أعداد خاصة

أيمن مكرم

سلامًا لروحك النقية

2020.11.01

سلامًا لروحك النقية

لماذا يا دينا لم تتمسكي بالبقاء معنا؟ كيف رحلتِ بهذه السرعة؟ كيف تركتنا نخبر بعضنا عبر الهواتف بخبر رحيلك، كي لا يقرأه أحدنا على وسائل التواصل الاجتماعي، فنسمع بكاء بعضنا، نحن الذين لم نفعلها قط حتى في أحلك الظروف. كنا دائمًا نضحك معًا بعد انتصاراتنا الصغيرة، وعلى هزائمنا الكثيرة على مدى 25 عامًا منذ تعارفنا.. منذ كنا صحفيين شبابًا يناضلون من أجل تغيير العالم، والثورة، أكثر من حرصهم على مستقبلهم المهني. 

لم تتمسكي هذه المرة بالبقاء معنا كما فعلت منذ أكثر من 25 عامًا، عندما وقفت بإصرار وعِند لحضور التحقيق الذي أجرته إدارة صحيفة «العالم اليوم» معنا، بعد أن استعانت من خارج الصحيفة بلجنة مكونة من ثلاثة أفراد يرأسها لواء شرطة متقاعد، وتم ترويع جميع الصحفيين، بألا يقتربوا من مكان التحقيق، والضغط على البعض للشهادة ضدنا: بأننا عطلنا العمل وحرضنا على الإضراب.. لا أزال أذكر ذلك الحوار:

مدير الشؤون الإدارية: واقفة هنا ليه يا أستاذه دينا؟ 

دينا: واقفة مع زمايلي.. 

المدير: ممنوع.. لازم تتفضلي حالاً، يا إما تدخلي معاهم التحقيق.. وخدي بالك، دول كلهم هيترفدوا.. 

دينا (وهي تتحرك تجاه غرفة التحقيق، وتنظر إلى الرجل بابتسامة طفولية على وجهها): أوكيه، أنا عاوزة أتحول للتحقيق! 

كنا نتابع الموقف؛ نحن الصحفيين المحولين للتحقيق، قسم البورصة بالكامل حازم شريف وإبراهيم الصحاري ووائل جمال ومحمد بركة وأنا، وارتفعت ضحكاتنا الممزوجة بالدموع على مدير الشؤون الإدارية ولجنة التحقيق التي خرجت تستطلع الأمر بعد أن أفسدت دينا عليهم أجواء الإثارة والرعب التي أرادت إدارة الصحيفة أن تُرهب بها بقية الصحفيين، هكذا بمنتهى البساطة. 

انتقلنا إلى مستوى آخر في الصراع مع «العالم اليوم»، واتفقنا على الاعتصام في مقر النقابة الذي كان وقتها مقرًا مؤقتًا لحين الانتهاء من بناء المقر الحالي، واعتصمنا في غرفة اجتماعات المجلس. كان النقيب في تلك الفترة إبراهيم نافع. وجاء مدير النقابة وتحدث معنا بلطف شديد، واعتبر أن الاعتصام بالضرورة سيقتصر على الصحفيين الخمسة الشباب، وطبعًا الأستاذة مش هينفع تبات معاكم في الاعتصام. 

ندم الرجل كثيرًا على ما قاله؛ فقد لقنته دينا كل الدروس التي لم يتعلمها في حياته؛ بدءًا «من يعني إيه طبعًا؟! وجبت اليقين دا منين؟!» وصولاً إلى أن عليه تغيير كل مفاهيمه عن المرأة وحقوقها المتساوية في كل شيء.

التفاصيل تتزاحم يا دينا، لم تعد الذاكرة مكتملة، كانت تكتمل حين نلتقي جميعًا ذاكرة جماعية كنتِ أجمل ما فيها، وأجمل من يسمعها وأجمل من يحكيها.. تجربة «العالم اليوم» جمعتنا، ولم نفترق بعدها قط، تشاركنا الأحلام والأفكار والنضال، خضنا كل المعارك الكبرى والصغرى. 

في نهاية 2005، وكنت قد ابتعدت عن الصحافة وتفرغت للعمل في السينما، كانت دينا قد انتقلت للعمل في أكثر من مؤسسة صحفية، وكانت تريد أن تغطي اعتصام السودانيين أمام المفوضية العليا للاجئين بميدان مصطفي محمود. تقابلنا في وقت متأخر مع مجموعة من الأصدقاء بعد يوم عمل شاق بالنسبة لي، وكانت الأخبار المتواترة تؤكد فض الاعتصام بالقوة في تلك الليلة، لم تكن دينا في حالتها المرحة كالمعتاد، وكانت مصرة على تغطية الحدث، وتريد أن تذهب، وطلبت مني الذهاب معها.. كانت قوات الأمن تحاصر المكان من كل الاتجاهات، وتحذر الجميع من عدم الاقتراب، استطعنا أن نصل إلى أقرب نقطة، وبينما اقتربت كثيرًا من المعتصمين كان الأمن يحذرني بشكلٍ واضح أنهم قد يحتجزونا بالداخل، ووسط هذا الجدال كانت دينا قد وجدت طريقها بين المعتصمين، وخلال أقل من ساعة، تم فض الاعتصام ورأينا المجزرة، وبكينا كثيرًا في طريق العودة.. 

دينا.. ما بيننا أصعب أن تعبر عنه كلمات.. والأصعب أنني لست قادرًا على أن أكلمك لنفكر معًا، وأحاول أن أوهم نفسي بأننا سنتقابل في دار «المرايا»، أو في مكان ما من أماكننا في وسط البلد، أو نلتقي مع حازم ووائل، ونهاتف إبراهيم الصحاري وعاطف الشحات، و»نغيظهم» أننا معًا و»بنجيب في سيرتهم»..

 طلب مني يحي وجدي أن أكتب عن مرحلة «العالم اليوم»، وطوال أسبوع كامل حاولت أن أفعل، لكن وجدتني أسافر في سنوات طويلة جدًا.. لن أنسى أبدًا يا دينا ضحكتك عندما كنا نلتقي، ولن أنسى كلمتك عندما أكون مشغولاً أو أمر بأزمة «هتخبي على دينا؟»..

سلامًا لروحك النقية يا دينا.