عربة التسوق

عربة التسوق فارغة.

دراسات

آن ألكسندر

صناعة وتحطيم السلطة في الدولة السورية – الجزء الأول

2025.05.25

مصدر الصورة : آخرون

ترجمة: أشرف إبراهيم

المقال الأصلي منشور في مجلة International Socialism العدد: 186 في تاريخ 5 أبريل 2025 [1]

 

في مايو 2015، أجرى الصحفي البارز في قناة الجزيرة: أحمد منصور، مقابلة مطولة مع أبو محمد الجولاني، زعيم الفصيل السوري المسلح (جبهة النصرة)، ناقَشَا خلالها رؤية الجماعة للعالم وإستراتيجيتها العسكرية. كان وجه الجولاني مخفيًّا عن الكاميرا، وارتدى زيًّا مشابهًا لقُدامى المحاربين من التيار السلفي الجهادي. [2] وقد عبَّر عن إعجابه بـ"الشيخ أسامة بن لادن"، لكنه أبدى احترامًا مع اختلافه مع إستراتيجية نقل الحرب مباشرة إلى الغرب، مؤكدًا بدلًا من ذلك أن هدف النصرة ينصب على ما تسعى إليه المعارضة السورية: السيطرة على دمشق. [3]

وبعد تسع سنوات ونصف، ظهر الجولاني مرتديًا بزّة عسكرية زيتونية على غرار فيدل كاسترو، ليدخل المسجد الأموي في العاصمة السورية لإلقاء خطاب النصر بعد هجوم خاطف شنته قواته على نظام بشار الأسد، بصفته قائد "هيئة تحرير الشام". وبعد أيام فقط، ظهر أحمد الشرع، مرتديًا بدلة زرقاء رسمية وقد تخلى عن اسمه الحركي، في اجتماع مع دبلوماسيين أمريكيين، الذين ربما تساءلوا في سرِّهم: كيف أصبح الرجل الذي سبق أن اعتقلوه في معسكر اعتقال، الذي لا يزال على رأسه مكافأة قدرها عشرة ملايين دولار، الرئيس الفعلي لسوريا؟ [4]

ومع ذلك، فإن الانشغال بشخصية الشرع والتركيز المفرط في "هيئة تحرير الشام" قد يحجب العمليات الأعمق التي أسهمت في سقوط سُلالة الأسد. وتجادل هذه المقالة بأن ما يحدث في سوريا ليس مجرد شأن محلي أو قضية تهم المختصين فقط، بل يمسّ أسئلة كبرى في زماننا الراهن. إذ ينبغي تحليل نجاح "هيئة تحرير الشام" في سياق تاريخي أوسع يتمثل في دورات بناء وتحطيم الدولة السورية من خلال ثورات عسكرية "من الأعلى"، كما يجب ربطه بسياقات أوسع من التنافس الإمبريالي والصراع الطبقي، سواء داخل حدود سوريا أو على امتداد المنطقة.

ولا يمكن فهم الانهيار المفاجئ للنظام البعثي، بعد أكثر من خمسين عامًا من الحكم، بمعزل عن مصير الثورة الشعبية عام 2011. فبدلًا من تحقيق أهداف تلك الانتفاضة عبر الوسائل العسكرية فقط، نمت "هيئة تحرير الشام" في الفراغ الذي خلقه إطلاق النظام لحربه المضادة للثورة، والتصعيد الطائفي الذي انتهجه لتدمير الحركة الشعبية من الأسفل. ومع ذلك، فإن شدة الثورة في 2011، والضرر القاتل الذي ألحقه نظام البعث بقاعدته الاجتماعية ومؤسساته في محاولته سحقها، يعنيان أن إسقاط بشار الأسد في ديسمبر 2024 يمثّل انتصارًا مؤجَّلًا لكل من خاطر بحياته لمواجهة ديكتاتوريته عام 2011. وقد تجسَّدت فكرة اكتمال مسار التاريخ في صورة معاوية الصياصنة، الفتى الذي أشعل شرارة الثورة بكتابة عبارات على جدران درعا مع أصدقائه، وهو يعود في ديسمبر 2024، حاملًا سلاحه، لـ"إنهاء المهمة". [5]

وعلى عكس السرديات التي تركز فقط في التناقضات الخارجية أو الداخلية التي زعزعت نظام الأسد، تركز هذه المقالة في التفاعل بين هذه الأبعاد المختلفة، كما تحلل آفاق استعادة الفعالية الطبقية في القاعدة الاجتماعية. وتدفع الحجة إلى أن الحركات المتجذِّرة في نضالات الفقراء والأغلبية العاملة من أجل العدالة، ستكون حلفاءَ أفضل في معركة التحرر الحقيقي من الإمبريالية من أيٍّ من القوى الإقليمية أو العالمية.

من المزة إلى بوكا وإدلب.. والعودة من جديد


في ديسمبر 2024، قام الشرع بزيارة مفاجئة إلى حي المزة الراقي، حيث يقع منزل طفولته. التقط صورًا مع السكان، وقصَّ شعره ولحيته في صالون الحلاقة المحلي، وطرق باب شقة والديه القديمة طالبًا إلقاء نظرة داخلها. رحلة الشرع من محيط طفولته المرفّهة في حي المزة، إلى القصر الرئاسي الذي يطل على الحي من قمة التلة، مليئة بالتقاطعات بين الشخصي والسياسي والاجتماعي، التي شكّلت حياته وتاريخ سوريا على حد سواء.

وُلد الشرع لأبوين سوريين في العاصمة السعودية الرياض عام 1982، ثم عادت العائلة إلى سوريا في أواخر الثمانينيات. كان والده: حسين، خبيرًا اقتصاديًّا مختصًّا في سياسات النفط والتنمية، وقد تم استقطابه للعمل في وزارة النفط من قِبَل رئيس الوزراء آنذاك محمود الزعبي. [6] كان حسين ميالًا إلى فرع حزب البعث العراقي، وقد غادر سوريا ومنطقة القنيطرة (الواقعة في الجولان المحتل) إلى السعودية لأن النظام آنذاك لم يكن يتسامح مع من لا يشاركونه توجهاته السياسية. لم يدُم التقارب مع النظام طويلًا: فقد أُجبر حسين لاحقًا على ترك وظيفته في الوزارة لرفضه توقيع صفقات نفطية فاسدة، فافتتح مكتبًا للعقارات وسوبرماركت.

وفي سن المراهقة، تمرّد أحمد على عائلته وعلى الدولة البعثية. بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، بدأ في حضور حلقات دراسية إسلامية سرية وخطب يديرها دعاة متشددون في ضواحي دمشق الفقيرة، مثل: حجيرة وسبينة ودروشا. [7] وفي عام 2003، وعمره لا يتجاوز 21 عامًا، غادر دمشق إلى العراق، حيث التحق بتنظيم عسكري أنشأه الناشط السلفي أبو مصعب الزرقاوي لشن الكفاح المسلح ضد الاحتلال الأمريكي. أُلقي القبض عليه على يد القوات الأمريكية، وبفضل إجادته اللهجة العراقية، لم يُكشف عن هويته السورية، وأُودع معتقلَ بوكا، وهو معسكر احتجاز مخصص للمسلحين العراقيين. وقد اكتسب المعسكر سُمعة سيئة بسبب دوره في إعادة تنظيم الجماعات العسكرية السنية المتطرفة، بما في ذلك تنظيم الدولة الإسلامية، ومن هناك خرج الشرع ليصير أحد القادة البارزين في "داعش"، وذراعًا يمنى لزعيمه أبو بكر البغدادي.

ومع ذلك، وبعد عقد من الزمان، خضع الشرع لتحوُّل آخر: مِن تبني أيديولوجية سلفية عابرة للحدود إلى التوجه نحو الاستيلاء على السلطة داخل سوريا. كانت الثورة الشعبية التي اندلعت في مارس 2011 قد بدأت بينما كان الشرع لا يزال في العراق، لكنه عاد إلى سوريا في أغسطس من نفس العام مع مجموعة صغيرة من المقاتلين لتأسيس "جبهة النصرة"، التي انضمت إلى التمرد المسلح المتنامي ضد نظام البعث.

في الأثناء، كان صعود "داعش" العسكري قد بلغ ذروته، حيث استولى التنظيم على مناطق واسعة من شمال شرق سوريا، بما في ذلك مدينة الرقة في يناير 2014، تلتها السيطرة السريعة على مدينة الموصل -ثاني أكبر مدن العراق- في يونيو من العام نفسه. كان الشرع و"جبهة النصرة" قد انفصلوا عن "داعش" عام 2013، بعد إعلان البغدادي المفاجئ عن دمج التنظيمين في كيان جديد هو "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش). سحب الشرع ورفاقه ولاءهم للبغدادي، وأعلنوا بيعتهم لأيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة. لكن بحلول ذلك الوقت، كان هدف الشرع واضحًا: الطريق إلى دمشق. وعلى مدار السنوات التالية، رفض أيضًا إستراتيجية القاعدة العابرة للحدود، مفضِّلًا التركيز الحصري في الأرض السورية. [8]

الخطوات الأخيرة في رحلته نحو حي المزة جاءت من خلال تشكيل تحالفات عسكرية وسياسية مع فصائل مسلحة أخرى في شمال غرب سوريا عبر تأسيس "هيئة تحرير الشام" والسيطرة على معقل المعارضة في إدلب. وهناك، اكتسب الشرع خبرة في ممارسة السلطة، إذ لعب دورًا رئيسيًّا في توحيد الفصائل المسلحة الإسلامية المتناحرة في المنطقة في قوة عسكرية أكثر تنظيمًا، وأصبح الشخصية المهيمنة من خلف الكواليس في الواجهة "المدنية" لـ"دولة" الهيئة المصغَّرة: "حكومة الإنقاذ السورية". [9]

في أواخر نوفمبر 2024، استغلت القيادة العسكرية لـ"هيئة تحرير الشام" تغيّر ميزان القوى بين أعداء النظام الخارجيين وحلفائه، وأطلقت هجومًا في ريف حلب. في تلك الأثناء، كانت الضربات الإسرائيلية ضد "حزب الله" في لبنان قد أضعفت إحدى آخر القوات الفعالة المتحالفة مع النظام. أما روسيا، التي وفّرت الغطاء الجوي الحاسم الذي مكَّن النظام من قصف معاقل المعارضة بالبراميل المتفجرة وتحقيق "نصر" ما بحلول أواخر 2016، فقد انشغلت بمتطلبات الحرب في أوكرانيا. خلال عشرة أيام فقط من بدء الهجوم في 27 نوفمبر، كان الشرع يخاطب جموع المحتفلين في المسجد الأموي بدمشق بعد انهيار النظام وفرار الأسد إلى المنفى.

أسس الصمود السلطوي في عهد الأسد

تشير دروس عقود حكم الأسد إلى أهمية تقاطع المصالح الطبقية، وليس مجرد الروابط العائلية أو الانتماءات الطائفية، في إعادة تشكيل تحالف طبقي حاكم مستقر يدعم الدولة. علاوة على ذلك، فإن الاتفاق بين النخب الحاكمة على قواعد إدارة "شؤونهم المشتركة" لا يكفي، بل عليهم أيضًا إيجاد وسائل لإقناع بقية المجتمع -أو قهره- للالتزام بتلك القواعد. انهيار هذه الآليات لإدارة السخط الشعبي -اللحظة التي يرفض فيها الناس أن يُحكَموا "بالطريقة القديمة"، كما قال لينين- هو إحدى اللحظات الفارقة التي تدشّن العملية الثورية. [10]

حُكم البعث تحت قيادة الأسدين (حافظ وبشار) كان إذًا يقوم على مزيج من قواعد لتقاسم الغنائم بين المحيطين بالدولة، وممارسات للتدخل في صفوف العامة. في أعلى الهرم، كان ذلك يعني الحفاظ على تركيبة اجتماعية واقتصادية معينة: زواج سياسي بين رجال طموحين من خلفيات أقليات دينية -خصوصًا العلويين من الأرياف والمدن الصغيرة- وبين شريحة من البرجوازية السنية الحضرية، وخصوصًا تلك القادمة من دمشق.

المضمون الاقتصادي لهذا التحالف بين النخبة العلوية من الأطراف والبرجوازية السنية الدمشقية، الذي تشكَّل حول الدولة بعد تولي حافظ الأسد السلطة، كان شكلًا هجينًا من رأسمالية الدولة. فقد سمح بوجود رأسمال خاص إلى جانب الصناعات والخدمات العامة التي تديرها الدولة. أما أسلاف الأسد في حزب البعث فكانوا أكثر التزامًا باستخدام الدولة لتقويض قوة الطبقة المالكة القديمة من الإقطاعيين والتجار، بينما سعى حافظ الأسد إلى المصالحة السياسية والاقتصادية مع بعض عناصر تلك الطبقة. وفي سياق السبعينيات، كان هذا توجُّهًا بعيد النظر.

فقد أظهرت نسخة النظام السوري من سياسة "الانفتاح" أن النيوليبرالية لم تكن مجرد حزمة سياسات "أمريكية" مفروضة على الاقتصاد العالمي، بل أصبحت مرجعية لا مفر منها لكل طبقة حاكمة. وكما تشير ليندا مطر، فإن إصلاحات الانفتاح التي بدأت بعد تولي حافظ الأسد الحكم عام 1970 "اتسمت بالتدرّج، والانطلاق من الداخل، وتكييفها بما يتوافق مع مصالح البرجوازية المرتبطة بالدولة"، ولم تكن مجرد ردود قصيرة الأمد على أزمات اقتصادية حادة. [11] وقد تلت التغييرات الجزئية في سياسات الاستثمار خلال السبعينيات صدور "القانون رقم 10" في مايو 1991، الذي ذهب أبعد من ذلك عبر تشجيع الاستثمارات الخاصة -السورية والأجنبية- في قطاعات كانت مخصصة سابقًا للقطاع العام. [12]

تشير مطر عن حق إلى أن سياسة "الانفتاح" كانت انعكاسًا للمصالح الطبقية المشتركة بين مختلف شرائح الطبقة الحاكمة السورية، التي كانت المستفيدة المباشرة من هذه السياسات. إذ شكّلت مشاريعهم المشتركة في إثراء الذات على حساب الشعب السوري عاملًا أساسيًّا في الحفاظ على الاستقرار في قمة الهرم الاجتماعي:

"لقد دعا حافظ، من خلال سياسة الانفتاح، البرجوازية التجارية الجديدة التي شكّلت القاعدة الاجتماعية للنظام إلى الوثوق بتحركاته البراغماتية. والأهم من ذلك، أنه خدم المصالح الطبقية للبرجوازية المرتبطة بالدولة، التي كانت حريصة على تنفيذ مشاريع استثمارية خاصة، سواء بمفردها أو بالشراكة مع البرجوازية التجارية الجديدة." [13]

بعد وفاة حافظ الأسد عام 2000، واصل ابنه بشار هذه الشراكات وعمّقها. وبحلول عام 2008، أشرف على إنشاء قطاع جامعي خاص (مع تقليص التمويل الحكومي للتعليم)، وقطاع مصرفي خاص تضاعفت أمواله من ما يقدَّر من 30 إلى 50 مليون دولار في عام 2000، إلى ثلاثة مليارات دولار بعد ثماني سنوات. [14] كما أدّت خصخصة الزراعة، من خلال بيع المزارع التعاونية المملوكة للدولة، إلى تسريع تركّز ملكية الأراضي وظهور إقطاعيات زراعية ضخمة، في حين انهارت مستويات معيشة الفلاحين والعمال الريفيين الفقراء تحت وطأة الجفاف وازدياد الاستغلال في القطاع الزراعي. [15] وخلقت المضاربة العقارية، وانتشار مشاريع البناء حول العاصمة، وازدهار قطاع الاتصالات ثروات ضخمة لأولئك القريبين من النظام، وعلى رأسهم رامي مخلوف، ابن خال بشار الأسد.

الدولة البعثية تحت حكم عائلة الأسد، شأنها شأن جميع المشاريع المماثلة ضمن النظام العالمي، كانت منخرطة في عملية توازن دقيقة. إذ إن تبني العائلة الحاكمة مبدأ الإثراء البرجوازي الذاتي، جنبًا إلى جنب مع عائلة مخلوف، قابله تعزيزُ أشكال جديدة من التدين والتقوى كآليات للتفاعل مع المجتمع وتحويل الغضب الشعبي إلى قنوات أكثر أمانًا للنظام. وقد تجلت هذه النزعة في نشاطات حافظ الأسد في بناء التحالفات السياسية والأيديولوجية مع أقسام "تقليدية" من علماء الدين السُّنّة والبرجوازية السنية التقليدية والطبقات الوسطى في السبعينيات، إضافةً إلى دعمه لتجار سوق الحميدية في قلب العاصمة. [16]

يشير توماس بيريه إلى أنه منذ الثمانينيات، بدأت الدولة البعثية في سوريا بتطبيق نظام "المقاولين من الباطن" الدينيين، حيث شجعت الدولة العلماء السنة التقليديين على إحياء شبكاتهم ومؤسساتهم برعايتها. [17] وكان لانتماء عائلة الأسد إلى الأقلية العلوية دافعٌ لتأمين الدعم من القيادة الدينية للأغلبية. وكان إحياء المؤسسات السنية مكمِّلًا للشراكة الاقتصادية بين برجوازية الدولة العلوية والبرجوازية التجارية الدمشقية. وعلى مدى عقود، أدت التحولات في نظام التراكم العالمي إلى تضخيم هذه التوجهات وتعزيزها ماديًّا، حيث بدأ المقاولون الدينيون يملؤون الفراغ الذي خلَّفه تراجع الدولة عن تقديم الخدمات الاجتماعية، من خلال أعمال خيرية في مجالات التعليم والرعاية الصحية والرفاه.

وفي المجال الديني، كما في مجال الإنتاج، تم إخفاء بعض هذه التحولات تحت الهيمنة الثقيلة للحزب الحاكم الاستبدادي. فقد كانت أشكال عبادة الشخصية حول الديكتاتور تتسم بالغلو، تتضمن طقوسًا وأيقونات مبالغًا فيها مستمدة من التقاليد الدينية، إلا أنها ظلت تترافق مع خطاب عن الاشتراكية والعلمانية والتقدم من المرحلة السابقة. واستمرت المنظمات الجماهيرية لحزب البعث، مثل جهاز النقابات العمالية ومنظماته النسوية والشبابية، في لعب دور مهم في الحفاظ على سلطة حافظ الأسد - متداخلة مع تعبيرات مزدهرة عن التقوى الإسلامية، كمسابقات تلاوة القرآن والجمعيات الخيرية الدينية وحلقات الدراسة في المساجد.

دورات التمرد الشعبي وأزمات الدولة

 اعتمد استقرار النظام، ومن خلاله استمرار الحكم الوراثي لعائلة الأسد، على تدخلات في أعلى وأسفل المجتمع. فعلى المستوى النخبوي، أرست وحدة طبقية عابرة للطوائف أسس الدولة الأسدية، وكان قوامها المصالح المتبادلة لمختلِف أقسام البرجوازية السورية في تحقيق الإثراء عبر الحفاظ على بيئة مناسبة لتراكم رأس المال. أما في قاع المجتمع، فقد كان الهدف منع نشوء وحدة طبقية بين الفقراء. وسعى الحكام السوريون خصوصًا، إلى ربط الطبقة العاملة المنظمة بالنظام سياسيًّا وخطابيًّا، مع تطبيق سياسة "فرِّق تسُد" الطائفية. وكان تشجيع أشكالٍ من التدين والتقوى يعني عمليًّا تسليم مفاتيح المجتمع السوري لرجال الدين ورجال الأعمال المقرَّبين من النظام.

لكن إستراتيجية النظام في تمكين العلماء السنة التقليديين من بناء مؤسساتهم وتوسيع نفوذهم الاجتماعي لم تثمر دائمًا النتائج المرجوة. ففي أواخر السبعينيات، واجه النظام تحديًا كبيرًا من حركة معارضة إسلامية سورية انقسمت بين التيار الإصلاحي الرئيسي للإخوان المسلمين، والمجموعات المسلحة مثل: "الطليعة المقاتلة"، التي رأت أن الكفاح المسلح هو السبيل الوحيد لإسقاط النظام. [18] وقد استقطبت "الطليعة المقاتلة" عناصرها من حلقات الدراسة الإسلامية التي أنشأها علماء تقليديون يعارضون مشروع الإخوان الحداثي في إصلاح الدولة. [19] ورد النظام بوحشية على تصاعد الاحتجاجات السياسية والعمليات المسلحة، وبلغ ذلك ذروته في انتفاضة حماة عام 1982 وتدمير المدينة على يد القوات النظامية.

غير أن فشل إستراتيجيات "المقاولة الدينية من أعلى" أواخر السبعينيات ومجددًا منذ منتصف العقد الأول من الألفية الثانية، يعكس ضغوط الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتزايدة على التشققات الاجتماعية العمودية التي هندَّستها الطبقة الحاكمة بعناية. ويقدم تقرير من عام 1982 توصيفًا لهذه التناقضات الاجتماعية المتفاقمة:

"لقد نشأت طبقة طفيلية جديدة تتغذَّى على القطاع العام. كما تحققت ثروات كبيرة من خلال سوق العقارات المزدهر، إذ ارتفعت أسعار العقارات في بعض مناطق دمشق عشرة أضعاف بين عامي 1974 و1976. وتكاليف السكن في بعض أنحاء العاصمة أصبحت أقرب إلى تكاليف مدينة أوروبية كبرى منها إلى بلد لا يزال فيه الناتج القومي للفرد لا يتجاوز 1,340 دولارًا سنويًّا، بينما لا يزال كثيرون يفتقرون إلى مياه الشرب النظيفة والكهرباء." [20]

وكان التعبير السياسي عن هذه الضغوط الاجتماعية متناقضًا. إذ غذَّى إحباط الأغلبية الفقيرة من فساد النخبة موجات الاحتجاجات والإضرابات الواسعة في حلب ومدن شمالية أخرى بين عامي 1979 و1982. غير أن قادة الحركة الإسلامية كانوا غالبًا من أوساط الطبقة الوسطى، بما في ذلك البرجوازية الصغيرة الحضرية التقليدية (مثل الصناع وتجار التجزئة) والمهن الحديثة، كالمهندسين والأطباء والمحامين. وقد زاد من حدة إحساسهم بالأزمة الاجتماعية شعورهم بأن البُعد الطائفي في إستراتيجية النظام يمنعهم من التقدم داخل مؤسسات الدولة، بسبب المكانة المميزة نسبيًّا التي كان يتمتع بها العلويون من المناطق الساحلية في تلك المؤسسات. [21] وهكذا فرضت ديناميات التطور المتفاوت والمركَّب نفسها ضمن تشكيلات اجتماعية معقدة، ما أدى إلى تناقضات متفجرة على مستوى الأفراد وعائلاتهم، وضمن بلدات ومناطق بعينها، وعلى مستوى المجتمع السوري بأسره.

شهدت السنوات التي سبقت ثورة 2011 تصاعدًا أكثر حدة في الضغوط الاجتماعية والاقتصادية، نتيجة الأزمة الاقتصادية العالمية. وقد تشابهت هذه الضغوط في كثير من أوجهها مع التناقضات السابقة. فعلى غرار أواخر السبعينيات، أعادت موجات الهجرة من الريف إلى المدن تشكيل المدن الكبرى، مدفوعة جزئيًّا بالجفاف في المناطق الزراعية في الشمال الشرقي. فشهدت الضواحي الفقيرة لدمشق وحلب تضخمًا سكانيًّا كبيرًا، وارتفعت الإيجارات بشكل حاد. في الوقت نفسه، جُمِّدت أجور القطاع العام، وانهارت خدمات الصحة والتعليم. لكن وعلى عكس أزمة أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، فإن هذه الأزمة كانت أوسع نطاقًا من حيث الامتداد الجغرافي، كما ظهر في نمط التمرد الذي اندلع في بداية الانتفاضة عام 2011.

ففي شهري فبراير ومارس، جرت محاولات عديدة لإطلاق مظاهرات، بما في ذلك مظاهرات صغيرة في دمشق، لكن اعتقال وتعذيب الطفل معاوية الصياصنة وأصدقائه في درعا في 6 مارس، شكَّل نقطة تحول رئيسية في حجم الحراك. وفي 18 مارس، قتلت قوات الأمن شابين خلال مظاهرة في المدينة، ما أطلق دوامة من الاحتجاجات المتصاعدة، وعمليات القتل على يد الشرطة، وجنازات غاضبة كانت تعبّئ عشرات الآلاف من الناس بسرعة.

إن المصير المتباين للهياكل النقابية في مصر وسوريا خلال انتفاضات 2011، يُسلّط الضوء على المسارات المختلفة التي سلكتها مجتمعات البلدين في لحظة حاسمة من ثوراتهما. بدأت الانتفاضة الشعبية في مصر في 25 يناير 2011، بمظاهرات جماهيرية دعت إليها حركات شبابية وشبكات فضفاضة من الناشطين المعارضين. وكان حجم التعبئة في العاصمة والمدن الكبرى الأخرى أشبه بانفجار سد. وأقامت الحشود في مراكز المدن اعتصامات في مواقع بارزة، كان أبرزها ميدان التحرير في قلب القاهرة، الذي انتزعوه من الشرطة بعد معركة ملحمية في 28 يناير. [22]

وفي محاولة يائسة، لجأ مسؤولو النظام إلى قادة الاتحاد العام لنقابات عمال مصر. فهل يستطيع البيروقراطيون النقابيون -وهم في الحقيقة مسؤولون في الحزب الحاكم عاشوا حياة مريحة في مكاتب مكيفة، وساهموا في تدمير قطاعات كبيرة من الصناعات والخدمات العامة- أن يحشدوا مظاهرات مضادة دفاعًا عن الرئيس حسني مبارك؟ كانت الإجابة ببساطة: لا. لم يظهر سوى عدد قليل من النقابيين، واضطر جهاز أمن الدولة إلى جمع مجموعة غير منظَّمة من البلطجية، الذين فشلوا في تفريق الاعتصام. وكان من اللافت أنه خلال أيام قليلة، اندلعت موجة إضرابات واسعة، شملت أماكن عمل في جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك قطاعات مهمة في النقل العام، والصناعة، والبنية التحتية للاتصالات، والخدمات العامة في العاصمة. [23]

أما في سوريا، فعندما دعا نظام بشار الأسد مسؤولي النقابات إلى تعبئة الناس لمبايعة الديكتاتور بعد اندلاع الانتفاضة، كان أكثر نجاحًا من نظيره المصري. ولم يكن ذلك بسبب ضعف جذور الانتفاضة السورية أو افتقارها إلى الشرعية الشعبية - فالمظاهرات في مراحلها الأولى رفضت بوضوح الطائفية وطالبت بمستقبل تحترم فيه الدولة حقوق جميع السوريين بالتساوي. [24] ولكن، بخلاف مصر، لم تحدث موجة إضرابات كبرى من قبل عمال القطاع العام قبل اندلاع الثورة. ويُحتمل أن يكون أحد الأسباب هو أن مزيج النظام من السياسات النيوليبرالية والرأسمالية الحكومية لم يقتطع كثيرًا من سلة الامتيازات التي يحصل عليها موظفو الدولة عبر النقابات الرسمية، مثل خدمات الصحة العامة. [25]

لقد كان لتمكن النظام البعثي من ملء شوارع دمشق والمدن الكبرى الأخرى بعشرات الآلاف من المتظاهرين الموالين للحكومة، المُعبأين عبر النقابات والمنظمات الجماهيرية الأخرى التابعة للنظام، أثر بالغ في المراحل الأولى من الانتفاضة السورية. فقد سهل عليه تصوير التمرد الشعبي على أنه "انتفاضة الأطراف ضد المركز"، أو "ثورة ليلية"، مليئة بالمناوشات السرية والتنظيمات تحت الأرض. ومع مرور الوقت، استطاع النظام عزل وقصف الضواحي والبلدات المتمردة، بينما استمرت الحياة بشكل طبيعي في ما بات يُعرف بـ"سوريا المفيدة".

السيادات المجزأة والمتراكبة: نظام الدويلات المصغّرة

أسهمت تكتيكات النظام، إلى جانب فشل العمال المنظمين في تطوير دور مستقل في العملية الثورية، في تسريع التحول نحو تمرد مسلح ومجزأ. كانت درعا ساحة الاختبار الأولى لرد النظام الوحشي، إذ حوصرت مناطقها الثائرة، وجُوِّعت، ثم قُصفت وأُعيد احتلالها من قِبَل قوات النظام. وعلى مدى الأشهر والسنوات التالية، واجهت عديد من المدن والبلدات والقرى في مختلف أنحاء البلاد المصير نفسه.

وشمل هذا القمع الوحشي أيضًا المجتمعات الفلسطينية، في أماكن مثل مخيم اليرموك في أطراف دمشق، الذي انتفض في وجه الفصائل الفلسطينية المؤيدة للنظام، التي كانت تهيمن على المخيم في يونيو 2011، واستمر التمرد خلال العام التالي، حيث انجذب نصف سكانه بشكل متزايد لدعم الانتفاضة. فرض النظام حصارًا على المخيم، وجوّع من تبقى من سكانه، ودمّر أجزاء كبيرة من مساكنه. ومن المأساوي أن حركات المقاومة الفلسطينية، مثل حماس، التي عارضت قمع النظام البعثي للشعب السوري، لم تعلن دعمها للثورة إلا في مرحلة متأخرة من تطورها، بعد أن كانت إستراتيجية القمع العسكري قد دفعت البلاد نحو الحرب الأهلية. [26]

كان للعقاب الجماعي لمناطق كاملة أثر جذري في من عاشوا داخله، كما عمَّق التناقضات داخل الجيش السوري، حيث بدأ الجنود والضباط في الانشقاق بشكل متزايد، في محاولة يائسة لإنقاذ بلداتهم وعائلاتهم. [27] ومع غياب رغبة النظام في أي تسوية تفاوضية، لم يعُد هناك دافع يدفع المناطق الثائرة إلى التمسك بالولاء للدولة البعثية.

كما أدى عنف الحملة العسكرية إلى دينامية قوية نحو "مأسسة" الصراع، فباتت الجماعات المسلحة التي تمتلك الأسلحة، والتمويل، والقيادات العسكرية الكفؤة، أكثر قدرة على البقاء والتوسع. ومع مرور الوقت، أصبحت الفصائل السلفية المسلحة، مثل جبهة النصرة (التي كان يقودها مقاتلون مخضرمون ومرتبطة بشبكات عابرة للحدود)، تلعب دورًا بارزًا في المواجهة العسكرية مع النظام البعثي.

إلى جانب العمليات العسكرية التقليدية، استخدم النظام على نطاق واسع عصابات شبه عسكرية من "الشبِّيحة" التي استهدفت الناشطين وحرَّضت على الهجمات الطائفية. كانت مهمتهم الأساسية تفكيك التضامن الشعبي بين الناس العاديين. وخلال السنة الأولى من الثورة، لم ينجحوا كثيرًا في تحقيق أهدافهم. فقد استعاد الناشط الثوري مصطفى، في مقابلة عام 2016، كيف أن السوريين من خلفيات دينية متعددة شاركوا في النشاط الثوري في مدينته السلمية، ذات الأغلبية الإسماعيلية:

"انضم كثيرون من القرى العلوية المجاورة إلى المظاهرات، وقد استهدفتهم أجهزة المخابرات بشكل خاص، لأنهم كانوا دحضًا حيًّا لخطاب النظام الذي اتهم المتظاهرين بأنهم جزء من مؤامرة سنية إسلامية." [28]

هرب مصطفى وبعض أصدقائه لاحقًا إلى دوما، وهي ضاحية ذات أغلبية سنية في دمشق، حيث استُقبلوا بالحفاوة وحماهم السكان المحليون. في المقابل، كانت مدينة السلمية توفر ملجأ لسكان حماة السنّة الفارين من قصف النظام:

"خلال شهر رمضان، جنَّد النظام بعض البلطجية والمجرمين المحليين، ووزَّع عليهم العصي والسكاكين، وأحاطوا المسجد السني الرئيسي خلال الصلاة، في محاولة لإشعال فتنة طائفية في مدينةٍ رفضت خطاب النظام التقسيمي. لكن الناس العاديين سارعوا إلى تشكيل طوق حماية حول المسجد، وحتى الإمام الإسماعيلي المحلي شارك في الصلاة إلى جانب اللاجئين السنّة." [29]

ومع ذلك، ومع اشتداد ضغوط الحرب، أصبح الحفاظ على التضامن الشعبي أمرًا بالغ الصعوبة، لا سيما في ظل نزوح ملايين الأشخاص داخليًّا أو فرارهم من البلاد. أجبرت قوات النظام، بدعم من حلفاء دوليين، مثل: روسيا وإيران، العديد من المناطق المعارضة على قبول "اتفاقيات مصالحة"، تم بموجبها تهجير آلاف السكان المدنيين مع من تبقَّى من المقاتلين المعارضين. وقد فرضت هذه الاتفاقات بشكل متقطع، ما يعكس الطبيعة المجزَّأة لفصائل المعارضة المسلحة. [30] وكان معاوية الصياصنة، الذي أصبح أبًا لشاب صغير، من بين من أجبروا على مغادرة منزله في درعا إلى الجيب المعارض في إدلب شمال غرب البلاد. [31]

وبعد مرور عامين على الانتفاضة، كانت قوى المعارضة تسيطر على مساحات واسعة من الشمال، بما في ذلك معظم مدينة حلب، ثاني أكبر مدينة في البلاد، بالإضافة إلى جيوب حول العاصمة وفي الجنوب. وبحلول أواخر 2016، كانت القوات الحكومية قد استعادت السيطرة على حلب بعد حصار مدمر، لكن سيطرة النظام الفعلية على بقية البلاد كانت تقتصر على ممر ضيق يمتد من الجنوب إلى الشمال، ويربط المدن الكبرى.

لكن خصوم النظام حينها لم يكونوا كيانًا موحدًا، بل عدة دويلات مصغّرة تتنافس على تجنيد المقاتلين، وتأمين التمويل للهجمات، والسيطرة على الأراضي والموارد. وشملت هذه الأطراف جبهة النصرة وحلفاءها، وعدة ألوية من الجيش السوري الحر، وتنظيم الدولة الإسلامية، والقوات الكردية التابعة للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا تحت راية قوات سوريا الديمقراطية (قسد).

في البداية، لم تكن السلطة المدنية في المناطق التي يسيطر عليها المتمردون تعمل وفقًا لنفس منطق القوة العسكرية، ما خلق مجموعة أخرى من الشقوق والطبقات في الشبكة المعقدة للسيادات المتداخلة. [32] أدت تكتيكات النظام في حصار المدن والبلدات التي تجرأت على إظهار تضامنها مع الانتفاضة في عام 2011 إلى خلق أوضاع فعالة من السلطة المزدوِجة بسرعة، لأن الحكومة السورية تبرَّأت من أي مسؤولية تُجاه السكان المدنيين في هذه المناطق. كما يشير عبدالسلام دلال وجولي هيرن، حاول النظام إرباك خصومه بالحاجة إلى توفير الخدمات للمدنيين في الوقت الذي يواجهون فيه هجومًا عسكريًّا ضخمًا. [33] كانت شبكات الناشطين، التي كانت تنسق التظاهرات وتنظم التعبئة السياسية ضد النظام، فجأة يُلقَى على عاتقها دور حكومات بديلة مصغرة. كان هناك قدر حقيقي من التنظيم الذاتي الشعبي في العديد من هذه الحالات - وإنجازات اللجان التنسيقية المحلية والمجالس الثورية المحلية في تقديم الخدمات، وتأكيد التضامن الطائفي، وتجريب الحكم الذاتي الديمقراطي في ظروف يائسة تُعد شهادة ملهمة على شجاعة وصمود الناس العاديين. [34] ولكن، أدت مواردهم المحدودة وظروف الحصار أيضًا إلى دفعهم إلى الاعتماد على مصادر تمويل خارجية، خصوصًا من المنظمات غير الحكومية الأجنبية، والأمم المتحدة، ووكالات المساعدات الدولية للقوى الغربية، ما أدى إلى تسييس وتقنين قياداتهم. [35]

كانت المجالس المحلية الناشئة عن الحركة الشعبية تتمتع بعلاقات متناقضة مع فصائل المعارضة المسلحة. بعض كتائب الجيش السوري الحر كانت لها علاقة تكافلية مع المجالس الثورية المحلية، حتى وإن كانت في بعض الأحيان متوترة. لكن صعود الفصائل العسكرية السلفية شكل تهديدًا جديدًا للمجالس الثورية المحلية، التي غالبًا ما كان يقودها ناشطون ذوو توجه سياسي علماني واشتملت أيضًا على شخصيات يسارية. [36] الجماعات المسلحة ذات التوجه السلفي-الجهادي كانت تميل إلى توحيد الجوانب العسكرية والسياسية للحكم ضمن إطار نظام إسلامي جديد، مع أكثر المواقف تطرفًا تتبناها داعش. اعتبرت قوات داعش جميع أشكال السلطة غير سلطتها عدائية، فأقامت نظام محاكمها الخاص، كما استولت على وظائف السلطة المحلية، فأنشأت وزاراتها الخاصة وقوات شرطة محلية، ما يعني ديكتاتورية وحشية على المدن والبلدات. [37] أما الجماعات المسلحة السلفية الأخرى، مثل جبهة النصرة ومنظماتها اللاحقة، فكانت تسعى إلى إنشاء أشكال من الحكم "الإسلامي" في الأراضي التي تسيطر عليها، لكنها كانت أكثر براغماتية في تحقيق ذلك.

تقدم الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا (AANES) نموذجًا مهمًّا عند النظر في أشكال الحكم البديلة. من الضروري الاعتراف بأهمية التضامن مع الكفاح الكردي من أجل التحرر الوطني، وفي الوقت نفسه الإشارة إلى التناقضات الهائلة الناشئة نتيجة الإستراتيجيات العسكرية والسياسية لقادتها. إن إنكار الطموحات الكردية للدولة بسبب تقسيم السكان الأكراد بين تركيا وسوريا والعراق وإيران في أوائل القرن العشرين، والحروب العنصرية والقمع الذي مارسته الطبقات الحاكمة في هذه الدول ضد الشعب الكردي، يستوجب تضامنًا غير مشروط من الاشتراكيين مع نضالات الكرد ضد الاضطهاد. ولكن تجربة الإدارة الذاتية تؤكد مرة أخرى أن محاولة المساومة مع هذه الدول عن طريق اللعب على تنافسها أو تأمين دعم الولايات المتحدة عبر تحالف عسكري لا تفضي إلى تحرير حقيقي. بل، تلك الإستراتيجيات، حتى وإن وفرت راحة مؤقتة من التهديد بالقمع، دائمًا ما تعرِّض حركة الأكراد للاستخدام من قبل الإمبريالية، وتتضمن مخاطر تزايد تورط الأحزاب الكردية في قمع السكان الضعفاء.

الفرق الأساسي الذي يميز تجربة الإدارة الذاتية عن أمثلة أخرى للحكم الثوري في سوريا هو أنه في المناطق ذات الأغلبية الكردية في الشمال الشرقي، كان هناك حركة سياسية وعسكرية منظمة مسبقًا قادرة على فرض السيطرة على الإقليم. في الأمثلة الأخرى، ظهرت البدائل للدولة البعثية بشكل عضوي وفوضوي من القاعدة إلى الأعلى. حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، وهو حزب كردي مرتبط بحزب العمال الكردستاني (PKK) القائم أساسًا في تركيا، تأسس عام 2003 وكان يتمتع بدعم كبير بين السكان الأكراد في محافظات شمال شرق وشمال غرب سوريا. بُني الحزب على عقود من المقاومة ضد سياسات "تعريب" قسرية ومحاولات قمع الثقافة الكردية.

انسحبت قوات النظام من مساحات واسعة في الشمال الشرقي عام 2011، وتولت قوات PYD العسكرية، وحدات حماية الشعب (YPG)  ووحدات حماية المرأة (YPJ)، السيطرة. تمكنوا من إنشاء إدارة جديدة، كانت تطمح رسميًّا إلى "الاستقلالية" ضمن سوريا فيدرالية مستقبلية، لكنها عمليًّا عملت كدولة مستقلة. تضمَّن نموذج الحكم الذي مارسته الحركة الكردية في سوريا العديد من الأمثلة على المشاركة الشعبية. لعبت النساء أدوارًا بارزة في الإدارة السياسية والقيادة العسكرية، وكان هناك مجال أكبر للنقد السياسي والنقاش مقارنة بأماكن أخرى. ومع ذلك، كان اتخاذ القرار نتيجة اندماج السلطة السياسية والعسكرية في قمة الحركة، رغم التبني الرسمي للغةٍ تستدعي الفكر الاشتراكي واللاسلطوي. [38]

يتبع..

-----------------------------------------

آن ألكسندر هي مؤلفة كتاب "الثورة هي خيار الشعوب: الأزمة والتمرد في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا" "Bookmarks"، 2022 ).وهي عضو مؤسس في شبكة التضامن مع منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، ومشارِكة في تحرير مجلة "تضامن الشرق الأوسط"، وعضوة في اتحاد الجامعات والكليات.


1- https://isj.org.uk/state-syria/

2- شكر خاص لسيمون أساف، جاد بوهارون، تشارلي كيمبر، غياث ناعسة وزملاء آخرين من التيار اليساري الثوري في سوريا على النقاشات القيمة التي ساهمت في هذه المقالة. "السلفية" هو الاسم المستخدم لمجموعة من التيارات الدينية والسياسية السنية التي تؤطر ممارساتها على أنها مستوحاة من العودة إلى قيم "السلف الصالح" في الإسلام المبكر. كسلوك فكري ديني، السلفية عادة ما تكون محافظة اجتماعيًّا، لكن حتى وقت قريب رفض عديد من السلفيين فكرة أن يشارك المسلمون في السياسة، وكان تركيزهم في التقوى الشخصية. شهد العقدان الماضيان نموًّا في الأحزاب السياسية السلفية والجماعات المسلحة السلفية في عديد من الدول ذات الأغلبية المسلمة، بما في ذلك بعض التي تهدف إلى الإطاحة بالدول القائمة بالقوة وإنشاء "دولة إسلامية" جديدة على نموذج الخلافة الإسلامية المبكرة.

3- منصور، 2015.

4- باتمان، 2024.

5- ترو، 2024.

6- المصطفى وجزمي، 2021.

7- المصطفى وجزمي، 2021.

8- ألكسندر، 2015.

9- هيني وروي، 2024.

10- لينين، 1915.

11- مطر، 2016، ص 91.

12- كينل، 1994، ص 1.

13- مطر، 2016، ص 91.

14- مبايّد، 2008.

15- ألكسندر، 2022ب.

16- باتاتو، 1982.

17- بييريه، 2013، ص 71.

18- لوسون، 1982؛ باتاتو، 1982؛ ليفيفر، 2013.

19- بييريه، 2013، ص 66.

20- دريسديل، 1982.

21- دريسديل، 1982؛ باتاتو، 1982.

22- ألكسندر وبسيوني، 2014؛ ألكسندر، 2022ب.

23- بسيوني وألكسندر، 2021.

24- ألكسندر وبوهارون، 2016.

25- لوسون، 2018، ص 83؛ داهر، 2020، ص 10

26- ألكسندر وكيلياني، 2025.

27- ألكسندر وبوهارون، 2016.

28- ألكسندر وبوهارون، 2016.

29- ألكسندر وبوهارون، 2016.

30- منظمة العفو الدولية، 2017.

31- ترو، 2024.

32- ألكسندر، 2022ب.

33- دلال وهيرن، 2019.

34- ألكسندر، 2022ب.

35- دلال وهيرن، 2019.

36- عزيز، 2013؛ ألكسندر، 2022ب.

37- ألكسندر، 2015؛ 2016.

38- ألكسندر، 2022ب.