فنون

ماجد وهيب

روميو وجوليت في دراما محمد صفاء عامر

2024.02.22

تصوير آخرون

روميو وجوليت في دراما محمد صفاء عامر

في مسرحيته الشهيرة "روميو وجوليت" قدم شكسبير علاقة حب لا تكترث بعداء قائم منذ زمن بين عائلتين، وأصبحت هذه الحبكة تيمة درامية ناقشها الكثيرون في أعمالهم. ما تحافظ عليه الدراميات التي تأثرت بمسرحية شكسبير هو خلق حواجز وعوائق تقف أمام المحبين، ثم تختلف التفاصيل والنهايات. 

كاتبنا، محمد صفاء عامر، اهتم بالحب كثيرًا في أعماله، ووضع حواجز عديدة بين المحبين، لكنه كان دائمًا ما ينتصر للحب، كانت جملة "الحب ينتصر على ..." هي المقدمة المنطقية، بلغة أهل المسرح، لكثير من أعماله.
في مسلسله الأشهر "ذئاب الجبل"، المقدمة المنطقية الأساسية هي أن الحب ينتصر على العادات والتقاليد الراسخة وغير القابلة للتغيير. سنتخيل أن المؤلف جاءته المقدمة المنطقية في البداية، وأراد أن يؤلف مسلسلًا عنها، لم تأته بعد أحداث أو شخصيات، فقط جملة عَلِقت في ذهنه وأراد أن يقولها بالدراما. أي عالَم الذي من الممكن أن يكون مناسبًا لمثل هذه المقدمة المنطقية؟ لا شك أنه عالم الصعيد، في قرية بهتون الجبل، حيث تحكم عادات قوية لم يجرؤ أحد على تغييرها، وتقول هذه العادات: إن البنت لا تتزوج من خارج قريتها. إذن لا بد أن تحب شخصًا من خارج هذه القرية، ولا بد أن يحبها هذا الشخص حبًّا قويًّا ويكون شجاعًا جدًّا ليواجه المخاطر. هكذا من الممكن أن يبدأ المؤلف في نسج خيوطه.

هنا تُلْقي روميو وجوليت ظلالها بقوة؛ العداء موجود لكنه ليس عداءً شخصيًّا بين عائلتين، إنه عداء خلقته العادات والتقاليد، عداء يبدأ من طرف واحد، لكنه سيخلق بعد ذلك قطيعة بين الطرفين، عداء تُكنُّه بهتون الجبل، بعاداتها وتقاليدها، لكل رجل غريب يريد أن يتزوج من بناتها، عداء بين الرجعية، المتمثلة في عائلة وردة (جوليت) باستثناء أبيها، وعداء بين الحداثة، عائلة حاتم (روميو). وجد عامر غايته في شخصية حاتم، ولنلاحظ ما يحمله الاسم من رمزية، الشاب الغريب عن بهتون الجبل، والذي يقع في حب وردة ابنة كبير القرية، وتبادله هي أيضًا الحب، واختيار أن تكون البطلة بنت كبير القرية، الذي بدوره عليه أن يحافظ على العادات، جاء ليجعل العقدة الدرامية أكثر حبكة وأصعب في فكِّها. ينتصر الحب، بفضل استنارة الأب وقوة حب البَطَلَينِ، على العادات والتقاليد، ولكن لا بد من دفع الثمن، مثلما تُبيِّن الأحداث، كما يُدفع الثمن في "روميو وجوليت".

لا يقتصر الأمر عند علاقة الحب بين حاتم ووردة، فمرة أخرى ينتصر الحب في شخصية الشقيق بدري، المتعصب لعادات قريته، ويغيره الحب الذي أنكره على أخته، وفي النهاية يسامحها، ويجد هو أيضًا حبًّا يغير حياته. "روميو وجوليت" هنا، فيما يخص علاقة بدري بأخته، ليست علاقة حب بين حبيبين، لكنها علاقة الحب بمعناها الأوسع، الحب عمومًا. 

عداء بدري لأخته لأنها خالفت التقاليد، وسببت له متاعب كثيرة يندثر بسبب الحب، يروح العداء ولا تبقى إلا المحبة، "ولا دايمة إلا المحبة والظلم هو اللي رايح" هكذا تقول الأغنية التي كتبها الأبنودي في نهاية المسلسل، وهي تقول المقدمة المنطقية للعمل كله. 

حتى قاطع الطريق، دبور، يغيره الحب ويجعل قلبه لينًا ضعيفًا أمام مهجة، ربما طبيعته الشديدة والعنيفة كانت أجدر بأن تخلق حاجزًا بينه وبين الوقوع في الحب، وكأن العداء الموجود كعائق للحب في مسرحية شكسبير، موجود في حكاية دبور، ولكنه ليس عداءً بين عائلتين، وإنما بين طبيعة شخصية دبور وطبيعة الحب نفسه، لكن الحب يقوى على طبيعة هذه الشخصية.

في مسلسل "الضوء الشارد" لدينا أيضًا نفس المقدمة المنطقية، ولكن باختلاف بسيط؛ فهنا الحب ينتصر على الفوارق الاجتماعية وليس على العادات والتقاليد، وإن كان من الممكن أن نرى العادات والتقاليد أيضًا ولكن بصورة غير مباشرة، فرفض الحب لاختلاف الطبقة الاجتماعية، هو في إحدى صوره رفض؛ لأن العادة تقول: إن الزوجين لا بد أن يوجد تكافؤ اجتماعي بينهما.

العداء هنا ليس بين عائلتين بينهما مشكلات، لكنه عداء بين الفقر، المتمثل في عائلة فرح (جوليت)، وبين الثراء المتمثل في عائلة فارس (روميو)، ونلاحظ مرة أخرى ما يحمله الاسم هنا من رمزية؛ لتشتد الحبكة سيكون على المحب هنا أن يختار بين الحب وبين الحفاظ على تاريخ عائلته من خلال زواج مصلحة؛ في رغبة الأخ الأكبر، رفيع، في الحفاظ على تاريخ عائلته، ينتصر حبه لتنفيذ وصية أبيه والحفاظ على هيبة العائلة على العداء القائم بينه وبين نده، وهبي السوالمي، لكن فارس لا يكترث بكل هذا ويختار الحب، ويدفع رفيع ثمن ذلك الحب، ثم تتطور الأحداث ويقع رفيع في الحب نفسه الذي أنكره على أخيه، فيحب نفس المرأة متخليًا عن كلامه السابق عن الطبقة الاجتماعية، هكذا ينتصر الحب مرتين على الفوارق المادية، ويتحقق في حب رفيع انتصاره الأكبر؛ لأنه جاء من الشخصية التي أنكرت ذلك الحب في البدء، وهو نفسه ما حدث في شخصية البدري في ذئاب الجبل.

فارس وفرحة ورفيع ليسوا هم فقط الشخصيات المنتصرة للحب في هذا العمل، لدينا أيضًا رئيسة، الراقصة أو الغازية بلغة أهل الصعيد، تتغاضى عن أعمال حبيبها غير المشروعة، تتغاضى عن كل سيئاته ولا تنظر له إلا كحبيب، بتعبير أدق يعميها الحب عن رؤية حقيقته وحقيقة مشاعره نحوها، في النهاية فقط تكتشف حقيقته، لكن قبل ذلك فنحن أمام جوليت صادقة في حبها، لا تمنعها مهنتها من أن تعرف الحب بمعناه الحقيقي، لا تكترث بكلام أمها، وتسامح من تحبه كثيرًا، إنها هنا لا ترى زيفه، وتظنه بفضل الحب روميو بحق. 

ولدينا أيضًا نفيسة، ابنة وهبي، ضحية أبيها وخططه، هي أيضًا مثال لجوليت، أحبت فارس في البدء، ثم رفيع من بعده، فلا تنظر للعداء السابق بين العائلتين، ولا للكراهية التي يكنها أبوها لعائلة من أحبتهما.   

أما مسلسل "حلم الجنوبي"، فهو يقدم روميو وجوليت بشكل مختلف؛ فالعداء مع بداية الأحداث لم يكن موجودًا، لكنه يولد بعد ذلك. هنا أيضًا نحن أمام مقدمة منطقية تبدأ بالحب ينتصر على العداءات التي يخلقها طمع طرف أمام وطنية طرف آخر. لنتخيل هذه المرة أيضًا أن مقدمة منطقية بهذا المعنى جاءت في رأس المؤلف وأراد قولها من خلال دراما؛ علاقة حب كانت تسير في الطريق السليم، وكان مقدرًا لها بنسبة كبيرة أن تنجح دون مشكلات، لكن ليس هكذا تكون الدراما، لا بد من وضع عوائق، فوضع المؤلف عائقًا كبيرًا أمام حب نصر - ولنلاحظ هنا أيضًا الرمزية التي يحملها الاسم - لزينب، فبعد أن تقدم لطلب يدها وقعت في يده بردية مهمة، وكان عليه أن يختار بين أن يسلمها مرة أخرى لعم حبيبته، وفي هذه الحالة سيفوز بالحب دون تعب، وبين أن يضحي بالحب من أجل وطنيته. العداء هنا أوضح من المثالين السابقين، عداء شخصي يأخذ شكل الثأر؛ لأن ولي أمر المحبوبة، جوليت، يرى في نصر، روميو، أنه نصاب؛ إذ سرقه وضيَّع عليه مبلغًا كبيرًا من المال ووضعه في مشكلات. عندما يختار نصر ألا يعيد البردية، فهو هنا ينتصر لحب آخر، حب الوطن، كأنه هو روميو، وجوليت هي مصر، ولكن في النهاية ينتصر حبه لزينب، وينسى كل ما سببه له عمها.

ومرة أخرى يقدم لنا محمد صفاء عامر شخصية راقصة صاحبة كباريه، وهي شخصية نوسة عنبر، التي تقدم كل العون لنصر وتُظهر وطنيتها وحبها للبلد، إنها هنا جوليت بمعنًى آخر، جوليت غير واقعة في حب رجل، لكنها واقعة في حب الناس والخير والوطن، هؤلاء هم روميو بالنسبة لها، وهي تحبهم دون اكتراث بما يُقال عنها وبنظر الناس لها كراقصة صاحبة كباريه، حتى إنها تدفع حياتها ثمنًا لذلك الحب.
وعندنا أيضًا "رقية ومحمود" شخصيتان تنتصران للحب، لا خلافات بينهما ولا ثأر، وإنما فقط تَردُّد من ناحية رقية، لكن محمود يصبر عليها، يلاحظ أنها معجبة بنصر، لكن ذلك لا يغير حبه لها، في النهاية ينتصر الحب ويجمعهما بفضل صبر محمود، وهكذا ينتصر الحب على الشكوك، على الغيرة، على التردد.  

يمكننا القول: إن اختيار الصعيد لمثل هذه المقدمات المنطقية، التي تدور جميعها حول الحب، كان اختيارًا موفقًا، فليس من السهل على الشخصية الصعيدية، لما هو معروف عنها من طباع قد تتسم بالصرامة، أن ترتدي زي الرومانسية، والتي قد تصل في بعض الأحيان إلى رومانسية فائقة، وإذا كانت جميع هذه المقدمات المنطقية تخبر عن انتصار الحب، فسوف يكون اختيار الصعيد مفيدًا في تعقيد الحبكة، سيكون الصعيد نفسه كمكان، بما يُعرف عنه من محافظة، عدوًّا يحارب جنبًا إلى جنب مع العوائق الأخرى، مثل: الفوارق الاجتماعية، ضد الحب الذي يبدو كمحارب وحيد دون دعم إلا من نفسه وقوته وسلطانه، فلو أخذنا مثلًا المقدمة المنطقية، والخط الدرامي الرئيس، لمسلسل "الضوء الشارد"، وجعلنا أحداثه تدور في المدينة لا في الصعيد، أو في قرى الوجه البحري، سيكون الصراع هناك أقل عنفًا، والحبكة أقل تعقيدًا. ويزيد اعتقادنا في ذلك أن الحب، ولنا أن تخيل وقع مثل هذه الكلمة في حد ذاتها في مجتمع كالصعيد، هو البطل الأساس والمحرك الرئيس للأحداث في كل هذه الحكايات، يقف معه من يقف، ويقف ضده من يقف، لكنه ينتصر في النهاية ويغير في الشخصيات، والشخصيات جميعها جاءت مرسومة على قدر ما تحتاجه الحبكة والفكرة، شخصيات صراعاتها خارجية في الغالب ورُسمت هي بعد رسم الحبكة، فجاءت لتخدمها وتنفذها على أكمل وجه؛ للوصول في النهاية إلى المقدمة المنطقية المعدة سلفًا، والمطلوب إثباتها.