فنون

تامر الهلالي

سكورسيزي الأحمر! مخرج أفلام العصابات رمزًا لشباب اليسار الأمريكي

2021.08.01

سكورسيزي الأحمر! مخرج أفلام العصابات رمزًا لشباب اليسار الأمريكي

أن تستدعي ذاكرة جمعية، ظاهرة فنية أو ثقافية ما، هو شئ يحدث في العديد من المناسبات. يحدث هذا على سبيل المثال حين نشهد تغيرات اجتماعية أو جوهرية في الشخصية الجمعية، وفي أمريكا الآن تشهد البلاد تيارًا يساريًا متناميًا خصوصًا في أوساط الشباب، الذين يريدون صوتًا في مواجهة التوحش الطاغي للرأسمالية الأمريكية الذي بلغ ذروته في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب. لكن ما علاقة أفلام مثل الراحلون "The departed، أو عصابات نيويورك Gangs of New York، أو كازينو casino بكل ذلك.

حسب ما يرصد الكاتب كيث سبنسر في مقال نشرته مجلة صالون "salon" الأمريكية، تشهد أوساط اليسار الأمريكي من جيل الشباب، أو ما يمكن أن يطلق عليه حاليًا "يسار اليسار الأمريكي"، طفرة في الاهتمام بأفلام مارتن سكورسيزي، حيث تغرق "الميمز" والكوميكس والنكات التي تستلهم أفلام العصابات التي أخرجها سكورسيزي، منصات السوشيال ميديا الخاصة بهذه الشريحة السياسية.

يوضح سبنسر أن الظاهرة تخص في الغالب أفلام عصابات المافيا التي أخرجها سكورسيزي - مثل " الرجال الطيبون" "Goodfellas" والشوارع الدنيئة "Mean Streets" وإلايرلندي "The Irishman"، وغيرها في نفس السياق من أفلام المافيا، أصبحت محل اهتمام واسع بين الشباب الأمريكي اليساري.

ويعتقد سبنسر أن نهضة سكورسيزي المفاجئة، تعود إلى أسباب تتعلق بمهارته السينمائية، إذ أن أفلامه عظيمة على كل مستويات عناصر السينما من إخراج وتصوير وكتابة وتمثيل، لكنه أدرك أن ثمة أسباب سياسية عميقة تتسبب في كون الشباب الأمريكي الحالي يبتلعون "أقراص سكورسيزي" الآن.

تقويض الدولة

قد يبدو غريبًا أن تلقى أفلام الجريمة المنظمة صدى لدى اليسار الأمريكي. في نهاية الأمر، العصابات ليست ولا ينبغي أن تصير المثل الأعلى للثوار. معظم رجال العصابات، سواء في الحياة الواقعية أو على الشاشة رأسماليون متوحشون لكن في السوق السوداء، فما الذي يمكن أن يفسر الانبهار المفاجئ لليساريين الأمريكيين وخصوصًا في أوساط الشباب بهذا النوع من الشخصيات؟

بالطبع، فإن أفلام العصابات -مثل فيلم الأبطال الخارقين- ليست مجرد أفلام عن رجال العصابات، هذه الأفلام، على الأقل من منظور شخص مثل سكورسيزي، هي قصص أكبر عن مجموعة، غالبًا ما يكونون أصدقاء مقربين جدًا، يعملون معًا كمجتمع، ويدعمون بعضهم البعض، ويقوضون الدولة وأجهزتها الأمنية؟

ثمة بُعد سياسي يمكن التعرف عليه في تلك الموضوعات، لا سيما تخريب الدولة والصداقة الحميمة بين الرفاق من رجال العصابات وانسحاب ذلك على النخبة السياسية والأفكار الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المهيمنة كتيار سائد، وفقًا للكاتب.

انهيار الرأسمالية

يقول سبنسر "يمكنني التأكيد بشكل قاطع أنه لا يوجد الكثير من التمثيل الإيجابي لمن ينتمون إلى اليسار الأمريكي في السينما السائدة. هذا أمر متوقع.. المديرون التنفيذيون لشركات الإنتاج والميديا، مثل معظم الرأسماليين، ليسوا حريصين على منح الضوء الأخضر للأفلام التي تتحدث حول أنه لا ينبغي أن يوجد أثرياء مثلهم في العالم". ويرى الكاتب أن أمريكا والغرب "في خضم لحظة سياسية غريبة، إذ يبدو أن النظام الرأسمالي ينهار على نفسه، وأن "أمريكا على وشك أن تصبح دولة فاشلة". يبدو أن مواطني العالم الغربي يعرفون هذا على مستوى اللاوعي، لكن أولئك الذين لم يقبلوا الواقع ينكرون ذلك".

باب للخروج

بحسب سبنسر، يمكن القول إن سينما الجريمة المنظمة، تصور أيضًا "داوود مقابل جالوت" هوليوود مليئة بالقصص عن ديستوبيا الرأسمالية المستقبلية، لأن هذا هو كل ما يمكن أن يتخيله الخيال الرأسمالي: مستقبل كئيب مع مزيد من القمع، أو الوضع الراهن.

يقول سبنسر "تعد سينما العصابات طريقة للخروج، مسرحية خفية حول كيفية تفاعل مجموعة من "الثوار" مع العالم ومحاولة استعادته مرة أخرى من أولئك الذين يؤيدون الوضع الراهن الفاسد الذي يُغلق فيه مصادر الدخل.. ما الثورة سوى مجموعة من الرجال والبنات المذعورين المصابين بالبارانويا، الذين يتسكعون معًا، ويمتلكون الكثير من الأسلحة، ويحاولون القيام بأشياء غير قانونية بينما تحاول أجهزة الأمن في الدولة منعهم؟".

بوعي أم لا، نحن جميعًا نبحث عن إجابات تفسر سبب كون الأمور سيئة للغاية في أمريكا والعالم ولا يبدو أنها ستتغير أبدًا في المستقبل المنظور. هذا يعني أن جميع أنواع الظواهر السياسية التي تبدو غير مرتبطة تنبع من الرغبة المشتركة في رؤية بديل للرأسمالية، أو على الأقل عودة إلى حياة طبيعية متخيلة وعلى المستوى الداخلي، ترغب جميع المجموعات المذكورة أعلاه في رؤية أولئك الذين يعتقدون أنهم مسؤولون عن تدمير مستقبلنا وهم يجثون على ركبهم، بحسب سبنسر.

يستطرد الكاتب معلقًا على الوضع السياسي الأمريكي والعالمي "يجسد الصعود العالمي للقومية المعادية للأجانب، والتي مثلها كل من دونالد ترامب وناريندرا مودي وجاير بولسونارو، رد فعل الناخبين على التراجع على فشل المديرين الليبراليين للرأسمالية في الحفاظ على مستوى معيشتنا على مدى العقود الماضية؛ حين نهب الأغنياء الثروات. إن جماعات مثل جماعة Qanon وغيرها من جماعات اليمين المتطرف هم مجرد وهم اجتماعي جماعي بين أولئك الذين لا يستطيعون قبول أن زعيمهم الشعبوي كان مخادعًا".

خدع "ليبراليو المقاومة" خلال السنوات الأربع الماضية أنفسهم بشأن سبب تمكن شخص بغيض مثل ترامب من الصعود إلى السلطة بالتركيز على روسيا ككبش فداء، بدلاً من مواجهة مستويات المعيشة المتدهورة التي نتجت عن عقود من التراكم الرأسمالي غير المحدود، وفق سبنسر.

سائق التاكسي

في مقال له بعنوان "البطل المضاد بعد الحداثي: الرأسمالية والبطولة في فيلم سائق التاكسي"Taxi Driver" بدورية "برايت موفيز" يقول الناقد السينمائي ريتشارد جيه جانوشي "من حيث الجوهر، لدى ترافيس بطل فيلم سائق التاكسي مانيفستو غير مترابط حول "الوقوف" في وجه العناصر الاستبدادية التي تقيد حركته الاجتماعية وتعمل على قتل أحلامه. يسعى ترافيس للانتقام تحت ستار العمل البطولي العنيف (والانتحاري في نهاية المطاف)، مما يجعله نموذجًا للبطل المضاد وفي النهاية يضع الفيلم أسطورة البطل/البطل المضاد نفسها قيد المحاكمة.

"يمكننا أن ندرك كيف يعكس سائق التاكسي منطق البطل الفلسفة الأمريكية التي تؤيد حل المشكلات من خلال الفردانية الصارمة بدلاً من الجهد الجماعي من جانب المواطنين وأصحاب الأعمال والشرطة المحلية، وفي النهاية الحكومة". ويقول جانوتشي "بينما يستمر المضطهدون بالفيلم في التحول لضحايا "آفة حضارية" ويضللهم سياسيون زائفون مثل شخصية بالانتاين Palantine، يصبحون فريسة للصوص، والحشاشين، والقوادين.

ومع ذلك، فإن ما يميز Taxi Driver عن الأفلام السوداء Noire films الأخرى هو العناصر المميزة لنيويورك المحبطة وسط أزمة مالية وثقافة تقبل بشكل أعمى شكلاً خادعًا من البطولة حيث يكون عملاء المدينة (الشرطة) غائبين بشكل ملحوظ.

وول ستريت

هناك لحظة معبرة فيما يُعتبر على نطاق واسع رائعة أفلام العصابات التي أخرجها سكورسيزي، وهو فيلم "الأصدقاء الطيبون" Goodfellas، حسب ما يروي الناقد جوردي كامنجز في مقال له بعنوان "المافيا كقوة رأسمالية طليعية في أفلام سكورسيزي: فيلم الإيرلندي The Irishman" نموذجًا: تم القبض على أحد أبطال الفيلم بعد "عملية"، أي ليست جريمة قتل، بل سرقة، إذ يتم القبض على طاقم من رجال العصابات واقتيادهم. أحدهم يسخر وهو ويخاطب أحد رجال الشرطة قائلاً، "لماذا لا تذهب إلى "وول ستريت" وتعتقل بعض المجرمين الحقيقيين".

يقول كامنجز "قد يعتبر البعض هذا إشارة إلى أن المعنى الضمني للمشهد هو تمجيد تلك العناصر الإجرامية التي "تزيل الدهون من حليب رأس المال"، مقارنةً بأولئك الذين يقودون القطار نفسه".

ويشرح" في سياق مجموعة أعمال سكورسيزي، مثل أعمال أفضل معاصريه (شريدر، دي بالما، كوبولا)، فإنه في أعمال الجريمة المنظمة، على نطاق واسع، تعد "وول ستريت" عنصرًا تأسيسيًا مشتركًا، بحيث لا يمكن فصلها من الناحية الهيكلية عن كل ما يحدث".

تنخرط أفلام العصابات في التأريخ خلال المئة عام الماضية، من خلال قصة انتشار الإجرام في كل مكان. إن العصابات في أفلام كوبولا وسكورسيزي، هو قوة مزدوجة، تتسم بالسيادة وبكود خاص للعلاقات الداخلية الخاصة، ومجموعات الطقوس والقواعد. وبفضل اتباع هذا الكود، فإنها توفر دورًا هيكليًّا كجزء من جهاز يخدم رأس المال، والذي من خلاله يكتسب الأبطال درجات متفاوتة من السيادة، ويتخذون أشكالاً متعددة. ويرى كامنجز أن ما يحدث في تلك الأفلام ليس غير واقعي على الإطلاق، بل إنه "يلتقط بشكل مثالي تقريبًا وقتًا تدور فيه معركة جيوسياسية، بدرجات متفاوتة، بين مختلف فصائل الجريمة المنظمة العالمية ذات الوكلاء والجواسيس داخل مختلف الدول والكيانات الخاصة.

وبحسب كامنجز "يشبه رجال العصابات المقاولون العسكريون الخاصون" الذين يمثلون مرتزقة ذلك العصر، وهو دور لعبته بفخر المافيا لإمبراطورية الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية، طوال فترة الحرب الباردة".

ملحمة الخلق الحضري

في مقال له عن فيلم "عصابات نيويورك" يقول الناقد الأمريكي مايك ديفيس إن الادعاء المذهل للفيلم هو أن "أمريكا ولدت في الشوارع، أو بالأحرى في حروب الشوارع التي يشهدها الفيلم".

يعتبر سكورسيزي أعظم الرواة المعاصرين للأساطير عن شوارع نيويورك الدنيئة، حيث يمثل فيلم "عصابات نيويورك" أسطورة الخلق الحضري، التي تشرح أصول العالم التي يرثها اللصوص.

في الفيلم يتم إحياء أسطورة بيل الجزار، التي تم نسيانها عمومًا بعد الحرب الأهلية الأمريكية. ويعد الفيلم وما يشهده من معركة ملحمية بين بطليه، معادلاً موضوعيًّا حضريًا لملحمة هوميروس، بحسب وصف ديفيس. وتختلط شوارع هذا التاريخ الدموي بشوارع نيويورك الحالية في أحد مشاهد الفيلم، حيث ناطحات السحاب كرمز للرأسمالية التي "تصنع الرجال وسائقي سيارات الأجرة، والعاهرات ورجال الشرطة المنحرفين، والمراهنين الصغار، والممثلين الكوميديين في ميدان تايمز سكوير".

ويتساءل ديفيس هل "إلياذة" مانهاتن هي التاريخ الحقيقي؟ الإجابة المختصرة أنها نصف القصة، أدت المنافسات العنيفة بين العمال الأمريكيين الأصليين والفقراء المهاجرين الإيرلنديين إلى احتراق داخلي للمحرك العظيم لـ "Tammany Hall (حزب مانهاتن الديموقراطي) وتلاعباته الماهرة التي لا نهاية لها للطبقة العاملة المنقسمة عرقيًّا وطائفيًّا. في الواقع، كانت عصابات الشوارع، جنبًا إلى جنب مع شركات الإطفاء المتطوعة، هي القاعدة الشعبية الحقيقية لمسابقة الغنائم العرقية التي مرت على "الديمقراطية الأمريكية".

بحسب ديفيس، كانت شوارع مانهاتن في خمسينيات وستينيات القرن التاسع عشر أيضًا ساحة معركة ملحمية بين رأس المال والعمل. بينما كان موريسي وبول يقودان عصابتيهما إلى الحرب بأمر من الزعماء السياسيين الطموحين، يكافحون جنبًا إلى جنب مع النقابيين الأمريكيين الأصليين لبناء حركة عمالية موحدة. هذه هي القصة غير المروية في "التاريخ السري" لسكورسيزي لنيويورك في القرن التاسع عشر.

كوبولا أيضًا: العراب

يقول الناقد فريدريك جيمسون شيئًا مشابهًا عن فيلم العراب The Godfather "للمخرج فرانسيس فورد كوبولا، "لا أتفق مع الفكرة المبتذلة القائلة بأن مثل هذه الأفلام التجارية ذات الميزانيات الكبيرة خالية من الموضوعات السياسية الأكبر". وبدلاً من ذلك، يفترض جيمسون أن مثل هذا الفن غالبًا ما يكون له "وظيفة نفسية" خفية وهي التوق الجماهيري للتحرر من الاضطهاد الرأسمالي على سبيل المثال.. بعبارة أخرى، تحتاج الجماهير الضعيفة المهمشة إلى منفذ مسهل لغضبها الطبقي، خشية أن تنفجر وتثور ضد النخب". جيمسون يرى "العراب" باعتباره استعارة لأشياء أكبر من العصابات وعالمهم.

يقول جيمسون"عندما نفكر بالفعل في مؤامرة منظمة ضد الشعب، مؤامرة تصل إلى كل ركن من أركان حياة الأمريكيين اليومية وهياكلهم السياسية تتضمن ممارسة أعمال عنف طائش من الإبادة الجماعية بأمر من صانعي القرار البعيدين باسم الربح على حساب كل شئ- بالتأكيد لا يتعلق الأمر هنا بالمافيا، ولكن بالأحرى يتعلق بالحضارة الأمريكية نفسها.. في "العراب"، العصابات، إذن، هم استعارة لمشاعر سياسية عالمية". ويضيف "هكذا يمكنك مشاهدة رجال العصابات في فيلم "The departed" يخدعون رجال شرطة جنوب بوسطن وربما يهتفون لهم، لكننا لن نرى أبدًا فيلم حركة يسرق فيه المعارضون لتمويل الثورة (على الأقل لن يكون فيلمًا ممولاً من ديزني أو بارامونت)". ورغم ذلك، وفقا لـجيمسون تعطينا هوليوود بعض الأمثلة الواضحة على رفاق العصابات الذين يقلبون الدولة، ويحتفلون مع الأصدقاء، ثم تلتصق الجرائم بالرجل العادي".