عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

مراجعات

توماس فوستر

كيف نفهم صعود الصين؟

2025.05.04

مصدر الصورة : AFP

ترجمة: أشرف إبراهيم

 

مراجعة لكتاب "الصين: الصعود والقمع والمقاومة" من تأليف أدريان بود

 

المقال الأصلي منشور في مجلة International Socialism العدد: 185  في تاريخ 19 يناير 2025 [1]

 

تاريخ وسياسة وطبيعة النظام الصيني

يقدّم كتاب أدريان بود "الصين: الصعود والقمع والمقاومة" إجابة ممتازة ومعمّقة على هذا السؤال. تنشر وسائل الإعلام الليبرالية والمحافظة بشكل منتظم مقالات تفصِّل التهديد الذي تمثِّله الصين للغرب، وتترصَّد كل تحرك جديد لشي جين بينغ، زعيم الحزب الشيوعي الصيني. ومع تهديد دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية على السلع الصينية ومطالبته المتكررة بتدابير حمائية لحماية الصناعات، أصبحت هذه القضية مركزية خلال الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة.

منذ التسعينيات، أصبح من الواضح بشكل متزايد أن الطبقات الحاكمة الغربية تخشى تحدي الصين لمصالحها السياسية والاقتصادية. فقد شهدت الصعود الاقتصادي السريع للصين من اقتصاد زراعي إلى اقتصاد صناعي، وترى توسع نفوذها السياسي وسعيها إلى الهيمنة في آسيا وخارجها. المنطق الكامن وراء ذلك هو أن الطبقات الرأسمالية الغربية لا تريد للطبقة الرأسمالية الصينية أن تُضعف هيمنتها الإمبريالية.

وبالطبع، يتبنى كتاب بود منظورًا من الأسفل، متبعًا تقاليد الاشتراكية الأممية. إنه كتاب يستند إلى أعمال تأسيسية مثل تفويض السماء لنيجل هاريس (هايماركت، 1978)، وسلسلة مقالات تشارلي هور "قرن الصين؟" عام 2004 السابق نشرها في هذه المجلة. هذا التقليد لا يملك أوهامًا بشأن النظام الصيني -ولا النظام الإمبريالي الغربي- ويسمّي الاقتصاد السياسي الصيني بما هو عليه: شكل من أشكال الرأسمالية.

ترجع بداية النظام الرأسمالي الصيني إلى عام 1949، حين تأسّس على صورة روسيا الستالينية. كلا النظامين حملا السمات نفسها: استغلال العمال، الأهداف الإمبريالية، وطبقة بيروقراطية تجلس على قمة المجتمع. منذ ذلك الحين، رحّبت الدولة الصينية برأس المال الخاص بأذرع مفتوحة، ما جعلها عاصمة المليارديرات الدولارية في العالم، إذ يبلغ عددهم هناك 814 مليارديرًا حتى لحظة كتابة هذه المقالة، أي أكثر بـ14 مليارديرًا من الولايات المتحدة.

بدلًا من اتباع ماركس، الذي كان هدفه تحرير الطبقة العاملة بنفسها، ركّز الحزب الشيوعي الصيني في تعزيز قوة الصين ضمن الاقتصاد الرأسمالي العالمي. لقد استغلّ العمال بلا هوادة لتحقيق تقدم سريع يسمح لها بالتنافس مع الغرب. يرسم كتاب بود مسارًا من ثورة 1949، مرورًا بصعود الصين الاقتصادي ومشكلاته الناشئة، مشروع شي السياسي، كفاحات العمال، القمع والحركات الاجتماعية، إلى التنافس الإمبريالي بين الولايات المتحدة والصين. وستتناول هذه المراجعة بعض المواضيع التي يطوّرها بود: شكل الرأسمالية الصينية اليوم، سيطرة الدولة والحزب الشيوعي، بعض نقاط الضعف الهيكلية في الاقتصاد، وتايوان كنقطة اشتعال في التنافس الإمبريالي.

رأسمالية الدولة الصينية اليوم

شهدت الصين تحوّلًا كبيرًا منذ وفاة ماو تسي تونغ عام 1976، الذي قاد ثورة 1949. لقد أنشأ ماو دولة على نمط الاتحاد السوڨييتي المبكر، مع بيروقراطية قوية تعمل كطبقة حاكمة رأسمالية-دولتية، تشرف على استغلال العمال وتراكم رأس المال. وكما في الاتحاد السوڨييتي منذ عام 1928، كان الدافع وراء هذا التراكم هو التنافس بين الدول.

بدأت الصين في الانفتاح السريع على رأس المال الخاص بعد أن سيطر دنغ شياو بينغ والفصيل الإصلاحي الذي مثّله على الحزب الشيوعي، وأصبح دنغ زعيمًا عام 1978.

حاليًّا، الصين هي أكبر مُصدِّر في العالم، وأكبر مستهلك للطاقة، وثاني أكبر اقتصاد، فتشكل 18% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وقد حققت ذلك من خلال "مزيج من الإنتاج المملوك للدولة والتنظيم الحكومي لرأس المال الخاص".[2] العديد من الشركات المملوكة للدولة الصينية تُعد من المنافسين الكبار في السوق العالمية، حيث أصبحت "الرموز الوطنية" شركات عملاقة. كما يوضح بود، لدى الصين 124 شركة في تصنيف فورتشن جلوبال لأعلى 500 شركة إيرادًا في العالم، مقابل 121 شركة أمريكية[3]. ومن بين أكبر 25 شركة صينية، 20 منهم مملوكة للدولة.

لكن انفتاح الاقتصاد الصيني أدى إلى تغيّر في الديناميكيات. ففي عام 1976، كانت الدولة هي الرأسمالي الوحيد، ولم يكن لرأس المال الخاص أي مساهمة تُذكر في الناتج المحلي. اليوم، كما يشير بود، يساهم رأس المال الخاص بنسبة 60% من الناتج المحلي، مقابل أقل من 30% للشركات المملوكة للدولة. كما أن رأس المال الخاص يساهم بنسبة 90% من الصادرات.[4]

في الاقتصادات الرأسمالية، هناك طيف من مستويات تدخل الدولة في تراكم رأس المال. كما يلاحظ أوين ميلر وغاريث دايل في مقدمة كتابهم الجديد "رأسمالية الدولة والتنمية في شرق آسيا منذ 1945":

"في أحد طرفي الطيف توجد الدول التي تتجنب أي تدخل مباشر في الأعمال التجارية، رغم أنها تتدخل حتمًا في المجتمع الرأسمالي بطرق عديدة. وفي الطرف الآخر توجد دول تنخرط في التراكم الرأسمالي بشكل يجعلها تهيمن بالكامل على رأس المال الخاص وتتصرف كما لو كانت تكتلًا اقتصاديًّا واحدًا داخل حدودها".[5]

يقدم كتاب بود مساهمة مهمة في هذا النقاش، موضحًا كيف تحركت الدولة الصينية على هذا الطيف. فقد انتقلت من كونها الرأسمالي الوحيد إلى أن أصبحت الرأسمالي المُهيمن. تتنافس الشركات المملوكة للدولة الآن مع رؤوس الأموال الوطنية في الخارج، وتواجه بعض الضغوط التنافسية مع رأس المال الخاص في الداخل.

ويقترح بود أن الصين تستحق تصنيفًا جديدًا مثل: "رأسمالية الدولة المنفتحة" أو "الرأسمالية الموجهة من الدولة"، لوصف هذا المزيج من الرأسمالية الحكومية والخاصة. إن التغير من رأسمالية دولة ذات دور محدود للسوق إلى نظام تلعب فيه المنافسة والأسواق دورًا أكبر يتجلى في طريقة تخطيط الإنتاج الاقتصادي، حيث يتم إدخال منافسة أكثر محلية تدريجيًّا. فرغم أن الدولة تحدد أهداف نمو سنوية وتوجهات سياسية عامة، فإن السلطات المحلية تفسرها بطريقتها، ما يؤدي إلى التكرار، والهدر، وسوء استغلال الطاقة الإنتاجية.

وفي هذا السياق، يستشهد بود بالبروفيسور الاقتصادي ياشينغ هوانغ، الذي يصف النظام بأنه "دولة واحدة و32 اقتصادًا".[6] إذ إن كلًّا من المناطق الإدارية الـ32 لديها قواعدها ونفوذها الخاص، وتتسابق لجذب المستثمرين. كما يكتب ميلر ودايل: "لا تقتصر مؤسسات الدولة على العمل كرأس مال، بل تتنافس بعضها مع بعض على مستويات مختلفة".[7]

مع ذلك، سيكون من الخطأ التقليل من أهمية الدولة في الاقتصاد الصيني، وهو ما يتجنبه بود بشكل صائب. فالشركات المملوكة للدولة، رغم أنها قانونيًّا منفصلة عن الدولة وتخضع أيضًا لقوى السوق العالمية، فإنها تظل متصلة بشكل وثيق بسلطة الدولة. وهذا يعني أنها تعمل وفق مبادئ السوق، لكنها تبقى محمية جزئيًّا من "الضغط الشديد لتعظيم الأرباح".[8] وتلعب الشركات المملوكة للدولة دورًا حاسمًا في الهيمنة على القطاعات الإستراتيجية، مثل: الصناعة الثقيلة والمصارف، وإنتاج البنى التحتية، وتوفير قاعدة سلطة للحزب الشيوعي في المناطق.

كما تساهم الشركات المملوكة للدولة بـ63% من الضرائب المفروضة على الأعمال، ما يموِّل فعليًّا المناطق الاقتصادية الخاصة على السواحل، التي تتمتع بأنظمة ضريبية منخفضة.[9]

التوترات بين الدولة ورأس المال الخاص

لقد ساهم رأس المال الخاص بشكل كبير في مشروع الدولة لتطوير الإنتاج الصناعي، ما ساعد في تحقيق الهدف الأوسع المتمثل في التنمية الوطنية. وقد أدى ذلك إلى بروز شركات تكنولوجية ضخمة مثل: هواوي وتينسنت وعلي بابا، لكنه جلب أيضًا توترات، حيث يخشى الحزب الشيوعي الصيني (CCP) من بروز قاعدة منافسة للقوة الاقتصادية للدولة. ويُشير بود إلى أن قيادة الحزب الشيوعي باتت ترى بشكل متزايد أن نمو رأس المال الخاص يشكل "تحديًا طويل الأمد للمكانة المتميزة للمؤسسات المملوكة للدولة (SOEs) وربما للحزب نفسه".[10] وغالبًا ما يرتبط رأس المال الخاص برأس المال الأجنبي، ولذلك تُشكك أحيانًا في ولائه للدولة الصينية ولمشروعها التنموي الوطني. يحاول شي جين بينغ إعادة تأكيد سلطة الحزب على رأس المال الخاص وتقليل اعتماد الصين على شبكات التجارة العالمية. ونتيجة لهذه السياسات، انخفضت حصة الشركات الأجنبية في الصادرات من حوالي النصف في عام 2012 إلى 27 في المئة حاليًّا.[11]

كما حاولت الطبقة الحاكمة الصينية تعميق القاعدة التكنولوجية المحلية للبلاد، بهدف تعزيز إنتاج المكونات الأساسية للأجهزة الإلكترونية، وعلى رأسها رقائق أشباه الموصلات. يرى بود أن قيادة الحزب الشيوعي قلقة من ضعف مستوى التطور المتقدم في الإنتاج المحلي الصيني. فعلى سبيل المثال، كان هناك عشرة روبوتات صناعية لكل 10,000 عامل في الصين، مقارنةً بعشرة لكل 100 عامل في الولايات المتحدة.[12] لذا تسعى الصين إلى تحقيق الريادة التكنولوجية العالمية في قطاعات رئيسية، من بينها الطاقة المتجددة، ومعدات الاتصالات، والروبوتات. ومع أن تعزيز الإنتاج المحلي أولوية ملحّة للدولة، فإن الطبقة الحاكمة ملتزمة أيضًا بالإبقاء على اندماج اقتصادها في سلاسل التوريد العالمية، وذلك بدافع الضرورة أكثر من أي شيء آخر. إذ تنتج الصين نحو نصف الإنتاج العالمي من المنتجات الكهربائية، لكنها تحتاج إلى استيراد رقائق إلكترونية بقيمة 292.56 مليار جنيه إسترليني لتحقيق ذلك. كما يكتب بود: "يشكل هذا 18 في المئة من إجمالي وارداتها، أي أكثر مما تنفقه على واردات النفط".[13] يدرك الحزب الشيوعي الصيني حجم الضعف الذي ينتج من هذا الوضع، ويهدف إلى "بناء مجتمع استهلاكي محلي أقل اعتمادًا على الصادرات، وقاعدة إنتاجية أقل خضوعًا للشركات متعددة الجنسيات الأجنبية التي قد تقرر الانتقال إلى مواقع إنتاج أرخص بحثًا عن الأرباح".[14] وهذا متجذر في التنافس المتزايد مع الغرب، كما سيناقش لاحقًا.

سيطرة الحزب الشيوعي الصيني على الدولة والإنتاج الاقتصادي

لا ينبغي الشك، في أن الحزب الشيوعي الصيني ما زال يسيطر بشكل صارم على الدولة. ويوضح بود في مقابلة مع صحيفة Socialist Worker، أن هناك "نواة من صانعي القرار في أعلى مستويات الحزب"، وهي "صغيرة جدًّا على المستويين الوطني والإقليمي". ويضيف: "القيادة الأساسية تتكون من آلاف الأشخاص، وهي مبنية حول عائلات راسخة مثل عائلة شي جين بينغ".[15] وكما يشرح بود في الفصل الثالث من كتابه، فإن قيادة الحزب الشيوعي تشكل نواة بيروقراطية الدولة الحاكمة، وتستمد قوتها الاجتماعية من سيطرتها الفعالة على الملكية المؤممة. ولا تكمن مصالحها في تحرير العمال، بل في الإدارة الاقتصادية الفعالة. إنه حزب يضم 99 مليون عضو، من بينهم رأسماليون، ومديرو المؤسسات المملوكة للدولة، ومعلمون وطلاب، وأخيرًا عمال وفلاحون. وتشكل الفئتان الأخيرتان "أقل من 35 في المئة" من العضوية.[16] ولا توجد ديمقراطية داخلية حقيقية. يلتزم الحزب بقول ماو: "بالنسبة إليَّ، الانتخابات مجرد كلمة براقة، ولا أعتقد أن هناك انتخابات حقيقية".[17] وفي موضع آخر يقول ماو: "كانت طرق نابليون الأفضل. لقد حل جميع المجالس بنفسه واختار من يحكمون معه".[18] هذا هو التقليد السياسي الذي يستند إليه الحزب الشيوعي الصيني.

كان هناك اعتقاد لدى البعض في الغرب بأنه بعد الانفتاح على قوى السوق وتغير موقف الحزب الشيوعي من رأس المال الخاص، قد تخف قبضة الحزب أيضًا وسط موجة أوسع من التحرير. لكن شي جين بينغ يمثل توجهًا معاكسًا، يسعى إلى إعادة تأكيد الدور المركزي للحزب الشيوعي في المجتمع الصيني. ولهذا السبب، شددت القيادة المركزية تحت قيادته قبضتها على الدولة من خلال إجراءات مثل حملة مكافحة الفساد وزيادة المراقبة. ومع ذلك، هناك توتر قائم بسبب تداخل الحزب الشيوعي مع رأس المال الخاص. إذ تنخرط السلطات المحلية للحزب في أنشطة اقتصادية خاصة، على سبيل المثال من خلال المشاريع المشتركة مع رأس المال الخاص أو امتلاك حصص في شركات خاصة. وهناك مؤسسات مملوكة للدولة تُدار من قبل رأسماليين من القطاع الخاص، ومؤسسات خاصة تُدار من قبل كوادر الحزب، وهناك حركة دائمة بين المسؤولين الحزبيين والقطاع الخاص. وينتج من ذلك تشابك بين الدولة والحزب والنخب الرأسمالية، يجمعهم هدف مشترك يتمثل في إثراء أنفسهم، ما يكرس دورة من عدم المساواة والفساد. ويصف بود هذه الظاهرة بأنها تشكل "طبقة رأسمالية هجينة جديدة من الدولة والقطاع الخاص".

وهذا نمط يحدده توبياس تن برينك أيضًا، في كتاب جماعي من تحرير ميلر. إذ يكتب: "إن النمط الصيني من الرأسمالية يتميز بصلات حميمة بين الدولة والجهات الخاصة على مختلف المستويات الإدارية".[19] ويقول تن برينك إنه لا يوجد أي تعارض بين الدولة ورأس المال، أو بين القطاع العام والخاص، إذ أصبحت الحدود بينهما غير واضحة على نحو متزايد. ومع ذلك، يقلل تن برينك أحيانًا من أهمية استمرار مركزية الدولة والمؤسسات المملوكة لها، إذ توحي تحليلاته بأن التمييز بين الخاص والعام قد فقد أهميته. صحيح أن هناك منطقة رمادية من العلاقات الهجينة بين القطاعين العام والخاص، لكن العلاقة تظل غير متكافئة بعمق. كما يوضح بود، فإن الدولة دعت رأس المال الخاص "ليكون تحت سيطرة أفضل، لا ليستولي على الحزب والدولة".[20] فعلى سبيل المثال، منذ عام 2018، أصبح من الإلزامي أن تحتوي جميع الشركات المدرجة في سوق الأسهم الصينية على خلية حزبية. وتعمل هذه الخلايا من خلال هياكل سلطة مستقلة داخل الشركات، وتؤدي دورًا مزدوجًا في مراقبة العمال وتتبع الرأسماليين من القطاع الخاص. أما قوانين المراقبة التي أدخلها شي في عامي 2017 و2019، فتلزم كل مواطن وكل منظمة بدعم الأمن القومي. وكان من تأثيرها تحويل المنظمات الخاصة والمجتمع المدني إلى "امتداد للدولة الأمنية الرقابية".[21] وقد تصاعدت هذه السيطرة بشكل خاص في الصناعات الرئيسية، بما في ذلك التكنولوجيا، والإعلام، والترفيه، وهي صناعات قادرة على التأثير في الرأي العام أو إيواء معارضين للنظام.[22]

نقاط الضعف الاقتصادية في الصين

انخفض معدل النمو السنوي في الصين من متوسط يقارب 10 في المئة سنويًّا بين عامي 1982 و2011 إلى 6 -7 في المئة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.[23] وبلغ أحدث معدل للنمو 4.8 في المئة.[24] يتم الحفاظ على هذه المعدلات من خلال ضخ هائل للأموال في الاقتصاد، لكن كل دفعة تحفيزية "تُنتج زيادات أصغر فأصغر في النشاط الاقتصادي".[25] وأخيرًا، في أكتوبر 2024، تعهد الحزب الشيوعي الصيني بـ"زيادة الدَّين بشكل كبير" لإنعاش الاقتصاد المتعثر، مع الإعلان عن حزمة تحفيز تصل إلى تريليون جنيه إسترليني.[26]

يستعرض بود في كتابه المشكلات الهيكلية التي تواجه الاقتصاد الصيني. فبينما تسعى الصين إلى منافسة خصومها، فإنها راكمت ديونًا ضخمة للحفاظ على معدل استثمار سنوي يقارب 40 في المئة على مدار ما يقرب من 40 عامًا، مقارنة بمتوسط 20 في المئة في الدول الغربية.[27] ويعني هذا أن هناك مزيدًا من "العمل الميت المتجسد في المصانع والآلات" وقليلًا من "قوة العمل الحيّة المنتِجة للقيمة"، ما يشير إلى "عوائد متناقصة على الاستثمار".[28] وقد سجل المكتب الوطني الصيني للإحصاءات بنفسه كيف أن عدد وحدات الائتمان المطلوبة لزيادة الناتج المحلي الإجمالي بوحدة واحدة قد ارتفع تدريجيًّا.[29]

النتيجة هي تراكم مفرط هائل لرأس المال. وقد تفاقمت هذه المشكلة منذ الأزمة الاقتصادية في عام 2008، والتي ردت عليها الدولة الصينية بحزمة تحفيز ضخمة بلغت قيمتها 1.54 تريليون جنيه إسترليني ضُخّت في قطاعات كانت تعاني بالفعل من فائض في الإنتاج: مثل الصلب، والخرسانة، والبنية التحتية. فتم بناء طرق سريعة وشبكات قطارات عالية السرعة، كثير منها قليل الاستخدام، بطرق خالية أو قطارات فارغة. وهناك عدد هائل من الشقق غير المكتملة أو الخالية، مع ظهور ما يسمى بـ"مدن الأشباح" وهي مشاريع حضرية ضخمة تفشل في جذب السكان أو الشركات. في عام 2022، بلغ معدل استخدام القدرة الصناعية الإجمالية -أي مستوى تشغيل المنشآت الإنتاجية- حوالي 75.6 في المئة، وهو أقل بعدة نقاط مئوية من الولايات المتحدة أو منطقة اليورو.[30]

وبما إن الاستثمار بات يعتمد بشكل متزايد على الائتمان، فقد ازدادت أعباء الديون. فارتفعت ديون السلطات المحلية من 17 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2008 إلى 76 في المئة وفقًا لأحدث الأرقام، أما ديون الشركات فارتفعت من 94 في المئة إلى 165 في المئة في نفس الفترة.[31] خلال العقد الماضي، بدأ رؤساء الحكومات المحلية بإنشاء "مركبات تمويل الحكومات المحلية "(LGFV)، وهي "شركات استثمارية تحصل على قروض بنكية أو تصدر سندات لتمويل مشاريع البنية التحتية والتطوير العقاري".[32] وتبلغ قيمة الديون التي تتحملها هذه المركبات حوالي 7.35 تريليون جنيه إسترليني، أي ما يعادل تقريبًا نصف الناتج المحلي الإجمالي للصين.[33] واليوم، تواجه عديد من هذه المركبات، التي تماثل في هيكلها التزامات الديون المضمونة (CDOs) التي ساهمت في إشعال أزمة 2008، صعوبات في سداد ديونها. وقد أثار هذا مخاوف من أن يؤدي تخلف أعداد كبيرة منها عن السداد إلى تأثير كارثي في النظام المالي الصيني بأكمله. ويُعد قطاع الشركات الصيني "من بين الأكثر مديونية في العالم"، ويُقدّر أن ما يصل إلى 25 في المئة من القروض لن يتم سدادها.[34]

وتكمن المخاوف بالنسبة إلى الحزب الشيوعي الصيني، الذي تعتمد شرعيته على كونه ضامنًا للازدهار المتزايد، في أن كبح فقاعة الديون أو انفجارها قد يؤدي إلى انهيار اقتصادي أوسع نطاقًا.

ومع ذلك، يوضح بود أن هناك عوامل تخفيفية، مثل أن الجزء الأكبر من الديون مستحق على الدولة المركزية أو الحكومات المحلية أو المؤسسات المملوكة للدولة لصالح مؤسسات مالية خاضعة لسيطرة الدولة. وهذه المؤسسات، التي يمكن للحزب الشيوعي الضغط عليها، لا تخضع لنفس الضغوط التنافسية التي تواجهها البنوك الغربية. والمشكلة التي تواجهها الطبقة الحاكمة الصينية هي أن خفض التراكم المفرط القائم على الديون سيضر بمعدل نمو الصين في وقت تحاول فيه تعزيز ميزتها التنافسية أمام خصومها في الأسواق العالمية، وتوجيه اقتصادها أكثر نحو السوق الداخلي، وتقليل الاعتماد على سلاسل التوريد العالمية. ونتيجة لذلك، يبقى احتمال حدوث أزمة كبرى مرتبطة بالديون قائمًا.

تايوان والتنافس الإمبريالي بين الصين والولايات المتحدة

يتصاعد التنافس بين الولايات المتحدة والصين، وأصبحت تايوان نقطة اشتعال لهذا الصراع. تسعى الإمبريالية الأمريكية إلى الحفاظ على قيادتها العالمية في مواجهة أكبر منافسيها. فقد تمركز أكثر من 60 في المئة من البحرية الأمريكية في المحيط الهادئ خلال العقد الماضي.[35] وفي وقت كتابة النص، كانت الصين تجري تدريبات عسكرية قبالة سواحل تايوان ردًّا على تعهد الرئيس التايواني ويليام لاي بـ"مقاومة الضم".[36] وهذه ليست أول مرة تُجري فيها الصين تدريبات تحاكي هجومًا بريًّا وبحريًّا وجويًّا على تايوان.

ومع ذلك، سيكون من الخطأ التركيز فقط في الطموحات الإمبريالية الصينية وإهمال الطموحات الإمبريالية الأمريكية، التي تظل الأقوى في العالم. يشير بود إلى نقطة تحول حاسمة في عام 2022، عندما أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن دعمه العسكري لتايوان في حال تعرضت لغزو صيني. وكان ذلك تحولًا نوعيًّا بعد عقود من "الغموض الإستراتيجي".

تتسم المنافسة بين البلدين الآن بطابع عدواني متزايد. فالصين ترى في هذا الوقت فرصة، خصوصًا بعد الهزائم العسكرية الأمريكية في العراق وأفغانستان خلال العقد الأول من الألفية، وكذلك فشل حربها بالوكالة في أوكرانيا، ما كشف عن ضعفها المتزايد.

ومع تطور القوة الاقتصادية للصين، أصبحت أكثر جرأة في أهدافها السياسية والعسكرية. من بين هذه الأهداف إعادة التوحيد مع تايوان. يرى بود أن هذا الهدف يشكل تأكيدًا جوهريًّا لقوة الدولة التي يمثلها الحزب الشيوعي. فبعد عام 1949، انسحب النظام القومي الصيني القديم (الكومينتانغ) إلى الجزيرة. وسيؤدي التوحيد إلى إزالة آخر بقايا النظام ما قبل الثوري.

وعلى نطاق أوسع، وسّعت الصين شبكتها من النفوذ. ويُعد سعيها للسيطرة الأكبر على محيطها المباشر عنصرًا حاسمًا في تقويض الهيمنة الأمريكية في آسيا. لكن الطبقة الحاكمة الأمريكية مصممة على الحفاظ على موقعها القيادي، وما يرتبط به من امتيازات. وهذا هو جوهر الاستعراض العسكري الأخير، إذ تسعى الولايات المتحدة إلى منع الصين من أن تصبح منافسًا ندًّا.

يستشهد بود بتقرير إدارة بايدن لعام 2022 بعنوان: "إستراتيجية المحيطين الهندي والهادئ". ويذكر التقرير أن طموحات الولايات المتحدة في آسيا "لا تهدف إلى تغيير جمهورية الصين الشعبية"، بل إلى "تشكيل البيئة الإستراتيجية التي تعمل فيها، وبناء توازن نفوذ في العالم يكون في أقصى حد لصالح الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها".[37]

وفي خضم هذا التنافس، لا تُعد تايوان مجرد نقطة توتر عسكري، بل اقتصادية أيضًا. تتنافس الولايات المتحدة والصين كذلك على السيطرة على إنتاج المكونات الأساسية للأجهزة الإلكترونية، وخاصة رقائق أشباه الموصلات. وتُعد شركة تصنيع أشباه الموصلات التايوانية (TSMC) أكبر منتج في العالم.

وباتت الولايات المتحدة ترى في تايوان ليس فقط حصنًا ضد القوة العسكرية الصينية المتزايدة في آسيا، بل أيضًا عنصرًا مهمًّا في شبكة عالمية من مصنِّعي الرقائق الحلفاء لها.

ومع ذلك، هناك تداخل اقتصادي عميق بين الصين وتايوان، حيث يذهب أكثر من نصف الاستثمار الأجنبي المباشر التايواني إلى الصين.[38] وتُصنّع شركة فوكسكون التايوانية، التي توظف مليون عامل صيني،[39] (جهاز آيفون - أبرز صادرات الصين.

لم تُخفف هذه الروابط الاقتصادية من التوترات العسكرية، لكنها توضح مدى تعقيد التداخل بين أنماط التنافس الجيوسياسي والاقتصادي في المنطقة.

المقاومة من القاعدة

هناك أيضًا مصادر أمل بدأت تظهر في الصين. يسلّط بود الضوء على نضالات العمال، واحتجاجات الطلاب، والنشاط النسوي، ونضال مجتمع الميم  (LGBT+)، والتعبئة حول القضايا البيئية. ففي عام 2007، وقع 360,000 إضراب. وتضاعف هذا الرقم في العام التالي ليصل إلى 700,000، وواصل الارتفاع بشكل مطرد في أعوام 2008 و2009 و2010. وفي عام 2011، انخفض عدد الإضرابات إلى 450,000، لكن "على مدى السنوات الثلاث التالية كان هناك ازدياد مطَّرد قبل انفجار الإضرابات في عامي 2015 و2016".[40] أضرب ملايين العمال في قطاعات السيارات، والنسيج، والإلكترونيات. وفي نهاية عام 2010، أضرب 70,000 عامل في المنطقة الصناعية في داليان.

ومع الأخذ بعين الاعتبار أن اتحاد النقابات في الصين هو امتداد للدولة، فإن موجة الإضرابات هذه "مثّلت تصاعدًا في الإضرابات غير الرسمية، حيث تجاوز الناشطون العماليون النقابات الرسمية".[41] ولم يكن ما أضعف نشاط العمال سوى القمع الشديد الذي مارسته الدولة.

ولم تقتصر المقاومة السياسية على أماكن العمل فقط. يصف بود كيف أن النسويات، وناشطي مجتمع الميم، والناشطين البيئيين بدءوا في الرد والنضال. وعند هذه النقطة، يوضح تحليله أمرًا أساسيًّا: أن الفكرة التي تقول، أن الطبقة العاملة الصينية تواجه مهمة مستحيلة بسبب نضالها ضد حزب يتمتع بسلطات مطلقة هي فكرة خاطئة.

ومع وصول نموذج الحزب الشيوعي القائم على النمو المدفوع بالديون إلى حدوده على ما يبدو، تتزايد التناقضات. ومع هذا التصاعد، من المرجح أن يتزايد القمع أيضًا. لكن هذا القمع لن يمحو خيبة أمل الناس من الطبقة العاملة.

يجب أن نتذكر أن دينامية مشابهة -مزيج من الجمود الاقتصادي والتصعيد في القمع- كانت حاضرة في عديد من الدول العربية قبل ثورات عام 2011. لا تزال حالة الغضب الكامنة موجودة. فالطبقة العاملة الصينية، التي تضم 800 مليون إنسان، تملك القوة الجماعية الكافية لتغيير المجتمع الصيني تغييرًا جذريًّا.

ويكمن الأمل في غضب العمال، وشجاعتهم، وإبداعهم. وكما يوضح بود: "يمكن للمقاومة أن تنفجر من أكثر الظروف التي تبدو ميؤوسًا منها".[42]

المراجع

  • بي بي سي، 2024، "الجيش التايواني في حالة تأهب قصوى مع التدريبات الصينية التي تحيط بالجزيرة" (14 أكتوبر)، www.bbc.co.uk/news/live/cjwdgp02enet
  • بود، أدريان 2024، الصين: الصعود، القمع والمقاومة (بوك ماركس).
  • إيكونومي تايمز، 2018، "الولايات المتحدة ستنقل 60% من سفنها السطحية إلى منطقة الهند-آسيا والمحيط الهادئ"، إيكونومي تايمز (12 يوليو).
  • فوستر، 2024، "شرح دور الصين اليوم"، سوشاليست ووركر (8 يوليو)،
  • https://socialistworker.co.uk/features/explaining-the-role-of-china-today
  • هاريس، نايجل، 1978، "تفويض السماء: ماركس وماو في الصين الحديثة" (كواترت بوكس ليمتد).
  • هور، تشارلي، 2004، "قرن الصين؟"، الاشتراكية الدولية 103 (الصيف).
  • هوانغ، ياشينغ، (2003)، "بيع الصين: الاستثمار الأجنبي المباشر خلال عصر الإصلاح"، (جامعة كامبريدج للطباعة).
  • صندوق النقد الدولي، 2024، "جمهورية الصين الشعبية"، www.imf.org/en/Countries/CHN
  • ماو، تسي تونغ، 1967، "مختارات من فكر ماو تسي تونغ (1949-1968)، الجزء الثاني (خدمة الأبحاث المشتركة للمنشورات الأمريكية)".
  • ميلر، أوين، وغاريث ديل، 2023، "ظهور وتطور الرأسمالية في شرق آسيا: نهج الرأسمالية الدولة"، في أوين ميلر (محرر)، الرأسمالية الدولة والتنمية في شرق آسيا منذ 1945 (بريل).
  • رويترز، 2024، "حصري: الصين تفكر في زيادة الديون بأكثر من 1.4 تريليون دولار خلال السنوات القادمة"، رويترز (29 أكتوبر) www.reuters.com/world/china/eyeing-us-election-china-considers-over-14-trillion-extra-debt-over-next-few-2024-10-29/
  • روميي ومينتو، 2012، "رسم بياني للأسبوع: من يصنع صادرات الصين - الشركات المحلية أم الأجنبية؟"، فاينانشيال تايمز (10 سبتمبر).
  • تن بريك، توبياس، 2023، "رأسمالية الصين المتسللة إلى الدولة: منظور للاقتصاد السياسي العالمي"، في أوين ميلر (محرر)، الرأسمالية الدولة والتنمية في شرق آسيا منذ 1945 (بريل).
  • البنك الدولي، (2024)، "نمو الناتج المحلي الإجمالي (النسبة السنوية%) - الصين"، البنك الدولي، https://data.worldbank.org/indicator/NY.GDP.MKTP.KD.ZG?locations=CN

 


1- https://isj.org.uk/making-sense-of-chinas-rise/

2- بود، 2024، ص 39.

3- بود، 2024، ص 43.

4- بود، 2024، ص 39.

5- ميلر ودايل، 2023، ص 5.

6- هوانغ، 2003.

7- ميلر ودايل، 2023، ص 40.

8- بود، 2024، ص 44.

9- بود، 2024، ص 43.

10- بود، 2024، ص 63.

11- يانات من روميي ومنتو، 2012.

12- بود، 2024، ص 64.

13- بود، 2024، ص 64.

14- بود، 2024، ص 64.

15- فوستر، 2024.

16- بود، 2024، ص 73.

17- ماو، 1967، ص 460.

18- ماو، 1976، مقتبس في هاريس، 1978.

19- تن بريك، 2023.

20- بود، 2024، ص 76.

21- بود، 2024، ص 93.

22- بود، 2024، ص 87.

23- بيانات من البنك الدولي، 2024.

24- بيانات من صندوق النقد الدولي، 2024.

25- بود، 2024، ص 66.

26- رويترز، 2024.

27- بود، 2024، ص 48.

28- بود، 2024، ص 48.

29- بود، 204، ص 49.

30- بود، 2025، ص 49.

31- بود، 2024، ص 51.

32- بود، 2024، ص 51.

33- بود، 2024، ص 51.

34- بود، 2024، ص 52.

35- إيكونومي تايمز، 2018.

36- بي بي سي، 2024.

37- بود، 2024، ص 183.

38- بود، 2024، ص 184.

39- بود، 2024، ص 184.

40- بود، 2024، ص 105.

41- بود، 2024، ص 108.

42- بود، 2024، ص 121.