مراجعات
أحمد محسنرحلتي مع «ابن فطومة»
2021.01.06
مصدر الصورة : ويكيبديا
رحلتي مع «ابن فطومة»
سافرت ولم أحمل معي من الكتب العربية القليلة التي حملتها كتابًا لنجيب محفوظ. بدأت رحلتي بقراءة سيرة ذاتية تملأها الأسفار لمترجم أحبه وأحب حياته هو الأستاذ ماهر البطوطي. يحكي في سيرته «الجيل الرائع» عن جيله وعن حياته والبلاد التي زارها وعاش فيها والشعراء والفنانين الذين تتبع خُطاهم واقتفى آثارهم، وكنت في أول رحلتي الثانية إلى «دار الغروب» أو دار «ما وراء المحيط»، بعد هجرتي الأولى إلى الشمال.
بدأ نجيب محفوظ يرافقني في رحلتي حين تواصلت معي مديرة مجموعة العائلات المصرية الكولومبية تودُّ تنظيم لقاء عن الأدب العربي، ثم تحولت الفكرة إلى إنشاء نادٍ لقراءة الأدب المصري. في البداية اقترحت صاحبة الفكرة قراءة رواية لكاتب أيرلندي عن مصر الفرعونية، فقلت لها إننا في نادٍ لقراءة الأدب المصري يجدر بنا أن نقرأ لكاتب مصري، والكاتب المصري هو نجيب محفوظ. ولأستمتع أنا أيضًا بإدارة اللقاءات اخترت رواية لم أكن قرأتها من قبل، وهي أولى روايات نجيب محفوظ بعد الثلاثية التاريخية الفرعونية، رواية «القاهرة الجديدة». بدأ أعضاء النادي في قراءة الترجمة الإسبانية للرواية، وبدأت أنا في قراءة نسختها العربية التي طبعتها، وأدهشتني اللغة والفلسفة والحياة الجامعية ومعضلات الحياة والنضج في بناء الشخصيات، كما أدهشني ما يدهشني دائمًا، وهو ما وجدته من نفسي، ما عرفته بوجدانه وما عرفت غيابه برؤيته في دواخل كل واحد من أفراد شلّة طلبة الجامعة، الذين درسوا في نفس الكلية التي درستُ فيها، والتي درس فيها محفوظ كذلك. لا زلت أذكر أول لقاء جمع بين أعضاء ذلك النادي ونقاشنا حول الرواية، وذلك الحديث شديد الشخصية الذي جعلني أحكي عن حياتي وتجاربي المؤلمة في الحياة في مصر والتي لا تختلف كثيرًا عن مآسي محجوب عبد الدايم والتي هي مآسي أغلب الشباب المصريين منذ أربعينيات القرن الماضي حتى الآن.
بدا بعد تلك المرة أن تجربة قراءة نجيب محفوظ ليست تجربة ثقافية أو أدبية، وأن ليس الشيء الوحيد المتحقق منها هو تقريب المجتمع المصري بأفكاره وثقافته وعاداته وحياته بكل ما فيها إلى قارئ بعيد كل البعد عن تلك الثقافة لا يعرف عن مصر والعالم العربي والإسلامي سوى ما يلقيه عليه الإعلام الأمريكي. إن قراءة محفوظ بالنسبة لي أمر شديد الشخصية، أدرك فيه تاريخي الشخصي، تاريخ تجاربي الشخصية، وتاريخ هزائمي الشخصية وهزائم أصدقائي وأبناء جيلي، وهزائم الأجيال المتعاقبة، من أين أتت، وبأي مراحل مرّت. يفعل محفوظ كل ذلك، في اللحظة ذاتها التي يكون قادرًا فيها أن يكون قريبًا أيضًا من قارئ لم يسمع في حياته عنه ولا عن مصر ولا الثقافة العربية أو الإسلامية أو الفرعونية أكثر من رؤيته وسماعه عن الأهرامات في طفولته.
حين تكررت الفرصة للحديث عن الأدب العربي في سلسلة محاضرات نظمها فرع مكتبة بنك الجمهورية بمدينة سينسيليخو التي كنت أعيش فيها آنذاك، قررت أن أخصص محاضرة كاملة للحديث عن نجيب محفوظ، الكاتب العربي الوحيد الحائز على جائزة نوبل للآداب، ولمشاركة بعض المقاربات بينه وبين ما يمثله أدب جابرييل جارسيا ماركيز في الأدب الكولومبي والأمريكي الجنوبي والعالمي. تحدثت عن عمل كملحمة الحرافيش أو أولاد حارتنا وكونه لوحة أسطورية تحمل ما يمكن أن تحمله مئة عام من العزلة عن تاريخ شعبها، تاريخ الواقع والخيال على حدٍ سواء. مررت كذلك على تجاربه المختلفة في ليالي ألف ليلة، ورواياته الوجودية، وأسئلة الفلسفة، وعوالمه الصوفيّة. وكان من أكثر ما أحببت امتلاكي نسخًا من ترجمات إسبانية لروايات أحبها له، وقراءتي للفقرات الأولى من روايات كالحرافيش، ملحمته الخالدة.
في أثناء كل ذلك كنت أدرك أن كل تلك الأحاديث عن أهمية محفوظ أديبًّا؛ عربيًّا ومصريًّا وعالميًّا، واللذة التي قد يجنيها من يقرأه بأي لغة وفي أي مكان، هو وجه من أوجه الأمر. لكن يوجد وجه آخر، وجه يخصّني أنا، أو يخصّنا نحن، ونحن نتعرف على أنفسنا بقراته. أدركت ذلك حين بدأت بقراءة رواية «رحلة ابن فطّومة» تزامنًا مع بدايتي في نشر فصول عن رحلتي في كولومبيا، بعد أن كتبت كثيرًا عن إقامتي في إسبانيا قبل أعوام، ولم أنشر شيئًا مما كتبت. بدأت في قراءة هذه الرواية بهدف شخصيٍّ تمامًا، فأدركت أن قراءة محفوظ تشبه العودة إلى الذات. في مجتمعات بعض السكّان الأصليين في أمريكا الجنوبية بيت يدعى «مالوكا» هو البيت الذي يرمز لحكمة القبيلة والذي يلجأ إليه أفرادها ليرثوا حكمة الأجداد وأجداد الأجداد ويُدعى البيت الأم. وفي آداب كل أمة بيت كهذا البيت، هذا البيت في الأدب الإسباني هو رواية «دون كيخوتي» لميجيل دي ثِربانتس، فإنني لم أدخل بيتًا إسبانيًّا تقريبًا ليس فيه رواية ثربانتس. ليس فقط كل بيت إسباني، وإنما حين دخلت بيت صديقي أستاذ الأدب الكولومبي والذي قرأ آداب الإغريق والرومان والآداب الأوروبية بلغاتها كان يتحدث عن ثربانتس وكونه أنبل إنسان عرفه، وعن دون كيخوته وقراءته السنوية له بوصفه الوطن الذي يعود إليه.
بدأت علاقتي الشخصية برواية «دون كيخوتي» في عامي الثالث في الجامعة، حين درّستني أستاذتي فاطمة مكي فصل الرواية الإسبانية في العصر الذهبي. منذ ذلك الحين و«دون كيخوتي» رفيق حياةٍ لي، أحدثه وأستمع إليه، وأتمثله وأبادله الشكوى وأسامره. أفعل ذلك أيضًا مع الأمير الصغير، ومع الشعراء الذين أصادقهم. لكنني ولدت في شارع محمود الديب، ودرست الابتدائية في مدرسة «صلاح الدين» والإعدادية والثانوية في مدرسة «الطبري». تخرجت في «جامعة القاهرة»، وقضيت مراهقتي في شوارع وسط البلد، وسنوات الجامعة بين محاضرات جامعة القاهرة ودروس مشايخ الأزهر وشوارع وأزقّة الأزهر والحسين. سأظل دائمًا كابن فطّومة:
«مهما نبا بي المكان فسوف يظل يقطر ألفة، ويسدي ذكريات لا تُنسى، ويحفر أثره في شغاف القلب باسم الوطن. سأعشق ما حييت نفثات العطّارين، والمآذن والقباب، والوجه الصبيح يضيء الزقاق، وبغال الحكم وأقدام الحفاة، وأناشيد الممسوسين وأنغام الرباب، والجياد الراقصة وأشجار اللبلاب ونوح اليمام وهديل الحمام».
سأظل ابن فطّومة الذي شالته بلاد وحطته بلاد وما زال جرح الوطن في جنبه. «أحاول أن أرى وطني من بعيد، وأن أراه على ضوء بقية الديار لعلي أستطيع أن أقول له كلمة نافعة».
مات جدي لأبي قبل أن أولد، ومات جدي لأمي وأنا على الجانب الآخر من البحر قبل أن أتم العاشرة، ومات أبي وأنا في الخامسة عشرة. لكنهم جميعًا نجيب، أو نجيب هم جميعًا. أتحير في سيري، تغزوني الرغبة في العودة ولقاء الأهل والأصدقاء في ليالي الوحدة، ويمنعني الخوف في النهار الذي أسير فيه حُرًّا، من دارٍ إلى دار. فأذهب إلى بيت جدي الرحالة فأجده يقول: «نداء كالقَدَر يدعوني للبقاء، وأمل في السعادة لا يريد أن يخبو«. أذكر أثر قراءة رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» عليَّ حين قرأتها بعد عودتي من رحلة دراستي في جامعة سلمنكا، خصوصًا وأنا أعرف أنها رواية اختلط فيها الذاتي بالروائي، وشعوري بأن الطيب صالح حاضر في مصطفى سعيد حضورًا أطلعني عليه قراءة كتاب «منسي: إنسان نادر على طريقته» الذي كتبه الطيب عن صديقه المصري أحمد منسي أو مايكل بسطاووروس، ولأن حياة الإنسان جزء منها حياة أصدقائه الذين شاركهم العمر فقد وجدت كثيرًا من حياة مصطفى سعيد بطل موسم الهجرة إلى الشمال في حياة الطيب صالح التي قرأتها في ثنايا حكاياته عن صديقه المصري. لكل ذلك توقعت أن قراءتي لرحلة ابن فطّومة لن تتجاوز الاندهاش باللغة المتجدد مع كل قراءة لنجيب محفوظ، وتجولي بين القواميس والمعاجم العربية المختلفة أتأكد من دقته في اختيار ألفاظه وتعبيراته، أو حبي الرجوع إلى الأدب العربي أقرأ قصيدة امرئ القيس: أرانا موضعين لأمر غيبٍ... ونُسحَر بالطعامِ وبالشرابِ، حين أقرأ حديث نفس قنديل محمّد العنّابي: «وجعلت أتساءل عمّا يجدر بي عمله، هل أرجع إلى وطني قانعًا من الغنيمة بالإياب، أو أواصل الرحلة والاستطلاع ودقّ أبواب المصير». أرجع فأرى امرئ القيس، ذلك الرحالة القديم، يقول في نفس القصيدة: وقد طوَّفتُ في الآفاقِ حتى... قنعتُ من الغنيمةِ بالإيابِ، فضُرِبت مثلًا.
لا أدري هل هوسي باللغة هو ما يجعلني أقرأ روايات نجيب محفوظ وكأنني أدرسها، أم براعته هي التي تجبرني على ذلك. فأنا حين أقرأ روايات أخرى أحيانًا أكون منصرف الذهن أكثر إلى الحكاية، لكنني هنا أقرأ كلمة كلمةً، وتأخذني كلمة أو تعليق على جملة لأحد الشخصيات إلى التفكير في الناس والحياة. أقرأ في صفحة واحدة في حوار، لا كلمات الحوار نفسه بل تقدماتها: «فقلتُ مداريًا ذاتي»، ثم أقرأ بعدها بسطور: «فقلتُ مداريًا ما في نفسي»، فأقف بينهما وأفكر فيمن عرفت من الناس الذين يتحدثون وهمهم الأول أن يداروا ويخبوا ذواتهم، يتحدّثون لكي يختبؤوا خلف حديثهم الذي لا ينطق عنهم، ولا يريدون له أن يفعل. ثم عن أولئك الذي يفكرون في شيء يقولونه ليداروا به ما يريدون حقًّا أن يقولوا.
سمعت حوارًا مع الأستاذ أجرته معه الإعلامية سلوى الجراح بإذاعة البي بي سي BBC عام 1992 عقب رجوعه من رحلة علاج بلندن هي إحدى رحلاته القليلة، وحين سألته في آخر الحوار إن كان يريد أن يقول شيئًا، أخبرها ماذا يمكن أن يقول من يُسأل منذ ستين عامًا، وأنه لا يشعر أنه بقي له ما يقوله، وفيما يتعلق بالكتابة فهو يكتب ما يفتح به الله عليه من قصة صغيرة أو مقال بالأهرام، لكنه لا يظن أنه سيتمخض عن شيء جديد يقوله. وبالفعل كانت آخر رواياته قبل ذلك اللقاء بأربع سنوات، رواية «قشتمر»، التي نشرت في ذات العام الذي حصل فيه على جائزة نوبل 1988، وما جاء بعدها كانت مجموعات قصصية. أفكر فيما بين عامي 1945 عام نشر رواية «القاهرة الجديدة» وعام 1988 عام نشر «قشتمر»، 32 روايةً هي البيت الأم، هي الوطن الذي أعود لأرى نفسي في مراياه، هي جذوري التي لا أستطيع أن أبصرها جميعًا في مسيرتي الأولى فوقها، ولا بد أن أعود إليها مرة بعد أخرى لأرى في كل مرة ما تسمح به حياتي السابقة وخبراتي أن أرى. أفكّر في النهاية، أنه لولا نجيب محفوظ، لما عرفت نفسي كما أعرفها، ولربّما فقدت الكثير منها، فالإنسان لا يمسك بيديه إلا ما يعرفه، والأستاذ هو الشيخ الذي دلني ودائمًا ما يدلني على أخص خصائص نفسي، وكذلك يدلّ العالم على أولئك البعيدين القريبين الذين يسكنون الحارة ويتوارثون حكاياتها.