مراجعات

خالد يوسف

ديناميكيات شحن وتفريغ الأوطان

2018.01.01

ديناميكيات شحن وتفريغ الأوطان

فقط في منتصف رواية «ملوك نقل الأثاث» لچوشوا كوهين يصبح كل شيء منطقيًّا، كل شيء في مكانه الصحيح: المئة صفحة السابقة، والسبعون سنة الماضية، وتحديدًا شتاء 2008 - 2009 في إقليم غزة، أو بروفة نهاية العالم على مدار ما يقرب من 40 يومًا.

يحدث هذا عندما يجد يوآب بطل الرواية نفسه في دهاليز حي كوينز النيويوركي المنسي، غير قادر على التمييز بين الحافلة المملوكة لابن عمه التي يركبها، ومدرعة وحدته العسكرية التي شاركت في عملية «الرصاص المصبوب»؛ غير قادر على التمييز بين الطريق إلى مطار كينيدي، وحي الشجاعية أو طريق صلاح الدين؛ مجرد هلاوس تجعل من كل شيء أقرب للون صهد الصحراء المؤدية إلى شاطئ غزة على المتوسط، حتى لو كان هو الآن قرب نهر هدسن الذي يصب في المحيط الأطلنطي؛ كل شيء غائم تمامًا كغلاف الراوية التي صدرت العام الماضي.

الرواية هي الخامسة لچوشوا كوهين، المولود في نيوچيرسي، والمتجاوز منتصف عقده الرابع، وهي تأخذ طريقًا متمهلاً لبناء اللحظة التي يعيش فيها بطل الرواية كابوسه الخاص؛ نقطة الضياع الكامل التي تفسر وجود مزمور رقم ٣٢ من العهد القديم كمقدمة افتتاحية للرواية: «لَمَّا سَكَتُّ بَلِيَتْ عِظَامِي مِنْ زَفِيرِي الْيَوْمَ كُلَّهُ».

زفير يوآب

في مطلع الرواية يقرر يوآب أن يسافر إلى نيويورك للانضمام إلى «بيزنس» ابن عمه ديفيد، الكهل الخمسيني، عقب الانتهاء من خدمته العسكرية الإجبارية. لقد قرر الذهاب بعيدًا عن «الوطن» لأخذ إجازة من قتل العرب، كما مزح معه ابن العم لدي وصوله نيويورك. إلا أن «الوطن» يطارد يوآب حتى في إجازته، حيث أن نيويورك نفسها مهتمة على نحو مكثف بما يحدث في «المنطقة».

في نيويورك، يمر يوآب يوميًّا بالمكتبات التي تبيع كتاب رونان بيرجمان «انهض واقتل أولًا: التاريخ السري لعمليات القتل الإسرائيلية المنهجية» ورواية دافيد جروسمان «حصان دلف إلى حانة» الفائزة بجائزة مان بووكر الدولية. إلى اليمين تلوح لافتات العرض التجاري الأول لفيلم «فوكستروت» لصامويل مؤاز؛ إلى اليسار إعلانات الفيلم الوثائقي «واحد منا» المهتم بمصير أربع شخصيات عقب تركهم لحركة الحاسيديم الأرثوذوكسية. وحتى عندما يمر يوآب ببرودواي، فإنه يجد نفسه أمام إعلانات النسخة المسرحية من فيلم «زيارة الفرقة» بوجه توني شلهوب، الذي يحاكي بطل العمل قائد الفرقة الموسيقية المصري. ثم ينتهي الأمر بملصقات التضامن المتناثرة مع عهد التميمي.

يعجز يوآب عن الفكاك؛ إنه البطل المثالي الذي يعيش الكتالوج النموذجي للشخصية الإسرائيلية بكل كوابيسها وأزماتها خلال العقود الثلاثة الماضية. المؤلف، چوشوا كوهين، يبدو واعيًا بالأزمات الأبدية التي تطارد الشخصية الإسرائيلية عقب حرب 67؛ والمركز الذي تدور حوله كل الأزمات هو الهوية في الأساس.

في أثناء إجازته في نيويورك، لا يستطيع يوآب، السفارديم الشرقي ذو الأصول المغربية، فهم علاقته بالحاسيديم. فهؤلاء مطلوب منهم أن يصبحوا حاسيديم طول الوقت، دون أن يعيروا لفكرة إسرائيل الكثير من الاهتمام؛ إنها ليست جزءًا من مصيرهم أو حياتهم اليومية. أما يوآب، الذي يضطر للحديث بعربية شبه متقنة مع صاحب متجر سوري يعتقد بالخطأ أنه أردني مهاجر، فهو غير قادر على مجاراة تامي، ابنة دافيد، التي تواجه مشكلة إدمان حقيقية لا تفيق منها سوى على تنظيمها للمظاهرات المناهضة للاحتلال الإسرائيلي المجرم، كواحدة من أبناء الجيل الثاني لمهاجري ما بعد الهولوكوست.

يوآب كان مجرد شخصية من شخصيات المسودة الأولى لرواية چوشوا: واحد من ضمن أفراد وحدة عسكرية قررت بعد نهاية الخدمة أن تبتعد عن بعضها لأكبر مسافة ممكنة، في كل أنحاء العالم، كصعاليك بلا هدف سوى الهروب من ماضٍ لا يمكن تحديد معالمه، كأنهم يرسمون شتاتًا جديدًا بدأت موضته من أول جيل عرف الرخاء الاقتصادي عقب احتلال القدس في صيف 67، بعد ما يقرب من جيلين من التقشف، عاشهما جيل أشكيناز المستوطنين الأوائل، ثم جيل الصابرا من مواليد الكيان الجديد المبني على أنقاض النكبة «سنة سبات» بلا نهاية.

تلك هي الفرصة الأولى لأمثال يوآب للتعرف على الجوييم (أي غير اليهود) وعلى خطيئة «اليريدا» أو «النزول» (أي الهجرة من إسرائيل بلا عودة). في أساطير الصهيونية تعتبر الهجرة من إسرائيل «نزولًا» والقدوم إليها «صعودًا». لكن طبقًا لشخصيات «ملوك نقل الأثاث»، ربما كان «القدوم» هو الخطيئة الأولى في الأساس، أو كما يقول چوشوا: «إن الإسرائيليين يتم تذكيرهم طوال الوقت أن عليهم الذهاب بعيدًا لأنهم تقريبًا بلا جيران، وهم غير مرحب بهم، وعليهم تمامًا الانسلاخ في مغادرتهم عما يسمى بالـ«وطن». حتى في أثناء رحيل يوآب من مطار بن جوريون، يشير چوشوا إلى أن علامات الكيلومترات في الطريق إلى المطار تذكير ضمني بالمسافة المتبقية أمامك قبل الهروب من الجحيم.

شركة الملك داوود

يوآب هو الوحيد تقريبًا الذي نجا من وحدته العسكرية ليصبح محورًا لأحداث رواية چوشوا كوهين، الحافلة بما أسماه الكاتب بالتوازيات بين هنا وهناك، بين نيويورك وإسرائيل؛ توازيات لا نهاية لها، بداية من شركة ابن العم ديفيد كنج «الملك داوود» العقارية المشهورة بألوانها «الزرقاء السماوية» التي بدأت أعمالها في «عام 1948» في كوينز، وحتى النهاية.

هذه التوازيات تشكل إنجاز الرواية الأساسي في الربط بين الاحتلال الإسرائيلي وسياسة طرد المستأجرين من منازلهم في شتى أنحاء أمريكا الشمالية في أعقاب أزمة الرهون العقارية في خريف عام 2008. هناك، والحق يقال، رابطة وثيقة بين الرأسمالية كترس لا يرحم زبائنه، والصهيونية كمطحنة عرقية وأيديولوجية تطمس معالم ما حولها كثمن بخس لتحقيق نبوءتها؛ في الحالتين توجد أرض ميعاد، فقط الملامح الظاهرية مختلفة.

فمن الناحية الظاهرية يعمل يوآب لدى ابن عمه ديفيد في نقل الأثاث، ولكنه في الحقيقة يعمل على إخلاء وتهجير السكان غير القادرين على دفع فواتير الرهن العقاري. هنا يبدو بطلنا كنسخة حديثة من يوآب ما قبل الميلاد، قائد جيش «الملك داوود»، بالغ القسوة، الذي أسهم في احتلال أورشليم، قبل أن يلقى هو نفسه مصيرًا مظلمًا.

تطوير عقاري

تحكي لنا «ملوك نقل الأثاث» عن «التطوير العقاري» في كل من نيويورك وإسرائيل. في نيويورك، اجتاحت دنيا العقارات عقب هجمات 11 سبتمبر ظاهرة «التحسين» Gentrification، حيث يبحث المطوّرون العقاريون عن الأحياء العمالية المعروفة بفقرها الشديد، والمهملة بالكامل، ليقوموا بإحلال سكان جدد أكثر ثراء، وذوي ثقافة مختلفة تمامًا، محل «السكان الأصليين»، في عملية تهجير «مستترة». حي هوبوكن بمخازنه ومصانعه وطابعه العمالي أصبح حيًّا متميزًا فاحش الثراء، وواحدًا من مراكز التجارة الجديدة بوجوده على الخط الفاصل بين نيويورك ونيوجرسي؛ أحياء بروكلين بأقلياتها السوداء وخدماتها المنهارة حتى نهاية التسعينات تحولت إلى واحدة من أعلى المناطق إيجارًا في الولايات المتحدة. إنها عملية تفريغ وشحن سكاني منظمة بالغة الأناقة، تحمل اسم «التطوير العقاري» المحايد، وتعيد منطق «السكان الأصليين» من جديد على مستوى المدن. وهنا بالضبط يمكننا أن نعتبر أن دولة إسرائيل هي أكبر عملية «تطوير عقاري» في القرنين الأخيرين!

تيمات المنزل والعائلة والوطن متكررة بشكل مقصود في كل صفحة من صفحات «ملوك نقل الأثاث»: منزل عائلة ديفيد كنج هو مزيج من مخلفات الهولوكوست، وذكريات طفولة وطن أمريكي بديل، وبقايا ممتلكات المستأجرين من زبائن الشركة الذين عجزوا عن دفع فواتيرهم. ذكريات المنازل الأخرى المستولى عليها أضحت جزءًا من «ديكور» حياة ديفيد وتراثه الخاص؛ غرف كاملة عامرة بأجهزة منزلية من غنائم الآخرين التي يتم إعادة تدويرها للأقارب كأنها جزء من ممتلكاته الشخصية.

على الجانب الآخر يبدو أن فترة الوجود في جيش الدفاع كانت خير تدريب ليوآب على عمليات التهجير وطرد السكان. المقاربة مذهلة مع عمليات التهجير والإخلاء لمساكن الفلسطينيين في غزة والضفة (تحطيم الأغراض الشخصية، اقتحام البيوت، إلخ). لكن هناك فارق بسيط: طائرات الإف 16 ليست موجودة لتغطية رأس يوآب في كوينز أو بروكلين؛ عليه أن يخلص شؤونه بنفسه خارج الوطن.

كذلك على يوآب التعامل مع الأقليات اللاتينية والسوداء بالبرود الذي يتعامل به في الأراضي المحتلة. فهو برود يضمن له النجاح في أغلب الأحيان، ولكنه في الوقت نفسه، ومع بلوغ منتصف الرواية، يساعد يوآب (والقارئ) على إدراك أنه (بل إسرائيل كلها) يعاني من حالة دائمة من كرب ما بعد الصدمة تبدو الاستفاقة منها مستحيلة. إنها جزء من أزمة الشخصية الإسرائيلية الأبدية، أو ما يسميها چوشوا «عواقب حالة عدم التعرض للعقاب، واكتشاف الفارق بين ما هو قانوني وبين ما هو أخلاقي».

هذه بالضبط هي الأزمة التي تطارد أغلب الشخصيات الدرامية الإسرائيلية، خصوصًا في علاقتها بالماضي، وتحديدًا في سينما العقدين الأخيرين: عملية التطهر غير المكتملة والعقاب المنقوص، والوقوع فريسة للذكريات. إن جزءًا من ديناميكية الرأسمالية هو نفيها، فهي تصنع نزعة استهلاكية كاسحة، تنتج عنها حالة فيض زائد تتطلب من المستهلك أن يبحث عن مكان لتخزين ما لا يحتاجه. هي الحلقة المفرغة التي لا تتمكن أي شخصية من شخصيات الرواية من الهروب منها.

زفير ما بعد الكرب

«ملوك نقل الأثاث» في مقاربتها بين الصهيونية والرأسمالية تتجاوز ثنائيات (الفائزين/الخاسرين) أو (الضحايا/الجلادين). عملية التهجير، والشحن والتفريغ، جزء من ديناميكية الوسيط بين المنتج والزبون. ديفيد كنج مطلوب لتنفيذ الأعمال القذرة في عملية «التطوير العقاري»، تمامًا كما احتاجت الطبقة السياسية الحاكمة في أمريكا إبان حرب فيتنام إلى دفع السود إلى الجبهة على أمل أن يقوموا بالتخلص من الفيتناميين أو العكس (أيهما أقرب). في «ملوك نقل الأثاث» كان إمامو نابي هو الزبون الوحيد الذي قاوم يوآب أثناء تهجيره من منزله، بصفته من محاربي فيتنام القدماء وأحد السكان من الأقلية السوداء الأصليين في الحي. لا بد من وجود وكيل أو وسيط في تلك المنظومة حتى يمكنها أن تبقى على قيد الحياة.

إنها الأزمة نفسها التي يعيشها يوآب. حيث يظهر كشخص غير مستعد لمواجهة الحياة بعد فترة التجنيد الإجباري، مكتشفًا صدق ما قاله أحد الحاخامات في «الوطن»، إن على جيله تقبل فكرة أنه «جندي» طيلة حياته، طول الوقت، إنه لم يخلق إلا ليكون جنديًّا، تمامًا كما أن عليه تقبل فكرة أنه يهودي، وهي الفكرة التي تقوم بتدمير وجوده رويدًا رويدًا في نيويورك؛ حالة كرب ما بعد الصدمة أضحت حالة دائمة، وهي حسب تعليق چوشوا الحالة التي يعيشها الفلسطينيون منذ النكبة «عندما يصبح الخلل هو الدائم، يمكنك سؤال الفلسطينيين عن هذا الأمر». وهو ما يجعل من المزمور المذكور في مقدمة الرواية صوتًا حاضرًا مع كل صفحة وحقيقة تعصف بالجميع.

أمام أحد المنازل التي يقوم يوآب بإخلائها توجد لافتة تتبع جمعية تناهض ملاحقة المهاجرين تمهيدًا لترحيلهم. شعار الجمعية التي يشرف عليها يهود تقدميون: «اترك أهلي يبقون». يوآب يبدو عليه الاندهاش والارتباك قليلاً، خصوصًا وأنها تشبه رغبة موسى في جعل «أهله يرحلون» في أثناء مغادرتهم مصر. حالة ارتباك تليق بشخصية تائهة، لا تدرك موقعها من العالم بعد، ولكن عليها القيام بمهمة ما، دون أن تدرك أنها قد تواجه مصير ضحاياها في نهاية المطاف.