلدي الذي اختارت له اسم "هشك بشك" منتهية إلى أن الاستعمار وما تبعه وخلفه من خطابات ثقافية بعضها ممتد حتى الآن كان السبب في الوصمة الملتصقة بالرقص البلدي.
اخترنا لفظة بلدي وفقًا لنصيحة الباحثة والمطربة فيروز كراوية والتي كشفت في كتابها "كل ده كان ليه؟" عن أصالة الرقص البلدي كفن وكممارسة.
عبر 9 كتب قرأت معظمهن، فهمت الرقص البلدي كفن ولكن كممارسة مجتمعية بقي لي السؤال: كيف استمر هذا النوع من الرقص الموصوم والمقترن بالإغراء والإغواء حتى الآن، وكيف حافظت النساء على أن يكون مركز طقسها الأنثوي في كل احتفال؟
كل هذا يحدث وسط خطابات محافظة وأصولية تستهجن الرقص وتحقره، الخطاب امتد حتى عوقبت فتيات التيك توك على الرقص كخروج عن قيم الأسرة المصرية، بينما خسرت د. منى البرنس وظيفتها كأستاذة جامعية عقابًا على نشر فيديو ترقص فيه على سطح بيتها، تلتها بعد ذلك معلمة المنصورة التي فقدت وظيفتها وزوجها لنفس السبب عندما رقصت في رحلة نيلية.
ولكن هل هذا الخطاب يعني أننا مجتمع يكره الرقص؟ قد تكون الإجابة الأقرب: نعم. ولكن إذا أمعَّنا النظر فالإجابة: لا. راقبوا معي المقاطع الأكثر شهرة على مواقع التواصل الاجتماعي، صعود مشاهدات مقاطع الرقص تقول شيئًا آخر، حتى الأوساط الثقافية لا تجد خجلًا في الاحتفاء بالمقاطع المرممة لرقصات سامية جمال وتحية كاريوكا وسهير زكي وغيرهن.
عن نفسي فقد تعلمت الرقص البلدي في الدوائر النسائية التي تشارك فيها كل النساء، بداية من الجدات مرورًا بالقريبات والصديقات وحتى الطفلات، في أفراح الشوارع في أفراح القاعات وحتى خارج اللجان الانتخابية، نحن نساء تحب الرقص وبالمناسبة الرجال أيضًا، الرقص البلدي عابر للطبقات وعابر للمجالين العام والخاص وعابر حتى للنوع.
عبوره الاستثنائي دفعني إلى أن أتخذ قرار دراسة الرقص كدكتوراه ثانية وفي جامعة مصرية، صحيح، على مدار أربعة شهور أحاول إقناع أساتذتي في الجامعة بالموضوع حتى وصلت أخيرًا إلى أستاذتين تحمستا للفكرة، ولكن المفاجأة كانت في سيمنار الخطة البحثية التي بعد تقديمها والموافقة عليها، فوجئت برفض مجلس الجامعة، وفي شهر ونصف وبمساعدة أساتذتي وبالبحث في مكتبات الجامعات المصرية التي لم تدرس أيٌّ منها الرقص البلدي -في حدود معلوماتي- استطعت الحصول على الموافقة على الموضوع الذي سيدرس تأثير الرقص البلدي في مفهوم الذات والهوية الاجتماعية لدى النساء غير المحترفات.
الكشف الرابع: الضبط الأخلاقي للحلويات!
نعم هي الحلويات.. الحلويات التي تؤكل.. ليس الأمر تنظيريًّا هذه المرة، كان عيد ميلاد شخلعة يقترب في 20 إبريل 2025 وكنا نرتب بينالي مكونًا من عرض راقص مقتصر على النساء، بينما فتح البينالي للجمهور العام فعقدت جلسة نقاشية واسعة حول الرقص وأقيم عرض حكي وتجربة مزج بين رقص الغوازي والرقص البلدي والتحطيب.
كان علينا عديد من المهمات التنظيمية وكنا نعتقد أن التورتة هي المهمة الأسهل، اتصلنا بواحد من أهم محلات الحلويات، ليس الأغلى ولا الأرخص ولكنه عرف بجودة منتجاته وانتشار فروعه، عرف أيضًا عن ملاكه انتماؤهم إلى أقلية دينية في مصر، وربما كان هذا السبب الأكبر في اختياري له.
قبل عيد الميلاد بيوم وبعد الاتفاق ودفع جزء من المبلغ المستحق، فوجئت بالمحل يتصل بي ويخبرني بأن مدير المصنع رفض تنفيذ التورتة وأنه سيرد لي المبلغ، في البداية لم أفهم وتساءلت هل بسبب الحجم أو الميعاد أو صعوبة التوصيل، لكنه شرح لى أن الأمر يتعلق برفضه طباعة صورة اللوجو الحامل للراقصتين.
اتصلت بمحل آخر واتفقنا على الطلب ورغم أنني كنت متخوفة من ظهور أي شخص في أي مرحلة من مراحل إنتاج وتوصيل التورتة، يرغب بشكل ما في إبداء رغبته في الضبط الأخلاقي للحلويات، إلا أنها وصلت.
أطفأنا الشمع محتفلات بعام مضى، برحلة 102 راقصة تخرجت، بفرقة نسائية وصل عددها إلى 12 راقصة داوموا على الرقص لمدة عام بشكل دوري متحديات كل الظروف والعقبات، بإنتاج 8 عروض وإقامة 17 ليلة عرض، بستة برامج تدريبية امتدت لفترة الثلاثة شهور، بكل هؤلاء النساء خالقات المساحة والمتشبثات باكتشاف أنفسهن بالرقص البلدي.
ترشيحاتنا
