عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

ثقافات

زينب البكري

باشا من الجبس! تمثالان لمحمد علي

2025.05.25

مصدر الصورة : آخرون

باشا من الجبس! تمثالان لمحمد علي

 

"إنه قصير القامة، وثيابه غاية في البساطة، وله لحية بيضاء، وجهه كثير الانفعالات تملؤه الرقة والدماثة، وعيناه وإن أحاطت بها التجاعيد، وصارتا ضيقتين، فإنهما تشعان روحًا وحيوية".

بهذه الكلمات وصف شامبليون ملامح محمد علي أحد أهم الشخصيات التاريخية التى لا زال يحيط بها الغموض في كثير من جوانب شخصيته وحياته، نتوقف هنا حول تمثالين لمحمد علي، الأول لا نعرف كثيرًا عنه وآخر يعرفه الجميع.

ولنبدأ بالأخير، بداية نعلم أن لمحمد علي تمثالًا بمدينة الإسكندرية جاءت فكرته عقب زيارة الخديوي اسماعيل لأوربا عام 1865م، وانبهاره بتماثيل القادة التاريخيين الذين تتزين بهم العواصم الأوروبية، فقرر إقامة تمثال لجده محمد علي، ووقع الاختيار علي النحات الشهير ألفريد جاكمار الذى استخدم البرونز في نحت التمثال وانتهي منه في يوليو عام 1872م، وعُرض في شارع الشانزليزيه بباريس قرابة شهر، ثم أرسل جاكمار صديقه المعماري أمبرواز بودري إلى مصر ليخطر الحكومة المصرية بأن التمثال تم إنجازه. وقام بودري بتصميم قاعدة للتمثال من الرخام، ووصل بعدها التمثال بالفعل إلى الإسكندرية في نفس العام.

استقر التمثال بعدها وحتى اليوم فى ميدان المنشية بمدينة الإسكندرية. وقد اختاروا وضع التمثال هناك لأن الميدان كان يحمل اسم محمد علي، الذي شيده عام 1830م، وقد تغير بعدها الاسم إلى ميدان القناصل، حتى استقر على اسمه الحالي "ميدان المنشية" نسبة إلى المعماري الإيطالي فرانشيسكو مانشيني، الذي قام بتصميمه.

تمثال محمد علي في ميدان المنشية

ومقارنة بالتفاصيل الكثيرة التي نعرفها عن تمثال محمد علي باشا بالمنشية، سنجد أنفسنا لا نعرف الكثير عن تمثال آخر للباشا ورد ذكره في بعض المدونات التاريخية، لكننا لا نجد له أثرًا، وسأحاول هنا تقصي المعلومات حول هذا التمثال المجهول.

كان هناك نحات فرنسي يدعي أليرك Alric (هنري، فريدريك)، ولد في 23 ديسمبر 1804م بمدينة ستراسبورج بفرنسا، وكان يعمل مدرسًا للرسم بمدرسة الفروسية بالجيزة منذ عام 1834م، وانتقل بعدها للعمل بأبي زعبل.

وقد قام أليرك في هذا العام -كما يروي الكاتب الفرنسى جرنال Garnal- بنحت تمثال لسليمان باشا الفرنساوي (كولونيل سيف)، وقد نال هذا التمثال استحسان النحاتين الفرنسيين الذين قاموا بعرضه على بوغوص بك، الذي عرضه بدوره علي محمد علي باشا، ليقوم الأخير بعرضه في قصره بشبرا في صيف عام 1834م.

ظل تمثال الكولونيل سيف في قصر الباشا بشبرا، حتى تاق محمد علي إلي صنع تمثال لنفسه. ولمَ لا وهو الباشا؟! الذى كان يحكم في ذلك الوقت إمبراطورية خلدت اسمه -قبل أن تقلصها الأطماع الاستعمارية- وظلت أسرته تحكم مصر بعدها لنيف ومئة عام. لم يتردد الباشا في أن يطلب من أليرك صنع تمثال له، وبالطبع وافق أليرك سريعًا، واتفقا على أن تتم جلسات النحت عندما يكون الباشا مستلقيًا في الديوان، وبحيث يأخذ التمثال هذه الوضعية.

كان يحيط بالأمر ساعتها كثير من المخاوف، فنحن في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، حيث يتشدد علماء الأزهر كثيرًا في تلك الأمور، ويرون أن رسم أو نحت صور الأشخاص هو فعل محرم على المسلمين القيام به أو النظر إليه. بل أن محمد علي نفسه حينما اتقطت له أول صورة فوتوغرافية في 4 نوفمبر 1839م، علَّق عليها بجملته الشهيرة: "إنه عمل من فعل الشيطان"، ورغم ذلك فكر في التقاط صور لحريمه لكنه تراجع حينما علم أن رجلًا سوف يقوم بالتقاطها.

أول صورة فوتوغرافية لمحمد علي باشا - 4 نوفمبر 1839

إلا أن الباشا عرف كيف يتعامل مع الأمر، إذ نجح في استمالة مشايخ المساجد الذين يحظون بتأثير في العامَّة كي لا يتحدثون عن هذا التمثال.

وأخيرًا يكمل جرنال حديثه عن التمثال قائلًا:

"لقد خرج تمثال الباشا الباهر أخيرًا من القالب، كان شديد الشبه به، وبقدر ما نقترب نلمح الابتسام على فمه، اللحية والعمامة تم نحتهما بإتقان متميز، الجميع رغب في رؤيته، وأبدوا إعجابًا به، تم نقله تحت حراسة النحات إلى الإسكندرية، وتم تسليمه للباشا الذي وضعه في الحرملك، حيث لا يراه إلا نساؤه اللاتي كن مسرورات برؤية باشا من الجبس في الأوقات اللاتي لا يستطعن فيها امتلاك الباشا شخصيًّا".

تدل هذه الرواية بلا شك علي دقة نحت أليرك للباشا، الذي حظي بقبول الحميع، حتى إنه طالب بأجر مرتفع جدًّا أثار حفيظة المصريين، ومن ناحية أخري أساء إلى مكانة الفن على حد قول جرنال، ولكن في النهاية اضطر بوغوص بك أن يدفع له ستة آلاف قرش، بينما كان راتبه الشهري في مدرسة الجيزة حوالي 800 قرش!

وتحمل بالطبع رواية جرنال عن التمثال إيحاءات جنسية، حيث يعتبر أن التمثال يمثل تعويضًا جسديًّا من وجهة نظر حريم الباشا أثناء غيابه عنهن، وهي رؤية استشراقية وذكورية، وربما كان الباشا يقصد هذا فعلًا من وضع التمثال في الحرملك، لكن لا توجد معلومات واضحة.

وبالطبع يُشبه الوصف الذي ورد عن هذا التمثال إلى حد كبير طريقة جلوس محمد علي الشهيرة، وهو مستلقي في الديوان، والتي كان يؤثر دائمًا أن يتم تصويره وهو عليها، وأغلب الصور التي التقطت له كان جالسًا على هذه الوضعية.

المهم أننا لا نعرف الكثير عن هذا التمثال، وأين استقر به المقام في النهاية.. أين هو الآن؟ وهل لازال موجودًا مغلق عليه في أحد مخازن الآثار، أم أنه تحطم واندثر؟ المؤكد أنه لم يكن موجودًا في ستينيات القرن التاسع عشر، وإلا كانت المرويات الخاصة بتكليف الخديوي إسماعيل لجاكمار بصنع تمثالًا للباشا -ذلك القائم حتى الآن في ميدان المنشية- قد أتت على ذكر تمثال أليرك ذاك.

وهكذا لا زال الكثير مما يخص محمد علي مجهولًا.. وستظل شخصيته دائمًا موضع تساؤل ودراسة.