عدد 18-عن الفقد والافتقاد

غريب سليمان

دينا جميل.. الجسورة الباسمة

2020.11.01

دينا جميل.. الجسورة الباسمة

الكتابة عن بعض الأشخاص مهمة غاية في الصعوبة، خصوصًا عندما يكون الشخص نموذجًا متفردًا إلى درجة تفوق التصور المعتاد، فالاتهام بالمبالغة سيكون حاضرًا بالتأكيد، لكن أحيانًا تجود الحياة بنماذج نادرة من البشر تتفوق عن المعتاد، وتضيف إلى الصفات البشرية سموًا خاصًا؛ دينا جميل، أحد هذه النماذج المتفردة، القدرة على العطاء بلا حدود دون انتظار المقابل، الباسمة دائمًا حتى في مواجهة الصعاب حتى صارت البسمة الدائمة صفة ملازمة لاسمها. دينا الصديقة، والرفيقة النادرة التي كانت هبة لشخص مثلي كان غارقًا في اليأس، لتصحبني ببساطة ودون تكلف لأسطر معها صفحات قليلة وجميلة من النضال.

عندما طلب مني الأصدقاء الكتابة عن دينا المناضلة السياسية، بوصفي رفيق جزء مهم من رحلتها النضالية الطويلة، قبلت على الرغم من خوفي الشديد، فالمهمة غاية في الصعوبة.. لكنها مهمة من المستحيل الاعتذار عنها، فهو تكريم لشخصي؛ أن أستحق الكتابة عن مرحلة من مراحل نضال دينا جميل، الرفيقة التي يصعب وصفها بكلمات عادية، فهي بالتأكيد إنسانة ومناضلة استثنائية.

الصعوبة العملية أيضًا حاضرة هنا، فدينا جميل، كانت مهامها متشعبة ومتشابكة، بداية من نشاطها العمالي كمناضلة اشتراكية، مرورًا بأدوارها القيادية والتنظيمية، وصولاً إلى قدرتها العجيبة على الوجود بكل الفاعليات السياسية على المستوى العام. بالطبع سأكتفي هنا بمرحلة محددة من نضالها؛ مرحلة نشاطها بشبرا الخيمة حيث كنت رفيق جزء مهم من رحلتها الطويلة، لكن أيضًا تلك المرحلة شهدت تنوعًا كبيرًا، لذلك وللصعوبة النفسية العميقة، ستكون تلك السطور مجرد سرد لذكريات عزيزة، لن تكون بالتأكيد منسقة أو جيدة بدرجة كافية، لذا ألتمس العذر بداية من القارئ العزيز.

دينا وفتيات المصانع: المهمة الصعبة

الشك كان بداية علاقتي بدينا جميل 96/97، تلك الفتاة المبهجة، الصحفية النابهة صاحبة المكانة الكبيرة بعالم الصحافة، ابنة مصر الجديدة التي اعتقدت أنها مدللة، كيف لتلك الصبية أن تقوم بالدور الأصعب وسط عاملات شبرا الخيمة؟ كيف ستنسج علاقة مع عاملات قطاع الملابس بكل تعقيداته؟ لكنني لم أنتظر كثيرًا ليزول الشك، وأترك مقتنعًا دور المثقف الاشتراكي ابن شبرا الخيمة الذي ينقل خبراته للآخرين، والقبول برضاء كامل التعلم من رفيقة قادرة على ابتكار خبرات جديدة مستمدة من إيمان عميق بمشروع الفقراء، وجسارة قادرة على اقتحام الموانع وفضح المبررات الزائفة، ولتبسيط التعقيدات التي كان على دينا المناضلة مواجهتها، عليَّ أولاً أن ألقي نظرة سريعة على قطاع عاملات الملابس الجاهزة.

قطاع الملابس الجاهزة بشبرا الخيمة قطاع قديم، ارتبط بصناعة الغزل والنسيج التي بدأت بشبرا منذ الأربعينيات، لكننا هنا نتحدث عن القطاع الحديث نسبيًّا؛ الذي بدأ مع بدايات التسعينيات ليحل تدريجيًّا مكان مصانع القطاع العام الكبيرة مثل إسكو، والقاهرة، وغيرها من المصانع التي داسها قطار الخصخصة ملقيًا بآلاف العمال للبطالة، سواء بخدعة المعاش المبكر أو تصفية العمالة المؤقتة. استفاد المستثمرون الجدد سواء كانوا من المصريين أو من شركائهم الآسيويين من وجود قطاع واسع من الطبقة العاملة منزوعة الحماية، رخيصة الأجر على الرغم من المهارات المتراكمة لديها عبر عقود طويلة، فأقاموا عددًا من المصانع الجديدة أهمها مصر تايوان، وطيبا، وفابلس.

كثَّفت هذه المصانع الاستغلال، مستخدمة كل الأدوات المتاحة، بداية من لوائح التشغيل المتجاهلة تمامًا لقانون العمل، وضاعفت الجزاءات على الغياب والتأخير، وبالطبع غابت المظلة التأمينية، إذ كانت العمالة النسائية التي تصل إلى 90 % تُعيَّن كعمالة مؤقتة، وبالطبع يجب توقيع استقالة ترفق بأوراق التعيين لاستخدامها عند اللزوم، بالإضافة إلى الأجور التافهة التي تبدأ من 80 جنيهًا لتصل إلى 170 جنيهًا في حدها الأقصى، مع ربط الأجور بالإنتاج بكميات من المستحيل تحقيقها. بالمقابل يظهر التمييز الجنسي بأوضح صوره، فالرجال الذين يمثلون 10 % من العمالة يحصل أغلبهم على تأمين صحي، وتصل أجورهم إلى الضعف تقريبًا حيث تبدأ من 170 إلى 300 جنيهًا، ولضمان السيطرة الكاملة على العاملات يحصل المشرفون المسؤولون على أضعاف أجور العمالة العادية لتبدأ من 1000 جنيه.

أما المشكلة الأكبر التي كان على المناضلة دينا جميل مواجهتها أن العمالة النسائية وأغلبها فتيات صغيرات قبل سن الزواج، لا يرون أنفسهن جزءًا من الطبقة العاملة، ففكرة «التوقيت» مسيطرة عليهن بشكل كبير، إذ تعتقد كل فتاة أنها تعمل لفترة مؤقتة لتجهيز نفسها للزواج، وستنتهي معاناتها اليومية عندما يأتي الزوج المنتظر الذي سيتحمل وحده أعباء العمل، ذلك الوهم الذي تفيق منه الأغلبية، حين يكتشفن أن ذلك الزوج القادر على إعالة أسرة بعمله دون مساعدة الزوجة، أصبح عملة نادرة.

كنتُ قبل معرفتي بدينا، استبعد تلقائيًّا هذا القطاع من خريطتي، وأعمل جاهدًا على التواصل مع عمال القطاع الهندسي بشبرا الخيمة، حيث كانت المصانع لا تزال تحتفظ بمكانتها، لكن دينا بروح المناضلة الصبورة قبلت بقناعة كاملة مهمة اقتحام قطاع الملابس الجاهزة، والنضال وسط الفتيات مع كل الصعوبات، قررت دينا أن تغرس قدمها بشوارع شبرا الخيمة القاسية دون تردد.

وقفت في البداية أمام أبواب المصانع فترة خروج الورديات، محاولة التواصل مع العاملات عن طريق إجراء تحقيقات صحفية عن أوضاعهن، ولضيق الوقت عند خروج العاملات المجهدات من ساعات العمل المرهقة، عرفتْ دينا أن أنسب وقت هو ساعة الراحة، حين تتناول العاملات الغداء بالمطاعم الرخيصة القريبة من المصانع، استطاعت دينا ببسمتها الودودة، وصدق كلامها أن تنسج علاقات جيدة جدًا مع العاملات، وبدأت تناقش معهن الأوضاع مسهمة بأفكارها الواقعية في رفع وعي العاملات بحقوقهن دون الاندفاع لقرارات يمكن أن تؤدي لفقدانهن مصدر دخلهن. أصبحت دينا خلال شهور قليلة بكثير من المثابرة والصبر صديقة موثوقة لكثير من العاملات، وبالطبع كانت تركِّز كثيرًا مع الفتيات الأكثر تقدمًا حتى إن بعضهن صِرن رفيقات بالفعل. استطاعت دينا بخفة ومثابرة تحسد عليهما القفز فوق الحواجز، والوصول إلى أدق تفاصيل العمل بذلك القطاع ونشر المعرفة بحقوق العمال، والتراث النضالي لعمال شبرا الخيمة التي كانت يومًا ما القلعة الحمراء. كانت دينا موجودة دائمًا كمرشدة أمينة خلال النضالات الصغيرة مثل الإضراب بمصنع مصر تايوان احتجاجًا على خصم الحافز، أو إضراب عاملات فابلس ضد المواعيد التي لا تراعي ظروف شهر رمضان.

تمكنت دينا بالمهارة والصبر، أن تصبح نموذجًا للمناضلة الاشتراكية ببيئة عمالية غاية في التعقيد، فهمت جيدًا من عمق الواقع ظروف حياة العاملات المعقدة، وأصبحت بوعي كامل جزءًا عضويًّا من تلك الحياة، حتى إن الجميع كان يظن أنها من سكان شبرا الخيمة وليس مصر الجديدة، لكن هذه المهمة العظيمة التي عجز عنها الاشتراكيون بشبرا الخيمة لم تكن مهمتها الوحيدة.

مصانع شبرا الخيمة: طبقة عاملة تتفتت

قد يظن البعض أن التزام دينا الصارم بالوجود وسط عاملات الملابس الجاهزة بكل ما تحتاجه من وقت وجهد، هو المهمة الوحيدة لمناضلة وهبت الجزء الأكبر من حياتها للنضال مع الطبقة العاملة، لكن الحقيقة أكبر من ذلك بكثير جدًا، فمجموعة الاشتراكيين التي نشطت في ذلك الوقت في شبرا الخيمة كانت قليلة العدد جدًا، وفي ظل الجذر السياسي الشديد بالتسعينيات، ومواجهة الطبقة العاملة لهجوم كاسح من الرأسمالية بقيادة الدولة نفسها التي اعتنقت الخصخصة كعقيدة لا حياد عنها، كان على الاشتراكيين وفي القلب منهم دينا، خوض نضال يومي، ومنح الكثير من الوقت والجهد لخلق تواصل مع طبقة عاملة تواجه التصفية، كانت المهمة تقوم على هدفين؛ الأول: مد الجسور مع الطليعة العمالية غير الظاهرة. والثاني: الاشتباك الإيجابي مع المعارك العمالية الصغيرة بطرح شعارات واقعية قابلة لتبني العمال لها مثل «النضال من أجل شروط أفضل» في معركة المعاش المبكر.

استطاعت المجموعة أن تنتج مجلة محلية باسم حزب كان يساريًّا، وكانت المجلة أداة تواصل مهمة؛ إذ كانت تحتوي على كل الأخبار العمالية لشبرا الخيمة، والأخبار المحلية التي تهم السكان من منظور اشتراكي واضح. بالطبع كانت دينا مسؤولة مع آخرين عن إعداد المجلة التي صدر منها أكثر من 50 عددًا قبل أن يوقفها الحزب، بعد أن تلقى شكاوى كثيرة من أصحاب المصانع، ورأى الحزب أن المجلة قوية أكثر من اللازم!

إصدار المجلة مهمة تتفرع إلى مهام كثيرة؛ جمع الأخبار، والتحقيقات، والتحرير، وغيرها من مهام صحفية، التحقيقات العمالية كانت مهمة دينا وأنا بالتحديد، كالوجود أمام أبواب المصانع، وجمع الأخبار، وإجراء التحقيقات الصحفية مع العمال. وقد تميزت دينا بصفتين أفادتاني كثيرًا: الالتزام الصارم مهما كانت العقبات، حتى إنني كنت أخاف كثيرًا لو تأخرت عن موعدي لدقائق، فهي دائمًا موجودة في الوقت المحدد والمكان المحدد؛ والميزة الثانية هي قدرتها الفريدة على التواصل السريع مع العمال وخلق علاقة إنسانية ودودة في وقت قياسي، مهارة حاولت كثيرًا تعلمها أو على الأقل الاستفادة منها. خلال وقت قصير اكتشفنا أن الظرف الأمثل لإجراء التحقيقات هو في أتوبيسات العمال التي تنقلهم بعد العمل، وبالطبع أصبح السائقون سريعًا أصدقاء لنا، حتى إنهم عرفوا المواعيد التي نوجد بها وكانوا ينتظرون وصولنا قبل التحرك. أسهم في ذلك بالطبع رؤيتهم كل شهر للمجلة التي تحمل أخبارهم مع باقي أخبار شبرا الخيمة، ووجود أسمائهم منشورة ما كان يسعدهم كثيرًا.

كانت دينا موجودة في جميع النضالات العملية القليلة خلال تلك المرحلة والتي كان أغلبها حول الخصخصة والمعاش المبكر. كانت موجودة في إضراب سيمو للورق، وإضراب عمال الدلتا للصلب، وشركة الكابلات المصرية، وغيرها، كانت دائمًا برفقة الزملاء مشاركة بالدعاية للشعارات التي رأيناها صحيحة وقتها. وكصحفية كانت ناقلة أمينة لأخبار العمال للرأي العام على مستوى أوسع من شبرا الخيمة، وقد ساهم ذلك بالطبع في جذب الانتباه لتلك النضالات وتقوية موقف العمال.

النضال والإحباط وجهًا لوجه

نضال الاشتراكيين بشكل عام يمر بمراحل طويلة من الإحباط، وبشكل خاص النضال وسط الطبقة العاملة خلال مواجهتها لأشرس هجوم من الرأسمالية، هجوم لا يستهدف السيطرة عليها فقط بل تصفيتها وسلب كل مكاسبها التاريخية، كانت نهاية التسعينيات وبداية القرن الجديد، مرحلة غاية في الصعوبة للطبقة العاملة وللمناضلين الاشتراكيين معًا، حتى المكاسب الصغيرة تسرق في لحظة مخلفة إحباط وحزن، خلال تلك المرحلة التي جمعتني بدينا، عشنا معًا إحباطات كثيرة، لكنها لم تشاركني الإحباط سوى لحظات، فكانت دائمًا تبحث عن المهمة القادمة، أتذكر جيدًا موقفين أنقذتني خلالهما دينا من اليأس.

كعادتنا كل شهر، نوزع المجلة المحلية على العمال، ونجري تحقيقًا جديدًا، الموعد في الثالثة تمامًا أمام مصنع إيديال على ترعة الإسماعيلية، سنشرب الشاي مع السائقين حتى يخرج العمال في الثالثة والنصف. تلك المرة لم نجد الأتوبيسات في المكان المعتاد، وبالطبع لم نجد السائقين، داهمتنا الدهشة وتساءلنا أين الأتوبيسات؟ هل تغيَّرت المواعيد؟ عشرات الاسئلة بلا إجابة، الوقت يمر ونحن ننتظر إجابة على الاختفاء المريب. مر الوقت حتى تجاوزت الساعة الرابعة، قررت بعد تفكير دخول المصنع للبحث عن الإجابة، بعد قليل خرجت إليها حزينًا؛ الشركة التي اشترت إيديال «أوليمبيك» قامت خلال أيام قليلة بتصفية كل شيء، بنقل عدد محدود من العمال إلى العاشر من رمضان، وخروج الباقين معاشًا مبكرًا، وبيع الأتوبيسات، قررت هدم المباني وبيع الأرض، وهكذا اختفى المصنع بالكامل واختفى معه العمال! ضحكت دينا كثيرًا ومشينا مسافة طويلة تحدثني عن قبول الأمر والتفكير بمهام الغد، أخرجتني ضحكتها الحزينة الصادقة من حالة الإحباط سريعًا.

تكرر الأمر بعد عدة أيام عند مصنع «الجوت» الأمر نفسه تقريبًا، لكننا تلك المرة لم نجد المصنع نفسه بكل مكوناته، أخبرنا أحد سكان المنطقة أن المصنع صُفيَّ بالكامل ليستفيد المشتري من الأرض التي تفوق قيمتها كثيرًا سعر المصنع! ضحكنا كثيرًا تلك المرة وسط الإحباط الطبيعي الذي كان معتادًا تلك الفترة، وكعادتها دينا، تنتشلني سريعًا من اللحظة بالتفكير في الغد.

إدراك المناضل للمرحلة التاريخية التي ينشط خلالها، والظروف المركبة التي تحكم التحولات السياسية والاقتصادية، يخلق توازنًا نفسيًّا فريدًا، توازنًا لا يخلو من الحزن والاحباط، لكنه يملك التفسير، قادر على تجاوز الأزمة الذاتية والتواصل مع المشروع الاشتراكي بمعناه الأشمل، مثَّلت دينا لي خلال تلك المرحلة الصعبة، التوزان القائم على الإيمان العميق بالمشروع الشامل، والقدرة على استيعاب التغيرات السريعة، بالطبع قامت الرفيقة بمساعدتي بأشكال كثيرة لا أخجل من ذكرها، منها المساعدة المادية إذ كنت عاطلاً تقريبًا، والدعم النفسي الرفاقي، لي وللكثير من الرفاق الذين وقعوا فريسة للإحباط واليأس أحيانًا.

من يربح سباق الجماهير؟

المناضل الاشتراكي، عليه التحرك في مسارات متوازية، والتركيز على النضال مع الطبقة العاملة بوصفها القادرة على قيادة تغيير حقيقي، وأيضًا الدعاية السياسية بشكل مستمر في مواجهة هيمنة الداعية الرأسمالية. كان علينا كمجموعة صغيرة من الاشتراكيين الاستفادة من كل فرصة متاحة، وكنا مضطرين إلى استخدام مقر محلي لحزب كان يساريًّا بشبرا الخيمة على الرغم من عدم تمتعه بسمعة جيدة، فكنا ننظم ندوة أسبوعية بهذا المقر الصغير الواقع ببدروم أحد البيوت حتى لا يكاد يُرى من الشارع. كان تجهيز الندوة من موضوع ومتحدثين المهمة الأسهل، أما الأصعب هو جذب الجمهور العادي من المارة بالشارع، فقد كنا ندرك مسبقًا أن دعاية الندوة التي نوزعها بكل مكان لن تجذب الجمهور للمقر؛ وعلينا إذن أن نعمل على جذب الجمهور من الشارع، وتوزيع الدعوة مع النقاش مع المارة ودفعهم إلى الحضور والنقاش في ندوة غالبًا لا يهتمون بموضوعها السياسي، وحتى عرض الأفلام الذي كنا نقيمه شهريًّا لم يكن كافيًا لجذب الجمهور. كانت دينا موجودة غالبًا مع الرفاق، ولأنها كانت الأكثر قدرة على التواصل كانت تجذب العدد الأكبر من الجمهور، وكنا نتسابق معها كل مرة، ونحصي العدد الذي استطاع كل رفيق إقناعه بحضور الندوة، وبالطبع كانت دينا دائمًا تفوز على الجميع، ابتسامتها التلقائية كانت عاملاً حاسمًا في سرعة التواصل، وقدرتها على الإنصات واختيار الرد المناسب بلا تكلف، لم تكن تبدو قط كمثقفة تقليدية تتكلم بمفردات متعالية، كانت ببساطة فتاة مصرية غارقة في شبرا الخيمة بكل تفاصيلها لكنها فقط تبيت ليلها بمصر الجديدة.

أعرف مسبقًا أن هذا المقال غير منصف بالقدر الكافي لذكرى رفيقة سنوات النضال، فمن المستحيل واقعيًّا وصف دينا جميل المناضلة بالكلمات، لكن أيضًا هذا المقال مع ضعفه، هو الأصعب والاكثر إجهادًا في حياتي؛ أن أستدعي الذكريات وأهرب منها في الوقت نفسه، وهي مهمة مستحيلة، أن أكتب وصورة دينا متجسدة أمامي، كأنها تراقبني مزينة بابتسامتها المبهجة، مهمة مستحيلة، عذرًا رفيقة سنوات نضالي الأصدق، فأنت أكبر كثيرًا من الوصف.