دراسات

محمود عبد الغفار

سحرٌ ودين.. هكذا بدأ الشعر الكوري وتشكل

2021.08.01

سحرٌ ودين..  هكذا بدأ الشعر الكوري وتشكل

هذه القراءة محاولة لرسم صورة بانورامية للشعر الكوري القديم والحديث، بدءًا من أولى الممالك الكورية وانتهاءً بالحرب العالمية الثانية، حين قسمت كوريا إلى بلدين منفصلين شمالاً وجنوبًا. وقد اعتمدت على عينة ممثلة من مختارات شعرية تجاوزت الألف قصيدة تقريبًا، بهدف التعرف على سمات ذلك الشعر على مدار رحلته الطويلة، فضلاً عن أنها اشتملت على عدد كبير من الشعراء، لكي تقدم صورة يمكن الاعتداد بها عند التأريخ لحركته ومساراته، وعند تناول كيفيات تشكله جماليًّا للقارئ العربي الذي أعتقد أنه تنقصه بعض معلومات مهمة عن أدب الكوريين وثقافتهم في ظل الشغف المتزايد بالدراما والأغاني الكورية، وفي ظل الاعتماد بشكل كبير على المنتج التكنولوجي الكوري الذي لا نبالغ إن قلنا إنه لا يخلو بيت مصري أو عربي من جهاز واحد على الأقل مكتوب عليه «صنع في كوريا». حتى الاحتلال الياباني لم يكن هناك سوى شبه جزيرة كورية موحدة ومتحدة، أما بعد الحرب العالمية الثانية فقد انفصل الشمال عن الجنوب. وهنا تحديدًا لم يعد ممكنًا الحديث عن شعر كوري في المطلق، ومع ذلك سعت هذه القراءة إلى أن تضع نصوصًا لشعراء وشاعرات من الشمال لأن الفن بشكل عام لا يتحرك على النحو الذي تفرضه الأمور السياسية والدبلوماسية. أخيرًا أود فقط أن أشير إلى أن القصائد والمقطوعات الشعرية الواردة في هذه القراءة كلها من ترجمتي.

كوريا؛ المكان والشعب

تمثل الجبال في شبه الجزيرة الكورية 70% من مجمل مساحتها، وتتميز بارتفاعها الشاهق في الشمال مقارنة بالجنوب والغرب. يمر بها عدد من الأنهار المهمة مثل «يالو» في الشمال، و»دومان» الذي يعد أطول أنهارها، و»ناك دونج»، وهناك في الغرب نهر «هان» و»ديه دونج». هذه الطبيعة الجغرافية الخاصة جعلت من الكوريين شعبًا خاصًا كذلك؛ شعب يتسم بالقوة والصلابة ويبحث عن الشموخ والارتقاء، وفي الوقت نفسه يتشبث بالأرض ويعمق جذوره فيها ويعمرها بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ. وسيلاحظ القارئ أنّ الجبال والتلال والوديان مفردات شائعة جدًّا في أحد أكبر الحقول الدلالية للشعر الكوري؛ ألا وهو حقل الطبيعة بكل عناصرها المتنوعة.

قُسمت كوريا لقرابة خمسمائة عام خلال حقبة آخر ممالكها- جوصن (1392- 1910)- إلى ثماني مقاطعات: «هام يونج، جانج وون، جونج سانج» في الشرق. «بيونج يانج، هوانج هيه، جيونج جي، تشونج تشونج، جولا» في الغرب. ثم في عام 1886م أصبحت ثلاث عشرة مقاطعة. وبعد تقسيمها إلى شطرين شمالي وجنوبي، وقعت ثماني مقاطعات في الجنوب وخمس مقاطعات في الشمال، ثم أصبحت جزيرة «جي جو» مقاطعة جنوبية عام 1948م. واليوم تضم كوريا الجنوبية سبع مدن كبرى: «سول، بوسان، ديجو، إنشون، كوانج جو، ديجون، أولسان» وتسع مقاطعات.

وتشير دراسات علم الإنسان إلى أن جذور الشعب الكوري ربما تعود إلى 600 ألف سنة، وأنه ينحدر من قبائل منغولية عدة استوطنت شبه الجزيرة الكورية حسبما تشير الآثار الموجودة منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد. وفي الشعر الكوري الحديث صور تشير إلى ذلك العمق التاريخي والتجذر الواضح للفلسفات الكونفوشية والبوذية ودورها في تشكيل الوعي الجمعي للكوريين منذ زمن بعيد (). كما أتاح موقع شبه الجزيرة الكورية- تشارك روسيا حدودها الشمالية، وتجاور الصين واليابان- أن تتصل بعدد متنوع من حضارات تضرب بجذورها بعيدًا في التاريخ. فكانت دائمًا بقعة استراتيجية مؤثرة في تلك المنطقة، لكنها ظلت محافظة على هويتها وثقافتها الخاصة كجماعة عرقية طيلة الوقت ().

فيما يتعلق بالجانبين الروحي والعقائدي؛ يمكن القول إن الدين قد تحول في كوريا إلى شعائر حياتية، لا مجرد شعارات أو خطب للوعظ والإرشاد. فخلال عصر مملكة جوصن، صارت كوريا أكثر مجتمع كونفشوي في العام، أكثر من الصين نفسها منبع الكونفوشية، على نحو ما وصفهم الصينيون بقولهم: «هؤلاء الكوريون يتعبدون لكونفشيوس بحماسٍ أكثر مما فعلنا نحن»(). وعلى الرغم من أنَّ المعابد كانت تُبنى عادة في الجبال لتكون بعيدة عن الواقع الاجتماعي والسياسي ولتحتفظ بقيمتها وأهميتها الروحية، فإن ذلك لم يحُلْ بين الرهبان والمشاركة في الأحداث اليومية الجارية في أرض الواقع. لقد ازدهرت البوذية منذ انتقالها إلى كوريا عن طريق الصين في القرن الرابع الميلادي، فأصبحت الكونفوشية العقيدة الرسمية لمملكة جوصن، مما أوقف رواج البوذية حتى منتصف القرن العشرين تقريبًا. وبعد أن تحررت كوريا من الاحتلال، عادت البوذية للازدهار من جديد. ثم جاءت المسيحية- وبخاصة الكاثوليكية الرومانية- عن طريق الصين، لا بجهود المبشرين الصينيين، وإنما بواسطة الكوريين أنفسهم. وبحلول عام 1890م، كان عدد المسيحيين الكاثوليك ثلاثة ملايين شخص ().

على مستوى الفنون والآداب، هناك الكثير من النقوش والرسومات التي توضح أسلوب حياة الكوريين القدماء، والتي يمكن مشاهدتها على جدران المقابر الملكية. كما اخترع الكوريون آلة طباعة متنقلة مصنوعة من البرونز قبل اختراع يوهان جوتنبرج ماكينة الطباعة في ألمانيا بمائتي عام. وبعد اختراع الحروف الهجائية «هانغول» Han-gul، ظهر شكل من كلمات الأغاني الشعرية كان يطلق عليها «شيجو Sijo» تغنى على النغمات الموسيقية، وتدريجيًّا تطور إلى أسلوب قائم بذاته. ولم تظهر القصص والروايات إلا مع مطلع القرن الثامن عشر. وكان أكثر هذه القصص شعبية، تلك التي تجسد بعض عناصر السخرية الاجتماعية والأفكار الإصلاحية ().

الشعر الكوري القديم

1- الأشكال الأكثر شيوعًا:

هناك أشعار كورية كُتبت بالحروف الصينية، لكن أفضل نماذج الشعر الكوري هي التي كتبت باللغة الكورية على النمط الشعري الكوري. إنه ليس من قبيل التصنع الفصل بين الشعر المكتوب على النمط الكوري وبين النمط الصيني للشاعر الواحد، لأن التلازم بينهما ليس كما عليه الحال لدى الشعراء في الغرب عندما كتبوا بأكثر من لغة؛ ميلتون بالإيطالية وريلكه بالفرنسية على سبيل التمثيل لا الحصر (). وطبقًا للسجلات التاريخية الصينية، فإن الكوريين شعب يستمتع بالغناء والرقص. ففي الشمال، وخلال قرون عديدة قبل الميلاد، وجدت ست قبائل كانت تتحدث اللغة ذاتها تقريبًا، كما كان لها العادات والتقاليد نفسها. وكانت تقدم قرابين في احتفالات خاصة- كطقس من طقوس الفداء- في الشهرين الأول والعاشر من شهور السنة القمرية، وخلالها كان الناس يحتشدون ويرقصون ويغنون معًا. أما القبائل الثلاث في الجنوب فقد قدمت قرابينها للآلهة في الشهرين الخامس والعاشر القمريين، وكان الناس يحتشدون كذلك لأجل تلك المناسبات مغنين راقصين طوال الليل. كانت الآلهة تُعبد في طقوس خاصة في الربيع والخريف. فكان يصلى لها في الربيع لأجل ازدهار المحاصيل، وفي الخريف لشكرها على الحصاد الوفير. قَلبُ الاحتفال وجوهره كان الصلاة الجماعية وتنمية الوعي الجمعي لدى عامة الشعب. بحيث طور نموذج الحس الجمعي إيقاعه الملائم في الرقص والغناء مع تلك الاحتفالات ().

ومن ثم، كانت قيمة الشعر آنذاك تكمن في جانبيه الديني والسحري. ولهذا يُظَن أن نموذجه كان عبارة عن سطور قليلة بلغة بسيطة تعقبها عادة لازمة أو جملة تكرارية. لغته كانت تعويذية غنية بقوة ترابطها، بإحالاتها، وإيقاعها وعذوبة الأصوات التي أنشدتها. ولم يكن ما يبذل لجعل تأثيرها ملزمًا على الرجال وحدهم، بل وعلى الآلهة والأرواح. لقد كانت على أية حال وسيلة للتواصل بين الرجال والآلهة. فالقوة السحرية للكلمات كانت تنبع من مدى قدرة الشعر على إسعاد الآلهة، وتجنب كوارث الطبيعة، ولأجل نزول المطر وإيقاف الريح وعلاج المرضى. لقد كان المجتمع البدائي الكوري قبليًّا وبطريركيًّا، أما الحياة البدائية فكانت قائمة على ما يطلق عليه القيم الجماعية. من هنا كانت العناصر الحيوية الثلاثة لما قدمه المعتقد الديني من خدمات للكوريين: الشعر، والموسيقى، والرقص، متلازمة ولا غنى عنها. وحسبما يُعرف عن الشعر الكوري في مراحله المبكرة؛ فقد كان مرتبطًا بالمعتقد الديني عندهم، كما كان مؤلفًا بشكل أساسي من الترانيم المقدسة. باختصار يمكن القول إنه كان فنًّا شعبيًّا بامتياز نما بشكل طبيعي من رحم حياتهم الزراعية وكل ما يتعلق بها من تفاصيل الواقع المعيش ().

أ: الشعر العامي في ممالك:

- «كو-كوريو» (حتى 57 ق.م)

- «شيلا» (57 ق.م - 932م)

- «كوريو» (932م- 1392م)

منذ أن أصبح للشعر دور مهم وحيوي في الثقافة الكورية، كان للكوريين الخلصاء نوع من الشعر العامي يُعدُّ أول تطوير إبداعي متكامل لديهم في مملكة «شيلا». الممالك الأخرى أيضًا كانت لها أنواعها الشعرية، لكن الحقيقة الأهم في هذا السياق أن الشعر الكوري لم يكن ملكًا لفئة بعينها دون الأخرى، بل كان شعرًا للجميع. فكان لكل واحد- رجل أو امرأة- مسؤولية تجاه ميلاده ونموه، كما تشارك الجميع في مستقبله. الشعراء أيضًا انغمسوا في تقاليد مجتمعهم الخاصة، لكنهم مع ذلك لم يتجاهلوا تقاليد الشعر الصيني. فالشعر لدى الكوريين باختصار كان أهم وأرقى أنواع الفنون كلها ().

بداية من القرن الرابع الميلادي، شهدت أولى الممالك الكورية الثلاث أول أنواع الشعر الكوري المدون بالسجلات التاريخية، والذي قيل في مناسبات خاصة كان لها دور في نظمه. لكن معظم هذه النصوص مفقود. فهناك إحدى وأربعون قصيدة من مملكة شيلا وخمس قصائد من مملكة كوريو وأربع من مملكة بيك جايه(). نلاحظ هنا مدى الدقة والتحديد في ذكر عدد القصائد التي تم العثور عليها بكل مملكة من الممالك. لقد كان في مملكة شيلا، على أية حال، أول ازدهار حقيقي للشعر باللهجة الدارجة. السبب في ذلك يرجع إلى أن الممالك الأخرى شهدت وجودًا للمعتدين الأجانب أو اضطرابات وقلاقل داخلية، بينما كانت تلك المملكة قادرة على تطوير ثقافتها ورعايتها بسلام وعزلة في شبه الجزيرة الكورية، الأمر الذي ساهم في نمو الثقافة الخالصة للكوريين حتى بعد انتهاء عصرها. فلقد أمدت الثقافة البوذية- في حقبة تلك المملكة- الكوريين بما أتاح لهم إدراك قيمة ثقافتهم والاعتزاز بها وبتراثهم الخاص، ومكّنهم من تحقيق ثقافة ناضجة تتعلق بهم وحدهم. ويمكن التدليل على ذلك بأن سبع عشرة قصيدة من نصوص الشعر الكوري القديم آنذاك، وعددها خمس وعشرون قصيدة، هي أشعار بوذية؛ حيث استخدم البوذيون الأساطير البوذية كمادة لإبداعهم، وكانت كلها بشكل وحساسية شديدة وأساليب كورية خالصة. وعلى الرغم من أن الكاتب العظيم «كيو نيو» (917- 973) كتب قصائده بعد الترانيم البوذية «عهود بممارسات بوذاسف»، فإنه كان قادرًا على ترك الحساسية الكورية تنساب في ثنايا أشعاره ().

ب: جماعة «هوارانج» وقصائد «سينيه نوريه» العامية

ارتبطت الفنون والآداب والتعليم في مملكة شيلا بجماعة «هوارانج» التي ساهمت بشكل كبير في تنمية الآداب والفنون. وقد كانت «هوارنج» تتألف من شباب عائلات الطبقة الأرستقراطية، وكانت طبيعة وظيفتها خدمة الوطن في الأوقات الحرجة، وبثّ روح التضحية وتعزيز وجودها من أجل الوطن. «كيم يو شين» الذي ساعد في أن تتحد شبه الجزيرة الكورية هو أحد أعضاء هذه الجماعة التي أطلقت عليها بعض المسميات من قبيل «أعمدة المملكة»، «القدوة والمثل العليا للشباب»، و»قادة المجتمع». فضلاً عن أنهم كانوا جنودًا بواسل كذلك في أوقات الحروب، أما في أوقات السلام فكانوا يزورون كل بقاع المملكة يكتبون عن جمالها وروعة الطبيعة فيها وفي جبالها وأنهارها، وكان من بين البقع المحببة لديهم؛ جبال اللؤلؤ المواجهة للبحر الشرقي بقممها التي لا حصر لها. كما تعلموا من تلك الزيارات والمناسبات كيفية الالتزام بمبادئهم، وكيف ينير الواحد منهم بصيرة الآخر ويقوّمه إن أخطأ، بل وكيف يصبحون أبطال التنوير ورواده في وطنهم. كما خدمت هذه الجماعة في التعليم المتحرر، الذي لم يقتصر على قراءة الكلاسيكيات فحسب، بل هدف إلى النقاش وتبادل الآراء ووجهات النظر والملاحظات فيما بينهم. من هذا المنظور تناقشوا في الأشعار والموسيقى، كما سلكوا الطرق صعودًا وهبوطًا ليس على المستوى الرمزي عبر التعليم الثانوي، بل على المستوى الحقيقي من خلال جبال اللؤلؤ أو بطول الساحل الشرقي. كثيرون منهم برعوا في الشعر والموسيقى، كما كانت لهم مساهماتهم العديدة في الشعر المرتجل. فالشاعر «شيرو»- أحد أعضاء هذه الجماعة»، تعد إحدى قصائده «تيمارا» واحدة من نفائس المملكة. فلا عجب إذن أن يكون شعراء هذه الجماعة في تلك الحقبة المثل العليا للوطن؛ المثل لذكاء وطني خاص، والقدوة للشباب والمجتمع ().

وقد شهد عصر مملكة شيلا أول ظهور لأول شكل ناضج للشعر الكوري بالعامية؛ وهي قصائد «سينيه نوريه» أي «أغنيات من الشرق» ويعنى بالشرق هنا «كوريا»، تلك التي تعبر أحوالها الخالصة الخاصة في مواجهة الأغنيات الأجنبية، والشعر الصيني، وتشمل بشكل خاص أربع عشرة قصيدة لـــ» سام جوك يوسا» أو بقايا الممالك الثلاث» (1285م)، وإحدى عشرة قصيدة لـــ»كيونيو تشون» أو «حياة العظيم كيو نيو» (1075م). ومن بين الأشكال الأساسية الثلاثة للشعر الكوري القديم، فإن الشكل المتطور بعناصره الخاصة وأساليبه ومسحة الحزن والحياة فيه كان أعلاها مرتبةً. وكان يتألف من مقطعين وأربعة سطور تطورت فيها الفكرة الأساسية، ومقطع من سطرين كان يتم فيه تلخيص الفكرة التي صورت في شكل أمنيات، أو أوامر، أو مقترحات. ويُعطي المقطع الأخير خلاصة القصيدة ().

مع عصر مملكة كوريو (932م- 1392م)، فقدت البوذية قيمها المتعلقة بالإبداع أو الابتكار التي ميزت فنها وأدبها بشكل عام في عصر مملكة شيلا. لقد أعاقت الاعتداءات البَّريَّة الخارجية المستمرة- من المنغوليين على سبيل المثال- نمو تلك المملكة، أما من جهة الساحل فكانت اعتداءات القراصنة اليابانيين. وتحت ضغوط تلك الاعتداءات برًّا وبحرًا، ضعف اقتصاد المملكة وتفتت المجتمع وفسد البلاط. ومع ذلك، تمكن الشعب الكوري خلال تلك الحقبة من القيام بمساهمة مهمة فيما يتعلق بتطوير أساليب الطباعة؛ حيث قدموا النقش البوذي الكامل «تربتكا» بدافع الإشفاق على الذات أمام المعتدين. إلى جانب احتفاظهم بواحد وثمانين ألفًا ومئة وسبع وثلاثين قطعة خشبية لتلك النقوش البوذية، والموجودة الآن بمتحف «هاين» بكوريا الجنوبية (). نلاحظ هنا أيضًا مدى الدقة في تحديد عدد القطع الخشبية للنقوش البوذية وكيفية الاعتناء بها في المتاحف الوطنية.

جـ- قصائد «تشانج جا»

تطور الشعر الكوري وبخاصة في علاقته بالموسيقى في مملكة كوريو، حيث كانت القصائد تُغنَّى في مناسبات معينة كاحتفالات الحصاد مثلاً، تلك التي كانت تتم في الشهرين الأول أو الثاني والحادي عشر من الشهور القمرية؛ حين كان الناس يحتشدون معًا ويغنون، فتطورت القصائد العامية مع تلك المناسبات، ودخل معها عنصر ثالث هو «الرقص». والاسم الشهير لتلك القصائد هو «تشانج جا» أو «القصائد الطوال»، وقد سُميت بذلك لطولها بسبب تكرار لازمة أو دور بكل منها في فواصل يأتي موقعها في نهاية كل مقطع شعري بشكل عام. هذه اللازمة كان لها دور مهم في خلق حالة وجدانية خاصة وترسيخها عبر التكرار داخل القصيدة. ويمكن فهم هذا الدور بوضوح إذا عرفنا الطابع الشعبي الشفاهي لهذه القصائد في تلك المرحلة الزمنية، وكيف أنها اتكأت على الأغنيات الشعبية المشهورة بطابعها الراقص بشكل عام. ولهذا فنموذج القصيدة في تلك الحقبة كان بمثابة حلقة لا غنى عنها في تاريخ قصيدة تشانج جا وتشكلها(). وقد سجلت المصادر التاريخية ستين عنوانًا لتلك القصائد في مملكة كوريو. عشرون منها مع نصوص كاملة، والباقي عناوين بدون نصوص.

من قصائد تلك المرحلة نموذجين مكتوبين باللغة الصينية تركهما الشاعر «تشوي تشونج» (984- 1068)، الذي كان رائدًا ومعلمًا للكونفوشية الجديدة، حتى أنهم أطلقوا عليه «كونفوشيوس كوريا»:

إنه ندم عمري كله، أنني لم أولد في عصر فو-هسي،

كان الرجال يرتدون ملابس من الأعشاب،

ويطعمون الخضروات والفاكهة البريّة، لكن قلوبهم كانت بسيطة وصادقة.

كم أحسدهم على السكينة في تلك الأوقات! (*)

النموذج التالي لأحد الشعراء التاريخيين في نهاية مملكة كوريو وهو الشاعر «يي تشو نو» (1341- 1371)، وقد مرّ بمنعطفات عديدة في حياته لأنه كان شخصية مستقيمة وواضحة في مرحلة متخمة بالتقلبات والصراعات. له ثلاث قصائد مسجلة منها هذه القصيدة التي يقول فيها:

ليس صحيحًا بالمرة، الادعاء أنّ السُّحبَ لا عقل لها.

انظر كيف تواصلُ الطفو في السماء، بقوَّة تحملٍّ خاصة،

وبإصرار تطارد الشمس، محاولة أنْ تحجب نورها. ()

مما تجدر الإشارة إليه هنا أن شعراء قصائد «تشانج جا» كانوا من العامة. المرأة الكورية- كعنصر ترفيه- والحب -كثيمة أو موضوعة أساسية في الآداب قديمًا بشكل عام- كانا المحورين الأساسيين في شعر تلك الحقبة. وقارئ هذه الأشعار تدهشه كثافة العاطفة وتدفقها وصدقها؛ سواء في توقفها أمام جمال الربيع الخلاب، وتطهير القلب والعقل، وقمر سبتمبر المكتمل، ورسم صور لتعاقب الأحزان والأفراح، والحكايات الأسطورية، والتعبير عن الحب بلا خجل؛ بحيث غدت تلك القصائد أغنيات يتشاركها الحبيبان أينما التقيا. ما يجب تأكيده في هذا السياق هو أن الأهم عند الشاعر الكوري آنذاك لم يكن شعورًا محددًا يتخذ منحى خاصًا مع الطبيعة والحياة بشكل مستَمَد من تجارب الآخرين الشعرية، وإنما مستَمَد فقط مما أحسه هو شخصيًّا. لقد كان ما يشغل الشاعر قيمة الخبرة الداخلية الخاصة به هو. تلك الشجاعة الأدبية- إن جاز التعبير- مع الصدق في التناول مثَّلا السمة العامة، لا عند شعراء مملكة كوريو وحدها، بل يمكن القول إنهما مثَّلا حساسية الشعر الكوري بشكل عام ().

ومن النماذج الأخرى الممثلة للشعر في تلك الفترات المبكرة، والتي كتبت على النمط الرباعي، ودارت في فلك الحب كما أشرنا من قبل، قصيدة الملك «يوري» الملك الثاني في مملكة كو-كوريو بعنوان: «أغنية لطيور الصفار الذهبية»:

ترفرف طيور الصفار الذهبية بالجوار

ذكورها وإناثها يستمتعون

بينما أنا وحدي في عزلة

فمَن يا تُرى عليّ أن أعود إلى وطني معه؟!()

أما عن مناسبة هذه القصيدة فيقال إن الملك في طريق عودته إلى القصر بعد رحلة صيد عرف أن زوجته المقربة قد تعاركت مع زوجته الأخرى وغادرت القصر. سارع الملك خلفها وبذل ما في وسعه لاسترجاعها. ثم في طريق العودة استوقفه مشهد لزوج من طيور الصفار يحلقان فوق الأشجار مما دفعه للكتابة عنهما بعد ذلك. في القرن الثامن الميلادي وُجِد عدد من قصائد نادرة ومبكرة جدًّا تمثل أهم نمط شعري كوري على مدار تاريخ الأدب الكوري وهو نمط «شيجو» مثل القصيدة التالية بعنوان «أغنية الأزهار»:

دعني أربطُ بقرتي، بالصخرة الحمراء على الطريق

لأجمع الأزهار من أجلكِ، والنيران قد تسعر داخلي عند الجُرف

إذا لم يتورّد خدّك قبولاً لعرضي! ()

وفي مقالات قادمة، سنستكمل هذه الصورة البانورامية بآخر أنواع القصائد التقليدية الأكثر شيوعًا ألا وهي قصائد «شيجو» التي سجلها تاريخ الأدب الكوري في القديم، وكانت عبارة عن مقطوعة واحدة من ثلاثة أسطر بكل منها خمسة عشر مقطعًا، مما يعني أنها كانت تتألف من خمسة وأربعين مقطعًا. ما يلفت النظر هو أن عشرة بالمائة من بين (ثلاثة آلاف) مقطوعة من تلك القصائد التي ضمها معجم «تشيه وان» الصادر عام 1984م تدور في إطار العشق وحميمية اللقاء بين الأحبة، أو بما يتعلق بالحب من لوعة واشتياق وحنين وألم فقدان الحبيب.